و من خطبة له عليه السّلام و هى الثالثة و العشرون من المختار فى باب الخطب و شرحها فى ضمن فصلين
الفصل الاول
و هو مروىّ في الكافي باختلاف تطلع عليه بعد الفراغ من شرح ما أورده السيد هنا أمّا بعد، فإنّ الأمر ينزل من السّماء إلى الأرض كقطر المطر، إلى كلّ نفس بما قسّم لها من زيادة و نقصان، فإذا راى أحدكم لأخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس، فلا تكوننّ له فتنة، فإنّ المرء المسلم ما لم يغش دنائة تظهر، فيخشع لها إذا ذكرت، و يغرى بها لئام النّاس، كالفالج الياسر الّذي ينتظر أوّل فوزة من قداحه، توجب له المغنم، و يرفع بها عنه المغرم، و كذلك المسلم البري ء من الخيانة، ينتظر إحدى الحسنيين: إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له، و إمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل و مال و معه دلنه و حسبه، إنّ المال و البنين حرث الدّنيا و العمل الصّالح حرث الآخرة، و قد يجمعهما اللّه لأقوام، فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه، و اخشوه خشية ليست بتعذير، و اعملوا في غير رياء و سمعة، فإنّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه إلى من عمل له، نسئل اللّه منازل الشّهداء، و معايشة السّعداء، و مرافقة الأنبياء.
اللغة
(الغفيرة) قال الرّضيّ: هي ههنا الزّيادة و الكثرة من قولهم للجمع الكثير الجمّ الغفير و يروى عفوة من أهل أو مال و العفوة الخيار من الشي ء يقال أكلت عفوة الطعام أى خياره.
أقول: و يحتمل أن يكون العفوة من العفو بمعنى الزّيادة أيضا، و به فسّر قوله تعالى: و يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو قال الشّاعر:
- و لكنّا يعضّ السّيف منّاباسوق عافيات الشّحم كوم
اى زائدات الشّحم و (غشى) فلانا كرضى أتاه و (غرى) به كرضى أيضا ولع به و أغراه به ولعه و (الفالج) الفايز من السّهام من الفلج و هو الظفر و الفوز و (الياسر) القامر و اللاعب بالمسير قال سبحانه: يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للنّاس، و هو كمنزل اشتقاقه إمّا من اليسر و هو السّهولة لأنّه أخذ لمال الرّجل بيسر و سهولة من غير كدّ و لا تعب، أو من اليسار لانه سبب يساره، و قيل من اليسر بمعنى التجزئة لأنّ كلّ شي ء جزئته فقد يسرته يقال: يسروا الشي ء أى اقسموه فالجزور نفسه يسمّى ميسرا لأنّه يجزء أجزاء، و الياسر الجازر لأنّه يجزء لحم الجزور ثمّ يقال للضّاربين بالقداح و المتقامرين على الجزور: إنّهم يا سرون، لأنّهم بسبب ذلك الفعل يجزءون لحم الجزور.
قال الفيروز آبادى: الميسر كمنزل اللّعب بالقداح أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، كانوا إذا ارادوا أن ييسروا اشتروا جزورا نسئة و نحروه قبل أن ييسروا و قسموه ثمانية و عشرين قسما أو عشرة أقسام، فاذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل ظهر فوز من خرج لهم ذوات الانصباء و غرم من خرج له الغفل و قال الزّمخشري في الكشّاف: كانت لهم عشرة قداح و هي: الأزلام و الأقلام الفذ و التّوام و الرّقيب و الحلس بفتح الحاء و كسر اللام و قيل بكسر الحاء و سكون اللام و المسبل و المعلى و النّافس و المنيح و السفيح و الوغد، لكلّ واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها و يجزءونها عشرة أجزاء و قيل ثمانية و عشرين جزء إلّا لثلاثةو هي المنيح و السّفيح و الوغد و لبعضهم في هذا المعنى شعر:
- لي في الدّنيا سهام ليس فيهنّ ربيحو أساميهنّ و غد و سفيح و منيح
فللفذّ سهم و للتّوأم سهمان و للرقيب ثلاثة و للحلس أربعة و للنّافس خمسة و للمسبل ستّة و للمعلى سبعة يجعلونها في الرّبابة و هي الخريطة و يضعونها على يد عدل ثمّ يجلجلها يدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قد حا منها، فمن خرج له قدح من ذوات الانصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، و من خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا و غرم ثمن الجزور كلّه، و كانوا يدفعون تلك الانصباء إلى الفقراء و لا يأكلون منها و يفتخرون بذلك و يذمّون من لم يدخل فيه و يسمونه البرم انتهى و (التعذير) إظهار العذر ممّن لا عذر له في الحقيقة، قال الفيروز آبادي قوله تعالى: وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ، بتشديد الذّال المكسورة أى المعتذرون الذين لهم عذر، و قد يكون المعذر غير محقّ فالمعنى المقصّرون بغير عذر قال: و قرء ابن عبّاس بالتخفيف من أعذر و كان يقول: و اللّه لهكذا انزلت، و كان يقول: لعن اللّه المعذّرين و كان المعذّر عنده إنّما هو غير المحقّ و بالتّخفيف من له عذر.
الاعراب
الباء في قوله بما قسم لها بمعنى على، و ما في قوله ما لم يغش دنائة ظرفيّة مصدرية، و جملة تظهر منصوب المحلّ على أنّها صفة لدناءة، و جملة فيخشع أيضا منصوب المحلّ لكونها عطفا على تظهر، و مثلها جملة يغرى بها، و قوله كالفالج خبر انّ، و الياسر صفة و أصل الكلام كالياسر الفالج أى كالقامر الفايز و قدم الوصف على الموصوف على حدّ قوله سبحانه: و غرابيب سود.
