و من كلام له عليه السّلام في معنى قتل عثمان
و هو الثلاثون من المختار في باب الخطب لو أمرت به لكنت قاتلا، أو نهيت عنه لكنت ناصرا، غير أنّ من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه، و من خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير مني، و أنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة، و جزعتم فأسأتم الجزع، و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع.
اللغة
(الاستيثار) بالشّي ء الانفراد به و الاسم الاثرة بالتّحريك (و الجزع) الاضطراب و عدم الصّبر.
الاعراب
قوله: غير أنّ من نصره اه كلمة غير هنا للاستثناء فيفيد مفاد إلّا الاستثنائية، لكن لا بطريق الاصالة بل بطريق الحمل على إلّا، و تقريره على ما ذكره نجم الأئمة الرّضى هو أنّ أصل غير الصّفة المفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها إمّا بالذّات نحو مررت برجل غير زيد، و إمّا بالصّفات نحو قولك: دخلت بوجه غير الوجه الذي خرجت به، فانّ الوجه الذي تبين فيه أثر الغضب كانّه غير الوجه الذي لا يكون فيه ذلك بالذّات.
و ماهية المستثنى كما ذكر في حدّه هو المغاير لما قبل أداة الاستثناء نفيا و اثباتا فلما اجتمع ما بعد غير و ما بعد أداة الاستثناء في معني المغاير لما قبلهما حملت أم أدواة الاستثنا أى إلّا على غير في الصّفة و حملت غير على إلّا في الاستثناء في بعض المواضع.
و معنى الحمل أنّه صار ما بعد إلّا مغايرا لما قبلها ذاتا أو صفة كما بعد غير، و لا يعتبر مغايرته له نفيا و إثباتا كما كانت في أصلها و صار ما بعد غير مغايرا لما قبلها نفيا و إثباتا كما بعد إلّا و لا يعتبر مغايرته له ذاتا أو صفة كما كانت في الأصل إلّا أنّ حمل غير على إلّا أكثر من العكس، لأنّ غير اسم و التّصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف، فوقع في جميع مواقع إلّا إلّا أنّه لا يدخل على الجملة كإلّا لتعذّر الاضافة إليها هنا.
و امّا إعرابه في الكلام الذي يقع فيه فهو إعراب الاسم التّالى إلّا في ذلك الكلام فتقول: جاء القوم غير زيد بالنّصب كما تقول: إلّا زيدا، و ما جائنى أحد غير زيد بالنّصب و الرّفع.
و سرّ ذلك على ما ذكره الرّضيّ هو أنّ أصل غير من حيث كونه اسما جواز تحمل الاعراب و ما بعده الذي صار مستثنى بتطفل غير على إلّا مشغول بالجرّ لكونه مضافا إليه في الأصل فجعل اعرابه الذي كان يستحقّه لو لا المانع المذكور أعنى اشتغاله بالجرّ على نفس غير عارية لا بطريق الأصالة.
و إعرابه في كلام الامام هو النصب لكونه استثناء منقطعا، و يجوز بنائه على الفتح لعدم الخلاف بين علماء الأدبيّة في جواز بنائه على الفتح إذا اضيف إلى ان، و نظيره فيه ما وقع في قوله غير أنّى قد استعين«» على الهمّ اذا خفّ بالثّوى النجاء، و قد صرّح الرّضيّ فيه بجواز الوجهين حسبما ذكرناه.
المعنى
قوله: (لو أمرت به) اى بقتل عثمان (لكنت قاتلا) لأنّ القاتل و ان كان موضوع خطبه 30 نهج البلاغها في اللغة للمباشر للقتل إلّا أنّه يطلق في العرف على الأعمّ من السبب و المباشر فيستلزم الأمر به له عرفا (أو نهيت عنه لكنت ناصرا) لاستلزام النّهى عنه النّصرة له و هو ظاهر.
و هاتان القضيّتان منتجتان لعدم مداخلته عليه السّلام في قتله بالأمر و النهى. إذ باستثناء نقيض تا لييهما يثبت نقيض المقدمين، و المقصود بهذا الكلام إظهار التبرّي من دم عثمان وردّ ما نسبه إليه معاوية و أتباعه من كونه دخيلا فيه، حيث إنّهم لم يستندوا في الخروج عليه و المحاربة معه إلّا بما شهروه بين النّاس من أنّه أمر بقتل عثمان هذا.
