أقوم فيكم مستصرخا، و أناديكم متغوّثا، فلا تسمعون لي قولا، و لا تطيعون لي أمرا، حتّى تكشف الامور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثار، و لا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصرة إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ، و تثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر، ثمّ خرج إليّ منكم جنيد متذائب ضعيف، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ. قال السّيد (ره) أقول قوله عليه السّلام: متذائب أى مضطرب من قولهم تذائبت الرّيح اى اضطرب هبوبها، و منه سمى الذّئب ذئبا لاضطراب مشيته.
اللغة
(المستصرخ) المستنصر مأخوذ من الصّراخ و هو الصّياح باستغاثة و (المتغوث) القائل و اغوثاه و (تكشف) بصيغة المضارع من باب ضرب أي تظهر و في بعض النّسخ تنكشف و في بعضها تكشف بصيغة الماضى من باب التّفعل يقال تكشف الامر و انكشف أى ظهر.
و (الثّار) الدّم و الطلب به و قاتل حميمك قاله في القاموس و (الجرجرة) صوت يردّده الابل في حنجرته و أكثر ما يكون ذلك عند الاعياء و التّعب و (السرر)
داء يأخذ البعير في سرّته يقال: منه جمل السّر و (النّضو) البعير المهزول و (الأدبر) الذي به دبر و هي القروح في ظهره و (الجنيد) تصغير الجند للتحقير.
الاعراب
مستصرخا و متغوثا منصوبان على الحال من فاعل أقوم و أنادي، و قوله: حتّى تكشف الامور الغاية داخل في حكم المغيّى، و على ما في بعض النّسخ من تكشف بصيغة الماضى فحتّى ابتدائية على حدّ قوله سبحانه: ثمّ بدلنا مكان السّيئة الحسنة حتّى عفوا، و إضافة العواقب إلى المسائة بيانيّة، و جملة و هم ينظرون منصوبة المحلّ على الحال من فاعل يساقون.
المعنی
(أقوم فيكم مستصرخا، و أناديكم متغوّثا، فلا تسمعون لى قولا، و لا تطيعون لى امرا حتّى تكشف الامور عن عواقب المسائة) أراد أنّ عدم طاعتهم له مستمرّ إلى أن تظهر الامور«» أى الامور الصّادرة عنهم عن عواقب السّوء و ترجع مآلها إلى النّدامة و ملامة النّفس اللّوامة، أو المراد انه ظهر«» الامور الفظيعة اى الامور الصّادرة عن عدوّهم بالنّسبة اليهم كالقتل و الغارة و انتقاص الاطراف.
(فما يدرك بكم ثار و لا يبلغ بكم مرام) تهييج لهم على التألف في النّصرة إذ من شأن العرب ثوران طباعهم بمثل هذه الأقوال (دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الاسرّ) قال الشّارح البحراني استعار لفظ الجرجرة لكثرة تملّلهم و قوّة تضجّرهم من ثقل ما يدعوهم إليه، و لمّا كانت جرجرة الجمل الأسرّ أشدّ من جرجرة غيرها لاحظ شبه ما نسبه إليهم من التضجّر بها، و كذلك التشبيه في قوله (و تثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر).
و قوله (ثمّ خرج إلىّ منكم جنيد متذائب) مضطرب (ضعيف) اشارة إلى حقارة شأنهم و قلّة عددهم و قد ذكرنا أنهم كانوا نحوا من ثلاثمائة أو دونها و قوله (كأنّما يساقون إلى الموت و هم ينظرون) اشارة إلى شدّة خوفهم و جبنهم و اضطرابهم فيما يساقون إليه مثل اضطراب من يساق إلى الموت و خوفه منه هذا.
و قال صاحب الغارات: إنّه بعد ما خطب هذه الخطبة نزل من المنبر فدخل منزله، فقام عديّ بن حاتم فقال: هذا و اللّه الخذلان ما على هذا بايعنا أمير المؤمنين، ثمّ دخل إليه فقال: يا أمير المؤمنين انّ معي من طىّ ألف رجل لا يعصوني فان شئت أن أسير بهم سرت، قال: ما كنت لأعرض قبيلة واحدة من قبايل العرب للنّاس و لكن اخرج إلى النخيلة و عسكر بهم، فخرج و عسكر و فرض عليّ عليه السّلام لكلّ رجل منهم سبعمائة فاجتمع إليه ألف فارس عداطيا أصحاب عديّ و ورد عليه الخبر بهزيمة النعمان.
و روى عبد اللّه بن جوزة الأزدي قال: كنت مع مالك بن كعب حين نزل بنا النّعمان و هو في ألفين و ما نحن إلّا مأئة، فقال لنا: قاتلوهم في القربة و اجعلوا الجدر في ظهوركم و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، و اعلموا أنّ اللّه ينصر العشرة على المأة و المأة على الألف و القليل على الكثير.
ثمّ قال انّ اقرب من ههنا إلينا من شيعة أمير المؤمنين قرطة بن كعب و مخنف ابن سليم فاركض إليهما فاعلمهما حالنا و قل لهما فلينصرانا فمررت بقرطة فاستصرخته فقال إنّما أنا صاحب خراج و ليس عندي من اغيثه به، فمضيت إلى مخنف فسرح معي عبد الرّحمن بن مخنف في خمسين رجلا.
و قاتل مالك و أصحابه النّعمان و أصحابه إلى العصر فأتيناه و قد كسر هو و أصحابه جفون سيوفهم و استقبلوا الموت، فلو أبطانا منهم هلكوا، فما هو إلّا ان رآنا أهل الشام و قد أقبلنا عليهم أخذوا ينكصون عنهم و يرتفعون و رائنا مالك و أصحابه فشدّوا عليهم حتّى دفعوهم عن القرية، فاستعرضناهم فصرعنا منهم رجالا ثلاثة فظنّ القوم أنّ لنا مددا و حال الليل بيننا و بينهم فانصرفوا إلى أرضهم.
و كتب مالك إلى عليّ عليه السّلام أمّا بعد: فانّه نزل بنا النّعمان بن بشير في جمع من أهل الشّام كالظاهر علينا و كان أعظم أصحابي متفرّقين و كنا للّذي كان منهم آمنين فخرجنا رجالا مصلتين فقاتلناهم حتّى المساء و استصرخنا مخنف بن سليم فبعث لنا رجالا من شيعة أمير المؤمنين و ولده، فنعم الفتى و نعم الأنصار كانوا فحملنا على عدوّنا و شددنا عليهم، فأنزل اللّه علينا نصره و هزم عدوّه و أعزّ جنده و الحمد للّه ربّ العالمين و السّلام على أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته.
|