قال الشّارح المعتزلي: و حسن ذلك ههنا إنّ اللّفظتين صفتان و ان كانت إحداهما مرتّبة على الاخرى، و جملة توجب له المغنم صفة للفوزة، و يرفع إمّا بالبناء على الفاعل و فيه ضمير مستتر راجع إلى الفالج، و المغرم منصوب على المفعولية أو بالبناء على المفعول، و المغرم مرفوع على النيابة عن الفاعل، و قوله: فاذا هو ذو أهل إذا للمفاجاة، و العمل الصّالح بالرّفع و النّصب، و قوله: ليست بتعذير، أى ليست بذات تعذير، أى تقصير فخذف المضاف كقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ، أى ذي النار، و من في قوله: من يعمل شرطيّة و يعمل و يكله مجزومان على حدّ قوله: من يعمل سوء يجز به.
المعنى
اعلم أنّ مدار هذه الخطبة الشّريفة على تأديب الفقراء بعدم الوقوع في الفتنة من الحسد و نحوه بما يشاهدونه في الاغنياء و على تأديب الأغنياء بالتّزهيد عن المال و جمعه و على العمل بالاخلاص و إخلائه من السّمعة و الرّياء و على التّرغيب في صلة الأرحام و التّرهيب عن القطيعة بذكر منافع الصلة و مفاسد القطيعة، و مدار هذا الفصل على الثّلاثة الاول، كما أنّ مدار الفصل الآتي على الرّابع.
إذا عرفت ذلك فأقول: إنّه عليه السّلام مهد أوّلا مقدّمة شريفة ليبنى عليها غرضه و محصّلها أنّ جميع الامور إنّما هو بقضاء إلهىّ و قدر ربّانيّ و أنّ ما يحدث من زيادة أو نقصان أو يتجدّد فيما يكون به صلاح حال الخلق في أمر المعاش و المعاد إنّما هو صادر عن القسمة الرّبانيّة، فلو تفكّر في ذلك العاقل و تدبّر فيه رضي بما قدّره اللّه تعالى في حقّه و ما قسّمه عليه و على غيره، فاذن لا يقع في الفتنة و الحسد لو رأى لغيره مزيّة عليه و إلى هذه المقدّمة أشار بقوله: (أما بعد) حمد اللّه سبحانه و الصّلاة على رسوله و آله (فانّ الأمر) أى الأمورات المقدّرة الحادثة في العالم السّفلى (ينزل من السّماء إلى الأرض) و يخرج من القوّة إلى الفعل و يوجد في المواد السّفلية الخارجيّة بعد أن كان ثابتا في الصّحايف العلوية (ك) نزول (قطر المطر) إلى الأرض بأيدى المدبّرات كما قال سبحانه: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، أى كلّ أمر قدّره اللّه في حقّ العباد و قسّمه (إلى كلّ نفس) بمقدار (ما قسّم لها) و قدّر في حقّها (من زيادة أو نقصان) أو قلّة أو كثرة كما قال تعالى: و إن من شي ء إلّا عندنا خزائنه و ما ننزّله إلّا بقدر معلوم (فاذا) كان نزول الامور بتقدير اللّه سبحانه و تفريقها بتقسيم الملك العادل على وفق الحكمة و اقتضاء المصلحة و (رأى أحدكم لأخيه) المؤمن (غفيرة) و زيادة (في أهل أو مال أو نفس) أو رفعة أو مكانة (ف) لابدّ له أن يرضى بقسمة الجبّار و أن (لا تكوننّ) رؤية هذه الغفيرة (له فتنة) و لا توجب له ضلالا و لا توقع له في الحسد و لا تبعث له إلى الرّغبة إلى الأغنياء و اخلاص السّعى لهم و لخدمتهم للطمع بما في أيديهم (فانّ) هذه كلّها تكون شاغلة له عن سلوك سبيل الحقّ، حاجبة عن التّوجّه إلى اللّه، مانعة عن الوصول إلى رضوان اللّه و فيها دنائة النّفس و رذالة الطبع و (المرء المسلم ما لم يغش دنائة تظهر) و لم يأت على رذالة تشهر بين النّاس (فيخشع لها إذا ذكرت) و يستحيى من ذكرها و يلزمه بارتكابها الخجل (و تغرى بها لئام النّاس) و عوامهم في فعل مثلها أو هتك سرّه بها كان (كالفالج الياسر) و القامر الفايز (الذي ينتظر) في قماره و لعبه بالاقداح (أوّل فوزة من قداحه توجب له) هذه الفوزة (المغنم) و يأخذ بها نصيبه الموسوم به (و ترفع بها عنه المغرم) و يدفع ضرر الغرامة عنه.
و (كذلك المرء المسلم) الصّائن لنفسه الحافظ لدينه العاري من الدّنائة و (البرئ من الخيانة ينتظر) في حياته مع صبره عن المعصية فوز (إحدى الحسنيين إمّا) أن يدعوه (داعى اللّه) بقبضه إليه فيستجيب له و يفوز إذن بالنّعيم المقيم و يدخل الجنّة التي عرضها الأرض و السّماء (فما عند اللّه خير له) و أبقى و هي فوزة لا تفنى (و إمّا) أن يفتح له أبواب (رزق اللّه) و يدركه كرامة اللّه (فاذا هو ذو أهل و مال و معه دينه و حسبه) فيفوز الفوز العظيم مع الأمن من العذاب الأليم و هو أفضل عند العاقل من الفتنة بالغير و الالتفات عن اللّه و تدليس لوح النّفس برذايل الأخلاق من الحسد و نحوه.
و ذلك من حيث (إنّ المال و البنين حرث الدّنيا و العمل الصالح حرث الآخرة) و من كان يريد«» حرث الآخرة نزد له في حرثه و من كان يريد حرث الدّنيا نؤته منها و ما له في الآخرة من نصيب، فحرث الدّنيا حقير و حرث الآخرة جليل خطير، و المال و البنون زبنة الحياة الدّنيا و الباقيات الصّالحات خير عند ربّك ثوابا و خير أملا.
