رضينا عن اللّه قضاءه، و سلّمنا للّه أمره، أ تراني أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اللّه لأنا أوّل من صدّقه، فلا أكون أوّل من كذب عليه، فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، و إذا الميثاق في عنقي لغيري.
المعنی
الفصل الثالث
مشتمل على الرّضا بالقضا و تسليم الأمر للّه سبحانه و تعالى، لمّا تفرّس في طائفة من قومه أنّهم يتّهمونه بالكذب فيما يخبرهم به من الغيوبات و الملاحم الواقعة في القرون المستقبلة كما يأتي شطر منها في شرح كلامه السّادس و الخمسين، و يأتي في تلك الأخبار أنّ بعضهم واجهه بالشّك و التّهمة فعند ذلك قال: (رضينا عن اللّه قضائه و سلّمنا له أمره) و ذلك لأنّه لمّا كان القضاء الالهي قد جري على قوم بالتّكذيب له و التّهمة فيما يقول لاجرم كان أولى بلزوم باب الرّضا و التّسليم إلى اللّه فيما جرى عليه قلم القضاء، ثمّ ابطل أوهامهم على سبيل الاستفهام الانكارىّ الابطالي و قال: (أ ترانى) الخطاب لكلّ من أساء الظنّ في حقّه (أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) و كيف لي بذلك (فو اللّه لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه)
الفصل الرابع
يذكر فيه حاله بعد وفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّه قد عهده النّبيّ بعدم المنازعة في الأمر و أوصى له بطلبه بالرفق و المداراة فان حصل له و إلّا فليمسك عنه و ليحقن دمه كما قال: (فنظرت في أمرى) اى أمر الخلافة التي هى حقّ لى (فاذا طاعتى قد سبقت بيعتى) أى وجوب طاعتى لرسول اللّه فيما أمرني به من ترك القتال عند عدم الأعوان قد سبق على بيعتى للقوم فلا سبيل لي إلى الامتناع (و إذا الميثاق في عنقى لغيرى) اى ميثاق الرّسول و عهده إلىّ بترك الشّقاق و المنازعة فلم يحلّ لي أن أتعدّى أمره، أو أخالف نهيه.
و ينبغي التنبيه على أمرين
الاول
قال الشّارح المعتزلي بعد شرح الفصل الأخير من كلامه عليه السّلام على نحو ما شرحناه: فان قيل: فهذا تصريح بمذهب الاماميّة.
قيل: ليس الأمر كذلك بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديّين لأنّهم يزعمون أنّه الأفضل و الأحقّ بالامامة و أنّه لو لا ما يعلمه اللّه و رسوله من الأصلح للمكلّفين من تقديم المفضول عليه لكان من تقدّم عليه هالكا، فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعلمه أنّ الامامة حقه و أنّه أولى بها من النّاس أجمعين و أعلمه أنّ في تقديم غيره و صبره على التأخّر عنها مصلحة للدّين راجعة إلى المكلّفين، و أنّه يجب عليه أن يمسك عن طلبها و يغضي عنها لمن هو دون مرتبته، فامتثل أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يحرجه تقدّم من تقدّم عليه من كونه الأفضل و الأولى و الأحقّ.
ثمّ قال: و قد صرّح شيخنا أبو القاسم البلخي بهذا و صرّح به تلامذته و قالوا: لو نازع عقيب وفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سلّ سيفه لحكمنا بهلاك كلّ من خالفه و تقدّم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، و لكنّه مالك الأمر و صاحب الخلافة إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، و إذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من اغضى له عليها و حكمه في ذلك حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه قد ثبت عنه في الأخبار الصّحيحة أنّه قال عليّ مع الحقّ و الحقّ مع علىّ يدور حيثما دار، و قال صلّى اللّه عليه و آله له غيره مرّة: حربك حربي و سلمك سلمي و هذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي و به أقول انتهى كلامه.
أقول: ما ذكره هنا ملخّص ما ذكره في شرح الخطبة الشّقشقيّة و قد نقلنا كلامه في المقدّمة الثّانية من مقدّمات تلك الخطبة، و ذكرنا هنالك ما يتوجّه عليه من وجوه الكلام و ضروب الملام.
و نقول ههنا مضافا إلى ما سبق هناك: أن تقدّم غيره عليه إمّا أن يكون بفعل اللّه سبحانه و فعل رسوله، و إمّا أن لا يكون بفعلهما بل تقدّم الغير بنفسه لاعتقاده أنّه أحقّ بها منه عليه السّلام، أو قدّمه من ساير الصّحابة و المكلّفين إمّا بهوى أنفسهم أو رعاية المصلحة العامّة.
أمّا الأوّل ففيه أولا أنّهم لا يقولون به، لاتّفاقهم على عدم النّصّ من اللّه و من رسول له في باب الامامة و ثانيا أنّه لو كان ذلك بفعلهما لم يكن لتشكّيه من القوم وجه و لما نسبهم إلى التّظليم و لما كان يقول مدّة عمره و اللّه ما زلت مظلوما مدفوعا عن حقّي مستأثرا علىّ منذ قبض اللّه رسوله و لكان الواجب أن يعذرهم في ذلك و ثالثا أنّ تقديم المفضول على الفاضل و الأفضل قبيح عقلا و بنصّ القرآن قال سبحانه: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى الآية و قال أيضا: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً.
و مع كونه قبيحا كيف يمكن صدوره من اللّه سبحانه أو من رسوله.
