و من كلام له ع كلم به الخوارج
: أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ وَ لَا بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ أَ بَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَ جِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَ ارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلًّا شَامِلًا وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ أَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً قال الرضي رحمه الله قوله ع و لا بقي منكم آبر يروى على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل أي يصلحه . و يروى آثر بالثاء بثلاث نقط يراد به الذي يأثر الحديث أي يرويه و يحكيه و هو أصح الوجوه عندي كأنه ع قال لا بقي منكم مخبر . و يروى آبز بالزاي المعجمة و هو الواثب و الهالك أيضا يقال له آبز
الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء و هو صغار الحصى و يقال لها أيضا حصبة قال لبيد
- جرت عليها إذ خوت من أهلهاأذيالها كل عصوف حصبه
. فأما التفسيرات التي فسر بها الرضي رحمه الله تعالى قوله ع آبر فيمكن أن يزاد فيها فيقال يجوز أن يريد بقوله و لا بقي منكم آبر أي نمام يفسد ذات البين و المئبرة النميمة و أبر فلان أي نم و الآبر أيضا من يبغي القوم الغوائل خفية مأخوذ من أبرت الكلب إذا أطعمته الإبرة في الخبز
و في الحديث المؤمن كالكلب المأبور
و يجوز أن يكون أصله هابر أي من يضرب بالسيف فيقطع و أبدلت الهاء همزة كما قالوا في آل أهل و إن صحت الرواية الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير و كانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره رجل آثر و بعير مأثور . و قوله ع فأوبوا شر مآب أي ارجعوا شر مرجع و الأعقاب جمع عقب بكسر القاف و هو مؤخر القدم و هذا كله دعاء عليهم قال لهم أولا أصابكم حاصب و هذا من دعاء العرب قال تميم بن أبي مقبل
- فإذا خلت من أهلها و قطينهافأصابها الحصباء و السفان
. ثم قال لهم ثانيا لا بقي منكم مخبر ثم قال لهم ثالثا ارجعوا شر مرجع ثم قال لهم رابعا عودوا على أثر الأعقاب و هو مأخوذ من قوله تعالى وَ نُرَدُّ
عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ و المراد انعكاس حالهم و عودهم من العز إلى الذل و من الهداية إلى الضلال . و قوله ع و أثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة فالأثرة هاهنا الاستبداد عليهم بالفي ء و الغنائم و اطراح جانبهم
و قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني
أخبار الخوارج و ذكر رجالهم و حروبهم
و اعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين ع كانوا أصحابه و أنصاره في الجمل و صفين قبل التحكيم و هذه المخاطبة لهم و هذا الدعاء عليهم و هذا الإخبار عن مستقبل حالهم و قد وقع ذلك فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل و السيف القاطع و الأثرة من السلطان و ما زالت حالهم تضمحل حتى أفناهم الله تعالى و أفنى جمهورهم و لقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة و بنيه الحتف القاضي و الموت الزؤام . و نحن نذكر من أخبار الخوارج و حروبهم هاهنا طرفا
عروة بن حدير
فمنهم عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة من بني تميم و يعرف بعروة بن أدية و أدية جدة له جاهلية و كان له أصحاب و و أتباع و شيعة فقتله زياد في خلافة معاوية صبرا
نجدة بن عويمر الحنفي
و منهم نجدة بن عويمر الحنفي كان من رؤسائهم و له مقالة مفردة من مقالة الخوارج
و له أتباع و أصحاب و إليهم أشار الصلتان العبدي بقوله
- أرى أمة شهرت سيفهاو قد زيد في سوطها الأصبحي
- بنجدية أو حرريةو أزرق يدعو إلى أزرقي
- فملتنا أننا مسلمونعلى دين صديقنا و النبي
- أشاب الصغير و أفنى الكبير مر الغداة و كر العشي
- إذا ليلة أهرمت يومهاأتى بعد ذلك يوم فتي
- نروح و نغدو لحاجاتناو حاجة من عاش لا تنقضي
- تموت مع المرء حاجاتهو تبقى له حاجة ما بقي
. و كان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعة [في كل جمعة] و عبد الله يطلب الخلافة فيمسكان عن القتال من أجل الحرم . و قال الراعي يخاطب عبد الملك
- إني حلفت على يمين برةلا أكذب اليوم الخليفة قيلا
- ما إن أتيت أبا خبيب وافدايوما أريد لبيعتي تبديلا
- و لما أتيت نجيدة بن عويمرأبغي الهدى فيزيدني تضليلا
- من نعمة الرحمن لا من حيلتي أنى أعد له علي فضولا
. و استولى نجدة على اليمامة و عظم أمره حتى ملك اليمن و الطائف و عمان و البحرين و وادي تميم و عامر ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاما أحدثها في مذهبهم منها قوله إن
المخطئ بعد الاجتهاد معذور و إن الدين أمران معرفة الله و معرفة رسوله و ما سوى ذلك فالناس معذورون بجهله إلى أن تقوم عليهم الحجة فمن استحل محرما من طريق الاجتهاد فهو معذور حتى أن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلك بجهالة فهو معذور و مؤمن فخلعوه و جعلوا اختيار الإمام إليه فاختار لهم أبا فديك أحد بني قيس بن ثعلبة فجعله رئيسهم ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه و قالوا قتل مظلوما
المستورد بن سعد التميمي
و منهم المستورد بن سعد أحد بني تميم كان ممن شهد يوم النخيلة و نجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي ع ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة و هو والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان في جماعة من الخوارج فوجه المغيرة إليه معقل بن قيس الرياحي فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة و قال له علام تقتل الناس بيني و بينك فقال معقل النصف سألت فأقسم عليه أصحابه فقال ما كنت لآبى عليه فخرج إليه فاختلفا ضربتين خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلا . و كان المستورد ناسكا كثير الصلاة و له آداب و حكم مأثارة
حوثرة الأسدي
و منهم حوثرة الأسدي خرج على معاوية في عام الجماعة في عصابة من الخوارج فبعث إليه معاوية جيشا من أهل الكوفة فلما نظر حوثرة إليهم قال لهم يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه و أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه فلما
التحمت الحرب قتل حوثرة قتله رجل من طيئ و فضت جموعه
قريب بن مرة و زحاف الطائي
و منهم قريب بن مرة الأزدي و زحاف الطائي كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة فخرجا في أيام معاوية في إمارة زياد و اختلف الناس أيهما كان الرئيس فاعترضا الناس فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة من ربيعة بن نزار فقتلاه و كان يقال له رؤبة الضبعي و تنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد و في يده السيف فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية أنج بنفسك فنادوه لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما فقال قريب لا قربه الله و زحاف لا عفا الله عنه ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا حتى مرا على بني علي بن سود من الأزد و كانوا رماة كان فيهم مائة يجيدون الرمي فرموهم رميا شديدا فصاحوا يا بني علي البقيا لا رماء بيننا فقال رجل من بني علي بن سود
- لا شي ء للقوم سوى السهاممشحوذة في غلس الظلام
. فعرد عنهم الخوارج و خافوا الطلب و اشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة ينتظرون من يلحق بهم من مضر و غيرها فجاءهم ثمانون و خرجت إليهم بنو طاحية من بنو سود و قبائل من مزينة و غيرها فاستقتلت الخوارج و حاربت حتى قتلت عن آخرها و قتل قريب و زحاف .
و منهم أبو بلال مرداس بن أدية و هو أخو عروة بن حدير الذي ذكرناه أولا خرج في أيام عبيد الله بن زياد و أنفذ إليه ابن زياد عباس بن أخضر المازني فقتله و قتل أصحابه و حمل رأسه إلى ابن زياد و كان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا و من قدماء أصحابنا من يدعيه لما كان يذهب إليه من العدل و إنكار المنكر و من قدماء الشيعة من يدعيه أيضا
نافع بن الأزرق الحنفي
و منهم نافع بن الأزرق الحنفي و كان شجاعا مقدما في فقه الخوارج و إليه تنسب الأزارقة و كان يفتي بأن الدار دار كفر و أنهم جميعا في النار و كل من فيها كافر إلا من أظهر إيمانه و لا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعيا منهم إلى الصلاة و لا أن يأكلوا من ذبائحهم و لا أن يناكحوهم و لا يتوارث الخارجي و غيره و هم مثل كفار العرب و عبدة الأوثان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف و القعد بمنزلتهم و التقية لا تحل لأن الله تعالى يقول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً و قال فيمن كان على خلافهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فتفرق عنه جماعة من الخوارج منهم نجدة بن عامر و احتج نجدة بقول الله تعالى وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ فسار نجدة و أصحابه إلى اليمامة و أضاف نافع إلى مقالته التي قدمناها استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه فكتب نجدة إليه
أما بعد فإن عهدي بك و أنت لليتيم كالأب الرحيم و للضعيف كالأخ البر تعاضد قوى المسلمين و تصنع للأخرق منهم لا تأخذك في الله لومة لائم و لا ترى معونة ظالم كذلك كنت أنت و أصحابك أ و لا تتذكر قولك لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته و أصبت من الحق فصه و صبرت على مره تجرد لك الشيطان و لم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك و من أصحابك فاستمالك و استهواك و أغواك فغويت و أكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه من قعدة المسلمين و ضعفتهم قال الله عز و جل و قوله الحق و وعده الصدق لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ثم سماهم تعالى أحسن الأسماء فقال ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ثم استحللت قتل الأطفال و قد نهى رسول الله ص عن قتلهم و قال الله جل ثناؤه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و قال سبحانه في القعدة خيرا فقال وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة من هو دون المجاهدين أ و ما سمعت قوله تعالى لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فجعلهم من المؤمنين و فضل عليهم المجاهدين بأعمالهم ثم إنك لا تؤدي أمانة إلى من خالفك و الله تعالى قد أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها فاتق الله في نفسك و اتق يوما لا يجزى فيه والد عن ولده و لا مولود هو جاز عن والده شيئا فإن الله بالمرصاد و حكمه العدل و قوله الفصل و السلام
فكتب إليه نافع أما بعد أتاني كتابك تعظني فيه و تذكرني و تنصح لي و تزجرني و تصف ما كنت عليه من الحق و ما كنت أوثره من الصواب و أنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . و عبت علي ما دنت به من إكفار القعدة و قتل الأطفال و استحلال الأمانة من المخالفين و سأفسر لك إن شاء الله . أما هؤلاء القعدة فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله ص لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا و لا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا و هؤلاء قد تفقهوا في الدين و قرءوا القرآن و الطريق لهم نهج واضح و قد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم إذ قالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ فقال أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها و قال سبحانه فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و قال وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فخبر بتعذيرهم و أنهم كذبوا الله و رسوله ثم قال سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فانظر إلى أسمائهم و سماتهم . و أما الأطفال فإن نوحا نبي الله كان أعلم بالله مني و منك و قد قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً فسماهم بالكفر و هم أطفال و قبل أن يولدوا فكيف كان ذلك
في قوم نوح و لا تقوله في قومنا و الله تعالى يقول أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ و هؤلاء كمشركي العرب لا يقبل منهم جزية و ليس بيننا و بينهم إلا السيف أو الإسلام .
و أما استحلال أمانات من خالفنا فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم كما أحل دماءهم لنا فدماؤهم حلال طلق و أموالهم في ء للمسلمين فاتق الله و راجع نفسك فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة و لن يسعك خذلاننا و القعود عنا و ترك ما نهجناه لك من مقالتنا و السلام على من أقر بالحق و عمل به . و كتب إلى من بالبصرة من المحكمة أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة و الدين واحد ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلا و نهارا و قد ندبكم الله عز و جل إلى الجهاد فقال وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً و لم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال فقال انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا و إنما عذر الضعفاء و المرضى و الذين لا يجدون ما ينفقون و من كانت إقامته لعلة ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا تغتروا و تطمئنوا إلى الدنيا فإنها غرارة مكارة لذتها نافدة و نعيمها بائد حفت بالشهوات اغترارا و أظهرت حبرة و أضمرت عبرة فليس آكل منها أكلة تسره و لا شارب منها شربة تؤنقه إلا و دنا بها درجة إلى أجله و تباعد بها مسافة من أمله و إنما جعلها الله دار المتزود منها إلى النعيم المقيم و العيش السليم فليس يرضى بها حازم دارا و لا حكيم قرارا فاتقوا الله و تزودوا
فإن خير الزاد التقوى و السلام على من اتبع الهدى . فلما أظهر نافع مقالته هذه و انفرد عن الخوارج بها أقام في أصحابه بالأهواز يستعرض الناس و يقتل الأطفال و يأخذ الأموال و يجبي الخراج و فشا عماله بالسواد فارتاع لذلك أهل البصرة و اجتمع منهم عشرة آلاف إلى الأحنف و سألوه أن يؤمر عليهم أميرا يحميهم من الخوارج و يجاهد بهم فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب و هو المسمى ببة فسأله أن يؤمر عليهم و ببة يومئذ أمير البصرة من قبل ابن الزبير فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز و كان دينا شجاعا فلما خرج بهم من جسر البصرة أقبل عليهم و قال أيها الناس إني ما خرجت لامتيار ذهب و لا فضة و إني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا السيوف و الرماح فمن كان شأنه الجهاد فلينهض و من أحب الحياة فليرجع . فرجع نفر يسير و مضى الباقون معه فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع و أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح و عقرت الخيل و كثر الجراح و القتل و تضاربوا بالسيوف و العمد فقتل ابن عبيس أمير أهل البصرة و قتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج و ادعى قتله سلامة الباهلي و كان نافع قد استخلف عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي اليربوعي و استخلف ابن عبيس الربيع بن عمرو الأجذم الغداني اليربوعي فكان الرئيسان من بني يربوع فاقتتلوا بعد قتل ابن عبيس و نافع قتالا شديدا نيفا و عشرين يوما حتى قال الربيع لأصحابه إني رأيت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني فلما كان الغد قاتلهم إلى الليل ثم عاودهم القتال فقتل فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس ثم أجمعوا على الحجاج بن رباب الحميري فأباها فقيل له أ لا ترى رؤساء العرب قد اختاروك من بينهم فقال إنها مشئومة لا يأخذها أحد إلا قتل ثم أخذها فلم يزل يقاتل القوم بدولاب حتى التقى بعمران بن الحارث الراسبي و ذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر فاختلفا ضربتين فخرا ميتين . و قام حارثة بن بدر الغداني بأمر أهل البصرة بعده و ثبت بإزاء الخوارج يناوشهم القتال مناوشة خفيفة و يزجي الأوقات انتظارا لقدوم أمير من قبل ببة يلي حرب الخوارج و هذه الحرب تسمى حرب دولاب و هي من حروب الخوارج المشهورة انتصف فيها الخوارج من المسلمين و انتصف المسلمون منهم فلم يكن فيها غالب و لا مغلوب
عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي
و منهم عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي قام بأمر الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع بن الأزرق و قام بأمر أهل البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي ولاه عبد الله بن الزبير ذلك و لقيه كتابه بالإمارة و هو يريد الحج و قد صار إلى بعض الطريق فرجع فأقام بالبصرة و ولى أخاه عثمان بن عبيد الله بن معمر محاربة الأزارقة فخرج إليهم في اثني عشر ألفا فلقيه أهل البصرة الذين كانوا في وجه الأزارقة و معهم حارثة بن بدر الغداني يقوم بأمرهم عن غير ولاية و كان ابن الماحوز حينئذ في سوق الأهواز فلما عبر عثمان إليهم دجيلا نهضت إليه الخوارج فقال عثمان لحارثه ما الخوارج إلا ما أرى فقال حارثة حسبك بهؤلاء قال لا جرم لا أتغدى حتى أناجزهم فقال حارثة إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف فأبق على نفسك و جندك فقال أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا و أنت يا حارثة ما علمك بالحرب أنت و الله بغير هذا أعلم يعرض له بالشراب و كان حارثة بن بدر صاحب شراب فغضب حارثة فاعتزل و حاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس فأجلت الحرب عنه قتيلا و انهزم الناس و أخذ حارثة بن بدر الراية و صاح بالناس أنا حارثة بن بدر فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلا و بلغ قتل عثمان البصرة فقال شاعر من بني تميم
- مضى ابن عبيس صابرا غير عاجزو أعقبنا هذا الحجازي عثمان
- فأرعد من قبل اللقاء ابن معمرو أبرق و البرق اليماني خوان
- فضحت قريشا غثها و سمينهاو قيل بنو تيم بن مرة عزلان
- فلو لا ابن بدر للعراقين لم يقم بما قام فيه للعراقين إنسان
- إذا قيل من حامي الحقيقة أومأتإليه معد بالأكف و قحطان
. و وصل الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله و ولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع البصرة فقدمها فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية و المدد فأراد توليته فقال له رجل من بكر بن وائل إن حارثة ليس بذلك إنما هو صاحب شراب و كان حارثة مستهترا بالشراب معاقرا للخمر و فيه يقول رجل من قومه
- أ لم تر أن حارثة بن بدريصلي و هو أكفر من حمار
- أ لم تر أن للفتيان حظاو حظك في البغايا و العقار
. فكتب إليه القباع تكفى حربهم إن شاء الله فأقام حارثة يدافعهم حتى تفرق أصحابه عنه و بقي في خف منهم فأقام بنهر تيري فعبرت إليه الخوارج فهرب من تخلف معه من أصحابه و خرج يركض حتى أتى دجيلا فجلس في سفينة و اتبعه جماعة من أصحابه فكانوا معه فيها و وافاه رجل من بني تميم عليه سلاحه و الخوارج وراءه و قد توسط حارثة دجيلا فصاح به يا حارثة ليس مثلي يضيع فقال للملاح قرب فقرب إلى جرف و لا فرضة هناك فطفر بسلاحه في السفينة فساخت بالقوم جميعا و هلك حارثة . و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير أن حارثة لما عقدوا له الرئاسة و سلموا إليه الراية أمرهم بالثبات و قال لهم إذا فتح الله عليكم فللعرب زيادة فريضتين و للموالي زيادة فريضة و ندب الناس فالتقوا و ليس بأحد منهم طرق قد فشت فيهم الجراحات و ما تطأ الخيل إلا على القتلى فبينا هم كذلك إذ أقبل جمع من الشراة من جهة اليمامة يقول المكثر إنهم مائتان و المقلل إنهم أربعون فاجتمعوا و هم مريحون مع أصحابهم فصاروا كوكبة واحدة فلما رآهم حارثة بن بدر ركض برايته منهزما و قال لأصحابه
- كرنبوا و دولبواأو حيث شئتم فاذهبوا
. و قال
- أير الحمار فريضة لعبيدكمو الخصيتان فريضة الأعراب
. قال كرنبوا أي اطلبوا كرنبى و هي قرية قريبة من الأهواز و دولبوا اطلبوا دولاب و هي ضيعة بينها و بين الأهواز أربعة فراسخ . قال فتتابع الناس على أثره منهزمين و تبعتهم الخوارج فألقى الناس أنفسهم في الماء فغرق منهم بدجيل الأهواز خلق كثير
الزبير بن علي السليطي و ظهور أمر المهلب
