و من خطبة له عليه السّلام
و هى التاسعة و الثلاثون من المختار في باب الخطب خطب بها في غزاة النّعمان بن بشير بعين التّمر على ما تعرفها إن شاء اللّه قال:
منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، و لا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم ما تنتظرون بنصركم ربّكم، أما دين يجمعكم، و لا حميّة تحمشكم
اللغة
(منيت) على البناء للمفعول اى ابتليت و (حمشه) جمعه كحمشه و أغضبه كأحمشه و حمش القوم ساقهم بغضب
الاعراب
ما تنتظرون استفهام على سبيل الانكار التّوبيخي، و أما دين يجمعكم استفهام على سبيل التّقرير أو للتّوبيخ،
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة خطب بها في غزاة النعمان بن بشير الأنصاري على عين التّمر، و هو عين ماء قرب الكوفة، و كيفية تلك الغزوة على ما ذكره في شرح المعتزلي من كتاب الغارات هي أنّ النّعمان قدم هو و أبو هريرة على عليّ من عند معاوية بعد أبي مسلم الخولاني يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقدهم بعثمان لعلّ الحرب أن يطفأ و يصطلح النّاس.
و إنّما أراد معاوية أن يرجع مثل النّعمان و أبي هريرة من عند عليّ عليه السّلام و هم لمعاوية عاذرون و لعليّ لايمون و قد علم معاوية أنّ عليا لا يدفع قتلة عثمان اليه، فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشّام بذلك و أن يظهرا عذره، فقال لهما ائتيا عليّا فانشداه اللّه و سلاه باللّه لما دفع الينا قتلة عثمان فانّه قد آواهم و منعهم ثمّ لا حرب بيننا و بينه، فان أبى فكونوا شهداء للّه عليه و أقبلا على النّاس فاعلماهم ذلك، فأتيا إلى عليّ عليه السّلام فدخلا عليه.
فقال له أبو هريرة: يا أبا الحسن انّ اللّه قد جعل لك في الاسلام فضلا و شرفا أنت ابن عمّ محمّد رسول اللّه، و قد بعثنا اليك ابن عمّك معاوية يسألك أمرا يسكن به هذه الحرب و يصلح اللّه تعالى به ذات البين أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمّه فيقتلهم به، و يجمع اللّه تعالى أمرك و أمره و يصلح بينكم و تسلم هذه الأمّة من الفتنة و الفرقة.
ثمّ تكلّم النّعمان بنحو من هذا.
فقال عليه السّلام لهما دعا الكلام في هذا حدّثني عنك يا نعمان أنت أهدى قومك سبيلا يعنى الأنصار قال: لا قال: فكل قومك تبعنى إلا شذاذ منهم ثلاثة أو أربعة أ فتكون أنت من الشّذاذ فقال النّعمان: أصلحك اللّه إنّما جئت لأكون معك و ألزمك و قد كان معاوية سألني أن أؤدّى هذا الكلام و رجوت أن يكون لي موقف اجتمع فيه معك و طمعت أن يجري اللّه بينكما صلحا، فاذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازم و كاين معك فأما أبو هريرة فلحق بالشّام و أقام النّعمان عند عليّ عليه السّلام فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل.
و أقام النّعمان بعده ثمّ خرج فارّا من عليّ حتّى إذا مرّ بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبى و كان عامل عليّ عليها فأراد حبسه و قال له: ما مرّبك ههنا قال إنّما أنا رسول بلّغت رسالة صاحبي ثمّ انصرفت فحبسه، و قال كما أنت حتى اكتب إلى عليّ فيك فناشده و عظم عليه أن يكتب إلى عليّ فيه فأرسل النّعمان إلى قرطة بن كعب الانصاري و هو كاتب عين التّمر يجبى خراجها لعليّ عليه السّلام فجائه مسرعا فقال لمالك بن كعب: خلّ سبيل ابن عمّي يرحمك اللّه، فقال يا قرطة اتّق اللّه و لا تتكلّم في هذا فانّه لو كان من عبّاد الانصار و نسّاكهم لم يهرب من أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أمير المنافقين فلم يزل به يقسم عليه حتّى خلا سبيله و قال له يا هذا لك الأمان اليوم و الليلة و غدا و اللّه لان أدركتك بعدها لأضربنّ عنقك.
فخرج مسرعا لا يلوى على شي ء و ذهبت به راحلته فلم يدر اين يتأكع من الارض ثلاثة إيام لا يعلم أين هو ثمّ قدم الى معاوية فخبره بما لقى و لم يزل معه مصاحبا له يجاهد عليّا و يتبع قتلة عثمان حتّى غزا الضّحاك بن قيس أرض العراق، ثمّ انصرف إلى معاوية فقال معاوية: أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتى يغير على شاطي الفرات فانّ اللّه يرغب بها أهل العراق فقال له النّعمان: فابعثنى فانّ لي في قتالهم نيّة و هوى، و كان النّعمان عثمانيّا، قال فانتدب على اسم اللّه فانتدب و ندب معه ألفي رجل و أوصاه أن يتجنّب المدن و الجماعات، و أن لا يغير إلّا على مسلحة و أنّ يعجّل الرّجوع.
فأقبل النّعمان حتّى دنى من عين التّمر و بها مالك بن كعب الارحبى الّذي جرى له معه ما ذكرناه و مع مالك ألف رجل و قد أذن لهم فقد رجعوا إلى الكوفة فلم يبق معه إلّا مأئة أو نحوها.
فكتب مالك إلى عليّ عليه السّلام أمّا بعد فانّ النّعمان بن بشير قد نزل بى في جمع كثيف فمر رأيك سدّدك اللّه تعالى و ثبّتك و السّلام.
فوصل الكتاب إلى عليّ عليه السّلام فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: اخرجوا هداكم اللّه إلى مالك بن كعب أخيكم، فانّ النّعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشّام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعلّ اللّه يقطع بكم من الكافرين طرفا ثمّ نزل.
فلم يخرجوا فأرسل عليه السّلام إلى وجوههم و كبرائهم فأمر أن ينهضوا و يحثّوا النّاس على المسير فلم يصنعوا شيئا و اجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام عليه السّلام.
فقال: ألا إنّى (منيت بمن لا يطيع) نى (إذا أمرت و لا يجيب) دعوتي (اذا دعوت) و هو اظهار لعذر نفسه على أصحابه لينسب التّقصير اليهم دونه و يقع عليهم لائمة غيرهم (لا ابالكم ما تنتظرون بنصركم ربّكم) و هو توبيخ لهم على التّثاقل و التقاعد و الانتظار و استنهاض بهم على نصرة اللّه (أما دين يجمعكم و لا حمية تحمشكم) و هو إمّا تقرير لهم بما بعد النفى ليقرّوا بذلك و يعترفوا بكونهم صاحب دين و حمية فيلزم عليهم الحجة و يتوجّه عليهم اللّوم و المذمّة، و إمّا توبيخ بعدم اتّصافهم بدين جامع و حمية مغضبة.
و نظيره في الاحتمالين قوله سبحانه: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ
و على التّقديرين فالمقصود به حثّهم و ترغيبهم على الجهاد تهيجا و إلهابا بأنّ صاحب الدّين و الحميّة لا يتحمّل أن ينزل على إخوانه المؤمنين داهية فلا تنصرهم مع قدرته على الذّبّ عنهم و تمكّنه من حماية دمارهم و معاونتهم.
|