و ما ذكره الشّارح المعتزلي من أنّ هذا الكلام بظاهره يقتضى أنّه ما امر بقتله و لا نهى عنه، فيكون دمه عنده في حكم الأمور المباحة التي لا يؤمر بها و لا ينهى عنها.
فيه أنّ غاية ما يستفاد من كلامه هو عدم مدخليته فيه و أما أنّ جهة عدم المدخلية هل هي استباحة دمه أو ساير الجهات فلا دلالة في الكلام عليه.
لا يقال انّ قتله إمّا أن يكون واجبا عنده عليه السّلام، أو محرّما أو مباحا لا سبيل إلى الأوّلين إذ لو كان واجبا لكان آمرا به من باب الأمر بالمعروف، و لو كان محرّما لنهى عنه من باب النهى عن المنكر فحيث لم يأمر به و لم ينه عنه ثبت كونه مباحا عنده لأنا نقول أولا إنّ عدم الأمر به أعمّ من عدم الوجوب، لاحتمال أنّه لم يأمرلعلمه بما يترتب عليه من المفاسد، و يؤيّده ما سنحكيه من البحار و ما روى عنه عليه السّلام اللّه قتله و أنا معه.
و ثانيا انّ عدم نهيه عنه أعمّ من عدم كونه منكرا عنده، لاحتمال أنّه ترك النّهى لعلمه بأنّه لا يترتب على ذلك ثمرة، و وجوب إنكار المنكر إنّما هو إذا علم المنكر أو غلب على ظنّه تأثير إنكاره، و أما إذا علم أو غلب على ظنّه أنّ أنكاره لا يؤثّر و نهيه لا يثمر فيقبح حينئذ النّهى و الانكار، لأنه إن كان الغرض تعريف الفاعل قبح فعله، فذلك حاصل من دون الانكار و إن كان الغرض أن لا يقع المنكر فذلك غير حاصل.
و يؤيّد ذلك ما في البحار من أنّه جمع النّاس و وعظهم ثمّ قال: لتقم قتلة عثمان، فقام النّاس بأسرهم إلّا قليل و كان ذلك الفعل استشهادا منه عليه السّلام على عدم تمكنّه من دفعهم و يدلّ على ذلك بعض كلماته الآتية أيضا.«» و ثالثا لا نسلم أنّه لم ينه عنه فقد روى في البحار من الأمالي باسناده عن مجاهد عن ابن اعباس عنه قال: إن شاء النّاس قمت لهم خلف مقام إبراهيم فحلفت لهم باللّه ما قتلت عثمان و لا أمرت بقتله و لقد نهيتم فعصونى.
فان قلت: كيف الجمع بين هذه الرّواية و بين قوله عليه السّلام: أو نهيت عنه لكنت ناصرا.
قلت: يمكن الجمع بأن يكون المراد به استثناء عين المقدم فينتج عين التّالى أى لكنى نهيت عنه فكنت ناصرا و كيف كان، فقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ كلامه عليه السّلام مجمل متشابه المراد كإجمال ساير ما روى عنه في المقام و السرّ في الاجمال هو ابهام المقصود على السامعين.
و ذلك لما رواه في البحار من المناقب من أنّ أصحاب أمير المؤمنين كانوافرقتين احداهما اعتقدوا أنّ عثمان قتل مظلوما و يتولّاه و يتبرّء من أعدائه، و الاخرى و هم جمهور أهل الحرب و أهل العناء و البأس اعتقدوا أنّ عثمان قتل لأحداث أوجبت عليه القتل، و منهم من يصرّح بتكفيره و كلّ من هاتين الفرقتين تزعمّ أنّ عليّا موافق له على رأيه و كان عليه السّلام يعلم أنّه متى وافق إحدى الطائفتين باينته الاخرى و أسلمته و تولّت عنه و خذلته فكان يستعمل في كلامه ما يوافق كلّ واحدة من الطائفتين.
