فإن أقل يقولوا حرص على الملك، و إن أسكت
يقولوا جزع من الموت، هيهات بعد اللّتيّا و الّتي، و اللّه لابن أبي طالب
آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به
لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّوي البعيدة.
اللغة
(اللتيّا) بفتح اللام و التّاء و تشديد الياء تصغير التي، و اللتيا و
التي من أسماء الدّاهية يقال: وقع فلان في اللتيا و التي أى في الدّاهية، و
قيل: يكنى بهذه اللفظة من كمال الشّدة و الخزن و بهذه المناسبة جعلت علما
للدّاهية، و قيل: اللتيّا الدّاهية التي بلغت الغاية و التّصغير للتّعظيم
أو بالعكس و التّصغير للتّحقير.
و في بعض كتب الأدبيّة على ما ببالي أنّه تزوّج رجل امرأة قصيرة سيّئة
الخلق فقاسى منها شدائد فطلقّها، و تزوّج طويلة فقاسى منها أضعاف القصيرة
فطلقها و قال بعد اللّتيا و التي لا أتزوّج فصار مثلا، و مثل ذلك ذكر
الشّارح البحراني، و قال الحريريّ في المقامات: اللّتيا تصغير التي و هو
على غير قياس التّصغير المطرد لأنّ القياس أن يضمّ أوّل الاسم إذا صغّر و
قد أقرّ هذا الاسم على فتحه الأصليّة عند تصغيره إلّا أنّ العرب عوّضته من
ضمّ أوّله بأن زادت في آخره الفا و أجرت أسماء الاشارة عند تصغيرها على
حكمه فقال في تصغير الذي و التي: اللّذيا و اللتيا و في تصغير ذا و ذاك:
ذيّا و ذيّاك، و قد اختلف في معنى قولهم بعد اللتيّا و التي و قيل: هما من
أسماء الدّاهية، و قيل: المراد بهما صغير المكروه و كبيره انتهى.
و (اندمج) في الشي ء دخل فيه و تستر به و (باح) بسرّه أظهره كإباحة و
(الارشية) جمع رشا ككساء و هو الحبل و (الطوى) كغنى اسم بئر بذي طوى على ما
ذكره الفيروزآبادي، و لعل المراد هنا مطلق البئر كطوية.
الاعراب
على في قوله عليه السّلام على مكنون علم بمعنى في على حدّ قوله: و دخل
المدينة على حين غفلة، و البعيدة صفة و تأنيثها باعتبار أن الطوى اسم للبئر
و هى انثى.
المعنی
(فإن أقل) في باب الخلافة شيئا (يقولوا: حرص على الملك) كما قاله عمر في
غير موضع واحد (و إن أسكت) من حيث اقتضاء المصلحة (يقولوا: جزع من الموت) و
هذا كلّه إشارة إلى عدم أمنه عليه السّلام من حصائد الألسنة و غوائل
الزّخرفة، حيث إنّهم مع التّكلم كانوا ينسبونه إلى الحرص و الاهتمام بأمر
الدّنيا، و مع السّكوت كانوا ينسبونه إلى الجزع و العجز و الخوف من الموت
كما هود أب المنافق الحاسد و الكافر الجاحد في كلّ عصر و زمان خصوصا في حقّ
مثله عليه السّلام.
كما قال الصّادق عليه السّلام في رواية المجالس: إنّ رضا النّاس لا يملك
و ألسنتهم لا تضبط، ألم ينسبوه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر إلى
أنّه أخذ من المغنم قطيفة حمراء حتّى أظهره اللّه على القطيفة، و برء نبيّه
من الخيانة، و أنزل في كتابه: و ما كان لنبيّ أن يغلّ الآية.
و في الصّافي عن المجالس عن الصّادق عليه السّلام إنّ رضا النّاس لا
يملك و ألسنتهم لا تضبط و كيف تسلمون ما لم يسلم منه أنبياء اللّه و رسله و
حججه ألم ينسبوا نبيّنا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أنّه
ينطق عن الهوى في ابن عمّه عليّ عليه السّلام حتّى كذّبهم اللّه فقال: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى » و قال الشّاعر و ربّما ينسب إليه عليه السّلام.