و منهم الزبير بن علي السليطي التميمي كان على مقدمة ابن الماحوز و كان ابن الماحوز يخاطب بالخلافة و يخاطب الزبير بالإمارة و وصل الزبير بعد هلاك حارثة بن بدر و هرب أصحابه إلى البصرة فخافه الناس خوفا شديدا و ضج أهل البصرة إلى الأحنف فأتى القباع فقال أصلح الله الأمير إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا و فيئنا فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالا قال فسموا إلى رجلا يلي الحرب فقال الأحنف لا أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبي صفرة فقال أ و هذا رأي جميع أهل البصرة اجتمعوا إلي في غد لأنظر و جاء الزبير حتى نزل على البصرة و عقد الجسر ليعبر إليها فخرج أكثر أهل البصرة إليه و انضم إلى الزبير جميع كور الأهواز و أهلها رغبة و رهبة فوافاه البصريون في السفن و على الدواب فاسودت بهم الأرض فقال الزبير لما رآهم أبى قومنا إلا كفرا و قطع الجسر و أقام الخوارج بإزائهم و اجتمع الناس عند القباع و خافوا الخوارج خوفا شديدا و كانوا ثلاث فرق سمى قوم المهلب و سمى قوم مالك بن مسمع و سمى قوم زياد بن عمرو بن أشرف العتكي فاختبر القباع ما عند مالك و زياد فوجدهما متثاقلين عن الحرب و عاد إليه من أشار بهما و قالوا قد رجعنا عن رأينا ما نرى لها إلا المهلب فوجه إليه القباع فأتاه فقال له يا أبا سعيد قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو و قد أجمع أهل مصرك عليك و قال له الأحنف يا أبا سعيد أنا و الله ما آثرناك و لكنا لم نر من يقوم مقامك . ثم قال القباع و أومأ إلى الأحنف أن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثارا للدين و البقيا و كل من في مصرك ماد عينه إليك راج أن يكشف الله عنه هذه الغمة بك فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله إني عند نفسي لدون ما وصفتم و لست آبى ما دعوتم إليه لكن لي شروطا أشترطها قالوا قل قال على أن أنتخب من أحببت قال الأحنف ذاك لك قال و لي إمرة كل بلد أغلب عليه قالوا لك ذلك قال و لي في ء كل بلد أظفر به قال الأحنف ليس ذاك لك و لا لنا إنما هو في ء للمسلمين فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم و لكن لك أن تعطي أصحابك من في ء كل بلد تغلب عليه ما أحببت و تنفق منه على محاربة عدوك فما فضل عنكم كان للمسلمين فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله فمن لي بذلك قال الأحنف نحن و أميرك و جماعة أهل مصرك قال قد قبلت فكتبوا بينهم بذلك كتابا و وضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الجعفي و انتخب المهلب من جميع الأخماس فبلغت نخبته اثني عشر ألفا و نظروا في بيت المال فلم يكن إلا مائتي ألف درهم فعجزت فبعث المهلب إلى التجار فقال إن تجاراتكم منذ حول قد فسدت بانقطاع مواد الأهواز و فارس عنكم فهلموا فبايعوني و اخرجوا معي أوفكم حقوقكم فبايعوه و تاجروه فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسكره و اتخذ لأصحابه الخفاتين و الرانات المحشوة بالصوف ثم نهض و كان أكثر أصحابه رجالة حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت و أحضرت فما ارتفع النهار حتى فرغ منها ثم أمر الناس بالعبور و أمر عليهم ابنه المغيرة فخرج الناس فلما قاربوا الشط خاضت إليهم الخوارج فحاربوهم و حاربهم المغيرة و نضحهم بالسهام حتى تنحوا و صار هو و أصحابه على الشط فحاربوا الخوارج فكشفوهم و شغلوهم حتى عقد المهلب الجسر و عبر و الخوارج منهزمون فنهى الناس عن اتباعهم ففي ذلك يقول شاعر من الأزد
- إن العراق و أهله لم يخبروامثل المهلب في الحروب فسلموا
- أمضى و أيمن في اللقاء نقيبةو أقل تهليلا إذا ما أحجموا
. و أبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري من فرسان تميم و شجعانهم و من شعر عطية
- يدعى رجال للعطاء و إنمايدعى عطية للطعان الأجرد
. و قال فيه شاعر من بني تميم
- و ما فارس إلا عطية فوقهإذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما
- به هزم الله الأزارق بعد ماأباحوا من المصرين حلا و محرما
. فأقام المهلب أربعين ليلة يجبي الخراج بكور دجلة و الخوارج بنهر تيرى و الزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز فقضى المهلب التجار و أعطى أصحابه فأسرع الناس إليه رغبة في مجاهدة العدو و طمعا في الغنائم و التجارات فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي و عبد الله بن رباح و معاوية بن قرة المزني و كان يقول لو جاءت الديلم من هاهنا و الحرورية من هاهنا لحاربت الحرورية و جاءه أبو عمران الجوني و كان يروى عن كعب أن قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أبواب . ثم أتى المهلب إلى نهر تيرى فتنحوا عنه إلى الأهواز و أقام المهلب يجبي ما حواليه من الكور و قد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج يأتونه بأخبارهم و من في عسكرهم و إذا حشوه ما بين قصاب و حداد و داعر فخطب المهلب الناس و ذكر لهم ذلك و قال أ مثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم و لم يزل مقيما حتى فهمهم و أحكم أمرهم و قوى أصحابه و كثرت الفرسان في عسكره و تتام أصحابه عشرين ألفا . ثم مضى يؤم كور الأهواز فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى و جعل المغيرة على مقدمته فسار حتى قاربهم فناوشهم و ناوشوه فانكشف عن المغيرة بعض أصحابه و ثبت المغيرة نفسه بقية يومه و ليلته يوقد النيران ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النيران في بقية متاعهم و ارتحلوا عن سوق الأهواز فدخلها المغيرة و قد جاءت أوائل خيل المهلب فأقام بسوق الأهواز و كتب بذلك إلى الحارث القباع كتابا يقول فيه . أما بعد فإنا مذ خرجنا نؤم العدو في نعم من فضل الله متصلة علينا و نقم متتابعة عليهم نقدم و يحجمون و نحل و يرتحلون إلى أن حللنا سوق الأهواز و الحمد لله رب العالمين الذي من عنده النصر و هو العزيز الحكيم فكتب إليه الحارث هنيئا لك أخا الأزد الشرف في الدنيا و الأجر في الآخرة إن شاء الله . فقال المهلب لأصحابه ما أجفى أهل الحجاز أ ما ترونه عرف اسمي و كنيتي و اسم أبي قالوا و كان المهلب يبث الأحراس في الأمن كما يبثهم في الخوف و يذكي العيون في الأمصار كما يذكيها في الصحاري و يأمر أصحابه بالتحرز و يخوفهم البيات و إن بعد منه العدو و يقول احذروا أن تكادوا كما تكيدون و لا تقولوا هزمناهم و غلبناهم و القوم خائفون وجلون فإن الضرورة تفتح باب الحيلة . ثم قام فيهم خطيبا فقال أيها الناس قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج و أنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم و سفكوا دماءكم فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه أولكم علي بن أبي طالب لقد لقيهم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس و العجل المفرط عثمان بن عبيد الله و المعصي المخالف حارثة بن بدر فقتلوا جميعا و قتلوا فالقوهم بحد و جد فإنما هم مهنتكم و عبيدكم و عار عليكم و نقص في أحسابكم و أديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم و يطئوا حريمكم . ثم سار يريدهم و هم بمناذر الصغرى فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا يقال له واقد مولى لآل أبي صفرة من سبي الجاهلية في خمسين رجلا فيهم صالح بن مخراق إلى نهر تيرى و بها المعارك بن أبي صفرة فقتلوه و صلبوه فنمي الخبر إلى المهلب فوجه ابنه المغيرة فدخل نهر تيرى و قد خرج واقد منها فاستنزل عمه فدفنه و سكن الناس و استخلف بها و رجع إلى أبيه و قد نزل بسولاف و الخوارج بها فواقعهم و جعل على بني تميم الحريش بن هلال فخرج رجل من أصحاب المهلب يقال له عبد الرحمن الإسكاف فجعل يحض الناس و يهون أمر الخوارج و يختال بين الصفين فقال رجل من الخوارج لأصحابه يا معشر المهاجرين هل لكم في قتلة فيها الجنة فحمل جماعة منهم على الإسكاف فقاتلهم وحده فارسا ثم كبا به فرسه فقاتلهم راجلا قائما و باركا ثم كثرت به الجراحات فذبب بسيفه ثم جعل يحثو في وجوههم التراب و المهلب غير حاضر فقتل ثم حضر المهلب فأعلم فقال للحريش و لعطية العنبري أ سلمتما سيد أهل العراق لم تعيناه و لم تستنقذاه حسدا له لأنه رجل من الموالي و وبخهما . و حمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله و مال الخوارج بأجمعهم على العسكر فانهزم الناس و قتل منهم سبعون رجلا و ثبت المهلب و ابنه المغيرة يومئذ و عرف مكانه . و يقال حاص المهلب يومئذ حيصة و يقول الأزد بل كان يرد المنهزمة و يحمي أدبارهم و بنو تميم تزعم أنه فر و قال شاعرهم
- بسولاف أضعت دماء قوميو طرت على مواشكة درور
. و قال آخر من بني تميم
- تبعنا الأعور الكذاب طوعايزجي كل أربعة حمارا
- فيا ندمى على تركي عطائيمعاينة و أطلبه ضمارا
- إذا الرحمن يسر لي قفولافحرق في قرى سولاف نارا
. قوله الأعور الكذاب يعني به المهلب كانت عينه عارت بسهم أصابها و سموه الكذاب لأنه كان فقيها و كان يتأول ما ورد في الأثر من أن كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة الكذب في الصلح بين رجلين و كذب الرجل لامرأته بوعد و كذب الرجل في الحرب بتوعد و تهدد
قالوا و جاء عنه ص إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت
و قال إنما الحرب خدعة
فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف و يضعف به من أمر الخوارج ما اشتد و كان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحا إليهم قالوا راح ليكذب و فيه يقول رجل منهم
- أنت الفتى كل الفتىلو كنت تصدق ما تقول
. فبات المهلب في ألفين فلما أصبح رجع بعض المنهزمة فصاروا في أربعة آلاف فخطب أصحابه فقال و الله ما بكم من قلة و ما ذهب عنكم إلا أهل الجبن و الضعف و الطبع و الطمع فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله فسيروا إلى عدوكم على بركة الله . فقام إليه الحريش بن هلال فقال أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك فإن في أصحابك جراحا و قد أثخنتهم هذه الجولة . فقبل منه و مضى المهلب في عشرة فأشرف على عسكر الخوارج فلم ير منهم أحدا يتحرك فقال له الحريش ارتحل عن هذا المنزل فارتحل فعبر دجيلا و صار إلى عاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة فأقام به و أقام الناس ثلاثا مستريحين . و في يقوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات
- أ لا طرقت من آل مية طارقهعلى أنها معشوقة الدل عاشقه
- تراءت و أرض السوس بيني و بينهاو رستاق سولاف حمته الأزارقه
- إذا نحن شئنا صادفتنا عصابةحرورية فيها من الموت بارقه
- أجازت عيلنا العسكرين كليهمافباتت لنا دون اللحاف معانقه
. فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل و الخوارج بسلى و سلبرى فنزل قريبا منهم فقال ابن الماحوز لأصحابه ما تنتظرون بعدوكم و قد هزمتموهم بالأمس و كسرتم حدهم فقال له واقد مولى أبي صفرة يا أمير المؤمنين إنما تفرق عنهم أهل الضعف و الجبن و بقي أهل النجدة و القوة فإن أصبتهم لم يكن ظفرا هينا لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا و إن غلبوا ذهب الدين فقال أصحابه نافق واقد فقال ابن الماحوز لا تعجلوا على أخيكم فإنه إنما قال هذا نظرا لكم . ثم وجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب لينظر ما حالهم فأتاهم في مائتين فحزرهم و رجع و أمر المهلب أصحابه بالتحارس حتى إذا أصبح ركب إليهم في تعبئة فالتقوا بسلى و سلبرى فتصافوا فخرج من الخوارج مائة فارس فركزوا رماحهم بين الصفين و اتكئوا عليها و أخرج إليهم المهلب أعدادهم ففعلوا مثل ما فعلوا لا يرعون إلا الصلاة حتى إذا أمسوا رجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هكذا ثلاثة أيام .
ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث فحمل عليهم هؤلاء الفرسان فجالوا ساعة ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه فحمل الخوارج بأجمعهم كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا الناس و فقد المهلب و ثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان . ثم نجم المهلب في مائة و قد انغمس كماه في الدم و على رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر محشوة قزا و قد تمزقت و إن حشوها ليتطاير و هو يلهث و ذلك في وقت الظهر فلم يزل يحاربهم حتى أتى الليل و كثر القتلى في الفريقين فلما كان الغد غاداهم و قد كان وجه بالأمس رجلا من طاحية بن سود بن مالك بن فهم من الأزد من ثقاته و أصحابه يرد المنهزمين فمر به عامر بن مسمع فرده فقال إن الأمير أذن لي في الانصراف فبعث إلى المهلب فأعلمه فقال دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن و الضعف ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف و قد تفرق عنه أكثر الناس و قال لأصحابه ما بكم من قلة أ يعجز أحدكم أن يلقي رمحه ثم يتقدم فيأخذه ففعل ذلك رجل من كندة و اتبعه قوم ثم قال المهلب لأصحابه أعدوا مخالي فيها حجارة و ارموا بها في وقت الغفلة فإنها تصد الفارس و تصرع الراجل ففعلوا ثم أمر مناديا ينادي في أصحابه يأمرهم بالجد و الصبر و يطمعهم في العدو ففعل ذلك حتى مر ببني العدوية من بني مالك بن حنظلة فنادى فيهم فضربوه فدعا المهلب بسيدهم و هو معاوية بن عمرو فجعل يركله برجله فقال أصلح الله الأمير اعفني من أم كيسان و الأزد تسمى الركبة أم كيسان ثم حمل المهلب و حملوا و اقتتلوا قتالا شديدا فجهد الخوارج و نادى مناد منهم ألا إن المهلب قد قتل فركب المهلب برذونا وردا و أقبل يركض بين الصفين و إن إحدى يديه لفي القباء و ما يشعر لها و هو يصيح أنا المهلب فسكن الناس بعد أن كانوا قد ارتاعوا و ظنوا أن أميرهم قد قتل و كل الناس مع العصر فصاح المهلب بابنه المغيرة تقدم ففعل و صاح بذكوان مولاه قدم رايتك ففعل فقال له رجل من ولده إنك تغرر بنفسك فزبره و زجره و صاح يا بني سلمة آمركم فتعصونني فتقدم و تقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز و انصرف الخوارج و لم يشعر المهلب بقتله فقال لأصحابه ابغوا لي رجلا جلدا يطوف في القتلى فأشاروا عليه برجل من جرم و قالوا إنا لم نر قط رجلا أشد منه فجعل يطوف و معه النيران فجعل إذا مر بجريح من الخوارج قال كافر و رب الكعبة فأجهز عليه و إذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه و حمله و أقام المهلب يأمرهم بالاحتراس حتى إذا كان في نصف الليل وجه رجلا من اليحمد في عشرة فصاروا إلى عسكر الخوارج فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان فرجع إلى المهلب فأعلمه فقال لهم أنا الساعة أشد خوفا احذروا البيات . و يروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوما إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات فإن يكن ذلك فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون فإن رسول الله ص كان يأمر بها . و يروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب ع . فلما أصبح القوم غدوا على القتلى فأصابوا ابن الماحوز قتيلا ففي ذلك يقول رجل من الخوارج
- بسلى و سلبرى مصارع فتيةكرام و عقرى من كميت و من ورد
. و قال آخر
- بسلى و سلبرى جماجم فتيةكرام و صرعى لم توسد خدودها
. و قال رجل من موالي المهلب لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة رميت به رجلا فصرعته ثم رميت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته ثم أخذت الحجر و صرعت به ثالثا و في ذلك يقول رجل من الخوارج
- أتانا بأحجار ليقتلنا بهاو هل يقتل الأبطال ويحك بالحجر
. و قال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى و سلبرى و قتل ابن الماحوز
- و يوم سلى و سلبرى أحاط بهممنا صواعق لا تبقي و لا تذر
- حتى تركنا عبيد الله منجدلاكما تجدل جذع مال منقعر
. و يروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه فلما خالطه الرمح صاح يا أمتاه فصاح به المهلب لا كثر الله منك في المسلمين فضحك الخارجي و قال
- أمك خير لك مني صاحباتسقيك محضا و تعل رائبا
. و كان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على قربوس السرج و حمل من تحتها فبرأها بسيفه و أثر في أصحابها فتحوميت الميمنة من أجله و كان أشد ما تكون الحرب استعارا أشد ما يكون تبسما و كان المهلب يقول ما شهد معي حربا قط إلا رأيت البشرى في وجهه . و قال رجل من الخوارج في هذا اليوم
- فإن تك قتلى يوم سلى تتابعتفكم غادرت أسيافنا من قماقم
- غداة نكر المشرقية فيهم بسولاف يوم المأزق المتلاحم
. فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع . أما بعد فإنا لقينا الأزارقة المارقة بحد و جد فكانت في الناس جولة ثم ثاب أهل الحفاظ و الصبر بنيات صادقة و أبدان شداد و سيوف حداد فأعقب الله خير عاقبة و جاوز بالنعمة مقدار الأمل فصاروا دريئة رماحنا و ضرائب سيوفنا و قتل الله أميرهم ابن الماحوز و أرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها و السلام . فكتب إليه القباع قد قرأت كتابك يا أخا الأزد فرأيتك قد وهب لك شرف الدنيا و عزها و ذخر لك إن شاء الله ثواب الآخرة و أجرها و رأيتك أوثق حصون المسلمين و هاد أركان المشركين و ذا الرئاسة و أخا السياسة فاستدم الله بشكره يتمم عليكم نعمه و السلام . و كتب إليه أهل البصرة يهنئونه و لم يكتب إليه الأحنف و لكن قال اقرءوا عليه السلام و قولوا إنا لك على ما فارقتك عليه فلم يزل يقرأ الكتب و ينظر في تضاعيفها و يلتمس كتاب الأحنف فلا يراه فلما لم يره قال لأصحابه أ ما كتب أبو بحر فقال له الرسول إنه حملني إليك رسالة فأبلغه فقال هذا أحب إلي من هذه الكتب . و اجتمعت الخوارج بأرجان فبايعوا الزبير بن علي و هو من بني سليط بن يربوع من رهط ابن الماحوز فرأى فيهم انكسارا شديدا و ضعفا بينا فقال لهم اجتمعوا فاجتمعوا فحمد الله و أثنى عليه و صلى على محمد رسوله ص ثم أقبل عليهم فقال إن البلاء للمؤمنين تمحيص و أجر و هو على الكافرين عقوبة و خزي و إن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف و قد أصبتم منهم مسلم بن عبيس و ربيعا الأجذم و الحجاج بن رباب و حارثة بن بدر و أشجيتم المهلب و قتلتم أخاه المعارك و الله يقول لإخوانكم المؤمنين إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فيوم سلى كان لكم بلاء و تمحيصا و يوم سولاف كان لهم عقوبة و نكالا فلا تغلبن علي الشكر في حينه و الصبر في وقته و ثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض و العاقبة للمتقين . ثم تحمل للمحاربة نحو المهلب فنفحهم المهلب نفحة فرجعوا و أكمنوا للمهلب في غمض من غموض الأرض يقرب من عسكره مائة فارس ليغتالوه فسار المهلب يوما يطيف بعسكره و يتفقد سواده فوقف على جبل فقال إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا فبعث المهلب عشرة فوارس فاطلعوا على المائة فلما علموا بهم قطعوا القنطرة و نجوا و انكشفت الشمس فصاحوا يا أعداء الله لو قامت القيامة لجددنا و نحن في جهادكم . ثم يئس الزبير من ناحية المهلب فضرب إلى ناحية أصبهان ثم كر راجعا إلى أرجان و قد جمع جموعا و كان المهلب يقول كأني بالزبير و قد جمع لكم فلا ترهبوهم فتنخب قلوبكم و لا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم فجاءوه من أرجان فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق فحاربهم فظهر عليهم ظهورا بينا ففي ذلك يقول رجل من بني يربوع
- سقى الله المهلب كل غيثمن الوسمي ينتحر انتحارا
- فما وهن المهلب يوم جاءت عوابس خيلهم تبغي الغوارا
. و قال المهلب يومئذ ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالا من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون و كان لحاهم أذناب العقاعق و كانوا صبروا معه في غير مواطن . و قال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم
- ألا يا من لصب مستهامقريح القلب قد مل المزونا
- لهان على المهلب ما لقيناإذا ما راح مسرورا بطينا
- يجر السابري و نحن شعثكأن جلودنا كسيت طحينا
. و حمل يومئذ الحارث بن هلال على قيس الإكاف و كان من أنجد فرسان الخوارج فطعنه فدق صلبه و قال
- قيس الإكاف غداة الروع يعلمنيثبت المقام إذا لاقيت أقراني
. و قد كان بعض جيش المهلب يوم سلى و سلبرى صاروا إلى البصرة فذكروا أن المهلب قد أصيب فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية حتى ورد كتابه بظفره فأقام الناس و تراجع من كان ذهب منهم فعند ذلك قال الأحنف البصرة بصرة المهلب و قدم رجل من كندة يعرف بابن أرقم فنعى ابن عم له و قال إني رأيت رجلا من الخوارج و قد مكن رمحه من صلبه فلم ينشب أن قدم المنعي سالما فقيل له ذلك فقال صدق ابن أرقم لما أحسست برمحه بين كتفي صحت به البقية فرفعه و تلا بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و وجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الأزد برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز إلى الحارث بن عبد الله فلما صار بكربج دينار لقيته إخوة عبيد الله حبيب و عبد الملك و علي بنو بشير بن الماحوز فقالوا ما الخبر و هو لا يعرفهم فقال قتل الله ابن الماحوز المارق و هذا رأسه معي فوثبوا عليه فقتلوه و صلبوه و دفنوا رأس أخيهم عبيد الله فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير و كان وسيما جسيما فقال من هذا فخبره فقتله و وهب ابنه الأزهر و ابنته لأهل الأزدي المقتول و كانت زينب بنت بشير لهم مواصلة فوهبوهما لها . قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل و لم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع حتى عزل و ولي مصعب بن الزبير فكتب إلى المهلب أن أقدم علي و استخلف ابنك المغيرة ففعل بعد أن جمع الناس و قال لهم إني قد استخلفت المغيرة عليكم و هو أبو صغيركم رقة و رحمة و ابن كبيركم طاعة و برا و تبجيلا و أخو مثله مواساة و مناصحة فلتحسن له طاعتكم و ليلن له جانبكم فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه .
ثم مضى إلى مصعب فكتب مصعب إلى المغيرة بولايته و كتب إليه أنك إن لم تكن كأبيك فإنك كاف لما وليت فشمر و ائتزر و جد و اجتهد . ثم شخص المصعب إلى المزار فقتل أحمر بن شميط ثم أتى الكوفة فقتل المختار و قال للمهلب أشر علي برجل أجعله بيني و بين عبد الملك فقال له اذكر واحدا من ثلاثة محمد بن عمير بن عطارد الدارمي أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي أو داود بن قحذم قال أ و تكفيني أنت قال أكفيك إن شاء الله فشخص فولاه الموصل فخرج إليها و صار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة فشاور الناس فيمن يستكفيه أمر الخوارج فقال قوم ول عبد الله بن أبي بكرة و قال قوم ول عمر بن عبيد الله بن معمر و قال قوم ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم و بلغت المشورة الخوارج فأداروا الأمر بينهم فقال قطري بن الفجاءة المازني و لم يكن أمروه عليهم بعد إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره و إن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع بطل جاد يقاتل لدينه و لملكه و بطبيعة لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس حتى يشد على قرنه و يضربه و إن رد المهلب فهو من قد عرفتموه إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر يمده إذا أرسلتموه و يرسله إذا مددتموه لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه إلا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبر و الثعلب الرواغ و البلاء المقيم . فولى مصعب عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر ولاه فارس و الخوارج بأرجان يومئذ و عليهم الزبير بن علي السليطي فشخص إليهم فقاتلهم و ألح عليهم حتى أخرجهم منها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبيد الله قال رماهم بفارس العرب و فتاها فجمع الخوارج له و أعدوا و استعدوا ثم أتوا سابور فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ فقال له مالك بن أبي حسان الأزدي إن المهلب كان يذكي العيون و يخاف البيات و يرتقب الغفلة و هو على أبعد من هذه المسافة منهم . فقال عمر اسكت خلع الله قلبك أ تراك تموت قبل أجلك و أقام هناك فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح فلم يظفروا منه بشي ء فأقبل على مالك بن أبي حسان فقال كيف رأيت فقال قد سلم الله و لم يكونوا يطمعون في مثلها من المهلب فقال أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا العدو و لكنكم تقولون قرشي حجازي بعيد الدار خيره لغيرنا فتقاتلون معي تعذيرا ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم فقاتلهم قتالا شديدا حتى ألجأهم إلى قنطرة فتكاثف الناس عليها حتى سقطت فأقام حتى أصلحها ثم عبر و تقدم ابنه عبيد الله بن عمر و أمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب فقاتلهم حتى قتل فقال قطري للخوارج لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور قد قتلتم ابنه و لم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم و كان مع ابنه النعمان بن عباد فصاح به عمر يا نعمان أين ابني قال أحتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غير مدبر فقال إنا لله و إنا إليه راجعون ثم حمل على الخوارج حملة لم ير مثلها و حمل أصحابه بحملته فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج و حمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه و انهزمت الخوارج و انتهبها فلما استقروا و رأى ما نزل بهم قال أ لم أشر عليكم بالانصراف فجعلوه حينئذ من وجوههم حتى خرجوا من فارس و تلقاهم في ذلك الوقت الفزر بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره و أرادوا قتله فأقبل على قطري و قال إني مؤمن مهاجر فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها فخلوا عنه ففي ذلك يقول في كلمة له
- فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتيإلى قطري ذي الجبين المفلق
- و حاججتهم في دينهم فحججتهم و ما دينهم غير الهوى و التخلق
. ثم رجعوا و تكانفوا و عادوا إلى ناحية أرجان فسار إليهم عمر بن عبيد الله و كتب إلى مصعب أما بعد فإني لقيت الأزارقة فرزق الله عز و جل عبيد الله بن عمر الشهادة و وهب له السعادة و رزقنا بعد عليهم الظفر فتفرقوا شذر مذر و بلغني عنهم عودة فيممتهم و بالله أستعين و عليه أتوكل . فسار إليهم و معه عطية بن عمرو و مجاعة بن سعر فالتقوا فألح عليهم عمر حتى أخرجهم و انفرد من أصحابه فعمد إلى أربعة عشر رجلا من مذكوريهم و شجعانهم و في يده عمود فجعل لا يضرب رجلا منهم ضربة إلا صرعه فركض إليه قطري على فرس طمر و عمر على مهر فاستعلاه قطري بقوة فرسه حتى كاد يصرعه فبصر به مجاعة فأسرع إليه فصاحت الخوارج يا أبا نعامة إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري على قربوسه و طعنه مجاعة و على قطري درعان فهتكهما و أسرع السنان في رأس قطري فكشط جلده و نجا و ارتحل القوم إلى أصفهان فأقاموا برهة ثم رجعوا إلى الأهواز و قد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعا فقال له كم جبيت قال تسعمائة ألف فقال هي لك . و قال يزيد بن الحكم لمجاعة
- و دعاك دعوة مرهق فأجبتهعمر و قد نسي الحياة و ضاعا
- فرددت عادية الكتيبة عن فتى قد كاد يترك لحمه أوزاعا
. قال ثم عزل مصعب بن الزبير و ولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير فمكث قليلا ثم أعيد مصعب إلى العراق و الخوارج بأطراف أصبهان و الوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي فأقام الخوارج هناك يجبون شيئا من القرى ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله ما أنصفتنا أقمت بفارس تجبي الخراج و مثل هذا العدو يجتاز بك لا تحاربه و الله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك . و خرج مصعب من البصرة يريدهم و أقبل عمر بن عبيد الله يريدهم فتنحى الخوارج إلى السوس ثم أتوا إلى المدائن و بسطوا في القتل فجعلوا يقتلون النساء و الصبيان حتى أتوا المذار فقتلوا أحمر طيئ و كان شجاعا و كان من فرسان عبيد الله بن الحر و في ذلك يقول الشاعر
- تركتم فتى الفتيان أحمر طيئبساباط لم يعطف عليه خليل
. ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة فلما خالطوا سوادها و واليها الحارث القباع تثاقل عن الخروج و كان جبانا فذمره إبراهيم بن الأشتر و لامه الناس فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة ففي ذلك يقول الشاعر
- إن القباع سار سيرا نكرايسير يوما و يقيم عشرا
. و جعل يعد الناس بالخروج و لا يخرج و الخوارج يعيثون حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها و كانت جميلة ثم أرادوا قتلها فقالت أ تقتلون من ينشأ في الحلية و هو في الخصام غير مبين فقال قائل منهم دعوها فقالوا قد فتنتك ثم قدموها فقتلوها .و قربوا امرأة أخرى و هم بإزاء القباع و الجسر معقود بينهم فقطعه القباع و هو في ستة آلاف و المرأة تستغيث به و هي تقبل و تقول علام تقتلونني فو الله ما فسقت و لا كفرت و لا زنيت و الناس يتفلتون إلى القتال و القباع يمنعهم . فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذاك بقطع الجسر فأقام بين دبيرى و دباها خمسة أيام و الخوارج بقربه و هو يقول للناس في كل يوم إذا لقيتم العدو غدا فأثبتوا أقدامكم و اصبروا فإن أول الحرب الترامي ثم إشراع الرماح ثم السلة فثكلت رجلا أمه فر من الزحف . فقال بعضهم لما أكثر عليهم أما الصفة فقد سمعناها فمتى يقع الفعل . و قال الراجز
- إن القباع سار سيرا ملسابين دباها و دبيرى خمسا
. و أخذ الخوارج حاجتهم و كان شأن القباع التحصن منهم ثم انصرفوا و رجع إلى الكوفة و ساروا من فورهم إلى أصبهان فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي أنا ابن عمك و لست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري فبعث إليه الزبير إن أدنى الفاسقين و أبعدهم في الحق سواء . فأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال و يراوحونه حتى طال عليهم المقام و لم يظفروا بكبير شي ء فلما كثر عليهم ذلك انصرفوا لا يمرون بقرية بين أصبهان و الأهواز إلا استباحوها و قتلوا من فيها و شاور المصعب الناس فيهم فأجمع رأيهم على المهلب فبلغ الخوارج مشاورتهم فقال لهم قطري إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب و لا يظفر بكثير و إن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم إما عليه و إما له و إن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه و يأخذ منكم و لا يعطيكم فهو البلاء الملازم و المكروه الدائم . و عزم مصعب على توجيه المهلب و أن يشخص هو لحرب عبد الملك فلما أحس به الزبير خرج إلى الري و بها يزيد بن الحارث بن رويم فحاربه ثم حصره فلما طال عليه الحصار خرج إليه فكان الظفر للخوارج فقتل يزيد بن الحارث بن رويم و نادى يزيد ابنه حوشبا ففر عنه و عن أمه لطيفة و كان علي بن أبي طالب ع دخل على الحارث بن رويم يعود ابنه يزيد فقال عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك فسماها يزيد لطيفة فقتلت مع بعلها يزيد يومئذ و قال الشاعر
- مواقفنا في كل يوم كريهةأسر و أشفى من مواقف حوشب
- دعاه أبوه و الرماح شوارع فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب
- و لو كان شهم النفس أو ذا حفيظةرأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
. و قال آخر
- نجا حليلته و أسلم شيخهنصب الأسنة حوشب بن يزيد
قال ثم انحط الزبير على أصفهان فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر و عتاب يحاربه في بعضهن فلما طال به الحصار قال لأصحابه ما تنتظرون و الله ما تؤتون من قلة و إنكم لفرسان عشائركم و لقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم و ما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم و بكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه . فلما أصبح صلى بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج و هم غارون و قد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين فقال من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين و من أراد الجهاد فليخرج معي فخرج في ألفين و سبعمائة فارس فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله فعقروا منهم خلقا كثيرا و قتل الزبير بن علي و انهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب ففي ذلك يقول القائل
- و يوم بجي تلافيتهو لو لاك لاصطلم العسكر
. و قال آخر
- خرجت من المدينة مستميتاو لم أك في كتيبة ياسمينا
- أ ليس من الفضائل أن قوميغدوا مستلئمين مجاهدينا
. قال و تزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون و يحمل بعضهم على بعض و ربما كانت مواقفة بغير حرب و ربما اشتدت الحرب بينهم و كان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح و يكنى أبا هريرة إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج و الزبير بن علي
- يا ابن أبي الماحوز و الأشراركيف ترون يا كلاب النار
- شد أبي هريرة الهراريهركم بالليل و النهار
- أ لم تروا جيا على المضمارتمسي من الرحمن في جوار
. فغاظهم ذلك فكمن له عبيدة بن هلال فضربه بالسيف و احتمله أصحابه و ظنت الخوارج أنه قد قتل فكانوا إذا تواقفوا نادوهم ما فعل الهرار فيقولون ما به من بأس حتى أبل من علته فخرج إليهم فقال يا أعداء الله أ ترون بي بأسا فصاحوا به قد كنا نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية إلى النار الحامية
قطري بن الفجاءة المازني
و منهم قطري بن الفجاءة المازني قال أبو العباس لما قتل الزبير بن علي أدارت الخوارج أمرها فأرادوا تولية عبيدة بن هلال فقال أدلكم على من هو خير لكم مني من يطاعن في قبل و يحمي في دبر عليكم بقطري بن الفجاءة المازني فبايعوه و قالوا يا أمير المؤمنين امض بنا إلى فارس فقال إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر و لكن نسير إلى الأهواز فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على إيذج و كان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا و قال لأصحابه إن قطريا لمطل علينا و إن خرجنا عن البصرة دخلها فبعث إلى المهلب فقال اكفنا هذا العدو فخرج إليهم المهلب فلما أحس به قطري يمم نحو كرمان و أقام المهلب بالأهواز ثم كر عليه قطري و قد استعد و كانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح و كثرة الدواب و حصانة الجنن فحاربهم المهلب فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز و كان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغما لعتاب بن ورقاء و يقال إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي و كان الحارث بن عميرة هو الذي قتله و خاض إليه أصحابه ففي ذلك يقول أعشى همدان
- إن المكارم أكملت أسبابهالابن الليوث الغر من همدان
- للفارس الحامي الحقيقة معلمازاد الرفاق و فارس الفرسان
- الحارث بن عميرة الليث الذييحمي العراق إلى قرى نجران
- ود الأزراق لو يصاب بطعنةو يموت من فرسانهم مائتان
. قال أبو العباس و خرج مصعب إلى باجميرا ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه فتواقفوا يوما برامهرمز على الخندق فناداهم الخوارج ما تقولون في مصعب قالوا إمام هدى قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا ضال مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب و إن أهل العراق قد اجتمعوا على عبد الملك و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته فلما تواقفوا ناداهم الخوارج ما تقولون في المصعب قالوا لا نخبركم قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا إمام هدى قالوا يا أعداء الله بالأمس ضال مضل و اليوم إمام هدى يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله . و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير قال كان الشراة و المسلمون في حرب المهلب و قطري يتواقفون و يتساءلون بينهم عن أمر الدين و غير ذلك على أمان و سكون لا يهيج بعضهم بعضا فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري و أبو حزابة التميمي فقال عبيدة يا أبا حزابة إني أسألك عن أشياء أ فتصدقني عنها في الجواب قال نعم إن ضمنت لي مثل ذلك قال قد فعلت قال فسل عما بدا لك قال ما تقولون في أئمتكم قال يبيحون الدم الحرام قال ويحك فكيف فعلهم في المال قال يحبونه من غير حله و ينفقونه في غير وجهه قال فكيف فعلهم في اليتيم قال يظلمونه ماله و يمنعونه حقه و ينيكون أمه قال ويحك يا أبا حزابة أ مثل هؤلاء تتبع قال قد أجبتك فاسمع سؤالي و دع عتابي على رأيي قال سل قال أي الخمر أطيب خمر السهل أم خمر الجبل قال ويحك أ مثلي يسأل عن هذا قال قد أوجبت على نفسك أن تجيب قال أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى و أسكر و خمر السهل أحسن و أسلس قال فأي الزواني أفره أ زواني رامهرمز أم زواني أرجان قال ويحك إن مثلي لا يسأل عن هذا قال لا بد من الجواب أو تغدر . قال أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا و زواني أرجان أحسن أبدانا قال فأي الرجلين أشعر جرير أم الفرزدق قال عليك و عليهما لعنة الله قال لا بد أن تجيب قال أيهما الذي يقول
- و طوى الطراد مع القياد بطونهاطي التجار بحضرموت برودا
قال جرير قال فهو أشعرهما . قال أبو الفرج و قد كان الناس تجادلوا في أمر جرير و الفرزدق في عسكر المهلب حتى تواثبوا و صاروا إليه محكمين له في ذلك فقال أ تريدون أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمضغاني ما كنت لأحكم بينهما و لكني أدلكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما عليكم بالشراة فاسألوهم إذا تواقفتم فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب . و روى أبو الفرج أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم و كانت من أشجع الناس و أجملهم وجها و أحسنهم بالدين تمسكا و خطبها جماعة منهم فردتهم و لم تجبهم فأخبر من شاهدها في الحرب أنها كانت تحمل على الناس و ترتجز فتقول
- أحمل رأسا قد سئمت حملهو قد مللت دهنه و غسله
أ لا فتى يحمل عني ثقله
. و الخوارج يفدونها بالآباء و الأمهات فما رأينا قبلها و لا بعدها مثلها . و روى أبو الفرج قال كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم ليخرج إلي بعضكم فيخرج إليه فتيان من عسكر المهلب فيقول لهم أيما أحب إليكم أقرأ عليكم القرآن أم أنشدكم الشعر فيقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك و لكن تنشدنا فيقول يا فسقة قد و الله علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن ثم لا يزال ينشدهم و يستنشدهم حتى يملوا و يفترقوا . قال أبو العباس و ولى خالد بن عبد الله بن أسيد فقدم فدخل البصرة فأراد عزل المهلب فأشير عليه بألا يفعل و قيل له إنما أمن أهل هذا المصر لأن المهلب بالأهواز و عمر بن عبيد الله بفارس فقد تنحى عمر و إن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة فأبى إلا عزله فقدم المهلب البصرة و خرج خالد إلى الأهواز فاستصحبه فلما صار بكربج دينار لقيه قطري فمنعه حط أثقاله و حاربه ثلاثين يوما . ثم أقام قطري بإزائه و خندق على نفسه فقال المهلب لخالد إن قطريا ليس بأحق بالخندق منك فعبر دجيلا إلى شق نهر تيرى و اتبعه قطري فصار إلى مدينة نهر تيرى فبنى سورها و خندق عليها فقال المهلب لخالد خندق على نفسك فإني لا آمن البيات فقال يا أبا سعيد الأمر أعجل من ذاك فقال المهلب لبعض ولده إني أرى أمرا ضائعا ثم قال لزياد بن عمرو خندق علينا فخندق المهلب على نفسه و أمر بسفنه ففرغت و أبى خالد أن يفرغ سفنه فقال المهلب لفيروز حصين صر معنا فقال يا أبا سعيد إن الحزم ما تقول غير إني أكره أن أفارق أصحابي قال فكن بقربنا قال أما هذه فنعم . و قد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالدا بجيش كثيف أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ففعل فقدم عليه عبد الرحمن فأقام قطري يغاديهم القتال و يراوحهم أربعين يوما فقال المهلب لمولى أبي عيينة سر إلى ذلك الناوس فبت عليه كل ليلة فمتى أحسست خبرا للخوارج أو حركة أو صهيل خيل فأعجل إلينا . فجاءه ليلة فقال قد تحرك القوم فجلس المهلب بباب الخندق و أعد قطري سفنا فيها حطب و أشعلها نارا و أرسلها على سفن خالد و خرج في أدبارها حتى خالطهم لا يمر برجل إلا قتله و لا بدابة إلا عقرها و لا بفسطاط إلا هتكه فأمر المهلب يزيد ابنه فخرج في مائة فارس فقاتل و أبلي عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يومئذ بلاء حسنا و خرج فيروز حصين في مواليه فلم يزل يرميهم بالنشاب هو و من معه فأثر أثرا جميلا و صرع يزيد بن المهلب يومئذ و صرع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا و سقط فيروز حصين في الخندق فأخذ بيده رجل من الأزد فاستنقذه فوهب له فيروز عشرة آلاف و أصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء فجعل لا يرى إلا قتيلا أو جريحا فقال للمهلب يا أبا سعيد كدنا نفتضح فقال خندق على نفسك فإن لم تفعل عادوا إليك فقال اكفني أمر الخندق فجمع له الأحماس فلم يبق شريف إلا عمل فيه فصاح بهم الخوارج و الله لو لا هذا الساحر المزوني لكان الله قد دمر عليكم و كانت الخوارج تسمى المهلب الساحر لأنهم كانوا يدبرون الأمر فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم . و قال أعشى همدان لابن الأشعث يذكره بلاء القحطانية عنده في كلمة طويلة