أقول: و لأجل اشتباه كلامه على السّامعين قال شاعر الشّام الأبيات التي منها:
- أرى الشّام تكره اهل العراقو أهل العراق لهم كارهونا
- و كلّ لصاحبه مبغضيرى كلّ ما كان من ذاك دينا
- إذا ما رمونا رميناهمو دنّاهم مثل ما يقرضونا
- و قالوا عليّ إمام لناو قلنا رضينا ابن هند رضينا
- و قالوا نرى أن تدينوا لنافقلنا ألا لا نرى أن تدينا
- و من دون ذلك خرط القتادو طعن و ضرب يقرّ العيونا
- و كلّ يسرّ بما عندهيرى غثّ ما في يديه سمينا
- و ما في علىّ لمستعتبيقال سوى ضمّه المحدثينا
- و ايثاره اليوم أهل الذّنوبو رفع القصاص عن القاتلينا
- اذا سئل عنه حذا شبهةو عمى الجواب على السّائلينا
- فليس براض و لا ساخطو لا في النّهات و لا الآمرينا
- و لا هو ساء و لا سرّهو لا بدّ من بعض ذا أن يكونا
هذا و قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّه عليه السّلام كان بنائه على ابهام المرام فيّ تلك الواقعة للمصالح المترتّبة على ذلك إلّا أنّه غير خفى على أهل البصيرة و الحجى أنّ و جنات حاله عليه السّلام مع أفعاله و أقواله في تلك الواقعة يدلّ على أنّه كان منكرا لأفعاله و خلافته راضيا بدفعه.
قال المجلسي: و لم يأمر بقتله صريحا لعلمه بما يترتّب عليه من المفاسد أو تقيّة و لم ينه القاتلين أيضا لأنّهم كانوا محقّين، و كان يتكلّم في الاحتجاج على الخصوم على وجه لا يخالف الواقع و لا يكون للجهّال و أهل الضّلال ايضا عليه حجّة، و كان هذا ممّا يخصّه من فصل الخطاب و ممّا يدلّ على و فور علمه في كلّ باب، و يمكن استشمام ذلك من ترجيحه الخاذلين على الناصرين بقوله: (غير أنّ من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه، و من خذله لا يستطيع ان يقول نصره من هو خير منّى).
قال الشّارح المعتزلي معناه إنّ خاذليه كانوا خيرا من ناصريه لأنّ الذين نصروه كانوا فسّاقا كمروان بن الحكم و احزابه و خذله المهاجرون و الانصار.
أقول: كون ناصرى الرّجل منحصرا في مروان الفاسق و نظرائه و خاذليه وجوه الصّحابة من المهاجر و الأنصار غير خفىّ على العارف الأريب ما فيه من الاشارة الى حاله و رتبته، و إلى كون المنصور مثل النّاصر و العاقل يكفيه الاشارة (و أنا جامع لكم أمره) اى مبيّن له بلفظ و جيز.
قال الفيومى: و كان عليه السّلام: يتكلّم بجوامع الكلم أي كان كلامه قليل الألفاظ كثير المعاني (استأثر فأساء الأثرة) اي استبدّ برأيه في الخلافة و إحداث ما أحدث في الاستبداد و الاستقلال حيث ادّى إلى فساد نظم الخلافة حتّى انجرّ الأمر إلى قتله (و جزعتم) من افعاله (فأساتم الجزع) حيث قتلتموه و قد كان ينبغي عليكم التثبّت و إصلاح الأمر بينكم و بينه بدون القتل و بخلعه من الخلافة و إقامة غيره مقامه.
و قيل: أراد أنكم أسأتم الجزع عليه بعد القتل و قد كان ينبغي منكم ذلك الجزع قبل القتل (و للّه حكم واقع) اي ثابت محقّق في علمه تعالى يحكم به في الآخرة أو الاولى، أو سيقع أو يتحقّق خارجا في الآخرة أو الدّنيا لأنّ مجموعه لم يتحقّق بعد و إن تحقّق بعضه (في المستأثر و الجازع) و الأظهر انّ المراد خصوص الحكم الاخروي يعنى أنّ له سبحانه حكما واقعا فيهما يحكم به يوم القيامة بمقتضى عدله فيعاقب المذنب و يثيب المصيب.
تذييل
في الاشارة إلى كيفيّة قتل عثمان إجمالا على ما رواه في شرح المعتزلي من الواقدي و الطبري و هو أنّه أحدث أحداثا مشهورة نقمها النّاس عليه من تأمير بني اميّة و لا سيّما الفسّاق و أرباب السّفه و قلّة الدّين، و إخراج مال الفي ء إليهم و ما جرى في أمر عمّار و أبى ذر و عبد اللّه بن مسعود و غير ذلك من الامور التي جرت في أواخر خلافته، فلما دخلت سنة خمس و ثلاثين كاتب أعداء عثمان و بني اميّة في البلاد و حرّض بعضهم بعضا على خلعه من الخلافة و عزل عمّا له من الأمصار فخرج ناس من مصر و كانوا في ألفين، و خرج ناس من أهل الكوفة في ألفين، و خرج ناس من أهل البصرة و أظهروا انّهم يريدون الحجّ، فلما كانوا من المدينة على ثلث تقدّم أهل البصرة فنزلوا ذا خشب و كان هواهم في طلحة، و تقدّم أهل الكوفة فنزلوا الأعوص و كان هواهم في الزّبير، و جاء أهل مصر فنزلوا ذا المروة و كان هواهم في عليّ، و دخل ناس منهم المدينة يخبرون ما في قلوب النّاس لعثمان فلقوا جماعة من المهاجرين و الأنصار و لقوا أزواج النّبيّ و قالوا: إنّما نريد الحجّ و نستعفي من عما لنا.