فان قلت: تقديم المفضول إذا كان لمصلحة الدّين راجعة إلى المكلّفين فلا نسلّم قبحه قلت: بعد تسليم الصّغرى أوّلا و تسليم كون الحسن و القبح في الأشياء مختلفا بالوجوه و الاعتبارات ثانيا إنّ أمير المؤمنين إذا كان عالما بالمصلحة في تقدّم الغير على ما صرّح به من أنّ رسول اللّه أعلمه به، كان اللازم حينئذ له السّكوت، إذ المعلوم بالضّرورة من حاله أنّ طلبه للخلافة لم يكن للدّنيا و حرصا على الملك، بل إنّما كان غرضه بذلك حصول نظام الدّين و انتظام أمر المكلّفين و إقامة الحقّ و إزاحة الباطل، كما صرّح عليه السّلام به في قوله في الخطبة الثّالثة و الثّلاثين، و اللّه لهى أحبّ إلىّ من أمارتكم هذه إلّا أن اقيم حقّا أو أدفع باطلا، فاذا كان حصول هذا النّظام و الانتظام و صلاح المكلّفين بتقدّم الغير لا بدّ و أن يكون مشعوفا به و راضيا بذلك أشدّ الرّضا لا شاكيا و مظهرا للتظلّم و الشّكوى كما مرّ في الخطبة الشّقشقيّة، و في قوله في الخطبة السّادسة و العشرين فنظرت فاذا ليس لي معين اه.
و أمّا الثّاني و هو أنّ تقدّم الغير عليه إنّما كان لزعم الغير أنّه أحقّ بهامنه عليه السّلام ففيه أنّ الأمر إذا دار بين متابعة راى الأفضل و متابعة رأى المفضول كان اللّازم ترجيح الأوّل على الثّاني دون العكس و هو واضح.
و أمّا الثّالث و هو أنّ التّقدّم كان بتقديم المكلّفين بمقتضا هوى أنفسهم الأمارة بالسّوء و لما كان في صدورهم من الحسد و السّخايم فهو الحقّ و الصّواب من دون شكّ فيه و ارتياب.
و لنعم ما قال أبو زيد النّحوي الخليل بن أحمد حين سئل عنه ما بال أصحاب رسول اللّه كأنّهم بنو أمّ واحدة و عليّ عليه السّلام كأنّه ابن علة قال تقدّمهم إسلاما و بذّهم شرفا وفاقهم علما و رجهم حلما و كثرهم هدى فحسدوه و النّاس إلى أمثالهم و أشكالهم أميل.
و قال ابن عمر لعليّ عليه السّلام كيف تحبّك قريش و قد قتلت في يوم بدر و احد من ساداتهم سبعين سيدا تشرب انوفهم الماء قبل شفاههم فقال أمير المؤمنين عليه السّلام ما تركت بدر لنا مذيقا و لا لنا من خلفنا طريقا.
و سئل زين العابدين عليه السّلام و ابن عباس أيضا لم أبغضت قريش عليّا قال: لأنّه أورد أوّلهم النّار و آخرهم العار.
و قال أبو زيد النّحوي: سألت الخليل بن أحمد العروضي لم هجر النّاس عليّا و قرباه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرباه و موضعه من المسلمين موضعه و عناؤه في الاسلام عناؤه، فقال: بهر و اللّه نوره أنوارهم و غلبهم على صفو كلّ منهل، و النّاس إلى أشكالهم أميل أما سمعت الأوّل حيث يقول:
- و كلّ شكل لشكله ألفأما ترى الفيل يألف الفيلا
قال: و أنشد الريّاشي في معناه عن العباس بن الأحنف:
- و قائل كيف تهاجرتمافقلت قولا فيه إنصاف
- لم يك من شكلي فهاجرتهو النّاس أشكال و آلاف
و أمّا الرّابع ففيه أنّ التّقديم إمّا أنّه كان بفعل جميع المكلّفين أو بفعل البعض و الاول ممنوع لما قد عرفت في شرح الخطبة الشّقشقية من تخلّف وجوه الصّحابة عن البيعة و عرفت هناك أيضا قول الشّارح بأنّه لو لا عمر لم يثبت لأبي بكر أمر و لا قامت له قائمة و الثاني لا حجيّة فيه، هذا مضافا إلى أنّه كيف يمكن أن يخفى عليه عليه السّلام ما لم يخف على غيره من وجوه المصلحة التّي لا حظوها في التّقديم على زعمك، إذ قد ذكرنا أنّه لو علم المصلحة في ذلك لسكت و لم يتظلّم.
فان قيل: انّ هذا يجري مجرى امرأة لها اخوة كبار و صغار فتولّى أمرها الصغار في التزويج فانّه لا بدّ أن يستوحش الكبار و يتشكّوا من ذلك.
قيل: إنّ الكبير متى كان دّينا خائفا من اللّه فانّ استيحاشه و ثقل ما يجري على طبعه لا يجوز أن يبلغ به إلى إظهار الكراهة للعقد و الخلاف فيه و ايهام أنّه غير ممضى و لا صواب، و كلّ هذا جرى من أمير المؤمنين فيكشف ذلك كلّه عن عدم المصلحة في تقدّم الغير عليه بوجه من الوجوه.
ثمّ إنّ ما حكاه من شيخه أبي القاسم البلخى و بنا عليه مذهبه من أنّه صاحب الخلافة و مالك الأمر إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها و إذا أمسك عنها وجب القول بعدالة من غضي لها: فيه أنّ الشرطية الاولى مسلّمة و المقدّم فيها حقّ فوجب القول بتفسيق المنازعين و الدّليل على طلبه عليه السّلام لها واضح لمن له أدنى تتبّع في الأخبار، و يكفى في ذلك قوله في الخطبة التي رواها الشّارح المعتزلي في شرح كلامه لما قلّد محمّد بن أبي بكر المصر، و قد مضت روايتها منّا في شرح الخطبة السّادسة و العشرين و هو قوله عليه السّلام: ثمّ قالوا هلمّ فبايع و إلّا جاهدناك، فبايعت مستكرها و صبرت محتسبا، فقال قائلهم: يابن أبي طالب انك على هذا الأمر لحريص، فقلت أنتم أحرص منّي و أبعد أيّنا أحرص أنا الذي طلبت تراثي و حقّي الذي جعلني اللّه و رسوله أولى به، ام أنتم تضربون وجهي دونه و تحولون بيني و بينه، فبهتوا و اللّه لا يهدي القوم الظالمين إلى آخر ما مرّ.