- و يوم أهوازك لا تنسهليس الثنا و الذكر بالبائد
. ثم مضى قطري إلى كرمان و انصرف خالد إلى البصرة و أقام قطري بكرمان شهرا ثم عمد لفارس فخرج خالد إلى الأهواز و ندب الناس للرحيل فجعلوا يطلبون المهلب فقال خالد ذهب المهلب بحظ هذا المصر إني قد وليت أخي قتال الأزارقة . فولى أخاه عبد العزيز و استخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة و مضى عبد العزيز و الخوارج بدرابجرد و هو في ثلاثين ألفا فجعل عبد العزيز يقول في طريقه يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب سيعلمون . قال صقعب بن يزيد فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز جاءني كردوس حاجب المهلب فدعاني فجئت إلى المهلب و هو في سطح و عليه ثياب هروية فقال يا صقعب أنا ضائع كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز و أخشى أن توافيني الأزارقة و لا جند معي فابعث رجلا من قبلك يأتيني بخبرهم سابقا إلي به فوجهت رجلا من قبلي يقال له عمران بن فلان و قلت له اصحب عسكر عبد العزيز و اكتب إلي بخبر يوم فيوم فجعلت أورده على المهلب فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة فقال له الناس هذا منزل فينبغي أن تنزل فيه أيها الأمير حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا فقال كلا الأمر قريب فنزل الناس عن غير أمره فلم يستتم النزول حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة فارس كأنهم خيط ممدود فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة ثم انهزموا عنه مكيدة و اتبعهم فقال له الناس لا تتبعهم فإنا على غير تعبية فأبى فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة فاقتحمها وراءهم و الناس ينهونه و يأبى و كان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي الملقب عبس الطعان و على بكر بن وائل مقاتل بن مسمع و على شرطته رجلا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فنزلوا عن العقبة و نزل خلفهم و كان لهم في بطن العقبة كمين فلما صاروا من ورائها خرج عليهم الكمين و عطف سعد الطلائع فترجل عبس بن طلق فقتل و قتل مقاتل بن مسمع و قتل الضبيعي صاحب شرطة عبد العزيز و انحاز عبد العزيز و اتبعهم الخوارج فرسخين يقتلونهم كيف شاءوا و كان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص بنت المنذر بن الجارود امرأته فسبوا النساء يومئذ و أخذوا أسارى لا تحصى فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقا ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه .
و قال بعض من حضر ذلك اليوم رأيت عبد العزيز و إن ثلاثين رجلا ليضربونه بسيوفهم فما تحيك في جنبه و نودي على السبي يومئذ فغولي بأم حفص فبلغ بها رجل سبعين ألفا و كان ذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا و لحقوا بالخوارج ففرضوا لكل رجل منهم خمسمائة فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص فشق ذلك على قطري و قال ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفا إن هذه لفتنة فوثب عليها أبو الحديد العبدي فقتلها فأتي به قطري فقال مهيم يا أبا الحديد فقال يا أمير المؤمنين رأيت المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة فخشيت عليهم الفتنة فقال قطري أحسنت فقال رجل من الخوارج
- كفانا فتنة عظمت و جلتبحمد الله سيف أبي الحديد
- إهاب المسلمون بها و قالواعلى فرط الهوى هل من مزيد
- فزاد أبو الحديد بنصل سيفرقيق الحد فعل فتى رشيد
. و كان العلاء بن مطرف السعدي ابن عم عمرو القنا و كان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة فلحقه عمرو القنا يومئذ و هو منهزم فضحك منه و قال متمثلا
- تمناني ليلقاني لقيطأعام لك ابن صعصعة بن سعد
. ثم صاح به أنج يا أبا المصدي و كان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل و الأخرى بنت عمه يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق الضبية و حملها أولا و تخلص بابنة عمه فقال في ذلك
- أ لست كريما إذ أقول لفتيتيقفوا فاحملوها قبل بنت عقيل
- و لو لم يكن عودي نضارا لأصبحت تجر على المتنين أم جميل
. قال الصقعب بن يزيد و بعثني المهلب لآتيه بالخبر فصرت إلى قنطرة أربك على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم فلم أحس خبرا فسرت مهجرا إلى أن أمسيت فلما أمسينا و أظلمنا سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم فقلت ما وراءك قال الشر قلت فأين عبد العزيز قال أمامك فلما كان آخر الليل إذا أنا بزهاء خمسين فارسا معهم لواء فقلت لواء من هذا قالوا لواء عبد العزيز فتقدمت إليه فسلمت عليه و قلت أصلح الله الأمير لا يكبرن عليك ما كان فإنك كنت في شر جند و أخبثه قال لي أ و كنت معنا قلت لا و لكن كأني شاهد أمرك ثم أقبلت إلى المهلب و تركته فقال لي ما وراءك قلت ما يسرك هزم الرجل و فل جيشه فقال ويحك و ما يسرني من هزيمة رجل من قريش و فل جيش من المسلمين قلت قد كان ذلك ساءك أو سرك فوجه رجلا إلى خالد يخبره بسلامة أخيه قال الرجل فلما خبرت خالدا قال كذبت و لؤمت و دخل رجل من قريش فكذبني فقال لي خالد و الله لقد هممت أن أضرب عنقك فقلت أصلح الله الأمير إن كنت كاذبا فاقتلني و إن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلم فقال خالد لبئس ما أخطرت به دمك فما برحت حتى دخل عليه بعض الفل و قدم عبد العزيز سوق الأهواز فأكرمه المهلب و كساه و قدم معه على خالد و استخلف المهلب ابنه حبيبا و قال له تجسس الأخبار فإن أحسست بخيل الأزارقة قريبا منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى فلما أحس حبيب بهم دخل البصرة و أعلم خالدا بدخوله فغضب و خاف حبيب منه فاستتر في بني عامر بن صعصعة و تزوج هناك في استتاره الهلالية و هي أم ابنه عباد بن حبيب و قال الشاعر لخالد يفيل رأيه
- بعثت غلاما من قريش فروقةو تترك ذا الرأي الأصيل المهلبا
- أبى الذم و اختار الوفاء و أحكمت قواه و قد ساس الأمور و جربا
. و قال الحارث بن خالد المخزومي
- فر عبد العزيز إذ راء عيسىو ابن داود نازلا قطريا
- عاهد الله إن نجا ملمناياليعودن بعدها حرميا
- يسكن الخل و الصفاح فغورينامرارا و مرة نجديا
- حيث لا يشهد القتال و لايسمع يوما لكر خيل دويا
. و كتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز و قال للمهلب ما ترى أمير المؤمنين صانعا بي قال يعزلك قال أ تراه قاطعا رحمي قال نعم قد أتته هزيمة أمية أخيك ففعل يعني هرب أمية من سجستان فكتب عبد الملك إلى خالد أما بعد فإني كنت حددت لك حدا في أمر المهلب فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي وراءك و استبددت برأيك فوليت المهلب الجباية و وليت أخاك حرب الأزارقة فقبح الله هذا رأيا أ تبعث غلاما غرا لم يجرب الأمور و الحروب للحرب و تترك سيدا شجاعا مدبرا حازما قد مارس الحروب ففلج فشغلته بالجباية أما لو كافأتك على قدر ذنبك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه و لكن تذكرت رحمك فكفتني عنك و قد جعلت عقوبتك عزلك و السلام قال و ولى بشر بن مروان الإمارة و هو بالكوفة و كتب إليه أما بعد فإنك أخو أمير المؤمنين يجمعك و إياه مروان بن الحكم و إن خالدا لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية فانظر المهلب بي أبي صفرة فوله حرب الأزارقة فإنه سيد بطل مجرب و امدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل و السلام فشق على بشر ما أمره به في المهلب و قال و الله لأقتلنه فقال له موسى بن نصير أيها الأمير إن للمهلب حفاظا و وفاء و بلاء . و خرج بشر بن مروان يريد البصرة فكتب موسى بن نصير و عكرمة بن ربعي إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به فتلقاه المهلب على بغل و سلم عليه في غمار الناس فلما جلس بشر مجلسه قال ما فعل أميركم المهلب قالوا قد تلقاك أيها الأمير و هو شاك فهم بشر أن يولي حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله بن معمر و شد عزمه أسماء بن خارجة و قال له إنما ولاك أمير المؤمنين لترى رأيك فقال له عكرمة بن ربعي اكتب إلى أمير المؤمنين فأعلمه علة المهلب فكتب إليه بذلك و أن بالبصرة من يغني غناءه و وجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه رئيسهم عبد الله بن حكيم المجاشعي فلما قرأ عبد الملك الكتاب خلا بعبد الله فقال له إن لك دينا و رأيا و حزما فمن لقتال هؤلاء الأزارقة قال المهلب قال إنه عليل قال ليست علته بمانعة فقال عبد الملك لقد أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد فكتب إليه يعزم عليه أن يولي المهلب الحرب فوجه إليه فقال أنا عليل و لا يمكنني الاختلاف فأمر بشر بحمل الدواوين إليه فجعل ينتخب فعزم عليه بشر بالخروج فاقتطع أكثر نخبته ثم عزم عليه ألا يقيم بعد ثالثة و قد أخذت الخوارج الأهواز و خلفوها وراء ظهورهم و صاروا بالفرات فخرج المهلب حتى صار إلى شهار طاق فأتاه شيخ من بني تميم فقال أصلح الله الأمير إن سني ما ترى فهبني لعيالي فقال على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد كيف تحثنا على الجهاد و أنت تحبس عنه أشرافنا و أهل النجدة منا ففعل الشيخ ذلك فقال له بشر و ما أنت و ذاك ثم أعطى المهلب رجلا ألف درهم على أن يأتي بشرا فيقول له أيها الأمير أعن المهلب بالشرطة و المقاتلة ففعل الرجل ذلك فقال له بشر و ما أنت و ذاك فقال نصيحة حضرتني للأمير و المسلمين و لا أعود إلى مثلها فأمده بشر بالشرطة و المقاتلة و كتب إلى خليفته على الكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف من كل ربع ألفين و يوجه بهم مددا للمهلب فلما أتاه الكتاب بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي يعقد له و اختار من كل ربع ألفين فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير بن عبد الله البجلي و على ربع تميم و همدان محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني و على ربع كندة محمد بن إسحاق بن الأشعث بن قيس الكندي و على ربع مذحج و أسد زحر بن قيس المذحجي فقدموا على بشر بن مروان فخلا بعبد الرحمن بن مخنف و قال له قد عرفت رأيي فيك و ثقتي بك فكن عند ظني بك و انظر إلى هذا المزوني فخالفه في أمره و أفسد عليه رأيه . فخرج عبد الرحمن و هو يقول ما أعجب ما طلب مني هذا الغلام يأمرني أن أصغر شأن شيخ من مشايخ أهلي و سيد من ساداتهم فلحق بالمهلب . فلما أحس الأزارقة بدنو المهلب منهم انكشفوا عن الفرات فأتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز فنفاهم عنها ثم اتبعهم إلى رامهرمز فهزمهم عنها فدخلوا فارس و أبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديدا تقدم فيه و هو ابن إحدى و عشرين سنة . فلما صار القوم إلى فارس وجه إليهم ابنه المغيرة فقال له عبد الرحمن بن صالح أيها الأمير إنه ليس لك برأي قتل هذه الأكلب و لئن و الله قتلتهم لتقعدن في بيتك و لكن طاولهم و كل بهم فقال ليس هذا من الوفاء فلم يلبث برامهرمز إلا شهرا حتى أتاه موت بشر بن مروان . فاضطرب الجند على ابن مخنف فوجه إلى إسحاق بن الأشعث و ابن زحر فاستحلفهما ألا يبرحا فحلفا له و لم يفيا و جعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا بسوق الأهواز و أراد أهل البصرة الانسلال من المهلب فخطبهم فقال إنكم لستم كأهل الكوفة إنما تذبون عن مصركم و أموالكم و حرمكم . فأقام منهم قوم و تسلل منهم قوم كثير . و كان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز يحلف بالله مجتهدا لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم و انصرفوا عصاة لا يظفر بأحد إلا قتله فجاءهم مولاه فجعل يقرأ عليهم الكتاب و لا يرى في وجوههم قبولا فقال إني أرى وجوها ما القبول من شأنها فقال له ابن زحر أيها العبد اقرأ ما في الكتاب و انصرف إلى صاحبك فإنك لا تدري ما في أنفسنا و جعلوا يستحثونه بقراءته ثم قصدوا قصد الكوفة فنزلوا النخيلة و كتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في دخول الكوفة فأبى فدخلوها بغير إذن . فلم يزل المهلب و من معه من قواده و ابن مخنف في عدد قليل فلم يلبثوا أن ولي الحجاج العراق . فدخل الكوفة قبل البصرة و ذلك في سنة خمس و سبعين فخطبهم الخطبة المشهورة و تهددهم ثم نزل فقال لوجوه أهلها ما كانت الولاة تفعل بالعصاة قالوا كانت تضرب و تحبس فقال و لكن ليس لهم عندي إلا السيف إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون و لو ساغت المعصية لأهلها ما قوتل عدو و لا جبي في ء و لا عز دين . ثم جلس لتوجيه الناس فقال قد أجلتكم ثلاثا و أقسم بالله لا يتخلف أحد من أصحاب ابن مخنف بعدها إلا قتلته ثم قال لصاحب حرسه و لصاحب شرطته إذا مضت ثلاثة أيام فاشحذا سيوفكما فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه فقال أصلح الله الأمير إن هذا أنفع لكم مني و هو أشد بني تميم أبدانا و أجمعهم سلاحا و أربطهم جأشا و أنا شيخ كبير عليل و استشهد جلساءه فقال له الحجاج إن عذرك لواضح و إن ضعفك لبين و لكني أكره أن يجترئ بك الناس علي و بعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان و أمر به فقتل فاحتمل الناس و إن أحدهم ليتبع بزاده و سلاحه ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي
- أقول لعبد الله يوم لقيتهأرى الأمر أمسى منصبا متشعبا
- تجهز فإما أن تزور ابن ضابئعميرا و إما أن تزور المهلبا
- هما خطتا خسف نجاؤك منهماركوبك حوليا من الثلج أشهبا
- فما إن أرى الحجاج يغمد سيفهمدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
- فأضحى و لو كانت خراسان دونه رآها مكان السوق أو هي أقربا
. و هرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج و قال
- أ قاتلي الحجاج إن لم أزر لهدراب و أترك عند هند فؤاديا
. في قصيدة مشهورة له . فخرج الناس عن الكوفة و أتى الحجاج البصرة فكان أشد عليهم إلحاحا و قد كان أتاهم خبره بالكوفة فتحمل الناس قبل قدومه و أتاه رجل من بني يشكر و كان شيخا أعور يجعل على عينه العوراء صوفة فكان يلقب ذا الكرسفة فقال أصلح الله الأمير إن بي فتقا و قد عذرني بشر بن مروان و قد رددت العطاء فقال إنك عندي لصادق ثم أمر به فضربت عنقه ففي ذلك يقول كعب الأشقري أو الفرزدق
- لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربةتقرقر منها بطن كل عريف
. و يروى عن أبي البئر قال إنا لنتغدى معه يوما إذ جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده فقال أصلح الله الأمير إن هذا عاص فقال له الرجل أنشدك الله أيها الأمير في دمي فو الله ما قبضت ديوانا قط و لا شهدت عسكرا قط و إني لحائك أخذت من تحت الحف فقال اضربوا عنقه فلما أحس بالسيف سجد فلحقه السيف و هو ساجد فأمسكنا عن الأكل فأقبل علينا و قال ما لي أراكم قد صفرت أيديكم و اصفرت وجوهكم و حد نظركم من قتل رجل واحد ألا إن العاصي يجمع خلالا يخل بمركزه و يعصي أميره و يغر المسلمين و هو أجير لهم و إنما يأخذ الأجرة لما يعمل و الوالي مخير فيه إن شاء قتل و إن شاء عفا . ثم كتب إلى المهلب أما بعد فإن بشرا استكره نفسه عليك و أراك غناه عنك و أنا أريك حاجتي إليك فأرني الجد في قتال عدوك و من خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله فإني قاتل من قبلي و من كان عندي ممن هرب عنك فأعلمني مكانه فإني أرى أن آخذ السمي بالسمي و الولي بالولي . فكتب إليه المهلب ليس قبلي إلا مطيع و إن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذنب و إذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب و إذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك فهب لي هؤلاء الذين سميتهم عصاة فإنهم فرسان أبطال أرجو أن يقتل الله بهم العدو و نادم على ذنبه . فلما رأى المهلب كثرة الناس عنده قال اليوم قوتل هذا العدو . و لما رأى ذلك قطري قال لأصحابه انهضوا بنا نريد السردن فنتحصن فيها فقال عبيدة بن هلال أو تأتي سابور فتأخذ منها ما نريد و تصير إلى كرمان فأتوا سابور و خرج المهلب في آثارهم فأتى أرجان و خاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن و ليست بمدينة و لكنها جبال محدقة منيعة فلم يصب بها أحدا فخرج فعسكر بكازرون و استعدوا لقتاله فخندق على نفسه و وجه إلى عبد الرحمن بن مخنف خندق على نفسك فوجه إليه خنادقنا سيوفنا فوجه المهلب إليه إني لا آمن عليك البيات فقال ابنه جعفر ذاك أهون علينا من ضرطة جمل فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال لم يصيبوا الرأي و لم يأخذوا بالوثيقة . فلما أصبح القوم عاودوه الحرب فبعث إلى ابن مخنف يستمده فأمده بجماعة جعل عليهم ابنه جعفرا فجاءوا و عليهم أقبية بيض جدد فأبلوا يومئذ حتى عرف مكانهم المهلب و أبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد . ثم أتى رئيس من الخوارج يقال له صالح بن مخراق و هو ينتخب قوما من جلة العسكر حتى بلغ أربعمائة فقال لابنه المغيرة ما أراه يعد هؤلاء إلا للبيات . و انكشفت الخوارج و الأمر للمهلب عليهم و قد كثر فيهم الجراح و القتل و قد كان الحجاج يتفقد العصاة و يوجه الرجال و كان يحبسهم نهارا و يفتح الحبس ليلا فيتسلل الرجال إلى ناحية المهلب و كان الحجاج لا يعلم فإذا رأى إسراعهم تمثل
- إن لها لسائقا عشنزراإذا وثبن وثبة تغشمرا
. ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه أما بعد فإنه قد بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج و تركت قتال العدو و إني وليتك و أنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي و عباد بن الحصين الحبطي و اخترتك و أنت من أهل عمان ثم رجل من الأزد فالقهم يوم كذا في مكان كذا و إلا أشرعت إليك صدر الرمح .