ثم لقى جماعة من المصرّيين عليّا و هو متقلّد سيفه عند أحجار الزّيت فسلّموا عليه و عرضوا عليه أمرهم فصاح و طردهم و قال: لقد علم الصّالحون أنّ جيش ذي المروة و ذي خشب و الأعوص ملعونون على لسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانصرفوا عنه، و أتى البصريّون طلحة فقال لهم مثل ذلك، و أتى الكوفيّون الزّبير فقال لهم مثل ذلك فتفرّقوا و خرجوا من المدينة إلى أصحابهم.
فلما أمن أهل المدينة منهم و اطمأنّوا إلى رجوعهم لم يشعروا إلّا و التّكبير في نواحي المدينة و قد نزلوها و أحاطوا بعثمان و نادى مناديهم: يا أهل المدينة من كفّ يده عن الحرب فهو آمن.
فحصروه في منزله إلّا أنّهم لم يمنعوا النّاس من كلامه و لقائه، فجاءهم جماعة من رؤساء المهاجرين و سألوهم ما شأنهم فقالوا: لا حاجة لنافي هذا الرّجل ليعتزلنا لنولّى غيره لم يزيد و هم على ذلك.
و خرج عثمان يوم الجمعة فصلى بالنّاس و قام على المنبر فقال: يا هؤلاء اللّه اللّه فو اللّه إنّ أهل المدينة يعلمون أنّكم ملعونون على لسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله فامحوا الخطاء بالصّواب، فقام محمّد بن مسلمة الأنصاري فقال: نعم أنا أعلم ذلك فاقعده حكيم بن جبلة البصري، و قام زيد بن ثابت فأقعده قنيرة بن وهب المصري.
و ثار القوم فحصبوا النّاس حتّى أخرجوهم من المسجد و حصبوا عثمان حتّى صرع عن المنبر مغشيّا عليه فادخل داره و أقبل عليّ و طلحة و الزّبير فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته و عند عثمان نفر من بني اميّة منهم مروان بن الحكم فقالوا لعليّ أهلكتنا و صنعت هذا الذى صنعت و اللّه إن بلغت هذا الأمر الذى تريده ليمرن عليك الدّنيا فقام مغضبا و خرج جماعة الذين معه إلى منازلهم.
ثمّ إنّ أهل المدينة تفرّقوا عنه و لزموا بيوتهم لا يخرج أحد منهم إلّا بسيفه يمتنع به فكان حصاره أربعين يوما.
و في رواية الطبرى فما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عمّا يكرهون و علم عثمان ذلك جاء إلى منزل عليّ فدخل و قال: يابن عمّ إنّ قرابتي قريبة و قد جاء ما ترى من القوم و هم مصبحى و لك عند النّاس قدروهم يسمعون منك و أحبّ أن تركب إليهم و تردّهم عنّى فانّ في دخولهم علىّ و هنا لأمري و جرئة علىّ.
فقال عليه السّلام: على أىّ شي ء أردّهم قال: على أن أصير إلى ما أمرت به و رأيت فيّ، فقال عليّ إنّى قد كلّمتك مرّة بعد اخرى فكلّ ذلك تخرج و تقول و تعد ثمّ ترجع و هذا من فعل مروان و معاوية و ابن عامر و عبد اللّه بن سعد فانك أطعتهم و عصيتنى.
قال عثمان فانى أعصيهم و اطيعك، فأمر عليّ عليه السّلام النّاس أن يركبوا معه فركب معه ثلاثوررجلا من المهاجر و الأنصار فأتوا المصريّين فكلّموهم فكان الذي يكلّمهم عليّ عليه السّلام و محمّد بن مسلمة فسمعوا منهما و رجعوا بأصحابهم يطلبون مصر.