و يشهد بذلك ما رواه الشّارح أيضا في شرح الخطبة المذكورة من أنّ قوله عليه السّلام: فنظرت فاذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت فتقول ما زال يقوله و لقد قاله عقيب وفات رسول اللّه و قال لو وجدت أربعين ذوى عزم.
و يدلّ عليه ما رواه أيضا في شرح الخطبة المذكورة حيث قال: و من كتاب معاوية المشهور، و عهدك أمس تحمل قعيدة. بيتك ليلا على حمار و يداك في يدي ابنيك الحسن و الحسين يوم بويع أبو بكر الصّديق، فلم تدع أحدا من أهل بدر و السّوابق إلّا دعوتهم إلى نفسك و مشيت إليهم بامرئتك و أوليت إليهم بابنيك و استنصرتهم على صاحب رسول اللّه، فلم يجبك منهم إلّا أربعة أو خمسة، إلى غير ذلك ممّا مضى و يأتي في تضاعيف الكتاب، و بالجملة فمطالبته لها واضح لاولى الأبصار كالشّمس في رابعة النّهار.
و يعجبني أن اورد هنا حكاية مناسبة للمقام، و هو ما نقله شيخنا البهائى في الكشكول قال: كتب عليّ بن صلاح الدّين يوسف ملك الشّام إلى الامام الناصر لدين اللّه يشكو أخويه أبا بكر و عثمان لما خالفا وصية أبيهم له:
- مولاى إنّ أبا بكر و صاحبهعثمان قد غصبا بالسّيف حق علي
- و كان بالأمس قد ولّاه والدهفي عهده فأضاعا الأمر حقد ولى
- فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقىمن الأواخر مالاقا من الاول
- إذ خالفاه و حلّا عقد بيعتهو ابينهما و النّصّ فيه جلى
فوقّع الخليفة النّاصر على ظهر كتابه:
- و افا كتابك يا بن يوسف منطقابالخير يخبر انّ أصلك طاهر
- منعوا عليّا إرثه إذ لم يكنبعد النّبيّ له بيثرب ناصر
- فاصبر فانّ غدا علىّ حسابهمو ابشر فناصرك الامام النّاصر
و أمّا الشّرطية الثّانية فممنوعة إذ الامساك عنها لا دلالة فيه على عدالة من غضى لها، نعم إنّما يدلّ عليها إذا لم يكن للامساك وجه إلّا الرّضا و طيب النّفس و أمّا إذا كان هناك احتمال أن يكون وجهه هو الخوف و التّقية فلا.
و قال المرتضى «ره» و ليس لأحد أن يقول: كيف يجوز على شجاعته و ما خصّه اللّه به من القوّة الخارجة للعادة أن يخاف منهم و لا يقدم على قتالهم لو لا أنّهم كانوا محقّين و ذلك إنّ شجاعته و إن كانت على ما ذكرت و أفضل فلا يبلغ أن يغلب جميع الخلق و يحارب ساير النّاس و هو مع الشّجاعة بشر يقوي و يضعف و يخاف و يأمن و التّقية جايزة على البشر الذين يضعفون عن دفع المكروه عنهم هذا.
و أمّا الحديث الذي رواه من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ فمن الأحاديث المعروفة المعتبرة المستفيضة بل لا يبعد دعوى تواتره، و قد رواه السّيد المحدّث البحراني في كتاب غاية المرام بخمسة عشر طريقا من طرق العامة و أحد عشر طريقا من طرق الخاصّة.
ففي بعض الطرق العاميّة عن شهر بن حوشب قال: كنت عند أمّ سلمة (رض) إذا استاذن رجل فقالت من أنت فقال: أنا أبو ثابت مولى عليّ عليه السّلام، فقالت أمّ سلمة: مرحبا بك يا أبا ثابت ادخل. فدخل فرحّبت به ثمّ قالت: يا أبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطايرها قال: تبع عليّ عليه السّلام قالت: وفّقت و الذي نفسي بيده لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: علىّ مع الحقّ و القرآن، و الحقّ و القرآن مع عليّ و لن يغترقا حتى يردا علىّ الحوض.
و في بعضها عن عايشة قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض.
و في رواية موفق بن أحمد باسناده عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة و الاسود قالا: سمعنا أبا أيوّب الأنصاري قال: سمعت النبّي صلّى اللّه عليه و آله يقول لعمار ابن ياسر، يا عمّار تقتلك الفئة الباغية و أنت مع الحقّ و الحق معك، يا عمّار إذا رأيت عليّا سلك واديا و سلك واديا غيره فاسلك مع عليّ ودع النّاس، إنّه لن يدلّك على ردى و لن يخرجك عن الهدى، يا عمّار إنّه من تقلّد سيفا أعان به عليّا على عدوّه قلّده اللّه يوم القيامة و شاحا من درّ، و من تقلّد سيفا أعان به عدوّ عليّ قلّده يوم القيامة وشاحا من نار قال قلت: حسبك.
أقول: لا خفاء في دلالة هذا الخبر على عصمته و إمامته، و بطلان خلافة الثلاثة غير خفيّة من وجوه عديدة: الأوّل أنّه أخبر بكون الحقّ معه عليه السّلام و هو يقتضى عصمته إذ لا يجوز أن يخبر على الاطلاق بأنّ الحقّ مع عليّ مع جواز وقوع القبيح عنه عليه السّلام، لأنّه إذا وقع كان اخباره بذلك كذبا و هو محال فلا بدّ أن يكون معصوما.