فشاور المهلب بنيه فقالوا أيها الأمير لا تغلظ عليه في الجواب . فكتب إليه ورد إلي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج و تركت قتال العدو و من عجز عن جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز و زعمت أنك وليتني و أنت ترى مكان عبد الله بن حكيم و عباد بن الحصين و لو وليتهما لكانا مستحقين لذلك لفضلهما و غنائهما و بطشهما و زعمت أنك اخترتني و أنا رجل من الأزد و لعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعتها ثلاث قبائل لم تستقر في واحدة منهن و زعمت أني إن لم ألقهم يوم كذا في مكان كذا أشرعت إلى صدر الرمح لو فعلت لقلبت لك ظهر المجن و السلام . قال ثم كانت الوقعة بينه و بين الخوارج عقيب هذا الكتاب . فلما انصرف الخوارج تلك الليلة قال لابنه المغيرة إني أخاف البيات على بني تميم فانهض إليهم فكن فيهم فأتاهم المغيرة فقال له الحريش بن هلال يا أبا حاتم أ يخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا قل له فليبت آمنا فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله . فلما انتصف الليل و قد رجع المغيرة إلى أبيه سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات إلى ناحية بني تميم و معه عبيدة بن هلال و هو يقول
- إني لمذك للشراة نارهاو مانع ممن أتاها دارها
و غاسل بالسيف عنها عارها
فوجد بني تميم أيقاظا متحارسين و خرج إليهم الحريش بن هلال و هو يقول
- وجدتمونا وقرا أنجادالا كشفا ميلا و لا أوغادا
. ثم حمل على الخوارج فرجعوا عنه فاتبعهم ثم صاح بهم إلى أين يا كلاب النار فقالوا إنما أعدت لك و لأصحابك فقال الحريش كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار ما دخلها مجوسي فيما بين سفوان و خراسان . ثم قال بعضهم لبعض نأتي عسكر ابن مخنف فإنه لا خندق عليه و قد بعث فرسانهم اليوم مع المهلب و قد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف و أصحابه إلا و قد خالطوهم في عسكرهم . و كان ابن مخنف شريفا و فيه يقول رجل من بني عامر لرجل يعاتبه و يضرب بابن مخنف المثل
- تروح و تغدو كل يوم معظماكأنك فينا مخنف و ابن مخنف
. فترجل عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم حتى قتل و قتل معه سبعون رجلا من القراء فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب و نفر من أصحاب ابن مسعود و بلغ الخبر المهلب و جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب فجاءهم مغيثا فقاتل حتى ارتث و وجه المهلب إليهم ابنه حبيبا فكشفهم ثم جاء المهلب حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف و أصحابه و صار جنده في جند المهلب فضمهم إلى ابنه حبيب فعيرهم البصريون و سموا جعفرا خضفة الجمل .
و قال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف
- تركت أصحابكم تدمى نحورهمو جئت تسعى إلينا خضفة الجمل
. فلام المهلب أهل البصرة و قال بئسما قلتم و الله ما فروا و لا جبنوا و لكنهم خالفوا أميرهم أ فلا تذكرون فراركم بدولاب عني و فراركم بدارس عن عثمان . و وجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم و كتب إليه إنك تحب بقاءهم لتأكل بهم فقال المهلب لأصحابه حركوهم فخرج فرسان من أصحابه فخرج إليهم من الخوارج جمع كثير فاقتتلوا إلى الليل فقال لهم الخوارج ويلكم أ ما تملون فقالوا لا حتى تملوا فقالوا فمن أنتم قالوا تميم فقالت الخوارج و نحن تميم أيضا فلما أمسوا افترقوا فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب و خرج إليهم من الخوارج عشرة و احتفر كل واحد منهم حفيرة و أثبت قدميه فيها كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره و قام مكانه حتى أعتموا فقال لهم الخوارج ارجعوا فقالوا بل ارجعوا أنتم قالوا لهم ويلكم من أنتم قالوا تميم قالوا و نحن تميم أيضا فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له مهيم قال رأيت أيها الأمير قوما لا يعين عليهم إلا الله . و كتب المهلب جواب الحجاج إني منتظر بهم إحدى ثلاث موتا ذريعا أو جوعا مضرا أو اختلافا من أهوائهم . و كان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد كان يتولى ذلك بنفسه و يستعين عليه بولده و بمن يحل محلهم في الثقة عنده . قال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب و كان في عسكره
- عدمتك يا مهلب من أميرأ ما تندى يمينك للفقير
- بدولاب أضعت دماء قومي و طرت على مواشكة درور
. فقال له المهلب ويحك و الله إني لاقيكم بنفسي و ولدي قال جعلني الله فداء الأمير فذاك الذي نكره منك ما كلنا يحب الموت قال ويحك و هل عنه من محيص قال لا و لكنا نكره التعجيل و أنت تقدم عليه إقداما قال المهلب ويلك أ ما سمعت قول الكلحبة اليربوعي
- فقلت لكأس ألجميها فإنمانزلنا الكثيب من زرود لنفزعا
فقال بلى قد سمعت و لكن قولي أحب إلي منه
- و لما وقفتم غدوة و عدوكمإلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري
- و طرت و لم أحفل ملامة جاهل يساقي المنايا بالردينية السمر
. فقال المهلب بئس حشو الكتيبة أنت و الله يا أبا حرملة إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك قال بل أقيم معك أيها الأمير فوهب له المهلب و أعطاه فقال يمدحه
- يرى حتما عليه أبو سعيدجلاد القوم في أولى النفير
- إذا نادى الشراة أبا سعيدمشى في رفل محكمة القتير
. قال و كان المهلب يقول ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع مكان بيهس بن صهيب فيقال له أيها الأمير بيهس ليس بشجاع فيقول أجل و لكنه سديد الرأي محكم العقل و ذو الرأي حذر سئول فأنا آمن أن يغتفل و لو كان مكانه ألف شجاع لخلت أنهم ينشامون حيث يحتاج إليهم . قال و مطرت السماء مطرا شديدا و هم بسابور و بين المهلب و بين الشراة عقبة فقال المهلب من يكفينا أمر هذه العقبة الليلة فلم يقم أحد فلبس المهلب سلاحه و قام إلى العقبة و اتبعه ابنه المغيرة فقال رجل من أصحابه دعانا الأمير إلى ضبط العقبة و الحظ في ذلك لنا فلم نطعه و لبس سلاحه و اتبعه جماعة من العسكر فصاروا إليه فإذا المهلب و المغيرة و لا ثالث لهما فقالوا انصرف أيها الأمير فنحن نكفيك إن شاء الله فلما أصبحوا إذا هم بالشراة على العقبة فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فرس فجعل يحمل و فرسه تزلق و يلقاه مدرك في جماعة معه حتى ردوهم عن العقبة فلما كان يوم النحر و المهلب على المنبر يخطب الناس إذ الشراة قد أكبوا فقال المهلب سبحان الله أ في مثل هذا اليوم يا مغيرة اكفنيهم فخرج إليهم المغيرة و أمامه سعد بن نجد القردوسي و كان سعد مقدما في شجاعته و كان الحجاج إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا فخرج أمام المغيرة و مع المغيرة جماعة من فرسان المهلب فالتقوا و أمام الخوارج غلام جامع السلاح مديد القامة كريه الوجه شديد الحملة صحيح الفروسية فأقبل يحمل على الناس و يرتجز فيقول
- نحن صبحناكم غداة النحربالخيل أمثال الوشيج تجري
. فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد فتجاولا ساعة ثم طعنه سعد فقتله و التقى الناس فصرع المغيرة يومئذ فحامى عليه سعد بن نجد و دينار السجستاني و جماعة من الفرسان حتى ركب و انكشف الناس عند سقطة المغيرة حتى صاروا إلى المهلب فقالوا قتل المغيرة فأتاه دينار السجستاني فأخبره بسلامته فأعتق كل مملوك كان بحضرته .قال و وجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم و كتب إليه أما بعد فإنك جبيت الخراج بالعلل و تحصنت بالخنادق و طاولت القوم و أنت أعز ناصرا و أكثر عددا و ما أظن بك مع هذا معصية و لا جبنا و لكنك اتخذتهم أكلا و كان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم فناجزهم و إلا أنكرتني و السلام . فقال المهلب للجراح يا أبا عقبة و الله ما تركت حيلة إلا احتلتها و لا مكيدة إلا أعملتها و ما العجب من إبطاء النصرة و تراخي الظفر و لكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره . ثم ناهضهم ثلاثة أيام يغاديهم القتال فلا يزالون كذلك إلى العصر و ينصرف أصحابه و بهم قرح و بالخوارج قرح و قتل فقال له الجراح قد أعذرت . فكتب المهلب إلى الحجاج أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم على أنك لا تظن بي معصية و لا جبنا و قد عاتبتني معاتبة الجبان و أوعدتني وعيد العاصي فسل الجراح و السلام . فقال الحجاج للجراح كيف رأيت أخاك قال و الله أيها الأمير ما رأيت مثله قط و لا ظننت أن أحدا يبقى على مثل ما هو عليه و لقد شهدت أصحابه أياما ثلاثة يغدون إلى الحرب ثم ينصرفون عنها و هم يتطاعنون بالرماح و يتجالدون بالسيوف و يتخابطون بالعمد ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئا رواح قوم تلك عادتهم و تجارتهم . فقال الحجاج لشد ما مدحته أبا عقبة فقال الحق أولى . و كانت ركب الناس قديما من الخشب فكان الرجل يضرب ركابه فينقطع فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد فأمر المهلب بضرب الركب من الحديد فهو أول من أمر بطبعها و في ذلك يقول عمران بن عصام العنزي
- ضربوا الدراهم في إمارتهمو ضربت للحدثان و الحرب
- حلقا ترى منها مرافقهم كمناكب الجمالة الجرب
. قال و كتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي من بني رياح بن يربوع و هو والي أصفهان يأمره بالمسير إلى المهلب و أن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف فكل بلد يدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه و أنت على أهل الكوفة فإذا دخلتم بلدا فتحه أهل الكوفة فأنت أمير الجماعة و المهلب على أهل البصرة . فقدم عتاب في إحدى جماديين من سنة ست و سبعين على المهلب و هو بسابور و هي من فتوح أهل البصرة فكان المهلب أمير الناس و عتاب على أصحاب ابن مخنف و الخوارج بأيديهم كرمان و هم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي .قال و وجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه لمناجزة القوم أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن من بني عامر بن صعصعة و الآخر من آل أبي عقيل من رهط الحجاج فضم المهلب زيادا إلى ابنه حبيب و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و قال لهما خذا يزيد و حبيبا بالمناجزة و غادوا الخوارج فاقتتلوا أشد قتال فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري و فقد الثقفي ثم باكروهم في اليوم الثاني و قد وجد الثقفي فدعا به المهلب و دعا بالغداء فجعل النبل يقع قريبا منهم و يتجاوزهم و الثقفي يعجب من أمر المهلب فقال الصلتان العبدي
- ألا يا أصبحاني قبل عوق العوائقو قبل اختراط القوم مثل العقائق
- غداة حبيب في الحديد يقودنايخوض المنايا في ظلال الخوافق
- حرون إذا ما الحرب طار شرارهاو هاج عجاج النقع فوق المفارق
- فمن مبلغ الحجاج أن أمينه زيادا أطاحته رماح الأزارق
. فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر حتى ظهر شبيب بن يزيد فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجهه إلى شبيب و كتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند فرزق أهل البصرة و أبى أن يرزق أهل الكوفة فقال له عتاب ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة فأبى فجرت بينهما غلظة فقال له عتاب قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جبانا و كان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلا فقال له المهلب يا ابن اللخناء فقال له عتاب لكنك معم مخول .فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف و وثب نعيم بن هبيرة ابن أخي مصقلة بن هبيرة على عتاب فشتمه و قد كان المهلب كارها للحلف فلما رأى نصرة بكر بن وائل له سره و اغتبط به فلم يزل يؤكده و غضبت تميم البصرة لعتاب و غضبت أزد الكوفة للمهلب فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه و بين عتاب و قال لعتاب يا أبا ورقاء إن الأمير يصير إلى كل ما تحب و سأل أباه أن يرزق أهل الكوفة ففعل فصلح الأمر فكانت تميم قاطبة و عتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب و كان عتاب يقول إني لأعرف فضله على أبيه . و قال رجل من الأزد من بني أياد بن سود
- ألا أبلغ أبا ورقاء عنافلو لا أننا كنا غضابا
- على الشيخ المهلب إذ جفاناللاقت خيلكم منا ضرابا
. قال و كان المهلب يقول لبنيه لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى يبدءوكم و يبغوا عليكم فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم . فشخص عتاب إلى الحجاج في سنة سبع و سبعين فوجهه إلى شبيب فقتله شبيب . و أقام المهلب على حربهم فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا اختلفوا و افترقت كلمتهم و كان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة كان يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب فرفع ذلك إلى المهلب فقال أنا أكفيكموه إن شاء الله فوجه رجلا من أصحابه بكتاب و ألف درهم إلى عسكر قطري فقال له ألق هذا الكتاب في العسكر و الدراهم و احذر على نفسك و كان الحداد يقال له أبزى فمضى الرجل و كان في الكتاب أما بعد فإن نصالك قد وصلت إلي و قد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها و زدنا من هذه النصال .
فوقع الكتاب إلى قطري فدعا بأبزى فقال ما هذا الكتاب قال لا أدري قال فما هذه الدراهم قال لا أعلم فأمر به فقتل فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له أ قتلت رجلا على غير ثقة و لا تبين قال قطري فما حال هذه الألف قال يجوز أن يكون أمرها كذبا و يجوز أن يكون حقا فقال قطري إن قتل رجل في صلاح الناس غير منكر و للإمام أن يحكم بما رآه صلاحا و ليس للرعية أن تعترض عليه فتنكر له عبد ربه في جماعة معه و لم يفارقوه . و بلغ ذلك المهلب فدس إليهم رجلا نصرانيا جعل له جعلا يرغب في مثله و قال له إذا رأيت قطريا فاسجد له فإذا نهاك فقل إنما سجدت لك ففعل ذلك النصراني فقال قطري إنما السجود لله تعالى فقال ما سجدت إلا لك فقال رجل من الخوارج إنه قد عبدك من دون الله و تلا إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ فقال قطري إن النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضر عيسى ذلك شيئا فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله فأنكر قطري ذلك عليه و أنكر قوم من الخوارج إنكاره .