(و قد يجمعهما اللّه لأقوام) و ما كان قولهم«» إلّا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و ثبّت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين، فأتيهم اللّه ثواب الدّنيا و حسن ثواب الآخرة و اللّه يحبّ المحسنين (فاحذروا من اللّه) و اتّقوه (بما حذركم من نفسه) بقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (و اخشوه خشية) صادقة (ليست ب) ذات (تعذير) إذ الاعتذار إنّما ينفع عند من هو جاهل بالسّراير و محجوب عمّا في الضّماير.
و أمّا اللّه العالم الخبير بما في الصّدور فليس للاعتذار عنده نفع و لا ثمر، و ينبّؤ الانسان«» يومئذ بما قدّم و أخّر، بل الانسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره، فيجزى المعتذرون جزاء ما كانوا يعملون، فيومئذ«» لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم و لا هم يستعتبون.
(و اعملوا في غير رياء و لا سمعة) أى عملا خالصا مخلصا عنهما و في حذف المتعلّق دلالة على العموم فيشمل جميع الأعمال و يدلّ على وجوب الاخلاص في الكلّ كما قال الصّادق عليه السّلام: لا بدّ للعبد من خالص النّية في كلّ حركة و سكون لأنّه إذا لم يكن بهذا المعنى يكون غافلا و الغافلون قد وصفهم اللّه تعالى فقال: إن هم الّا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا، و قال: اولئك هم الغافلون.
قال بعض العلماء في تفسير ذلك: يجب أن يكون للعبد في كلّ شي ء يفعله و عمل يعمل من نيّة اخلاص حتّى في مطعمه و مشربه و ملبسه و نومه و نكاحه، فانّ ذلك كله من أعماله التي يسأل عنها و يجازى عليها فان كانت للّه و في اللّه كانت في ميزان حسنانه، و إن كانت في سبيل الهوى و لغير اللّه كانت في ميزان سيّئاته، و كان صاحبها في الدّنيا على مثال البهايم الرّاتعة و الأنعام المهملة السّارقة و لا يكون على الحقيقة إنسانا مكلّفا موفّقا و كان من الذين ذكرهم اللّه بقوله: أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي وجدناه غافلا كقولك: دخلت بلدة فاعمرتها أى وجدتها عامرة فهو غافل عمّا يأتيه و يذره متبعا لهواه فيما يورده و يصدره.
ثمّ علّل عليه السّلام وجوب ترك الرّيا بقوله: (فانّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه إلى من عمل له) و يقطع عنه ميامن لطفه و ألطاف نظره.
و معناه ما رواه أحمد بن فهد في عدّة الدّاعي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يقول اللّه تعالى: أنا خير شريك و من اشرك معي شريكا في عمله فهو لشريكي دوني لأنّي لا أقبل إلّا ما خلص لي.
قال: و في حديث آخر أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك فمن عمل عملا ثمّ اشرك فيه غيري فأنا منه بري ء و هو للّذي أشرك به دونى هذا.
و لمّا كان همّته عليه السّلام مقصورة على طلب السّعادة الاخرويّة أردف كلامه بقوله (نسأل اللّه منازل الشّهداء و معايشة السّعداء و مرافقة الأنبياء) قال الشّارح البحراني و في ذلك جذب للسّامعين إلى الاقتداء به في طلبها و العمل بها و بدء عليه السّلام بطلب أسهل المراتب الثلاثة للانسان و ختم بأعظمها فانّ من حكم له بالشّهادة غايته أن يكون سعيدا، و السّعيد غايته أن يكون في زمرة الأنبياء رفيقا لهم، و هذا هو التّرتيب اللّايق من المؤدّب الحاذق، فانّ المرتبة العالية لا تنال دفعة دون نيل ما هو أدون منها.
تكميل استبصارى في بيان معنى الرّياء
و ذكر بعض ما وردت فيه من الآيات و الأخبار و الإشارة إلى أقسامه و إلى الدّواء النّافع له فالكلام في مقامات أربعة.
المقام الاول في تحقيق معنى الرّياء و السّمعة
فنقول: إنّ الرّياء هو ترك الاخلاص بملاحظةغير اللّه فيه و أصله من الرّؤية كأنه لا يعمل إلّا إذا رأى النّاس و رأوه، و السّمعة بالضمّ كالرّياء إلّا أنّها تتعلّق بحاسّة السّمع و الرّياء بحاسّة البصر.
و عن الفارابي في ديوان الأدب يقال: فعل ذلك رياء و سمعة إذا فعل ذلك ليراه النّاس و يسمعوا به.
و قال الغزالي في إحياء العلوم: الرّياء مشتقّ من الرّؤية، و السّمعة مشتقّة من السّماع و إنّما الرّياء أصله طلب المنزلة في قلوب النّاس بايرائهم خصال الخير الا أنّ الجاه و المنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى اللّه، و اسم الرّياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادات و إظهارها، فحدّ الرّياء هو إرادة العباد بطاعة اللّه، فالمرائي هو العابد، و المرائى هو النّاس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، و المرائى به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها، و الرّياء قصد إظهار ذلك.
أقول: و الأولى ما ذكرناه، لكونه شاملا للعبادات و غيرها فعلا و تركا حسبما تعرفه في الأقسام الآتية، و ما ذكره مختصّ بفعل العبادات فقط فلا يعمّ.
الثاني في ذكر بعض ما ورد فيه من الآيات و الأخبار.
قال اللّه سبحانه: فويل للمصلّين الذينهم عن صلاتهم ساهون، و الذينهم يراؤن و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ النّار و أهلها يعجّون من أهل الرّياء، فقيل: يا رسول اللّه كيف تعجّ النّار قال: من حرّ النّار التي يعذّبون بها.