الثّاني أنّ لن إمّا لنفى التّابيد أو لنفى المستقبل فتدلّ على التّقديرين على عدم انفكاك الحقّ منه، فاذا كان الحقّ لا ينفكّ عنه أبدا ثبت إمامته و بطل خلافة من خالفه.
الثّالث أنّ قوله: لعمّار إذا رأيت عليّا سلك واديا و سلك واديا غيره فاسلك مع علىّ نصّ صريح في وجوب الاقتداء به و عدم جواز الاقتداء بغيره و لا سيّما بملاحظة تعليله بأنّه لن يدلّك على ردى و لن يخرجك عن الهدى، فانّه يدلّ على أنّه إن سلك سبيل الغير يكون خارجا من الهدى إلى الرّدى، و لذلك إنّ عمّار لازم عليّا و أنكر على الأوّل و تخلّف عن البيعه حتّى أكرهوه على البيعة فبايع بعد بيعة مولاه عليه السّلام بكره و اجبار هذا.
و من العجب العجاب أنّ بعض النّاصبين قال: إن صحّ الخبر دلّ على أنّ عليّا كان مع الحقّ أينما دار و هذا شي ء لا يرتاب فيه حتّى يحتاج إلى دليل، بل هذا دليل على حقيّة الخلفاء، لأنّ الحقّ كان مع عليّ و عليّ كان مع الخلفاء حيث تابعهم و ناصحهم، فثبت من هذا خلافة الخلفاء و أنّها كانت حقّا صريحا، و أمّا من خالف عليّا من البغاة فمذهب أهل السّنة و الجماعة أنّ الحقّ كان مع عليّ و هم كانوا على الباطل، و لا شكّ في هذا انتهى.
و يتوجّه عليه اولا أنّ صحّة الخبر ممّا لا مجال للكلام فيها و ثانيا أنّ كونه مع الخلفاء و تابعهم ممنوع إلّا بمعنى كونه معهم في سكون المدينة و بمعنى التّابعة الاجباريّة و المماشاة في الظاهر، و إلّا فما وقع بينهم من المخالفات و التنازع و المشاجرات قد بلغ في الظهور إلى حدّ لا مجال للاخفاء و في الشناعة إلى مرتبة لا تشتبه على الآراء كما مضى و سيجي ء أيضا إنشاء اللّه تعالى، و أمّا نصحه لهم فمسلّم لكن لامور الدّين و انتظام شرع سيّد المرسلين، لا لأجل ترويج خلافتهم و نظم أسباب شوكتهم و جلالتهم.
و ثالثا أنّ التّفرقة بين الخلفاء و بين البغاة بكون الآخرين على الباطل دون الأوّلين لا وجه له، إذ كلّ من الفرقتين كان مريدا لقتله عليه السّلام غاية الأمر أنّه وجد هناك أعوانا فقاتلهم ذويهم عن نفسه و لم يجد ههنا ناصرا فبايعهم اجبارا و كفّ عن القتال و حقن دمه، فلو أنّه وجد أعوانا له يومئذ لشهر عليهم سيفه و جاهدهم و يشهرون سيفهم عليه و يقاتلونه، كما أنّه لو يجد أعوانا مع البغاة و كفّ عنهم و تابع آرائهم لم يكونوا مقاتلين له و لم يجادلوا معه عليه السّلام.
هذا كلّه مضافا إلى أنّ بغى البغاة و خروجهم عليه عليه السّلام من بركة البرامكة و من ثمرة هذه الشجّرة الملعونة عذبهم اللّه عذابا اليما.
الثاني
قد عرفت أنّ سبب تقاعده عليه السّلام عن جهاد من تقدّم عليه هو عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليه بالكفّ عنهم، حيث لم يجد أعوانا و فيه مصالح اخر قد أشير إليها في أخبار الأئمة الأطهار، و لا بأس بالاشارة إلى تلك الأخبار و الأخبار التي اشير فيها إلى معاهدة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليه حتّى يتّضح الأمر و يظهر لك بطلان ما زعمه العامة من إنّ سكوته و عدم نهوضه إليهم دليل على رضاه بتقدّمهم و على كونهم محقّين فأقول و باللّه التّوفيق: روى الشّيخ السّعيد عزّ الدّين أبو المنصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الّطبرسي (ره) في الاحتجاج، قال: روى أنّ أمير المؤمنين كان جالسا في بعض مجالسه بعدرجوعه من نهروان فجرى الكلام حتّى قيل له لم لا حاربت أبا بكر و عمر كما حاربت الطلحة و الزّبير و معاوية فقال إنّي كنت لم أزل مظلوما مستأثرا علىّ حقّي، فقام إليه أشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين لم لم تضرب بسيفك و لم تطلب بحقّك فقال: يا أشعث قد قلت قولا فاسمع الجواب وعه و استشعر الحجّة إنّ لى اسوة بستّة من الأنبياء عليهم السّلام.
أوّلهم نوح عليه السّلام حيث قال: رَبِّ إنّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فان قال قائل إنّه قال هذا لغير خوف فقد كفر، و إلّا فالوصيّ أعذر.
و ثانيهم لوط عليه السّلام حيث قال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ فان قال قائل إنّه قال هذا لغير خوف فقد كفر، و إلّا فالوصيّ أعذر.
و ثالثهم إبراهيم خليل اللّه عليه السّلام حيث قال: وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فان قال قائل إنّه قال هذا لغير خوف فقد كفر، و إلّا فالوصيّ أعذر.