و رجع عليّ حتّى دخل على عثمان فأشار عليه أن يتكلّم بكلام يسمعه النّاس منه ليسكنوا إلى ما يعدهم به من النّزوع، و قال: إنّ البلاد قد تمحّصت عليك و لا امن أنّه يجي ء ركب من جهة اخرى فتقول لي يا على اركب إليهم فان لم أفعل رأيتنى قد قطعت رحمك و استخففت بحقّك.
فخرج عثمان فخطب الخطبة التي ينزع فيها و أعطى النّاس من نفسه التّوبة و قال لهم: أنا أوّل من اتعظ و استغفر اللّه و أتوب إليه فمثلى نزع و تاب فاذا نزلت فليأتني أشرافكم فليرون رأيهم، و ليذكر كلّ واحد ظلامته لأكشفها و حاجته لأقضيها فو اللّه لان ردّني الحق عبد الأسننّ سنّة العبيد، و لا ذلنّ ذلّ العبيد، و ما عن اللّه مذهب إلا إليه و اللّه لأعطينكم الرّضا و لا يحننّ مروان و ذريه و لا أحتجب عنكم.
فلما نزل وجد مروان و سعدا و نفرا من بني اميّة في منزله قعودا لم يكونوا شهدوا خطبته و لكنها بلغهم.
فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين أ أتكلم فقالت نائلة: امرأة عثمان: لابل تسكت، فأنتم و اللّه قاتلوه و موتموا أطفاله إنّه قد قال مقالة لا ينبغي أن ينزع عنها، فقال لها مروان: و ما أنت و ذلك و اللّه لقد مات أبوك و ما يحسن أن يتوضّأ، فقالت: مهلا يا مروان عن ذكر أبي إلّا بخير و اللّه لو لا أنّ أباك عمّ عثمان و أنّه يناله غمّه و عيبه لأخبرتك بما لا أكذب فيه عليه، فأعرض عنه عثمان.
ثمّ عاد فقال: ءأتكلّم أم أسكت فقال: تكلّم، فقال و اللّه لوددت أنّ مقالتك هذه كانت و أنت ممتنع أوّل من رضى بها و أعان عليها، و لكنك قلت و قد بلغ الحزام الطبيين و جاوز السّيل الزّبى، و اللّه لاقامة على خطيئة تستغفر اللّه منها أجمل من توبة تخوف عليها ما زدت على أن جرئت عليك النّاس.
فقال عثمان قد كان من قولي ما كان، و إنّ الفايت لا يردّ و لم آل خيرا فقال مروان: إنّ النّاس قد اجتمعوا ببابك أمثال الجبال قال: ما شأنهم قال: أنت دعوتهم إلى نفسك، فهذا يذكر مظلمة و هذا يطلب مالا و هذا سأل نزع عامل من عمّا لك و هذا ما جنيت على خلافتك.
و لو استمسكت و صبرت كان خيرا لك، قال: فاخرج أنت إلى النّاس فكلّمهم فانّى أستحى أن أكلّمهم و ردّهم فخرج مروان إلى النّاس و قد ركب بعضهم بعضا، فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم كانّكم جئتم لنهب، شاهت الوجوه أ تريدون ان تنزعوا ملكنا من أيدينا، أعزبوا عنّا و اللّه ان رمتمونا لنمرّن عليكم ما حلا و لنحلن بكم ما لا يسركم و لا تحمدوا فيه رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فانّا و اللّه غير مغلوبين على ما في أيدينا.
فرجع النّاس خايبين يشتمون عثمان و مروان و أتى بعضهم عليّا فأخبره الخبر، فأقبل عليّ على عبد الرّحمن بن الاسود بن عبد يغوث الزّهرى، فقال أحضرت خطبة عثمان قال: نعم قال أ فحضرت مقالة مروان للنّاس قال: نعم.
فقال عليه السّلام: اى عباد اللّه، ياللّه للمسلمين إنّى قعدت في بيتي، قال لي تركتنى و خذلتنى و إن تكلمت فبلغت له ما يريد جاء مروان و يلعب به حتّى قد صار سيقة له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السّنّ و قام مغضبا من فوره حتى دخل على عثمان، فقال عليه السّلام له أما يرضى مروان منك إلّا أن يحرّفك عن دينك و عقلك فانت معه كجمل الظعينة يقاد حيث يسار به، و اللّه ما مروان بذى رأى في دينه و لا عقله، و انى لأراه يوردك ثمّ لا يصدرك و ما أنا عايد بعد مقامى هذا لمعا تبتك أفسدت شرفك و غلبت على رأيك ثمّ نهض.