و قال أيضا: ينادى المرائي يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر يا خاسر، ظلّ «ضلّ» سعيك، و بطل عملك، و لا خلاق لك، التمس الأجر ممّن كنت تعمل له يا مخادع و قال أيضا: إنّ أوّل ما يدعى يوم القيامة رجل جمع القرآن، و رجل قاتل في سبيل اللّه، و رجل كثير المال فيقول اللّه عزّ و جلّ للقاري ألم اعلمك ما انزلت على رسولي فيقول: بلى يا ربّ فيقول: ما عملت به فيما علمت فيقول: يا ربّ قمت به في آناء الليل و أطراف النّهار، فيقول اللّه تعالى: كذبت و تقول الملائكة كذبت: و يقول اللّه تعالى: إنّما أردت أن يقال فلان قارى فقد قيل ذلك.
و يؤتى بصاحب المال فيقول اللّه تعالى: ألم أوسّع عليك حتّى لم أدعك تحتاج إلى أحد فيقول: بلى يا ربّ، فيقول: فما عملت فيما آتيتك قال: كنت أصل الرّحم و أتصدّق، فيقول اللّه تعالى: كذبت، و تقول الملائكة: كذبت، و يقول اللّه تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد و قد قيل ذلك.
و يؤتى بالذي قتل في سبيل اللّه فيقول اللّه تعالى: ما فعلت فيقول: امرت بالجهاد في سبيل اللّه فقاتلت حتّى قتلت، فيقول اللّه تعالى: كذبت، و تقول الملائكة كذبت، و يقول اللّه تعالى: بل أردت أن يقال فلان جريّ شجاع فقد قيل ذلك، ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اولئك خلق اللّه تسعرهم نار جهنّم، و هذه الأخبار رويناها من كتاب الأنوار للمحدّث الجزائري.
و في الوسائل عن الكلينيّ بإسناده عن فضل أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يسرّ سيّئا أ ليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك و اللّه عزّ و جلّ يقول: بل الانسان على نفسه بصيرة، إنّ السّريرة إذا صحّت قويت العلانية.
و عن السّكوني عنه عليه السّلام أيضا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سيأتي على النّاس زمان تخبث فيه سرايرهم و تحسن فيه علانيتهم طمعا في الدّنيا، لا يريدون به ما عند ربّهم يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف يعمهم اللّه بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم.
و عن البرقيّ في كتاب المحاسن عن يحيى بن بشير النبّال عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من أراد اللّه عزّ و جلّ بالقليل من عمله أظهره اللّه أكثر ممّا أراده به، و من أراد النّاس بالكثير من عمله في تعب من بدنه و سهر من ليله أبى اللّه إلّا أن يقلّله في عين من سمعه و روى الصّدوق في كتاب عقاب الأعمال بإسناده عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه صلوات اللّه عليهم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يؤمر برجال إلى النّار فيقول اللّه عزّ و جلّ لمالك: قلّ للنّار: لا تحرق لهم أقداما فقد كانوا يمشون بها إلى المساجد، و لا تحرق لهم وجوه «ها ظ» فقد كانوا يسبغون الوضوء، و لا تحرق لهم أيدي فقد كانوا يرفعونها بالدّعاء، و لا تحرق لهم ألسنة فقد كانوا يكثرون تلاوة القرآن، قال: فيقول لهم خازن النّار: يا أشقيا ما كان حالكم قالوا: كنّا نعمل لغير اللّه عزّ و جلّ فقيل لنا خذوا ثوابكم ممّن عملتم.
و في الوسائل عن الكلينيّ بإسناده عن جرّاح المداينيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا» قال: الرّجل يعمل شيئا من الثّواب لا يطلب به وجه اللّه إنّما يطلب تزكية النّفس يشتهى أن يسمع به النّاس فهذا الذي أشرك بعبادة ربّه، ثمّ قال: ما من عبد أسرّ خيرا فذهبت الأيام أبدا حتّى يظهر اللّه له خيرا، و ما من عبد يسرّ شرّا فذهبت الأيام حتّى يظهر اللّه له شرّا.
و عن السّكوني عنه عليه السّلام أيضا قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فاذا سعد بحسناته يقول اللّه عزّ و جلّ: اجعلوها في سجّين إنّه ليس ايّاى أراد به.
و عن عليّ بن عقبة عن أبيه قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: اجعلوا أمركم هذا للّه و لا تجعلوا للنّاس فانّه ما كان للّه فهو للّه و ما كان للنّاس فلا يصعد إلى اللّه.
و في عدّة الداعي لأحمد بن فهد الحلّي عن الشّيخ أبي جعفر محمّد بن أحمد بن عليّ القمّي نزيل الرّى في كتابه المنبي عن زهد النبيّ عن عبد الواحد عمّن حدّثه عن معاذ بن جبل قال: قلت: حدّثني بحديث سمعته من رسول اللّه و حدّثته من دقايق ما حدثك به قال نعم و بكى معاذ.
ثمّ قال: بأبي و أمّي حدّثني و أنا رديفه فقال: بينا نحن نسير إذ رفع بصره إلى السّماء فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الحمد للّه الذي يقضي في خلقه ما أحبّ، ثمّ قال: يا معاذ
قلت: لبيك يا رسول اللّه و سيّد المؤمنين، قال: يا معاذ قلت: لبيّك يا رسول اللّه امام الخير و نبيّ الرّحمة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم احدّثك شيئا ما حدّث نبيّ امته إن حفظته نفعك عيشك و إن سمعته و لم تحفظه انقطعت حجّتك عند اللّه.
ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إنّ اللّه خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السّماوات فجعل في كلّ سماء ملكا قد جلّلها بعظمته و جعل على كلّ باب من أبواب السّماء بوّابا فيكتب الحفظة عمل العبد من حين يصبح إلى حين يمسى ثمّ ترفع الحفظة بعمله و له نور كنور الشّمس، حتّى إذا بلغ سماء الدّنيا فتزكّيه و تكثره فيقول الملك قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك الغيبة فمن اغتاب لا أدع عمله تجاوزني إلى غيري أمرني بذلك ربّي.
قال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ يجي ء الحفظة عن الغد و معهم عمل صالح فتمرّ به و تزكّيه و تكثّر حتّى تبلغ السّماء الثّانية فيقول الملك الذي في السّماء الثّانية: قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنّما أراد بهذا العمل عرض الدّنيا أنا صاحب الدّنيا لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري و هو يحبّ الدّنيا.
قال: ثمّ تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجا بصدقة و صلاة فتعجّب به الحفظة و تجاوزه إلى السّماء الثّالثة فيقول الملك قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك صاحب الكبر فيقول: إنّه عمل و تكبّر على النّاس في مجالسهم أمرني ربّي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري.
قال: و تصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كالكوكب الدّريّ في السّماء له دويّ بالتّسبيح و الصّوم و الحجّ فتمر به إلى السّماء الرّابعة فيقول لهم الملك: قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و بطنه أنا ملك العجب إنّه كان يعجب بنفسه و إنّه عمل و أدخل نفسه العجب أمرني ربّي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري.
قال: و تصعد الحفظة بعمل العبد كالعروس المزفوفة إلى أهلها فتمرّ به إلى ملك السّماء الخامسة بالجهاد و الصّدقة ما بين الصّلاتين و كذلك العمل له رنين كرنين الابل عليه ضوء كضوء الشّمس فيقول الملك: قفوا أنا ملك الحسد و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و احملوه على عاتقه، إنّه كان يحسد من يتعلّم أو يعمل للّه بطاعته و إذا رأى لأحد فضلا في العمل و العبادة حسده و وقع فيه فيحملوه على عاتقه و يلعنه عمله.
قال: و تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة و زكاة و حجّ و عمرة فيتجاوز به إلى السّماء السّادسة فيقول الملائكة: قفوا أنا صاحب الرّحمة اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و اطمسوا عينيه، لأنّ صاحبه لم يرحم شيئا إذا أصاب عبدا من عباد اللّه ذنبا للآخرة أو ضرّاء في الدّنيا شمت به أمرني ربّي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري.
قال: و تصعد الحفظة بعمل العبد بفقه و اجتهاد و ورع و له صوت كالرعد و ضوء كضوء البرق و معه ثلاثة آلاف ملك فتمرّ بهم إلى ملك السّماء السّابعة فيقول الملك: قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك الحجاب أحجب كلّ عمل ليس للّه إنّه أراد رفعة عند القوّاد و ذكرا في المجالس وصيتا في المداين أمرني ربّي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلى غيري ما لم يكن للّه خالصا.
قال: و تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجا به من صلاة و زكاة و صيام و حجّ و عمرة و خلق الحسن و صمت و ذكر كثير تشيّعه ملائكة السّماوات و الملائكة السبعة بجماعتهم فيطئون الحجب كلّها حتّى يقوموا بين يديه سبحانه فيشهدوا له بعمل و دعاء فيقول سبحانه: أنتم حفظة عمل عبدي و أنا رقيب على ما في نفسه إنّه لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي فيقول الملائكة: عليه لعنتك و لعنتنا.
قال: ثمّ بكى معاذ قال: قلت: يا رسول اللّه ما أعمل و اخلص قال: اقتد نبيّك يا معاذ في اليقين قال: قلت: أنت رسول اللّه و أنا معاذ قال: فان كان في عملك تقصير يا معاذ فاقطع لسانك عن إخوانك و عن حملة القرآن، و لتكن ذنوبك عليك لا تحمّلها على إخوانك، و لا تزكّ نفسك بتذميم إخوانك، و لا ترفع نفسك بوضع إخوانك، و لا تراء بعملك، و لا تداخل من الدّنيا في الآخرة، و لا تفحش في مجلسك لكي يحذروك لسوء خلقك، و لا تناج مع رجل و أنت مع آخر، و لا تعظم على النّاس فتنقطع عنك خيرات الدّنيا، و لا تمزق النّاس فتمزقك كلاب أهل النّار، قال اللّه تعالى: «و الناشطات نشطا» أ فتدري ما الناشطات إنّه كلاب أهل النّار تنشط اللّحم و العظم قلت: و من يطيق هذه الخصال قال: يا معاذ أما أنّه يسير على من يسّر اللّه تعالى عليه قال: و ما رأيت معاذا يكثر تلاوة القرآن كما يكثر تلاوة هذا الحديث
الثالث في أقسام الرّيا و الوجوه المتصوّرة فيه، و هي كثيرة إلّا أنّها منشعبة عن قسمين أحدهما الرّياء المحض و الثاني الرّياء المشوب.
أمّا الرّياء المحض فهو أن لا يكون مراده بالعبادة إلّا الدّنيا و رؤية النّاس كالذي يصلّى بين أظهر النّاس، و لو كان منفردا لكان لا يصلّي بل ربّما يصلّي من غير طهارة مع النّاس، فهذا يجب أن يترك لأنّه معصية لا طاعة فيه أصلا و أمّا الرّياء المشوب فهو يتصوّر على وجوه.
أحدها أن يعقد على الاخلاص قلبه ثمّ يطرأ الرّياء و دواعيه مثل أن يفتتح الصّلاة بالاقبال فيدخل عليه داخل أو ينظر إليه ناظر فيقول له الشّيطان: رد صلاتك حسنا حتّى ينظر إليك هذا الناظر بعين الوقار فتخشع جوارحه و يحسن صلاته.