و رابعهم موسى عليه السّلام حيث قال: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فان قال قائل إنّه قال هذا لغير خوف فقد كفر، و إلّا فالوصيّ أعذر.
و خامسهم أخوه هارون عليه السّلام حيث قال: يَا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فان قال قائل إنّه قال هذا لغير خوف فقد كفر، و إلا فالوصيّ أعذر.
و سادسهم أخي محمّد صلّى اللّه عليه و آله خير البشر حيث ذهب إلى الغار و نوّمني على فراشه، فان قال قائل إنّه ذهب إلى الغار لغير خوف فقد كفر و إلّا فالوصيّ أعذر فقام إليه النّاس بأجمعهم فقالوا: يا أمير المؤمنين قد علمنا أنّ القول قولك و نحن المذنبون التّائبون و قد عذرك اللّه.
و فيه أيضا عن أحمد بن همام قال: أتيت عبادة بن الصّامت في ولاية أبي بكر فقلت: يا عبادة أ كان النّاس على تفضيل أبي بكر قبل ان يستخلف فقال: يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا عنّا و لا تبحثونا، فو اللّه لعليّ بن أبي طالب أحقّ بالخلافة من أبي بكر كما كان رسول اللّه أحقّ بالنبّوة من أبي جهل.
قال: و ازيدكم انّا كنّا ذات يوم عند رسول اللّه فجاء عليّ و أبو بكر و عمر إلى باب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخل أبو بكر ثمّ دخل عمر ثمّ دخل عليّ عليه السّلام على اثرهما، فكانّما سفى وجه رسول اللّه الرّماد، ثمّ قال: يا علىّ أيتقدّمك هذان و قد أمّرك اللّه عليهما فقال أبو بكر: نسيت يا رسول اللّه، و قال عمر: سهوت يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما نسيتما و لا سهوتما و كأني بكما قد أ سلبتماه ملكه و تحاربتما عليه و أعانكما على ذلك أعداؤه و أعداء رسول اللّه و كأني بكما قد تركتما المهاجرين و الأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسّيف على الدّنيا، و كأنّي بأهل بيتى و هم المقهورون المشتتون في أقطارها، و ذلك لأمر قد قضى.
ثمّ بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى سالت دموعه، ثمّ قال: يا علي الصّبر الصّبر حتّى ينزل الأمر، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم، فانّ لك من الأجر في كلّ يوم ما لا يحصيه كاتباك، فاذا أمكنك الأمر فالسّيف السّيف فالقتل القتل حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه و أمر رسوله، فانّك على الحقّ و من ناواك على الباطل، و كذلك ذريّتك من بعدك إلى يوم القيامة.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ عن أحمد بن علي قال: حدّثنا الحسين بن عبد اللّه السّعدي، قال: حدّثنا الحسن بن موسى الخشاب، عن عبد اللّه بن الحسين، عن بعض أصحابه عن فلان الكرخي قال: قال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ألم يكن عليّ قوّيا في بدنه قويا في أمر اللّه قال له أبو عبد اللّه عليه السّلام بلى، قال فما منعه أن يدفع أو يمتنع قال: قد سألت فافهم الجواب، منع عليّا من ذلك آية من كتاب اللّه، قال: و أىّ آية قال: فاقرء: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
إنّه كان للّه و دايع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين و منافقين، فلم يكن عليّ ليقتل الآباء حتّى يخرج الودايع، فلمّا خرج ظهر على من ظهر و قتله، و كذلك قائمنا أهل البيت لم يظهر حتّى يخرج ودايع اللّه، فاذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله.
أقول: هذا هو التّأويل، و تنزيله أنّه لو تميّز هؤلاء الّذين كانوا بمكة من المؤمنين و المؤمنات و زالوا من الكفّار لعذّبنا الذين كفروا، بالسّيف و القتل بأيديكم.
و في البحار من أمالى المفيد «ره» باسناده عن جندب بن عبد اللّه، قال: دخلت على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و قد بويع بعثمان بن عفان، فوجدته مطرقا كئيبا، فقلت له: ما أصابك جعلت فداك من قومك فقال: صبر جميل، فقلت: سبحان اللّه، و اللّه انّك لصبور، قال: فأصنع ما ذا قلت: تقوم في النّأس و تدعوهم و تخبرهم أنّك أولى بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بالفضل و السّابقة و تسألهم النّصر على هؤلاء المتظاهرين عليك، فان أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المأة، فان دانوا لك كان ذلك ما أحببت، و إن أبوا قاتلتهم، فان ظهرت عليهم فهو سلطان اللّه الذي أتاه نبيّه و كنت أولى به منهم، و إن قتلت في طلبه قتلت إنشاء اللّه شهيداو كنت بالعذر عند اللّه، لأنّك أحقّ بميراث رسول اللّه.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام أ تراه يا جندب كان يبايعني عشرة من مائة: فقلت أرجو ذلك، فقال: لكنّي لا أرجو و لا من كلّ مأئة اثنان، و ساخبرك من أين ذلك إنّما ينظر النّاس إلى قريش و إنّ قريشا يقول: إنّ آل محمّد يرون لهم فضلا على ساير قريش و إنّهم أولياء هذا الأمردون غيرهم من قريش، و إنّهم إن ولوه لم يخرج منهم هذا السّلطان إلى احد أبدا، و متى كان في غيرهم تداولوه بينهم، و لا و اللّه لا تدفع إلينا هذا السّلطان قريش أبدا طائعين.
فقلت له: أفلا أرجع فاخبر النّاس بمقالتك هذه و أدعوهم إلى نصرك فقال: يا جندب ليس ذا زمان ذاك، قال جندب: فرجعت بعد ذلك إلى العراق فكنت كلّما ذكرت من فضل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب شيئا زبرونى و نهروني حتّى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة فبعث إلىّ فحبسني حتّى كلّم فيّ فخلّى سبيلى.