فدخلت نائلة فقالت قد سمعت قول عليّ لك و أنّه ليس براجع إليك و لا معاود لك و قد أطعت مروان يقودك حيث يشاء قال فما أصنع قالت تتقى اللّه و تتبع سنّة صاحبيك، فانك متى أطعت مروان قتلك، و ليس لمروان عند النّاس قدر و لا هيبة و لا محبّة و إنّما تركك النّاس لمكانه، و إنّما رجع عنك أهل مصر لقول عليّ عليه السّلام، فأرسل إليه فاستصلحه، فانّ له عند النّاس قدما و أنّه لا يعص فأرسل إلى عليّ فلم يأته و قال: قد أعلمته أنّي غير عايد.
و في البحار من الامالى عن أحمد بن محمّد بن الصّلت عن ابن عقدة الحافظ عن جعفر بن عبد اللّه العلوىّ عن عمه القاسم بن جعفر بن عبد اللّه عن عبد اللّه بن محمّد بن عبد اللّه عن ابيه عن عبد اللّه بن أبي بكر عن ابي جعفر عليه السّلام قال حدثنى عبد الرّحمن بن أبي عمرة الانصارى: قال لمّا نزل المصريّون بعثمان بن عفّان في مرّتهم الثّانية، دعى مروان بن الحكم فاستشاره، فقال له: انّ القوم ليس هم لأحد أطوع منهم لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و هو أطوع النّاس في النّاس، فابعثه إليهم فليعطهم الرضا و ليأخذ لك عليهم الطاعة و يحذّرهم الفتنة.
فكتب عثمان إلى عليّ بن أبي طالب: سلام عليك، أمّا بعد قد جاز السّيل الزّبى«»، و بلغ الحزام الطبيين، و ارتفع امر النّاس بي فوق قدر، و طمع فيّ من كان يعجز عن نفسه، فاقبل عليّ و تمثل:
- فان كنت ماكولا فكن خير آكلو إلّا فأدركني و لمّا امزّق و السّلام.
فجائه عليّ فقال: يا أبا الحسن ائت هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيّه فقال: نعم إن أعطيتني عهد اللّه و ميثاقه على أن تفى لهم بكلّ شي ء أعطيته عنك، فقال: نعم فأخذ عليه عهدا غليظا و مشى إلى القوم فلما دنى منهم قالوا وراءك قال: لا، قالوا: وراءك، قال: لا.
فجاء بعضهم ليدفع في صدره فقال القوم بعضهم لبعض: سبحان اللّه أتاكم ابن عمّ رسول اللّه يعرض كتاب اللّه، اسمعوا منه و اقبلوا، قالوا تضمن لنا كذلك، قال: نعم فأقبل معه أشرافهم و وجوههم حتّى دخلوا على عثمان فعاتبوه فأجابهم إلى ما أحبّوا فقالوا اكتب لنا على هذا كتابا و ليضمن علىّ عنك ما في الكتاب قال اكتبوا أنى شئتم فكتبوا بينهم: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا ما كتب عبد اللّه عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين و المسلمين إنّ لكم عليّ أن أعمل بكتاب اللّه و سنّة نبيّه، و أنّ المحروم يعطى، و أنّ الخائف يؤمن، و أنّ المنفيّ يردّ، و أنّ المبعوث لا يجمر، و أنّ الفي ء لا يكون دولة بين الأغنياء، و عليّ بن أبي طالب ضامن للمؤمنين و المسلمين على عثمان الوفاء لهم على ما في الكتاب شهد الزّبير بن العوام و طلحة بن عبيد اللّه و سعد ابن مالك و عبد اللّه بن عمر و أبو أيوب بن زيد، و كتب في ذى القعدة سنة خمس و عشرين.
فأخذوا الكتاب ثمّ انصرفوا فلما نزلوا ايلة، إذا هم براكب فأخذوه فقالوا من أنت قال: أنا رسول عثمان إلى عبد اللّه بن سعد قال بعضهم لبعض: لو فتّشناه لئلّا يكون قد كتب فينا، ففتّشوه فلم يجدوا معه شيئا.