و ذلك مثل ما روي أنّ رجلا لا يقدر على الاخلاص في العمل فاحتال و قال: إنّ في ناحية البلد مسجدا مهجورا لا يدخله أحد فأمضي إليه ليلا و أعبد اللّه فيه، فمضى إليه في ليلة ظلماء و كان ذات رعد و برق و مطر فشرع في العبادة فبينما هو في الصلاة إذ دخل عليه داخل فأحسّ به فدخله السّرور برؤية ذلك الدّاخل له و هو مشتغل بالعبادة في الليلة المظلمة، فأخذ في الجدّ و الاجتهاد في عبادته إلى أن جاء النّهار فنظر إلى ذلك الدّاخل فاذا هو كلب أسود قد دخل المسجد ممّا أصابه من المطر فندم الرّجل على ما فعل و قال: يا نفس إنّي فررت من أن اشرك بعبادة ربي أحدا فوقعت أن أشركت في عبادته كلبا وا أسفا وا ويلا على هذا
الثّاني أن يأتيه الشّيطان من معرض الخير و يقول له: اعمل هذا العمل ليقتدي بك النّاس فيحصل لك أجر من عمل به، و هذه المكيدة أعظم من الأولى و ينخدع بها من لا ينخدع بتلك و هو عين الرّيا لأنّه اذا رأى هذه الحالة خيرا لا يرتضي بغيره تركها فلم تركه و هو في الخلوة و ليس أحد أغرّ على الانسان من نفسه.
الثّالث أن يتنبّه العاقل لهاتين و يستحيي من المخالفة بين صلاته في الخلاء و الملاء فيحسن صلاته في الخلوة ليطابق الجلوة، و هذا أيضا من الرّيا لأنّه حسن صلاته في الخلوة ليحسن في الملاء فكان نظره في عمله إلى النّاس.
الرّابع أن ينظر إليه النّاس و هو في صلاته فيعجز الشّيطان عن ايقاعه في الرّياء بأن يقول له: اخشع لأجلهم و لكن يقول له: تفكّر في عظمة اللّه و جبروته و من أنت واقف بين يديه و استحي أن ينظر اللّه إلى قلبك و أنت غافل عنه فيحضر بذلك و تجتمع جوارحه و يظنّ أنّ ذلك عين الاخلاص و هو عين الرّيا فانّ خشوعه لو كان لنظره إلى عظمة اللّه لم لم يكن حالته في الخلوة هكذا الخامس أن يكمل العبادة على الاخلاص لكن عرض له بعد الفراغ حبّ اظهارها لتحصيل بعض الأغراض، و ذلك بأن يخدعه الشّيطان و يقول له: إنّك قد أكملت العبادة الخالصة و قد كنت في ديوان المخلصين و لا يقدح فيها ما يتجدّد و إنّما ينضمّ إلى ما حصّله بها من الخير الآجل خير عاجل فيحدث به و يظهره، و هو أيضا مبطل للعمل و مفسد له و إن سبق.
قال الصّادق عليه السّلام من عمل حسنة سرّا كتبت له سرّا فإذا أقرّ بها محيت و كتبت جهرا، فاذا أقرّ بها ثانيا محيت و كتبت رياء و فضل عمل السّر على عمل الجهر سبعون ضعفا، نعم لو تعلّق باذا عته غرض صحيح كما لو أراد ترغيب الغير فيه إذا لم يمكن الترغيب بدونه لم يكن به بأس.
السّادس أن يترك العمل خوفا من الرّيا، و هذا أيضا من خدايع إبليس اللّعين لأنّ غرضه الأقصى ترك العمل فاذا لم تجب إليه و اشتغلت به فيدعوك إلى الرّيا و غيره فاذا تركته فقد حصلت غرضه.
قال ابن فهد في عدّة الدّاعي و مثال ذلك من سلم إليه مولاه حنطة فيها قليل من المباين إمّا شعير أو مدر، و قال: خلّصها من التّراب مثلا و نقّها منه تنقية جيّدة بالغة، فيترك أصل العمل و يقول: أخاف إن اشتغلت به ألّا يخلص خلاصا صافيا و يترك العمل من أصله.
السّابع أن يترك العمل لا لذلك بل خوفا على النّاس أن يقولوا إنّه مرائي فيعصون اللّه تعالى به، و هذا أيضا كسابقه رياء خفيّ لأنّ ترك العمل خوفا من أن يقال له: إنه مرائي عين الرّياء، و لو لا حبّه لمحمدتهم و خوفه من مذمّتهم فما له و لقولهم إنّه مراء أو قالوا إنّه مخلص و أىّ فرق بين ترك العمل خوفا من قولهم: إنّه مراء و بين أن يحسن العمل خوفا من قولهم: إنّه مقصّر غافل مع ما في ذلك من سوء الظنّ بالمسلمين، و من إطاعة الشّيطان في ترك العمل.
الثّامن أن يكون ترك العمل إشفاقا على المسلمين بأن يقول له إبليس اللعين: اترك العمل إشفاقا على المؤمنين من وقوعهم في الاثم بظنّ السّوء و تركك العمل إشفاقا عليهم يقوم مقام العمل و يحصل لك بذلك الثّواب لأنّ نظر المصلحة للمسلمين حسنة فيعادل الثّواب الحاصل من العمل بل هو أفضل لأنّه متعدّ إلى الغير و هذا الخيال من غوايل النّفس الأمارة المايلة إلى الكسالة و البطالة و مكيدة عظيمة من الشّيطان الخبيث لما لم يجد إليك مسلكا فصدّك من هذا الطريق و زيّن لك هذا التّنميق.