و من العيون و علل الشرائع عن الطالقانى عن الحسن بن عليّ العددي، عن الهثيم بن عبد اللّه الرّمانى قال: سألت الرّضا عليه السّلام فقلت له: يابن رسول اللّه أخبرني عن عليّ عليه السّلام لم لم يجاهد أعدائه خمسة و عشرين سنة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ جاهد في أيّام ولايته فقال: لأنّه اقتدى برسول اللّه في تركه جهاد المشركين بمكّة بعد النّبوة ثلاث عشرة سنة و بالمدينة تسعة عشر شهرا، و ذلك لقلّة أعوانه، و كذلك عليّ عليه السّلام ترك مجاهدة أعدائه لقلّة أعوانه عليهم، فلما لم تبطل نبوّة رسول اللّه مع تركه الجهاد ثلاث عشرة سنة و تسعة عشر شهرا فكذلك لم تبطل إمامة عليّ مع ترك الجهاد خمسة و عشرين سنة إذا كانت العلّة المانعة لهما عن الجهاد واحدة.
و من كتاب الغيبة للشّيخ باسناده عن سليم بن قيس الهلاليّ، عن جابر بن عبد اللّه و عبد اللّه بن العبّاس قالا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وصيته لأمير المؤمنين عليه السّلام: يا عليّ انّ قريشا ستظاهر عليك و يجتمع كلّهم على ظلمك و قهرك، فان وجدت أعوانا فجاهدهم، و إن لم تجدأ عوانا فكفّ يدك و احقن دمك، فانّ الشهادة من ورائك لعن اللّه قاتلك.
و من كتاب سليم بن قيس الهلالي قال: كنّا جلوسا حول أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السّلام و حوله جماعة من أصحابه، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين لو استنفرت النّاس فقام و خطب و قال: اما إنى قد استنفرتكم فلم تنفروا، و دعوتكم فلم تسمعوا، فأنتم شهود كغيّاب، و أحياء كأموات، و صمّ ذو و أسماع، أتلو عليكم الحكمة و أعظكم بالموعظة الشّافية الكافية و أحثكم على جهاد أهل الجور فما أتى على آخر كلامي حتّى أراكم متفرّقين حلقا شتّى، تناشدون الأشعار، و تضربون الأمثال، و تسألون عن سعر التّمر و اللبن.
تبّت أيديكم لقد دعوتكم إلى الحرب و الاستعداد لها، و اصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأباطيل و الأضاليل اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو اللّه ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم الّا ذلّوا، و أيم اللّه ما أظنّ أن تفعلوا حتّى يفعلوا.
ثمّ وددت أنّي قد رأيتهم فلقيت اللّه على بصيرتى و يقيني و استرحت من مقاساتكم و ممارستكم، فما أنتم إلّا كابل جمّة ضلّ راعيها، فكلّما ضمّت من جانب انتشرت من جانب، كأنى بكم و اللّه فيما أرى أن لو حمس الوغا، و احمر الموت قد انفرجتم عن عليّ بن أبي طالب انفراج الرّأس و انفراج المرأة عن قبلها لا تمنع منها.
قال الأشعث بن قيس: فهلّا فعلت كما فعل ابن عفّان فقال عليه السّلام أو كما فعل ابن عفّان رأيتموني فعلت أنا عائذ باللّه من شرّ ما تقول يا بن قيس، و اللّه إنّ الّتي فعل بن عفان لمخزاة لمن لا دين له و لا وثيقة معه، فكيف أفعل ذلك و أنا على بيّنة من ربّى، و الحجة في يدي و الحقّ معي، و اللّه إنّ امرء أمكن عدوّه من نفسه يجزّ لحمه و يفرى جلده و يهشّم عظمه و يسفك دمه و هو يقدر على أن يمنعه لعظيم و زره ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره، فكن أنت ذاك يابن قيس.
فأمّا أنا فو اللّه دون أن أعطي بيده ضرب بالمشرفي تطير له فراش الهام و تطيح منه الأكفّ و المعاصم، و يفعل اللّه ما يشاء، ويلك يابن قيس انّ المؤمن يموت كلّ ميتة غير أنّه لا يقتل نفسه فمن قدر على حقن دمه ثمّ خلّى عمّن يقتله فهو قاتل نفسه.
يابن قيس إنّ هذه الامّة تفترق على ثلاث و سبعين فرقة، واحدة في الجنّة و اثنتان و سبعون في النّار، و لشرّها و أبغضها و أبعدها منه السّامرة الذين يقولون لاقتال و كذبوا قد أمر اللّه بقتال الباغين في كتابه و سنّة نبيّه و كذلك المارقة.
فقال ابن قيس لعنه اللّه و غضب من قوله: فما منعك يابن أبي طالب حين بويع أبو بكر أخو بني تيم و أخو بني عديّ بن كعب و أخو بني اميّة بعدهم، أن تقاتل و تضرب بسيفك و أنت لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلّا قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر و اللّه إنّي لأولى النّاس بالنّاس، و ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه، فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك.
قال: يابن قيس اسمع الجواب، لم يمنعني من ذلك الجبن و لا كراهة للقاء ربّي و أن لا أكون أعلم، إنّ ما عند اللّه خير لى من الدّنيا و البقاء فيها، و لكن منعني من ذلك أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عهده إلىّ أخبرنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما الامّة صانعة بعده، فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم به و لا أشدّ استيقانا منّي به قبل ذلك.