فقال كنانة بن بشر النجيبى: انظروا إلى أدواته فان للنّاس حيلا، فاذا قارورة مختومة بموم فاذا فيها كتاب إلى عبد اللّه بن سعد إذا جاءك كتابي هذا فاقطع أيدى الثلاثة مع أرجلهم فلما قرءوا الكتاب رجعوا حتّى أتوا عليّا، فأتاه فدخل عليه، فقال استعتبك القوم فاعتبتهم ثمّ كتبت هذا كتابك نعرفه الخط الخط و الخاتم الخاتم فخرج عليّ مغضبا و أقبل النّاس عليه فخرج سعد من المدينة فلقاه رجل فقال: يا أبا إسحاق أين تريد قال: إنى فررت بدينى من مكّة إلى المدينة و أنا اليوم أهرب بديني من المدينة إلى مكّة.
و قال الحسن بن عليّ لعليّ عليه السّلام حين أحاط النّاس بعثمان: اخرج من المدينةو اعتزل فانّ النّاس لا بدّ لهم منك و انّهم ليأتونك و لو كنت بصنعاء، و أخاف أن يقتل هذا الرّجل و أنت حاضره.
فقال يا بنىّ أخرج عن دار هجرتي و ما أظنّ يجترى على هذا القول كلمة، و قام كنانة بن بشر فقال: يا عبد اللّه أقم لنا كتاب اللّه فانا لا نرضى بالقول دون الفعل قد كتبت و اشهدت لنا شهودا و أعطيتنا عهد اللّه و ميثاقه، فقال ما كتبت بينكم كتابا.
فقام إليه المغيرة بن الأخنس و ضرب بكتابه وجهه و خرج إليهم عثمان ليكلّمهم فصعد المنبر و رفعت عايشة قميص رسول اللّه و نادت ايّها النّاس هذا قميص رسول اللّه لم يبل و قد غيّرت سنّته، فنهض النّاس و كسر اللغظ و حصبوا عثمان حتى نزل من المنبر، و دخل بيته.
فكتب نسخة واحدة إلى معاوية و عبد اللّه بن عامر: أمّا بعد فانّ أهل السّفه و البغى و العدوان من أهل العراق و مصر و المدينة أحاطوا بدارى و لن يرضيهم منّي دون خلعى أو قتلي، و أنا ملاقى اللّه قبل أن اتابعهم على شي ء من ذلك فأعينوني.
فلما بلغ كتابه ابن عامر قام و قال: أيّها النّاس إنّ امير المؤمنين عثمان ذكر أنّ شر ذمة من أهل مصر و العراق نزلوا بساحته فدعاهم إلى الحقّ فلم يجيبوا فكتب إلىّ أن ابعث إليه منكم ذوي الدّين و الرّأى و الصّلاح، لعلّ اللّه أن يدفع عنه ظلم الظالم و عدوان المعتدي فلم يجيبوه إلى الخروج.
ثم انّه قيل لعليّ إنّ عثمان قد منع الماء فأمر بالرّوايا فعكمت و جاء النّاس إلى عليّ عليه السّلام فصاح بهم صيحة انفرجوا فدخلت الرّوايا فلما رأى عليّ اجتماع النّاس دخل على طلحة بن عبد اللّه و هو متكى على و سائد، فقال: إنّ الرّجل مقتول فامنعوه فقال: أم و اللّه دون أن تعطى بنو أميّة الحقّ من أنفسها.
و في شرح المعتزلي عن الطبري عن عبد اللّه بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: دخلت على عثمان فأخذ بيدى فأسمعني كلام من على بابه من النّاس فمنهم من يقول: ما تنتظرون به، و منهم من يقول: لا تعجلوا به فعساه ينزع و يراجع فبينا نحن إذ مرّ طلحة فقام إليه ابن عديس البلوى فناجاه ثمّ رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لاتتركوا احدا يدخل إلى عثمان و لا يخرج من عنده، قال لي عثمان هذا ما امره به طلحة.
اللّهمّ اكفني طلحة فانّه حمل هؤلاء القوم و اكبّهم عليّ، و اللّه لأرجو ان يكون منها صفرا و ان يسفك دمه قال فأردت ان اخرج فمنعوني حتّى امرهم محمّد بن ابي بكر فتركوني اخرج.
قال الطبري: فلما طال الأمر و علم المصريّون انهم قد اجرموا إليه جرما كجرم القتل و أنّه لا فرق بين قتله و بين ما اتوا إليه و خافوا على نفوسهم من تركه حيّا راموا الدخول عليه من باب داره، فاغلقت الباب، و قام رجل من اسلم يقال له: نيار بن عياض و كان من الصّحابة فنادى عثمان و أمره أن يخلع نفسه، فبينا هو يناشده و يسوّمه خلع نفسه رماه كثير بن الصّلت الكندي و كان من أصحاب عثمان من أهل الدار نسبهم فقتله.