و بلغ المهلب ذلك فوجه إليهم رجلا يسألهم فأتاهم الرجل فقال أ رأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم فمات أحدهما في الطريق و بلغ الآخر إليكم فامتحنتموه فلم يجز المحنة ما تقولون فيهما فقال بعضهم أما الميت فمؤمن من أهل الجنة و أما الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيز المحنة . و قال قوم آخرون بل هما كافران حتى يجيز المحنة فكثر الاختلاف . و خرج قطري إلى حدود إصطخر فأقام شهرا و القوم في اختلافهم ثم أقبل فقال لهم صالح بن مخراق يا قوم إنكم أقررتم عين عدوكم و أطمعتموه فيكم بما يظهر من خلافكم فعودوا إلى سلامة القلوب و اجتماع الكلمة . و خرج عمرو القنا و هو من بني سعد بن زيد مناة بن تميم فنادى يا أيها المحلون هل لكم في الطراد فقد طال عهدي به ثم قال
- أ لم تر أنا مذ ثلاثين ليلةجديب و أعداء الكتاب على خفض
. فتهايج القوم و أسرع بعضهم إلى بعض و كانت الوقعة و أبلى يومئذ المغيرة بن المهلب و صار في وسط الأزارقة فجعلت الرماح تحطه و ترفعه و اعتورت رأسه السيوف و عليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه فلم يعمل السيف فيه شيئا و استنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع و كان الذي صرعه عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل و كان يقول يومئذ
- أنا ابن خير قومه هلالشيخ على دين أبي بلال
و ذاك ديني آخر الليالي
. فقال رجل للمغيرة كنا نعجب كيف تصرع و الآن نعجب كيف تنجو و قال المهلب لبنيه إن سرحكم لغار و لست آمنهم عليه أ فوكلتم به أحدا قالوا لا فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت فقال إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح فشق على المهلب و قال كل أمر لا إليه بنفسي فهو ضائع و تذمر عليهم فقال له بشر بن المغيرة أرح نفسك فإن كنت إنما تريد مثلك فو الله ما يعدل خيرنا شسع نعلك فقال خذوا عليهم الطريق فبادر بشر بن المغيرة و مدرك و المفضل ابنا المهلب فسبق بشر إلى الطريق فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح و هو يقول
- نحن قمعناكم بشل السرحو قد نكانا القرح بعد القرح
. و لحقه المفضل و مدرك فصاحا برجل من طيئ اكفنا الأسود فاعتوره الطائي و بشر بن المغيرة فقتلاه و أسرا رجلا من الأزارقة من همدان و استردا السرح . قال و كان عياش الكندي شجاعا بئيسا فأبلي يومئذ فلما مات على فراشه بعد ذلك قال المهلب لا وألت نفس الجبان بعد عياش و قال المهلب ما رأيت تالله كهؤلاء القوم كلما انتقص منهم يزيد فيهم . و وجه الحجاج رجلين إلى المهلب يستحثانه بالقتال أحدهما من كلب و الآخر من سليم فقال المهلب متمثلا بشعر لأوس بن حجر
- و مستعجب مما يرى من أناتناو لو زبنته الحرب لم يترمرم
. فقال المهلب ليزيد ابنه حرك القوم فحركهم فتهايجوا و ذلك في قرية من قرى إصطخر فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب و طعنه فشك فخذه بالسرج فقال المهلب للسلمي و الكلبي كيف يقاتل قوم هذا طعنهم و حمل يزيد عليهم و قد جاء الرقاد و هو من فرسان المهلب و هو أحد بني مالك بن ربيعة على فرس له أدهم و به نيف و عشرون جراحة و قد وضع عليها القطن فلما حمل يزيد ولى الجمع و حماهم فارسان منهم فقال يزيد لقيس الخشني مولى العتيك من لهذين قال أنا فحمل عليهما فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه و حمل عليه الآخر فتعانقا فسقطا جميعا إلى الأرض فصاح قيس الخشني اقتلونا جميعا فحملت خيل هؤلاء و خيل هؤلاء فحجزوا بينهما فإذا معانق قيس امرأة فقام قيس مستحييا فقال له يزيد يا أبا بشر أما أنت فبارزتها على أنها رجل فقال أ رأيت لو قتلت أ ما كان يقال قتلته امرأة و أبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي فقال غلام له يقال له خلاج و الله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم فاستلب مما هناك جاريتين فقال له مولاه ابن المنجب و كيف تمنيت ويحك اثنتين فقال لأعطيك إحداهما و آخذ الأخرى فقال ابن المنجب
- أ خلاج إنك لن تعانق طفلةشرقا بها الجادي كالتمثال
- حتى تلاقي في الكتيبة معلماعمرو القنا و عبيدة بن هلال
- و ترى المقعطر في الفوارس مقدمافي عصبة نشطوا على الضلال
- أو أن يعلمك المهلب غزوهو ترى جبالا قد دنت لجبال
. قال و كان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا و كان لحانة كان إذا أحس بالخوارج ينادي يا خيل الله اركبي و إليه يشير القائل
- و إذا طلبت إلى المهلب حاجةعرضت توابع دونه و عبيد
- العبد كردس و بدر مثله و علاج باب الأحمرين شديد
. قال و كان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه و كانت بينه و بين المهلب جفوة فقال لبنيه يا بني عم إني قد قصرت عن شكاة العاتب و جاوزت شكاة المستعتب حتى كأني لا موصول و لا محروم فاجعلوا لي فرجة أعيش بها و هبوني امرأ رجوتم نصره أو خفتم لسانه فرجعوا له و وصلوه و كلموا فيه المهلب فوصله . و ولى الحجاج كردما فارس و وجهه إليها و الحرب قائمة فقال رجل من أصحاب المهلب
- و لو رآها كردم لكردماكردمة العير أحس الضيغما
. فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر و دارابجرد لأرزاق الجند ففعل و قد كان قطري هدم مدينة إصطخر لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره و أراد مثل ذلك بمدينة فسا فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها فواقعه وجه المهلب فهزمه فنفاه إلى كرمان و اتبعه المغيرة ابنه و قد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب و أقسم عليه أن يتقلده فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده فرجع به المغيرة إليه و قد دماه فسر المهلب و قال ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي و قال له اكفني جباية خراج هاتين الكورتين و ضم إليه الرقاد فجعلا يجبيان و لا يعطيان الجند شيئا ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له
- و لو علم ابن يوسف ما نلاقيمن الآفات و الكرب الشداد
- لفاضت عينه جزعا عليناو أصلح ما استطاع من الفساد
- ألا قل للأمير جزيت خيراأرحنا من مغيرة و الرقاد
- فما رزق الجنود بهم قفيزاو قد ساست مطامير الحصاد
. أي وقع فيها السوس . قال ثم حاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت و اتبعهم و نزل قريبا منهم . ثم اختلفت كلمة الخوارج و كان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن فأتى قطريا فذكروا ذلك له فقال لهم إن عبيدة من الدين بحيث علمتم و من الجهاد بحيث رأيتم فقالوا إنا لا نقار على الفاحشة فقال انصرفوا ثم بعث إلى عبيدة فأخبره و قال له أنا لا أقار على الفاحشة فقال بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى قال إني جامع بينك و بينهم فلا تخضع خضوع المذنب و لا تتطاول تطاول البري ء فجمع بينهم فتكلموا فقام عبيدة فقال بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ... حتى تلا الآيات فبكوا و قاموا إليه فاعتنقوه و قالوا استغفر لنا ففعل فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة و الله لقد خدعكم فتابع عبد ربه منهم ناس كثير و لم يظهروا و لم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا . و كان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين فظهرت له أموال كثيرة فأتوا قطريا فقالوا إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا فقال قطري إني استعملته و له ضياع و تجارات فأوغر ذلك صدورهم و بلغ المهلب ذلك فقال اختلافهم أشد عليهم مني ثم قالوا لقطري أ لا تخرج بنا إلى عدونا فقال لا ثم خرج فقالوا قد كذب و ارتد فاتبعوه يوما فأحس بالشر و دخل دارا مع جماعة من أصحابه فاجتمعوا عليه و صاحوا اخرج إلينا يا دابة فخرج إليهم فقال أ رجعتم بعدي كفارا قالوا أ و لست دابة قال الله تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها و لكنك قد كفرت بقولك أنا قد رجعنا كفارا فتب إلى الله فشاور عبيدة في ذلك فقال له إن تبت لم يقبلوا منك فقل إني استفهمت فقلت أ رجعتم بعدي كفارا فقال لهم ذلك فقبلوا منه فرجع إلى منزله عبد ربه الصغير
و منهم عبد ربه الصغير أحد موالي قيس بن ثعلبة . لما اختلفت الخوارج على قطري بايعه منهم جمع كثير و كان قطري قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدي و يخلع نفسه فجعله أمير الجيش في الحرب قبل أن يعهد إليه بالخلافة فكرهه القوم و أبوه و قال صالح بن مخراق عنهم و عن نفسه ابغ لنا غير المقعطر فقال لهم قطري إني أرى طول العهد قد غيركم و أنتم بصدد عدو فاتقوا الله و أقبلوا على شأنكم و استعدوا للقاء القوم فقال صالح إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان أن يعزل سعيد بن العاصي عنهم ففعل و يجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت فأبى قطري أن يعزل المقعطر فقال له القوم فإنا قد خلعناك و بايعنا عبد ربه الصغير و كان عبد ربه هذا معلم كتاب و كان عبد ربه الكبير بائع رمان و كلاهما من موالي قيس بن ثعلبة فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم و جلهم الموالي و العجم و كان منهم هناك ثمانية آلاف و هم القراء ثم ندم صالح بن مخراق و قال لقطري هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من المقعطر و سر بنا إلى عدونا و عدوك فأبى قطري إلا للمقعطر و حمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق فطعنه فأنفذه و أوجره الرمح . فنشبت الحرب بينهم فتهايجوا ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا فأجلت الحرب عن ألفي قتيل فلما كان الغد عاودوا الحرب فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة فأقام عبد ربه بها و صار قطري خارجا من مدينة جيرفت بإزائهم فقال له عبيدة بن هلال يا أمير المؤمنين إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق على نفسك فخندق على باب المدينة و جعل يناوشهم و ارتحل المهلب و كان منهم على ليلة و رسول الحجاج معه يستحثه فقال له أصلح الله الأمير عاجلهم قبل أن يصطلحوا فقال المهلب إنهم لن يصطلحوا و لكن دعهم فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها ثم دس رجلا من أصحابه فقال ائت عسكر قطري فقل إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي حتى نزل منزله هذا فظهر خطؤه أ يقيم بين المهلب و عبد ربه يغاديه القتال هذا و يراوحه هذا فنمي الكلام إلى قطري فقال صدق تنحوا بنا عن هذا الموضع فإن اتبعنا المهلب قاتلناه و إن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون . فقال له الصلت بن مرة يا أمير المؤمنين إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم و إن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا ثم قال
- قل للمحلين قد قرت عيونكمبفرقة القوم و البغضاء و الهرب
- كنا أناسا على دين فغيرناطول الجدال و خلط الجد باللعب
- ما كان أغنى رجالا قل جيشهمعن الجدال و أغناهم عن الخطب
- إني لأهونكم في الأرض مضطرباما لي سوى فرسي و الرمح من نشب
. ثم قال أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه . و ارتحل قطري و بلغ ذلك المهلب فقال لهزيم بن أبي طحمة المجاشعي إني لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه اذهب فتعرف الخبر فمضى الهزيم في اثني عشر فارسا فلم ير في المعسكر إلا عبدا و علجا مريضين فسألهما عن قطري و أصحابه فقالامضوا يرتادون غير هذا المنزل فرجع هزيم إلى المهلب فأخبره فارتحل حتى نزل خندق قطري فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة و أحيانا بالعشي فقال رجل من سدوس يقال له المعتق و كان فارسا
- ليت الحرائر بالعراق شهدنناو رأيننا بالسفح ذي الأجبال
- فنكحن أهل الجد من فرسانناو الضاربين جماجم الأبطال
. و وجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطري و أنه مقيم على عبد ربه و يسأله أن يوجه في أثر قطري رجلا جلدا فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب . أما بعد فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك و ذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح و تنسى القتلى و تحمل الكال ثم تلقاهم فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل و ألم الجراح و لو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم و القرن قد قصم و لعمري ما أنت و القوم سواء لأن من ورائك رجالا و أمامك أموالا و ليس للقوم إلا ما نعهد و لا يدرك الوجيف بالدبيب و لا الظفر بالتعذير . فلما ورد عليه الكتاب قال لأصحابه يا قوم إن الله قد أراحكم من أمور أربعة قطري بن الفجاءة و صالح بن مخراق و عبيدة بن هلال و سعد بن الطلائع و إنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار الشيطان تقتلونهم إن شاء الله تعالى .فكانوا يتغادون القتال و يتراوحون فتصيبهم الجراح ثم يتحاجزون فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه يضحك بعضهم إلى بعض فقال عبيد بن موهب للمهلب قد بان عذرك فاكتب فإني مخبر الأمير . فكتب إلى الحجاج أما بعد فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا و لم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين ذكرت إني أجم القوم و لا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب و يحتال فيه المغلوب و ذكرت أن في الجمام ما ينسي القتلى و تبرأ منه الجراح هيهات أن ينسى ما بيننا و بينهم تأبى ذلك قتلى لم تجن و قروح لم تتقرب و نحن و القوم على حالة و هم يرقبون منا حالات إن طمعوا حاربوا و إن ملوا وقفوا و إن يئسوا انصرفوا و علينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا و نتحرز إذا وقفوا و نطلب إذا هربوا فإن تركتني و الرأي كان القرن مقصوما و الداء بإذن الله محسوما و إن أعجلتني لم أطعك و لم أعصك و جعلت وجهي إلى بابك و أعوذ بالله من سخط الله و مقت الناس . قال و لما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره و المسلم إذا صح توحيده عز بربه و قد أراحكم الله من غلظة قطري و عجلة صالح بن مخراق و نخوته و اختلاط عبيدة بن هلال و وكلكم إلى بصائركم فالقوا عدوكم بصبر و نية و انتقلوا عن منزلكم هذا فمن قتل منكم قتل شهيدا و من سلم من القتل فهو المحروم .قال و ورد في ذلك الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي من عند الحجاج يستحثه بالقتال و معه أمينان فقال للمهلب خالفت وصية الأمير و آثرت المدافعة و المطاولة فقال له المهلب و الله ما تركت جهدا . فلما كان العشي خرجت الأزارقة و قد حملوا حريمهم و أموالهم و خف متاعهم لينتقلوا فقال المهلب لأصحابه الزموا مصافكم و أشرعوا رماحكم و دعوهم و الذهاب فقال له عبيدة بن أبي ربيعة هذا لعمري أيسر عليك فغضب و قال للناس ردوهم عن وجههم و قال لبنيه تفرقوا في الناس و قال لعبيدة بن أبي ربيعة كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ و قال لأحد الأمينين كن مع المغيرة و لا ترخص له في الفتور . فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عقرت الخيل و صرع الفرسان و قتلت الرجالة و جعلت الخوارج تقاتل عن القدح يؤخذ منها و السوط و العلف و الحشيش أشد قتال . و سقط رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح و القتل و ذلك مع المغرب و المرادي يرتجز و يقول
- الليل ليل فيه ويل ويلقد سال بالقوم الشراة السيل
إن جاز للأعداء فينا قول
فلما عظم الخطب في ذلك الرمح بعث المهلب إلى المغيرة خل لهم عن الرمح عليهم لعنة الله فخلوا لهم عنه و مضت الخوارج فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت فدخلها المهلب و أمر بجمع ما كان لهم من متاع و ما خلفوه من دقيق و جثم عليه و هو و الثقفي و الأمينان ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء و عين لا يشرب منها أحد إلا قوي يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها و هناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و أحد الأمينين إلى المغيرة فاقتتل القوم إلى نصف النهار . و قال المهلب لأبي علقمة العبدي و كان شجاعا و كان عاتيا هازلا أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد و قل لهم فليعيرونا جماجمهم ساعة فقال أيها الأمير إن جماجمهم ليست بفخار فتعار و لا أعناقهم كرادي فتنبت . و قال لحبيب بن أوس كر على القوم فلم يفعل و قال
- يقول لي الأمير بغير علمتقدم حين جد به المراس
- فما لي إن أطعتك من حياةو ما لي غير هذا الرأس رأس
. و قال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة احمل فقال لا إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك فقال قد زوجتك فحمل على الخوارج فكشفهم و طعن فيهم و قال
- ليت من يشتري الحياة بمالملكة كان عندنا فيرانا
- نصل الكر عند ذاك بطعنإن للموت عندنا ألوانا
. قوله ملكة أي تزويجا و نكاحا . قال ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج فالتفت المهلب فقال للمغيرة ابنه ما فعل الأمين الذي كان معك قال قتل و هرب الثقفي فقال ليزيد ما فعل عبيد بن أبي ربيعة قال لم أره منذ كانت الجولة فقال الأمين الآخر للمغيرة أنت قتلت صاحبي فلما كان العشي رجع الثقفي فقال رجل من بني عامر بن صعصعة
- ما زلت يا ثقفي تخطب بينناو تغمنا بوصية الحجاج
- حتى إذا ما الموت أقبل زاخراو سقى لنا صرفا بغير مزاج
- وليت يا ثقفي غير مناظرتنساب بين أحزة و فجاج
- ليست مقارعة الكماة لدى الوغى شرب المدامة في إناء زجاج
. فقال المهلب للأمين الآخر ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم فقال ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي فضحك المهلب و قال ذاك إليك و لم يكن للقوم خنادق فكان كل حذرا من صاحبه غير أن الطعام و العدة مع المهلب و هو في زهاء ثلاثين ألفا فلما أصبح أشرف على واد فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم و هو ينشد
- و إني لأعفي ذا الخمار و صنعتيإذا راح أطواء بني الأصاغر
- أخادعهم عنه ليغبق دونهمو أعلم غير الظن أني مغاور
- كأني و أبدان السلاح عشيةيمر بنا في بطن فيحان طائر
. فقال له أ تميمي أنت قال نعم قال أ حنظلي قال نعم قال أ يربوعي قال نعم قال أ من آل نويرة قال نعم أنا ولد مالك بن نويرة قال قد عرفتك بالشعر . قال أبو العباس و ذو الخمار فرس مالك بن نويرة . قال فمكثوا أياما يتحاربون و دوابهم مسرجة و لا خنادق لهم حتى ضعف الفريقان فلما كان الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه جمع أصحابه فقال يا معشر المهاجرين إن قطريا و عبيدة هربا طلبا للبقاء و لا سبيل إلى البقاء فالقوا عدوكم غدا فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت فتلقوا الرماح بنحوركم و السيوف بوجوهكم و هبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة . فلما أصبحوا غادوا المهلب فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله و قال رجل من الأزد من أصحاب المهلب من يبايعني على الموت فبايعه أربعون رجلا من الأزد فصرع بعضهم و قتل بعضهم و جرح بعضهم .