بل أنا بقول رسول اللّه أشدّ يقينا منّي بما عاينت و شهدت، فقلت يا رسول اللّه فما تعهد إلىّ إذا كان ذلك قال صلّى اللّه عليه و آله: إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم و إن لم تجد أعوانا فكفّ يدك و احقن دمك حتّى تجد على إقامة الدّين و كتاب اللّه و سنّتي أعوانا.
و أخبرني أنّ الامّة ستخذلني و تبايع غيري و أخبرني أنّي منه بمنزلة هارون من موسى، و أنّ الامّة بعده سيصيرون بمنزلة هارون و من تبعه، و العجل و من تبعه إذ قال له موسى: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي، قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي.
و إنّما يعنى أنّ موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلّوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم و إن لم يجد أعوانا أن يكفّ يده و يحقن دمه و لا يفرّق بينهم و إنّي خشيت أن يقول ذلك أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم فرّقت بين الأمّة و لم ترقب قولي و قد عهدت إليك أنّك إن لم تجد أعوانا أن تكفّ يديك و تحقن دمك و دم أهلك و شيعتك.
فلمّا قبض رسول اللّه مال النّاس إلى أبي بكر فبايعوه و أنّا مشغول برسول اللّه نغسله، ثمّ شغلت بالقرآن فآليت يمينا بالقرآن أن لا أرتدي إلّا للصّلاة حتّى أجمعه في كتاب ففعلت، ثمّ حملت فاطمة و أخذت بيد الحسن و الحسين فلم أدع أحدا من أهل بدر و أهل السّابقة من المهاجرين و الأنصار إلّا ما نشدتهم اللّه و حقّي و دعوتهم إلى نصرتي فلم يستجب من جميع النّاس إلّا أربعة رهط: الزّبير، و سلمان، و أبو ذر، و المقداد و لم يكن معى أحد من أهل بيتي أصول به و لا اقوى به.
أمّا حمرة فقتل يوم احد، و أمّا جعفر فقتل يوم موتة و بقيت بين جلفين خائفين ذليلين حقيرين: العباس و عقيل و كانا قريبي عهد بكفر، فأكرهوني و قهروني فقلت كما قال هارون لأخيه: يا وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً فلي بهارون أسوة حسنة ولي بعهد رسول اللّه حجّة قوّية.
قال الاشعث: كذلك صنع عثمان استغاث بالنّاس و دعاهم إلى نصرته فلم يجد اعوانا فكفّ يده حتّى قتل مظلوما، قال عليه السّلام. ويلك يابن قيس إنّ القوم حين قهروني و استضعفوني و كادوا يقتلونني فلو قالوا نقتلك البّتة لامتنعت من قتلهم إياى و لو لم أجد غير نفسي وحدي، و لكن قالوا إن بايعت كففنا عنك و أكرمناك و قرّبناك
و فضّلناك، و إن لم تفعل قتلناك، فلما لم أجد أحدا بايعتهم و بيعتي لهم لما لا حقّ لهم فيه لا يوجب لهم حقّا و لا يلزمني رضا.
و لو انّ عثمان لما قال له النّاس: اخلعها و نكفّ عنك، خلعها لم يقتلوه، و لكنّه قال: لا أخلعها، قالوا: فانّا قاتلوك فكفّ يده عنهم حتّى قتلوه، و لعمري لخلعه إيّاها كان خيرا له، لأنّه أخذها بغير حقّ و لم يكن له فيها نصيب و ادّعى ما ليس له و تناول حقّ غيره.
ويلك يابن قيس إنّ عثمان لا يعد و أن يكون أحد الرّجلين إمّا أن يكون دعا النّاس إلى نصرته فلم ينصروه، و إمّا أن يكون القوم دعوه إلى أن ينصروه فنهاهم عن نصرته، فلم يكن يحلّ له ان ينهى المسلمين عن أن ينصروا إماما هاديا مهتديا لم يحدث حدثا و لم يؤد محدثا، و بئس ما صنع حين نهاهم و بئس ما صنعوا حين أطاعوه، فاما أن يكونوا لم يروه أهلا لنصرته لجوره و حكمه بخلاف الكتاب و السّنة و قد كان مع عثمان من أهل بيته و مواليه و أصحابه أكثر من أربعة آلاف رجل، و لو شاء اللّه أن يمتنع بهم لفعل و لم ينههم عن نصرته، و لو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رجلا مطيعين لجاهدتهم، أمّا يوم بويع عمر و عثمان فلا لأنّى كنت بايعت و مثلي لا ينكث بيعته.
ويلك يابن قيس كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان و وجدت أعوانا هل رأيت منّي فشلا أوجبنا أو تقصيرا في وقعتى يوم البصرة و هي حول جملهم الملعون من بيعة الملعون و من قتل حوله الملعون و من ركبه الملعون و من بقى بعده لا تائبا و لا مستغفرا، فانّهم قتلوا أنصاري و نكثوا بيعتي و مثّلوا بعاملي و بغوا عليّ دمرت إليهم في اثنى عشر ألفا، و في رواية أخرى أقلّ من عشرة آلاف و هم نيف على عشرين و مائة ألف، و في رواية زيادة على خمسين ألفا فنصرني اللّه عليهم و قتلهم بأيدينا و شفى صدور قوم مؤمنين.
و كيف رأيت يابن قيس وقعتنا بصفّين قتل اللّه منهم بأيدينا خمسين ألفا في صعيد واحد إلى النار، و في رواية اخرى زيادة على سبعين ألفا.
و كيف رأيتنا يوم النهروان إذ لقيت المارقين و هم مستبصرون و متدّينون قد ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا، فقتلهم اللّه في صعيد واحد إلى النّار، و لم يبق منهم عشرة و لم يقتلوا من المؤمنين عشرة.