فصاح المصريّون و غيرهم عند ذلك: ادفعوا إلينا قاتل ابن عياض لنقتله به، فقال عثمان: لم اكن لأدفع إليكم رجلا نصرني و أنتم تريدون قتلي فثاروا إلى الباب فاغلق دونهم فجاءوا بنار فأحرقوه و أحرقوا السقيفة التي عليه.
و خرج مروان بسيفه يحاله النّاس فضربه رجل من بني ليث على رقبته فأثبته و قطع احد عيباوته فعاش مروان بعد ذلك اوقص، و قتل المغيرة بن الاخنس و هو يحامى عن عثمان بالسّيف.
و اقتحم القوم الدار و دخل كثير منهم الدّور المجاورة لها و تسوّروا من دار عمرو بن حزم اليها حتّى ملئوها و غلب النّاس على عثمان و ندبوا رجلا لقتله، فدخل إليه البيت فقال له: اخلعها و ندعك، فقال: و يحك و اللّه ما كشفت عن امرئة في جاهلية و لا اسلام و لا تغنيت و لا تمنيت و لا وضعت يميني على عورتى منذ بايعت رسول اللّه و لست بخالع قميصا كسانيه اللّه حتى يكرم اهل السّعادة و يهين اهل الشقاوة.
فخرج عنه فقالوا له ما صنعت قال: إنى لم استحلّ قتله فادخلو إليه رجلا من الصحابة فقال له: لست بصاحبي إنّ النبيّ دعا لك أن يحفظك يوم كذاو لن تصنع فرجع عنه، فادخلوا إليه رجلا من قريش فقال له: ان رسول اللّه استغفر لك يوم كذا فلن يقارف دما حراما فرجع.
فدخل عليه محمّد بن أبي بكر و في رواية الواقدي انّه أوّل من دخل عليه فقال له عثمان: و يحك أعلى اللّه تغضب هل لى إليك جرم إلّا أنّى أخذت حقّ اللّه منك، فأخذ محمّد بلحيته و قال: أخزاك اللّه يا نعثل، قال: لست بنعثل، و لكنّي عثمان و أمير المؤمنين فقال: ما أغنى عنك معاوية و فلان و فلان، فقال عثمان: يابن أخي دعها من يدك فما كان أبوك ليقبض عليها، فقال: لو عملت ما عملت في حياة أبى لقبض عليها و الذى اريد بك أشدّ من قبضي عليها، فقال: استنصر اللّه عليك و استعين بك فتركه و خرج.
و قيل: بل طعن جنبه بمشقص كان في يده فثار سودان بن حمران، و ابو حرب الغانقى و قنبرة بن وهب السكسكى فضربه الغانقى بعمود كان في يده و ضرب المصحف برجله و كان في حجره فنزل بين يديه و سال عليه الدّم، و جاء سودان ليضربه بالسّيف فاكبّت عليه امرأته نائلة و ألقت السّيف بيدها و هى تصرخ فنفح أصابعها فأطنها فولت فغمرت بعضهم إوراكها و قال إنّها لكبيرة العجز و ضرب سودان عثمان فقتله.
و قيل: بل قتله كنانة بن بشير النّجيبى، و قيل: بل قنبرة بن وهب، و دخل غلمان عثمان و مواليه فضرب أحدهم عنق سودان فقتله، فوثب قنبرة بن وهب على ذلك الغلام فقتله، فوثب غلام آخر على قنبرة فقتله، و نهب دار عثمان و اخذ ما على نسائه و ما كان في بيت المال.
و كان فيه غزارتان دراهم و وثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان و به رمق فطعنه تسع طعنات و قال: أما ثلاث منها فانى طعنتهن للّه و أما ستّ منها فلما كان في صدرى عليه و أرادوا قطع رأسه فوقع عليه زوجتاه فضجن و ضربن الوجوه فقال ابن عديس: اتركوه.
و اقبل عمير بن الصّابى فوثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه و قال له سجنت أبي حتّى مات في السّجن.
و كان قتله يوم الثامن عشر من ذى الحجة سنة خمس و ثلاثين، و كان عمره ستّا و ثمانين سنة و دفن في حشّ كوكب«» بعد ثلاثة ايّام باذن عليّ على ما مرّ في شرح الخطبة الشّقشقّية.
|