قال ابن فهد و وجه فساده يظهر من وجوه: الأوّل أنّه عجّل لك الوقوع في الاثم المتيقّن فانّك ظننت أن يظنّوا بك انّك مراء، و هذا ظنّ سوء و على تقدير وقوعه منهم يلحقهم به إثم و ظنّك هذا بهم أيضا ظنّ سوء يلحقك به الاثم إذا لم يكن مطابقا لما ظننت بهم و تركت العمل من أجله فعدلت من ظنّ موهوم إلى إثم معلوم، و حذرا من لزوم اثم لغيرك فأوقيت فيه نفسك.
الثّاني أنّك إذن وافقت إرادة الشّيطان بترك العمل الذي هو مراده، و ترك العمل و البطالة موجب لاجتراء الشّيطان عليك و تمكّنه منك، لأنّ ذكره تعالى و التولى في خدمته يقربك منه و بقدر ما تقرب منه تبعد من الشّيطان و انّ فيه موافقة للنّفس الأمارة بميلها إلى الكسالة و البطالة و هما ينبوع آفات كثيرة إن كان لك بصيرة.
الثّالث مما يدلك أنّ هذا من غوائل النّفس و ميلها إلى البطالة أنّك لمّا نظرت إلى فوات الثّواب الحاصل لك من البطالة و إلى فوات وقوعهم في الاثم آثرتهم على نفسك بتخفيف ما يلزمهم من الاثم بسوء الظنّ و حرمت نفسك الثّواب، و تفكّر في نفسك و تمثل في قلبك بعين الانصاف لو حصل بينك و بينهم في شي ء من حظوظ العاجلة منازعة إمّا في دار أو مال أو ظهر لك نوع معيشة تظنّ فيها فايدة و حصول أ كنت تؤثرهم على نفسك و تتركه لهم كلّا و اللّه بل كنت تناقشهم مناقشة المشاقق و تستأثر عليهم فيما يظهر لك من أنواع المعيشة إن أمكنك فرصة الاستيثار و تقلى الحبيب و تقضي القريب.
التّاسع أن يقول لك اللعين إذا كنت لا تترك العمل لذلك فاخف العمل فانّ اللّه سيظهره عليك فاما إذا أظهرته فيمكن أن تقع في الرّيا، و هذا التّلبيس عين الرّيا لأنّ إخفاك له كي يظهر بين النّاس هو بعينه العمل لأجل النّاس، و ما عليك إذا كان مرضيّا عند اللّه تعالى أن يظهر للنّاس أو يخفى.
الرابع في علاج الرّيا
و هو على ما ذكره الغزالي في إحياء العلوم أنّ الانسان يقصد الشي ء و يرغب فيه لظنّه أنّه خير له و نافع و لذيذ إمّا في الحال و إمّا في المآل فان علم أنّه لذيذ في الحال و لكنّه ضارّ في المآل سهل عليه قطع الرّغبة عنه كمن يعلم أنّ العسل لذيذ و لكن إذا بان له أنّ فيه سمّا أعرض عنه، فكذلك طريق قطع هذه الرّغبة أن يعلم ما فيه من المضرّةو مهما عرف العبد مضرّة الرّيا و ما يفوته من صلاح قلبه و ما يحرم عنه في الحال من التّوفيق و في الآخرة من المنزلة عند اللّه و ما يتعرّض له من العقاب العظيم و المقت الشّديد و الخزي الظاهر حيث ينادى على رءوس الخلايق يا فاجر يا غادر يا مرائي أما استحييت إذ اشتريت بطاعة اللّه عرض الدّنيا، و راقبت قلوب العباد و استهزأت بطاعة اللّه و تحبّبت إلى العباد بالتبغض إلى اللّه، و تزيّنت لهم بالشّين عند اللّه، و تقرّبت إليهم بالبعد من اللّه، و تحمدت إليهم بالتّذمّم عند اللّه، و طلبت رضاهم بالتّعرض لسخط اللّه أما كان أحد أهون عليك من اللّه فمهما تفكّر العبد في هذا الخزي و قابل ما يحصل له من العباد و التّزيّن لهم في الدّنيا بما يفوته في الآخرة و بما يحبط عليه من ثواب الأعمال مع أنّ العمل الواحد به ربّما كان يترجّح ميزان حسناته لو خلص فاذا فسد بالرّيا خوّل إلى كفّة السّيئات فترجّح به و يهوى إلى النّار فلو لم يكن في الرّياء إلّا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافيا في معرفة ضرره و إن كان مع ذلك ساير حسناته راجحة، فقد كان ينال بهذه الحسنة علوّ الرّتبة عند اللّه في زمرة النّبيين و الصّديقين، و قد حطّ عنهم بسبب الرّيا و ردّ إلى صفّ النّعال من مراتب الأولياء هذا.
مع ما يتعرّض له في الدّنيا من تشتّت الهمّ بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فانّ رضا النّاس غاية لا تدرك فكلّ ما يرضى به فريق يسخط به فريق، و رضا بعضهم في سخط بعضهم، و من طلب رضاهم في سخط اللّه سخط اللّه عليهم و أسخطهم أيضا عليه ثمّ أىّ غرض له في مدحهم و ايثار ذمّ اللّه لأجل حمدهم، و لا يزيدهم حمدهم رزقا و لا أجلا، و لا ينفعه يوم فقره و فاقته و هو يوم القيامة.
و أمّا الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أنّ اللّه هو المسخّر للقلوب بالمنع و الاعطاء و لا رازق إلّا اللّه و من طمع في الخلق لم يخل من الذّلّ و الخيبة، و إن وصل إلى المراد لم يخل عن المنّة و المهانة فكيف يترك ما عند اللّه برجاء كاذب و وهم فاسد و قد يصيب و قد يخطي و إذا أصاب فلا تفي لذّته بألم منّته و مذلّته.