ويلك يا بن قيس هل رأيت لى لواء ردّ وراية ردت إياى تعيّر يابن قيس و أنا صاحب رسول اللّه في جميع مواطنه و مشاهده و المتقدّم إلى الشّدايد بين يديه لا أفرّ و لا ألوذ و لا أعتلّ و لا أمنح اليهود و يراى (أرى ظ) انّه لا ينبغي للنبيّ و لا للوصيّ إذا لبس لامته و قصد لعدوّه أن يرجع أو ينشى حتّى يقتل أو يفتح اللّه له.
يا بن قيس هل سمعت لى بفرار قط أو بنوة «كذا»، يابن قيس أما و الذي فلق الحبّة و برء النّسمة لو وجدت يوم بويع أبو بكر الذي عيّرتني بدخولى في بيعته رجلا كلّهم على مثل بصيرة الأربعة الذين وجدت، لما كففت يدي و لنا هضت القوم و لكن لم أجد خامسا.
قال الأشعث: و من الأربعة يا أمير المؤمنين قال: سلمان، و أبو ذر، و المقداد، و الزّبير بن صفيّة قبل نكثه بيعتي فانّه بايعني مرّتين أمّا بيعته الاولى الّتي و في بها فانّه لما بويع أبو بكر أتاني أربعون رجلا من المهاجرين و الأنصار فبايعوني فأمرتهم أن يصبحوا عند بابى محلّقين رؤوسهم عليهم السّلاح فما وافى منهم أحد و لا صبحنى منهم غير أربعة: سلمان، و أبو ذر، و المقداد، و الزّبير، و أمّا بيعته الاخرى فانّه أتاني هو و صاحبه طلحة بعد قتل عثمان فبايعاني طائعين غير مكرهين، ثمّ رجعا عن دينهما مرتدّين ناكثين مكابرين معاندين حاسدين فقتلهما اللّه إلى النّار، و أما الثلاثة: سلمان: و أبو ذر، و المقداد، فثبتوا على دين محمّد و ملّة ابراهيم حتّى لقوا اللّه يرحمهم اللّه.
يابن قيس فو اللّه لو أنّ أولئك الأربعين الذين بايعوني و فوالى و اصبحوا على بابي محلّقين قبل أن تجب لعتيق في عنقى بيعة، لناهضته و حاكمته إلى اللّه عز و جل و لو وجدت قبل بيعة عثمان أعوانا لناهضتهم و حاكمتهم إلى اللّه، فانّ ابن عوف جعلها لعثمان و اشترط عليه فيما بينه و بينه أن يردّها عليه عند موته، فأمّا بعد بيعتى إيّاهم فليس إلى مجاهدتهم سبيل.
فقال الأشعث: و اللّه لان كان الأمر كما تقول: لقد هلكت الامة غيرك و غير شيعتك فقال عليه السّلام إنّ الحقّ و اللّه معي يابن قيس كما أقول، و ما هلك من الامّة إلّا النّاصبين و المكاثرين و الجاهدين و المعاندين، فأمّا من تمسّك بالتّوحيد و الاقرار بمحمّد و الاسلام و لم يخرج من الملّة و لم يظاهر علينا الظلمة و لم ينصب لنا العداوة و شكّ في الخلافة و لم يعرف أهلها و لم يعرف ولاية و لم ينصب لنا عداوة، فانّ ذلك مسلم مستضعف يرجى له رحمة اللّه و يتخوّف عليه ذنوبه.
قال أبان: قال سليم بن قيس: فلم يبق يومئذ من شيعة عليّ أحد إلّا تهلّل وجهه و فرح بمقالته إذ شرح أمير المؤمنين عليه السّلام الأمر و باح به و كشف الغطاء و ترك التقيّة، و لم يبق أحد من القرّاء ممن كان يشكّ في الماضين و يكفّ عنهم و يدع البراءة منهم و دعا و تأثما إلّا استيقن و استبصر و حسن و ترك الشّك و الوقوف و لم يبق أحد حوله أتى ببيعته على وجه ما بويع عثمان و الماضون قبله إلّا رأى ذلك في وجهه و ضاق به أمره و كره مقالته ثمّ انّهم استبصر عامّتهم و ذهب شكّهم.
قال أبان عن سليم: فما شهدت يوما قط على رءوس العامة أقرّ لأعيننا من ذلك اليوم لما كشف للناس من الغطاء و أظهر فيه من الحقّ و شرح فيه الأمر و القى فيه التّقيّة و الكتمان، و كثرت الشيعة بعد ذلك المجلس مذ ذلك اليوم و تكلموا و قد كانوا اقل اهل عسكره و صار النّاس يقاتلون معه على علم بمكانه من اللّه و رسوله، و صار الشّيعة بعد ذلك المجلس أجلّ النّاس و أعظمهم.
و في رواية اخرى جل الناس و عظمهم، و ذلك بعد وقعة النّهروان و هو يأمر بالتّهية و المسير إلى معاوية، ثمّ لم يلبث ان قتل قتله ابن ملجم لعنه اللّه غيلة و فنكا، و قد كان سيفه مسموما قبل ذلك.
اقول: و لا حاجة لنا بعد هذه الرّواية الشّريفة إلى ذكر ساير ما روي في هذاالمعنى، لأنها قاطعة للعذر كافية في توضيح ما اوردناه و تثبيت ما قصدناه من انّ قعوده عن جهاد المتخلّفين كان بعهد من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليه مضافا إلى ساير المصالح التي فيه، فلا يمكن مع ذلك كلّه دعوى كون ترك الجهاد دليلا على حقيّة خلافة الثلاثة، و كاشفا عن رضاه عليه السّلام بذلك، و في هذا المعنى روايات عامية لعلّنا نشير اليها في شرح بعض الخطب الآتية في المقام المناسب إن ساعدنا التوفيق و المجال إنشاء اللّه تعالى.
|