و قال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب احملوا فقال المهلب أعرابي مجنون و كان من أهل نجران فحمل وحده فاخترق القوم حتى خرج من ناحية أخرى ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى و تهايج الناس فترجلت الخوارج و عقروا دوابهم فناداهم عمرو القنا و لم يترجل هو و لا أصحابه و هم زهاء أربعمائة فقال موتوا على ظهور دوابكم كراما و لا تعقروها فقالوا إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار فاقتتلوا و نادى المهلب بأصحابه الأرض الأرض و قال لبنيه تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم و نادت الخوارج ألا إن العيال لمن غلب فصبر بنو المهلب و قاتل يزيد بين يدي أبيه قتالا شديدا أبلى فيه فقال له أبوه يا بني إني أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر و ما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب . و كسرت الخوارج أجفان سيوفها و تجاولوا فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا . فهرب عمرو القنا و أصحابه و استأمن قوم و أجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل و جريح من الخوارج و مأسور و أمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته و ظفر بعسكرهم فحوى ما فيه ثم انصرف إلى جيرفت فقال الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض و الدعة فما كان عيشنا ذلك العيش . ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره و لم يعرفهم فقال ما أشد عادة السلاح ناولني درعي فلبسها ثم قال خذوا هؤلاء فلما صيرهم إليه قال ما أنتم قالوا جئنا لنطلب غرتك للفتك بك فأمر بهم فقتلوا طرف من أخبار المهلب و بينه
و وجه كعب بن معدان الأشقري و مرة بن بليد الأزدي فوردا على الحجاج فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده
يا حفص إني عداني عنكم السفر
. فقال الحجاج أ شاعر أم خطيب قال شاعر فأنشده القصيدة فأقبل عليه الحجاج و قال خبرني عن بني المهلب قال المغيرة سيدهم و فارسهم و كفى بيزيد فارسا شجاعا و جوادهم و سخيهم قبيصة و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك و عبد الملك سم ناقع و حبيب موت ذعاف و محمد ليث غاب و كفاك بالفضل نجدة فقال له فكيف خلفت جماعة الناس قال خلفتهم بخير قد أدركوا ما أملوا و أمنوا ما خافوا قال فكيف كان بنو المهلب فيهم قال كانوا حماة السرح فإذا أليلوا ففرسان البيات قال فأيهم كان أنجد قال كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها قال فكيف كنتم أنتم و عدوكم قال كنا إذا أخذنا عفونا و إذا أخذوا يئسنا منهم و إذا اجتهدنا و اجتهدوا طمعنا فيهم قال الحجاج إن العاقبة للمتقين فكيف أفلتكم قطري قال كدناه و ظن أن قد كادنا بأن صرنا منه إلى التي نحب قال فهلا اتبعتموه قال كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل قال فكيف كان المهلب لكم و كنتم له قال كان لنا منه شفقة الوالد و له منا بر الولد قال فكيف كان اغتباط الناس به قال نشأ فيهم الأمن و شملهم النفل قال أ كنت أعددت لي هذا الجواب قال لا يعلم الغيب إلا الله قال هكذا و الله تكون الرجال المهلب كان أعلم بذلك حيث بعثك . هذه رواية أبي العباس . و روى أبو الفرج في الأغاني أن كعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج أنشده قصيدته التي أولها
- يا حفص إني عداني عنكم السفرو قد سهرت و آذى عيني السهر
. يذكر فيها حروب المهلب مع الخوارج و يصف وقائعه فيهم في بلد و هي طويلة و من جملتها
- كنا نهون قبل اليوم شأنهمحتى تفاقم أمر كان يحتقر
- لما وهنا و قد حلوا بساحتناو استنفر الناس تارات فما نفروا
- نادى امرؤ لا خلاف في عشيرتهعنه و ليس به عن مثله قصر
- خبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوابكازرون فما عزوا و لا نصروا
- باتت كتائبنا تردي مسمومةحول المهلب حتى نور القمر
- هناك ولوا خزايا بعد ما هزمواو حال دونهم الأنهار و الجدر
- تأبى علينا حزازات النفوس فمانبقي عليهم و لا يبقون إن قدروا
. فضحك الحجاج و قال إنك لمنصف يا كعب ثم قال له كيف كانت حالكم مع عدوكم قال كنا إذا لقيناهم بعفونا و عفوهم يئسنا منهم و إذا لقيناهم بجدنا وجدهم طمعنا فيهم قال فكيف كان بنو المهلب قال حماة الحريم نهارا و فرسان الليل تيقظا قال فأين السماع من العيان قال السماع دون العيان قال صفهم لي رجلا رجلا قال المغيرة فارسهم و سيدهم نار ذاكية و صعدة عالية و كفى بيزيد فارسا شجاعا ليث غاب و بحر جم العباب و جوادهم قبيصة ليث المغار و حامي الذمار و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك و كيف لا يفر من مدرك و كيف لا يفر من الموت الحاضر و الأسد الخادر و عبد الملك سم ناقع و سيف قاطع و حبيب الموت الذعاف طود شامخ و بحر باذح و أبو عيينة البطل الهمام و السيف الحسام و كفاك بالمفضل نجدة ليث هدار و بحر مواز و محمد ليث غاب و حسام ضراب قال فأيهم أفضل قال هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها قال فكيف جماعة الناس قال على أحسن حال أرضاهم العدل و أغناهم النفل قال فكيف رضاهم بالمهلب قال أحسن رضا لا يعدمون منه إشفاق الوالد و لا يعدم منهم بر الولد و ذكر تمام الحديث . و قال إن الحجاج أمر له بعشرين ألف درهم و حمله على فرس و أوفده على عبد الملك فأمر له بعشرين ألفا أخرى . قال أبو الفرج و كعب الأشقري من شعراء المهلب و مادحيه و هو شاعر مجيد قال عبد الملك بن مروان للشعراء تشبهونني مرة بالأسد و مرة بالبازي ألا قلتم كما قال كعب الأشقري للمهلب و ولده
- براك الله حين براك بحراو فجر منك أنهارا غزارا
- بنوك السابقون إلى المعاليإذا ما أعظم الناس الخطارا
- كأنهم نجوم حول بدرتكمل إذ تكمل فاستدارا
- ملوك ينزلون بكل ثغرإذا ما الهام يوم الروع طارا
- رزان في الخطوب ترى عليهم من الشيخ الشمائل و النجارا
- نجوم يهتدى بهم إذا ماأخو الغمرات في الظلماء حارا
. قال أبو الفرج و هذا الشعر من قصيدة لكعب يمدح بها المهلب و يذكر الخوارج و منها
- سلوا أهل الأباطح من قريشعن المجد المؤثل أين صارا
- لقوم الأزد في الغمرات أمضىو أوفى ذمة و أعز جارا
- هم قادوا الجياد على وجاهامن الأمصار يقذفن المهارا
- إلى كرمان يحملن المنايابكل ثنية يوقدن نارا
- شوازب ما أصبنا الثار حتى رددناها مكلمة مرارا
- غداة تركن مصرع عبد ربنثرن عليه من رهج غبارا
- و يوم الزحف بالأهواز ظلنانروي منهم الأسل الحرارا
- فقرت أعين كانت حزيناقليلا نومها إلا غرارا
- و لو لا الشيخ بالمصرين ينفي عدوهم لقد نزلوا الديارا
- و لكن قارع الأبطال حتىأصابوا الأمن و احتلوا القرارا
- إذا وهنوا و حل بهم عظيميدق العظم كان لهم جبارا
- و مبهمة يحيد الناس عنهاتشب الموت شد لها إزارا
- شهاب تنجلي الظلماء عنهيرى في كل مظلمة منارا
- براك الله حين براك بحراو فجر منك أنهارا غزارا
. الأبيات المتقدمة . قال أبو الفرج و حدثني محمد بن خلف وكيع بإسناد ذكره أن الحجاج لما كتب إلى المهلب يأمره بمناجزة الخوارج حينئذ و يستبطئه و يضعفه و يعجزه من تأخيره أمرهم و مطاولته لهم قال المهلب لرسوله قل له إنما البلاء أن يكون الأمر لمن يملكه لا لمن يعرفه فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم على أن أدبرها كما أرى فإذا أمكنتني فرصة انتهزتها و إن لم تمكني توقفت فأنا أدبر ذلك بما يصلحه و إن أردت أن أعمل برأيك و أنا حاضر و أنت غائب فإن كان صوابا فلك و إن كان خطأ فعلي فابعث من رأيت مكاني و كتب من فوره بذلك إلى عبد الملك فكتب عبد الملك إلى الحجاج لا تعارض المهلب فيما يراه و لا تعجله و دعه يدبر أمره . قال و قام كعب الأشقري إلى المهلب فأنشده بحضرة رسول الحجاج
- إن ابن يوسف غره من أمركمخفض المقام بجانب الأمصار
- لو شهد الصفين حيث تلاقياضاقت عليه رحيبة الأقطار
- من أرض سابور الجنود و خيلنامثل القداح بريتها بشفار
- من كل صنديد يرى بلبانهوقع الظبات مع القنا الخطار
- لرأى معاودة الرباع غنيمةأزمان كان محالف الإقتار
- فدع الحروب لشيبها و شبابهاو عليك كل غريرة معطار
. فبلغت أبياته الحجاج فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه فأعلم المهلب كعبا بذلك و أوفده إلى عبد الملك من ليلته و كتب إليه يستوهبه منه فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب فاستنطقه فأعجبه و أوفده إلى الحجاج و كتب إليه يقسم عليه أن يصفح و يعفو عما بلغه من شعره فلما دخل قال إيه يا كعب
لرأي معاودة الرباع غنيمة
. فقال أيها الأمير و الله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب و ما أوردناه المهلب من خطرها أن أنجو منها و أكون حجاما أو حائكا قال أولى لك لو لا قسم أمير المؤمنين ما نفعك ما تقول الحق بصاحبك و رده إلى المهلب . قال أبو العباس و كان كتاب المهلب إلى الحجاج الذي بشره فيه بالظفر و النصر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما سواه الحاكم بألا ينقطع المزيد من فضله حتى ينقطع الشكر من عباده أما بعد فقد كان من أمرنا ما قد بلغك و كنا نحن و عدونا على حالين مختلفين يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا و يسوءهم منا أكثر مما يسرهم على اشتداد شوكتهم فقد كان علا أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة و نوم به الرضيع فانتهزت الفرصة منهم في وقت إمكانها و أدنيت السواد من السواد حتى تعارفت الوجوه فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين . فكتب إليه الحجاج أما بعد فقد فعل الله بالمسلمين خيرا و أراحهم من بأس الجلاد و ثقل الجهاد و لقد كنت أعلم بما قبلك فالحمد لله رب العالمين فإذا ورد عليك كتابي فأقسم في المجاهدين فيئهم و نفل الناس على قدر بلائهم و فضل من رأيت تفضيله و إن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلا تقوم بإزائهم و استعمل على كرمان من رأيت و ول الخيل شهما من ولدك و لا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي و عجل القدوم إن شاء الله . فولى المهلب يزيد ابنه كرمان و قال له يا بني إنك اليوم لست كما كنت إنما لك من كرمان ما فضل عن الحجاج و لن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك فأحسن إلى من تبعك و إن أنكرت من إنسان شيئا فوجه إلي و تفضل على قومك إن شاء الله .
ثم قدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه و أظهر بره و إكرامه و قال يا أهل العراق أنتم عبيد قن للمهلب ثم قال أنت و الله كما لقيط
- فقلدوا أمركم لله دركمرحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
- لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه هم يكاد حشاه يقصم الضلعا
- لا مترفا إن رخاء العيش ساعدهو لا إذا عض مكروه به خشعا
- ما زال يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبعا طورا و متبعا
- حتى استمرت على شرر مريرتهمستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا
. و روى أنه قام إليه رجل فقال أصلح الله الأمير و الله لكأني أسمع الساعة قطريا و هو يقول لأصحابه المهلب و الله كما قال لقيط الأيادي ثم أنشد هذا الشعر فسر الحجاج حتى امتلأ سرورا فقال المهلب أما و الله ما كنا أشد من عدونا و لا أحد و لكن دمغ الحق الباطل و قهرت الجماعة الفتنة و العاقبة للمتقين و كان ما كرهناه من المطاولة خيرا لنا مما أحببناه من المعاجلة .
فقال الحجاج صدقت اذكر لي القوم الذين أبلوا و صف لي بلاءهم فأمر الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج فقال لهم المهلب ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله فذكرهم المهلب على مراتبهم في البلاء و تفاضلهم في الغناء و قدم بنيه المغيرة و يزيد و مدركا و حبيبا و قبيصة و المفضل و عبد الملك و محمدا و قال و الله لو واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم و لو لا أن أظلمهم لآخرتهم فقال الحجاج صدقت و ما أنت أعلم بهم مني و إن حضرت و غبت إنهم لسيوف من سيوف الله ثم ذكر معن بن المغيرة و الرقاد و أشباههما . فقال الحجاج من الرقاد فدخل رجل طويل أجنأ فقال المهلب هذا فارس العرب فقال الرقاد للحجاج أيها الأمير إني كنت أقاتل مع غير المهلب فكنت كبعض الناس فلما صرت مع من يلزمني الصبر و يجعلني أسوة نفسه و ولده و يجازيني على البلاء صرت أنا و أصحابي فرسانا . فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم و زاد ولد المهلب ألفين ألفين و فعل بالرقاد و بجماعة شبيها بذلك . و قال يزيد بن حبناء من الأزارقة
- دعي اللوم إن العيش ليس بدائمو لا تعجلي باللوم يا أم عاصم
- فإن عجلت منك الملامة فاسمعي مقالة معني بحقك عالم
- و لا تعذلينا في الهدية إنماتكون الهدايا من فضول المغانم
- و ليس بمهد من يكون نهارهجلادا و يمسي ليله غير نائم
- يريد ثواب الله يوما بطعنه غموس كشدق العنبري بن سالم
- أبيت و سربالي دلاص حصينةو مغفرها و السيف فوق الحيازم
- حلفت برب الواقفين عشيةلدى عرفات حلفة غير آثم
- لقد كان في القوم الذين لقيتهمبسابور شغل عن بزوز اللطائم
- توقد في أيديهم زاعبيةو مرهفة تفري شئون الجماجم
. و قال المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب
- إني امرؤ كفني ربي و أكرمنيعن الأمور التي في غبها وخم
- و إنما أنا إنسان أعيش كماعاشت رجال و عاشت قبلها أمم
- ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلواعي بما صنعوا حولي و لا صمم
- و لو أردت قفولا ما تجهمني إذن الأمير و لا الكتاب إذ رقموا
- إن المهلب إن أشتق لرؤيتهأو أمتدحه فإن الناس قد علموا
- أنه الأريب الذي ترجى نوافله و المستنير الذي تجلى به الظلم
- و القائل الفاعل الميمون طائرهأبو سعيد إذا ما عدت النعم
- أزمان كرمان إذ غص الحديد بهم و إذ تمنى رجال أنهم هزموا
و قال حبيب بن عوف من قواد المهلب
- أبا سعيد جزاك الله صالحةفقد كفيت و لم تعنف على أحد
- داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعواو كنت كالوالد الحاني على الولد
. و قال عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلا من أصحابه
- يهوي فترفعه الرماح كأنهشلو تنشب في مخالب ضار
- يهوي صريعا و الرماح تنوشه إن الشراة قصيرة الأعمار
شبيب بن يزيد الشيباني
و منهم شبيب بن يزيد الشيباني و كان في ابتداء أمره يصحب صالح بن مسرح أحد الخوارج الصفرية و كان ناسكا مصفر الوجه صاحب عبادة و له أصحاب يقرئهم القرآن و يفقههم و يقص عليهم و يقدم الكوفة فيقيم بها الشهر و الشهرين و كان بأرض الموصل و الجزيرة و كان إذا فرغ من التحميد و الصلاة على النبي ص ذكر أبا بكر فأثنى عليه و ثنى بعمر ثم ذكر عثمان و ما كان من أحداثه ثم عليا ع و تحكيمه الرجال في دين الله و يتبرأ من عثمان و علي ثم يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال و قال تيسروا يا إخواني للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء و اللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة و لا تجزعوا من القتل في الله فإن القتل أيسر من الموت و الموت نازل بكم مفرق بينكم و بين آبائكم و إخوانكم و أبنائكم و حلائلكم و دنياكم و إن اشتد لذلك جزعكم ألا فبيعوا أنفسكم طائعين و أموالكم تدخلوا الجنة و أشباه هذا من الكلام . و كان فيمن يحضره من أهل الكوفة سويد و البطين فقال يوما لأصحابه ما ذا تنتظرون ما يزيد أئمة الجور إلا عتوا و علوا و تباعدا من الحق و جراءة على الرب فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم و ننظر في أمورنا ما نحن صانعون و أي وقت إن خرجنا نحن خارجون . فبينا هو كذلك إذ أتاه المحلل بن وائل بكتاب من شبيب بن يزيد و قد كتب إلى صالح أما بعد فقد أردت الشخوص و قد كنت دعوتني إلى أمر أستجيب لك فإن كان ذلك من شأنك فإنك شيخ المسلمين و لم يعدل بك منا أحد و إن أردت تأخير ذلك أعلمني فإن الآجال غادية و رائحة و لا آمن أن تخترمني المنية و لما أجاهد الظالمين فيا له غبنا و يا له فضلا جعلنا الله و إياكم ممن يريد الله بعلمه و رضوانه و النظر إلى وجهه و مرافقة الصالحين في دار السلام و السلام عليك .
فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه إنه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلا انتظارك فأقدم علينا ثم اخرج بنا فإنك ممن لا تقضى الأمور دونه و السلام عليك . فلما ورد كتابه على شبيب دعا القراء من أصحابه فجمعهم إليه منهم أخوه مصاد بن يزيد و المحلل بن وائل و الصقر بن حاتم و إبراهيم بن حجر و جماعة مثلهم ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح و هو بدارات أرض الموصل فبث صالح رسله و واعدهم بالخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست و تسعين . فاجتمع بعضهم إلى بعض و اجتمعوا عنده تلك الليلة فحدث فروة بن لقيط قال إني لمعهم تلك الليلة عند صالح و كان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المكر و الفساد في الأرض فقمت إليه فقلت يا أمير المؤمنين كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة أ نقتلهم قبل الدعاء أم ندعوهم قبل القتال فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني بذلك إنا نخرج على قوم طاغين قد تركوا أمر الله أو راضين بذلك فأرى أن نضع السيف فقال لا بل ندعوهم و لعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك و ليقاتلنك من يزري عليك و الدعاء أقطع لحجتهم و أبلغ في الحجة عليهم لك فقلت و كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به و ما تقول في دمائهم و أموالهم فقال إن قتلنا و غنمنا فلنا و إن تجاوزنا و عفونا فموسع علينا . ثم قال صالح لأصحابه ليلته تلك اتقوا الله عباد الله و لا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قوما يريدونكم و ينصبون لكم فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه و عصي في الأرض و سفكت الدماء بغير حقها و أخذت الأموال غصبا فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملونها فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسئولون و إن عظمكم رجالة و هذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق و ابدءوا بها فاحملوا عليها راجلكم و تقووا بها على عدوكم .