- قيل إنّ الاله ذو ولدو قيل إنّ الرّسول قد كهنا
- ما نجا اللّه و الرّسول معامن لسان الورى فكيف أنا
ثمّ إنّه عليه السّلام أشار إلى بطلان ما زعموا في حقّه و تكذيب ما
قالوا فيه من جزعه من الموت على تقدير السّكوت بقوله: (هيهات) أي بعد ما
يقولون (بعد اللّتيّا و التي) أى بعد هذه الدّاهية الكبرى و ملاقات كبار
الشّدائد و صغارها (و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت) و أرغب فيه و أميل
إليه (من) ميل (الطفل) و رغبته (بثدى امّه) و تفضيله عليه السّلام انسه
بالموت على انس الطفل بالثّدى بملاحظة أن انس الطفل جبلّي و طبيعي في معرض
الفناء و الزّوال و انسه عليه السّلام بالموت و لقاء ربّه عقليّ روحاني
متّصف بالبقاء و الثبات فاين أحدهما من الآخر.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى سرّ سكوته عن طلب حقّه بقوله: (بل اندمجت) أى
انطويت (على مكنون علم لو بحت به) و أظهرته (لاضطربتم اضطراب الأرشية) و
الحبال (في الطوى البعيدة) و البئر العميقة، و اختلفوا في أنّ المراد
بالعلم المكنون ما ذا فقيل: إنّه إشارة إلى الوصيّة التي اختصّ بها و قد
كان من جملتها الأمر بترك النّزاع في مبدء الاختلاف.
و قيل إنّ المراد به علمه بعواقب الامور المانع من سرعته إلى ما فيه المفسدة و الموجب لتوقفه على ما اقتضته المصلحة.
و قيل: إنّه أراد به علمه بأحوال الآخرة و أهوالها، يعني أنّ الّذي
يمنعني من المنافسة في هذا الأمر و القتال عليه اشتغالي بما انطويت عليه من
علم الآخرة ممّا لو أظهرته لكم لاضطربتم اضطراب الحبال في الآبار خوفا من
العقاب و شوقا إلى الثّواب و لذهلتم عمّا أنتم فيه من التنافس فما أمر
الدّنيا.
أقول: و الأظهر عندي أنّ المراد به هو ما أعلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و
آله و سلّم بالوحي الالهي من جريان حكم القضاء اللّازم على دوران رحى
الضلالة بعده صلوات اللّه عليه و آله على قطبها إلى رأس خمس و ثلاثين من
الهجرة، ثمّ قيام دولة بني اميّة على ما يجري فيها على المسلمين و المؤمنين
من العذاب الأليم و النّكال العظيم، ثمّ ملك الفراعنة أعنى بني العبّاس
على ما يبتلى به النّاس فيه من الفتن و المحن، و لعلّ هذا الوجه أقرب، و
محصّله أنّ القضاء الأزلى و القدر الحتمي قد جرى على وقوع هذه الامور و
استيلاء الدولة الباطلة لا محالة، فلا يثمر النّهوض و لا ينفع إلّا
السّكوت، و اللّه العالم بحقايق كلام وليّه صلوات اللّه عليه و آله.
تكملة
هذا الكلام رواه المجلسي في البحار بأدنى اختلاف، قال: مأخوذ من مناقب
ابن الجوزي خطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السّلام بعد وفات رسول اللّه
صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، روى مجاهد عن ابن عبّاس قال: لمّا دفن رسول
اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء العبّاس و أبو سفيان بن حرب و نفر
من بني هاشم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقالوا: مدّ يدك نبايعك و هذا
اليوم الذي قال فيه أبو سفيان: إن شئت ملاءتها خيلا و رجلا، فخطب عليه
السّلام و قال: أيّها النّاس شقّوا أمواج الفتن بسفن النّجاة، و عرّجوا عن
طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة، فقد فاز من نهض بجناح، أو استسلم
فارتاح، ماء آجن و لقمة يغصّ بها آكلها أجدر بالعاقل من لقمة تحشى بزنبور، و
من شربة تلذّبها شاربها مع ترك النّظر في عواقب الامور، فان أقل يقولوا:
حرص على الملك و إن أسكت يقولوا: جزع من الموت، هيهات هيهات بعد اللّتيّا و
الّتي و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدى امّه، و من الرّجل
بأخيه و عمّه، و لقد اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب
الأرشية في الطوى البعيدة.
|