و أمّا ذمّهم فلم يحذر منه و لا يزيده ذمّهم شيئا فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب و ضررها فترت رغبته و أقبل على اللّه قلبه، فانّ العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره و يقلّ نفعه، و يكفيه أنّ النّاس لو علموا ما في بطنه من قصد الرّياء و إظهار الاخلاص لمقتوه، و سيكشف اللّه عن سرّه حتّى يبغضه إلى النّاس و يعرّفهم أنّه مراء و ممقوت عند اللّه و لو اخلص للّه لكشف اللّه لهم إخلاصه و حبّبه إليهم و سخّرهم له و اطلق ألسنتهم بالمدح و الثّناء عليه.
أقول و هو كما روي انّ رجلا من بني إسرائيل قال: لأعبدن اللّه تعالى عبادة اذكر بها فمكث مدّة مبالغا في الطاعات و جعل لا يمرّ بملاء من النّاس إلّا قالوا متصنّع مراء، فأقبل على نفسه و قد قال: اتعبت نفسك و ضيّعت عمرك في لا شي ء فينبغي أن تعمل للّه سبحانه فغير نيّته و أخلص عمله للّه تعالى، فجعل لا يمرّ بملاء من النّاس إلّا قالوا ورع تقيّ هذا.
مع أنّ مدح النّاس لا ينفعه و هو عند اللّه مذموم و من أهل النّار، و ذمّ النّاس لا يضرّه و هو عند اللّه محمود و من أهل الجنّة فمن أحضر في قلبه الآخرة و نعيمها المؤبّد و المنازل الرّفيعة عند اللّه استحقر ما يتعلّق بالخلق أيّام الحياة مع ما فيه من الكدورات و المنقصات و كيف يرضى العاقل أن يجعل ثمن عمله مدح النّاس له و ما في أيديهم من حطام الدّنيا و زخارفها مع أنّها على تقدير النّيل إليها ثمن بخس و رضا اللّه سبحانه هو الجزاء الأوفى.
فلو قيل لك: إنّ ههنا رجلا معه جوهر نفيس يساوي مأئة ألف دينار و هو محتاج إلى ثمنه بل إلى بيعه عاجلا و إلى أضعافه ثمنا فحضر من يشتري منه متاعه بأضعاف ثمنه مع حاجته إلى الاضعاف فأبى بيعه بذلك و باعه بفلس واحد أ لست تحكم بسفاهة ذلك البايع و نقصان عقله فحال المرائي بعينه مثل حال هذا البايع، فإنّ ما يناله العبد بعمله من حطام الدّنيا و مدح النّاس له بالاضافة إلى ثواب الآخرة و مرضات اللّه سبحانه اقلّ من فلس في جنب ألف ألف دينار بل أقلّ من نسبته إلى الدّنيا و ما فيها هذا كلّه هو الدّواء العلمي و أما الدواء العملى فهو أن يعوّد نفسه إخفاء العبادات و إغلاق الأبواب دونها كما يغلق الأبواب دون الفواحش حتّى يقنع قلبه بعلم اللّه و اطلاعه على عبادته و لا تنازعه النّفس إلى طلب علم غيره سبحانه.
و لذلك كان عيسى يقول للحواريّين إذا صام أحدكم فليدهن رأسه و لحيته و يمسح شفتيه بالزّيت لئلا يرى النّاس أنّه صائم، و إذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله و إذا صلّى فليرخ ستر بابه فانّ اللّه يقسم الثّناء كما يقسم الرّزق.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ في ظلّ العرش ثلاثة يظلّهم اللّه بظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: رجلان تحابّا في اللّه و افترقا عليه، و رجل تصدق بيمينه صدقة فأخفاها عن شماله، و رجل دعته امرأة ذات جمال فقال: إنّي اخاف اللّه ربّ العالمين.
فلا دواء للرّياء مثل الاخفاء و ذلك يشقّ في بداية المجاهدة و إذا صبر عليه مدّة بالتكلّف سقط عنه ثقله و هان عليه ذلك بتواصل ألطاف اللّه و ما يمدّ به عباده من حسن التّوفيق و التّأييد و التّسديد، و لكن اللّه لا يغير ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة، و من اللّه الهداية و من العبد قرع الباب و من اللّه فتح الباب، و اللّه لا يضيع أجر المحسنين، و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما.
تكملة
هذا الفصل من الخطبة الشريفة رواه ثقة الاسلام الكليني في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة عن يحيى بن عقيل عن حسن عليه السّلام قال: خطب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: أمّا بعد فانّه إنّما هلك من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي و لم ينههم الرّبانيّون و الأحبار عن ذلك، و إنّهم لما تمادوا في المعاصي و لم ينبّههم الرّبّانيّون و الأحبار عن ذلك نزلت لهم العقوبات، فأمروا بالمعروف، و انهوا عن المنكر، و اعلموا أنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر لم يقربا أجلا و لن يقطعا رزقا،إنّ الأمر ينزل من السّماء إلى الارض كقطر المطر، إلى كلّ نفس بما قدّر اللّه من زيادة أو نقصان، فان أصاب أحدكم مصيبة في أهل أو مال أو نفس و رأى عند أخيه غفيرة في أهل او مال أو نفس فلا يكوننّ لهم فتنة، فانّ المرء المسلم لبري ء من الخيانة ما لم يغش دنائة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت و يغرى بها لئام النّاس كان كالفالج الياسر الذى ينتظر أوّل فوزة من قداحه، توجب له المغنم و يرفع عنه بها المغرم، و كذلك المرء المسلم البري ء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له، و إمّا رزق اللّه فاذا هو ذو أهل و مال و معه دينه و حسبه إنّ المال و البنين حرث الدّنيا، و العمل الصّالح حرث الآخرة، و قد يجمعهما اللّه لأقوام فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه، فاخشوه خشية ليست بتعذير، و اعملوا في غير رياء و سمعة فانّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه إلى من عمل له، نسأل اللّه منازل الشّهداء، و معايشة السّعداء، و مرافقة الأنبياء.
|