ففعلوا ذلك و تحصن منهم أهل دارا . و بلغ خبرهم محمد بن مروان و هو يومئذ أمير الجزيرة فاستخف بأمرهم و بعث إليهم عدي بن عميرة في خمسمائة و كان صالح في مائة و عشرة فقال عدي أصلح الله الأمير تبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة و معه رجال سموا لي كانوا يعازوننا و إن الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة فقال له إني أزيدك خمسمائة فسر إليهم في ألف فارس . فسار من حران في ألف رجل و كأنما يساقون إلى الموت و كان عدي رجلا ناسكا فلما نزل دوغان نزل بالناس و أنفذ إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه فقال إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد و تأتي بلدا آخر فتقاتل أهله فإني للقتال كاره فقال له صالح ارجع إليه فقل له إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف ثم نحن مدلجون عنك و إن كنت على رأي الجبابرة و أئمة السوء رأينا رأينا فإما بدأنا بك و إلا رحلنا إلى غيرك . فانصرف إليه الرسول فأبلغه فقال له عدي ارجع إليه فقل له إني و الله لا أرى رأيك و لكني أكره قتالك و قتال غيرك من المسلمين . فقال صالح لأصحابه اركبوا فركبوا و احتبس الرجل عنده و مضى بأصحابه حتى أتى عديا في سوق دوغان و هو قائم يصلي الضحى فلم يشعر إلا بالخيل طالعة عليهم فلما دنا صالح منهم رآهم على غير تعبئة و قد تنادوا و بعضهم يجول في بعض فأمر شبيبا فحمل عليهم في كتيبة ثم أمر سويدا فحمل في كتيبة فكانت هزيمتهم و أتى عدي بدابته فركبها و مضى على وجهه و احتوى صالح على عسكره و ما فيه و ذهب فل عدي حتى لحقوا بمحمد بن مروان فغضب ثم دعا بخالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف و خمسمائة و دعا الحارث بن جعونة في ألف و خمسمائة و قال لهما اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة و عجلا الخروج و أغذا السير فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه فخرجا و أغذا في السير و جعلا يسألان عن صالح فقيل لهما توجه نحو آمد فاتبعاه حتى انتهيا إليه بأمد فنزلا ليلا و خندقا و هما متساندان كل واحد منهما على حدته فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه و توجه هو نحو خالد السلمي فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم حتى حجز بينهم الليل و قد انتصف بعضهم من بعض .
فتحدث بعض أصحاب صالح قال كنا إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالهم بالرماح و نضحنا رماتهم بالنبل و خيلهم تطاردنا في خلال ذلك فانصرفنا عند الليل و قد كرهناهم و كرهونا فلما رجعنا و صلينا و تروحنا و أكلنا من الكسر دعانا صالح و قال يا أخلائي ما ذا ترون فقال شبيب إنا إن قاتلنا هؤلاء القوم و هم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا و الرأي أن نرحل عنهم فقال صالح و أنا أرى ذلك فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة و أرض الموصل و مضوا حتى قطعوا أرض الدسكرة فلما بلغ ذلك الحجاج سرح عليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف فسار و خرج صالح نحو جلولاء و خانقين و اتبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج و صالح يومئذ في تسعين رجلا فعبى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة و ميسرة و جعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس و هو في كردوس و شبيب في ميمنة في كردوس و سويد بن سليم في كردوس في ميسرته في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا فلما شد عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم و ثبت صالح فقتل و ضارب شبيب حتى صرع عن فرسه فوقع بين رجاله فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح فوجده قتيلا فنادى إلى يا معشر المسلمين فلاذوا به فقال لأصحابه ليجعل كل رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه و ليطاعن عدوه إذا قدم عليه حتى ندخل هذا الحصن و نرى رأينا . ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن و هم سبعون رجلا مع شبيب و أحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا و قال لأصحابه أحرقوا الباب فإذا صار جمرا فدعوه فإنهم لا يقدرون على الخروج حتى نصبح فنقتلهم ففعلوا ذلك بالباب ثم انصرفوا إلى معسكرهم . فقال شبيب لأصحابه يا هؤلاء ما تنتظرون فو الله إن صبحوكم غدوة إنه لهلاككم فقالوا له مرنا بأمرك فقال لهم إن الليل أخفى للويل بايعوني إن شئتم أو بايعوا من شئتم منكم ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم فإنهم آمنون منكم و إني أرجو أن ينصركم الله عليهم قالوا ابسط يدك فبايعوه فلما جاءوا إلى الباب وجدوه جمرا فأتوه باللبود فبلوها بالماء ثم ألقوها عليه و خرجوا فلم يشعر الحارث بن عميرة إلا و شبيب و أصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم فضارب الحارث حتى صرع و احتمله أصحابه و انهزموا و خلوا لهم المعسكر و ما فيه و مضوا حتى نزلوا المدائن و كان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب
دخول شبيب الكوفة و أمره مع الحجاج
ثم ارتفع في أداني أرض الموصل ثم ارتفع إلى نحو آذربيجان يجبي الخراج و كان سفيان بن أبي العالية قد أمر أن يحارب صاحب طبرستان فأمر بالقفول نحو شبيب و أن يصالح صاحب طبرستان فصالحه فأقبل في ألف فارس و قد ورد عليه كتاب من الحجاج . أما بعد فأقم بالدسكرة فيمن معك حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة قاتل صالح بن مسرح ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه . ففعل سفيان ذلك و نزل إلى الدسكرة حتى أتوه و خرج مرتحلا في طلب شبيب فارتفع شبيب عنهم كأنه يكره قتالهم و لقاءهم و قد أكمن لهم أخاه مصادا في خمسين رجلا في هضم من الأرض فلما رأوا شبيبا جمع أصحابه و مضى في سفح من الجبل مشرقا قالوا هرب عدو الله و اتبعوه فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني أيها الناس لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض و نستبرئها فإن يكونوا أكمنوا كمينا حذرناه و إلا كان طلبهم بين أيدينا لن يفوتنا فلم يسمعوا منه فأسرعوا في آثارهم . فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم فحمل من أمامهم و خرج الكمين من ورائهم فلم يقاتل أحد و إنما كانت الهزيمة و ثبت سفيان بن أبي العالية في مائتي رجل فقاتل قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب فقال سويد بن سليم لأصحابه أ منكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية فقال له شبيب أنا من أعرف الناس به أ ما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية فإنه هو فإن كنت تريده فأمهله قليلا . ثم قال يا قعنب اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا ينتقصون و يتسللون و حمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية يطاعنه فلم تصنع رماحهما شيئا ثم اضطربا بسيفهما ثم اعتنق كل واحد منهما صاحبه فوقعا إلى الأرض يعتركان ثم تحاجزا و حمل عليهم شبيب فانكشف من كان مع سفيان و نزل غلام له يقال له غزوان عن برذونه و قال لسفيان اركب يا مولاي فركب سفيان و أحاط به أصحاب شبيب فقاتل دونه غزوان حتى قتل و كان معه رايته و أقبل سفيان منهزما حتى انتهى إلى بابل مهروذ فنزل بها و كتب إلى الحجاج و كان الحجاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان فكاتب سورة سفيان و قال له انتظرني فلم يفعل و عجل نحو الخوارج فلما عرف الحجاج خبر سفيان و قرأ كتابه قال للناس من صنع كما صنع هذا و أبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه يعذره و يقول إذا خف عليك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك و كتب إلى سورة بن أبجر . أما بعد يا ابن أم سورة فما كنت خليقا أن تجترئ على ترك عهدي و خذلان جندي فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى المدائن فلينتخب من جندها خمسمائة رجل ثم ليقدم بهم عليك ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة و احزم أمرك و كد عدوك فإن أفضل أمر الحروب حسن المكيدة و السلام . فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عمير إلى المدائن و كان بها ألف فارس فانتخب منهم خمسمائة ثم رحل بهم حتى قدم على سورة ببابل مهروذ فخرج بهم في طلب شبيب و خرج شبيب يجول في جوخى و سورة في طلبه فجاء شبيب إلى المدائن فتحصن منه أهلها فانتهب المدائن الأولى و أصاب دواب من دواب الجند و قتل من ظهر له و لم يدخل البيوت ثم أتى فقيل له هذا سورة قد أقبل إليك فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان فنزلوا به و توضئوا و صلوا ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب فاستغفروا لهم و تبرءوا من علي و أصحابه و بكوا فأطالوا البكاء ثم عبروا جسر النهروان فنزلوا جانبه الشرقي و جاء سورة حتى نزل بنفطرانا و جاءته عيونه فأخبروه بمنزل شبيب بالنهروان فدعا سورة رءوس أصحابه فقال لهم إن الخوارج قلما يلقون في صحراء أو على ظهر إلا انتصفوا و قد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل و قد رأيت أن انتخبكم و أسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم و شجعانكم فأبيتهم فإنهم آيسون من بياتكم و إني و الله أرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم في النهروان من قبل فقالوا اصنع ما أحببت . فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة و انتخب ثلاثمائة من شجعان أصحابه ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان و بات و قد أذكى الحرس ثم بيتهم فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم فاستووا على خيولهم و تعبوا تعبيتهم فلما انتهى إليهم سورة و أصحابه أصابوهم و قد نذروا فحمل عليهم سورة فصاح شبيب بأصحابه فحمل عليهم حتى تركوا له العرصة و حمل شبيب و جعل يضرب و يقول
من ينك العير ينك نياكا
. فرجع سورة مفلولا قد هزم فرسانه و أهل القوة من أصحابه و أقبل نحو المدائن و تبعه شبيب حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن و انتهى شبيب إليهم و قد دخل الناس البيوت و خرج ابن أبي عصيفير و هو أمير المدائن يومئذ في جماعة فلقيهم في شوارع المدائن و رماهم الناس بالنبل و الحجارة من فوق البيوت . ثم سار شبيب إلى تكريت فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس فقالوا هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيت أهل المدائن فارتحل عامة الجند فلحقوا بالكوفة و إن شبيبا بتكريت فلما أتى الحجاج الخبر قال قبح الله سورة ضيع العسكر و خرج يبيت الخوارج و الله لأسوءنه .
ثم دعا الحجاج بالجزل و هو عثمان بن سعيد فقال له تيسر للخروج إلى هذه المارقة فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق و لا تحجم إحجام الواني الفرق أ فهمت قال نعم أصلح الله الأمير قد فهمت قال فاخرج و عسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج الناس إليك فقال أصلح الله الأمير لا تبعث معي أحدا من الجند المهزوم المفلول فإن الرعب قد دخل قلوبهم و قد خشيت ألا ينفعك و المسلمين منهم أحد قال ذلك لك و لا أراك إلا قد أحسنت الرأي و وفقت ثم دعا أصحاب الدواوين فقال اضربوا على الناس البعث و أخرجوا أربعة آلاف من الناس و عجلوا فجمعت العرفاء و جلس أصحاب الدواوين و ضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف فأمرهم باللحاق بالعسكر ثم نودي فيهم بالرحيل فارتحلوا و نادى منادي الحجاج أن برئت الذمة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفا . فمضى بهم الجزل و قد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته فخرج حتى أتى المدائن فأقام بها ثلاثا ثم خرج و بعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس و برذون و ألفي درهم و وضع للناس من الحطب و العلف ما كفاهم ثلاثة أيام و أصاب الناس ما شاءوا من ذلك .
ثم إن الجزل خرج بالناس أثر شبيب فطلبه في أرض جوخى فجعل شبيب يريه الهيبة فيخرج من رستاق إلى رستاق و من طسوج إلى طسوج و لا يقيم له يريد بذلك أن يفرق الجزل أصحابه و يتعجل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبئة فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبئة و لا ينزل إلا خندق على نفسه و أصحابه فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه و هم مائة و ستون رجلا هو في أربعين و مصاد أخوه في أربعين و سويد بن سليم في أربعين و المحلل بن وائل في أربعين و قد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل ببئر سعيد فقال لأخيه و للأمراء الذين ذكرناهم إني أريد أن أبيت الليلة هذا العسكر فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان و سآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة و ائتهم أنت يا سويد من قبل المشرق و ائتهم أنت يا محلل من قبل المغرب و ليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه و لا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري . قال فروة بن لقيط و كنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه فقال لجماعتنا تيسروا و ليسر كل امرئ منكم مع أميره و لينظر ما يأمره به أميره فليتبعه فلما قضمت دوابنا و ذلك أول ما هدأت العيون خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة فإذا القوم عليهم مسلحة ابن أبي لينة فما هو إلا أن رآهم مصاد أخو شبيب حتى حمل عليهم في أربعين رجلا و كان شبيب أراد أن يرتفع عليهم حتى يأتيهم من ورائهم كما أمره .
فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا له ساعة و قاتلوه ثم إنا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم و أخذوا الطريق الأعظم و ليس بينهم و بين عسكرهم بدير يزدجرد إلا نحو ميل فقال لنا شبيب اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم فاتبعناهم ملظين بهم ملحين عليهم ما نرفه عنهم و هم منهزمون ما لهم همة إلا عسكرهم .
فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم و رشقوهم بالنبل و كانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا و كان الجزل قد خندق عليهم و تحرز و وضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة و وضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان . فلما اجتمعت المسالح و رشقوهم بالنبل و منعونا من خندقهم رأى شبيب أنه لا يصل إليهم فقال لأصحابه سيروا و دعوهم فلما سار عنهم أخذ على طريق حلوان حتى كان منهم على سبعة أميال قال لأصحابه انزلوا فاقضموا دوابكم و قيلوا و تروحوا فصلوا ركعتين ثم اركبوا ففعلوا ذلك ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر الكوفة و قال سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها أول الليل و أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم فأقبلنا معه و قد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم و أمنوا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخيل فانتهينا إليهم قبيل الصبح و أحطنا بعسكرهم و صحنا بهم من كل ناحية فقاتلونا و رمونا بالنبل فقال شبيب لأخيه مصاد و كان يقاتلهم من الجانب الذي يلي الكوفة خل لهم سبيل [طريق ] الكوفة فخلى لهم و قاتلناهم من تلك الوجوه الثلاثة الأخرى إلى الصبح ثم سرنا و تركناهم لأنا لم نظفر بهم فلما سار شبيب سار الجزل في أثره يطلبه و جعل لا يسير إلا على تعبية و ترتيب و لا ينزل إلا على خندق و أما شبيب فضرب في أرض جوخى و ترك الجزل فطال أمره على الحجاج فكتب إلى الجزل كتابا قرئ على الناس و هو أما بعد فإني بعثتك في فرسان أهل المصر و وجوه الناس و أمرتك باتباع هذه المارقة و ألا تقلع عنها حتى تقتلها و تفنيها فجعلت التعريس في القرى و التخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لمناهضتهم و مناجزتهم و السلام .
قال فشق كتاب الحجاج على الجزل و أرجف الناس بأمره و قالوا سيعزله فما لبث الناس أن بعث الحجاج سعيد بن المجالد أميرا بدله و عهد إليه إذا لقي المارقة أن يزحف إليهم و لا يناظرهم و لا يطاولهم و لا يصنع صنع الجزل و كان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان و قد لزم عسكره و خندق عليهم فجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة إنكم قد عجزتم و وهنتم و أغضبتم عليكم أميركم أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين قد أخربوا بلادكم و كسروا خراجكم و أنتم حذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم و نزلوا بلدا سوى بلدكم اخرجوا على اسم الله إليهم . ثم خرج و خرج الناس معه فقال له الجزل ما تريد أن تصنع قال أقدم على شبيب و أصحابه في هذه الخيل فقال له الجزل أقم أنت في جماعة الناس فارسهم و راجلهم و لا تفرق أصحابك و دعني أصحر له فإن ذلك خير لك و شر لهم . فقال سعيد بل تقف أنت في الصف و أنا أصحر له فقال الجزل إني بري ء من رأيك هذا سمع الله و من حضر من المسلمين فقال سعيد هو رأيي إن أصبت فيه فالله وفقني و إن أخطأت فيه فأنتم برآء . فوقف الجزل في صف أهل الكوفة و قد أخرجهم من الخندق و جعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي و على ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي و وقف الجزل في جماعتهم و استقدم سعيد بن مجالد فخرج و أخرج الناس معه و قد أخذ شبيب إلى براز الروز فنزل قطفتا و أمر دهقانها أن يشوي لهم غنما و يعد لهم غداء ففعل و أغلق مدينة قطفتا و لم يفرغ الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد فصعد الدهقان ثم نزل و قد تغير لونه فقال شبيب ما بالك قال قد جاءك جمع عظيم قال أ بلغ شواؤك قال لا قال دعه يبلغ ثم أشرف الدهقان إشرافة أخرى ثم نزل فقال قد أحاطوا بالجوسق قال هات شواءك فجعل يأكل غير مكترث بهم و لا فزع فلما فرغ قال لأصحابه قوموا إلى الصلاة و قام فتوضأ فصلى بأصحابه صلاة الأولى و لبس درعه و تقلد سيفه و أخذ عموده الحديد ثم قال أسرجوا لي بغلتي فقال أخوه أ في مثل هذا اليوم تركب بغلة قال نعم أسرجوها فركبها ثم قال يا فلان أنت على الميمنة و أنت يا فلان على الميسرة و أنت يا مصاد يعني أخاه على القلب و أمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم . فخرج إليهم و هو يحكم و حمل حملة عظيمة فجعل سعيد و أصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم و بين الدير ميل و شبيب يصيح أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا و سعيد يصيح يا معشر همدان إلي إلي أنا ابن ذي مران فقال شبيب لمصاد ويحك استعرضهم استعراضا فإنهم قد تقطعوا و إني حامل على أميرهم و أثكلنيك الله إن لم أثكله ولده ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود فسقط ميتا و انهزم أصحابه و لم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد . و انتهى قتل سعيد إلى الجزل فناداهم أيها الناس إلي إلي و صاح عياض بن أبي لينة أيها الناس إن يكن أميركم هذا القادم هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة أقبلوا إليه فمنهم من أقبل إليه و منهم من ركب فرسه منهزما و قاتل الجزل يومئذ قتالا شديدا حتى صرع و حامى عنه خالد بن نهيك و عياض بن أبي لينة حتى استنقذاه مرتثا و أقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة و أتي بالجزل جريحا حتى دخل المدائن فكتب إلى الحجاج أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه و قد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم و رأيه فكنت أخرج إلى المارقين إذا رأيت الفرصة و أحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة فلم أزل كذلك أدير الأمر و أرفق في التدبير و قد أرادني العدو بكل مكيدة فلم يصب مني غرة حتى قدم علي سعيد بن مجالد فأمرته بالتؤدة و نهيته عن العجلة و أمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني و تعجل إليهم في الخيل فأشهدت الله عليه و أهل المصرين إني بري ء من رأيه الذي رأى و إني لا أهوى الذي صنع فمضى فقتل تجاوز الله عنه و دفع الناس إلي فنزلت و دعوتهم إلى نفسي و رفعت رايتي و قاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى فما أفقت إلا و أنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة و أنا اليوم بالمدائن و في جراحات قد يموت الإنسان من دونها و قد يعافى من مثلها فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له و لجنده و عن مكايدتي عدوه و عن موقفي يوم البأس فإنه سيبين له عند ذلك أني صدقته و نصحت له و السلام . فكتب إليه الحجاج أما بعد فقد أتاني كتابك و قرأته و فهمت كل ما ذكرته فيه من أمر سعيد و أمر نفسك و قد صدقتك في نصيحتك لأميرك و حيطتك على أهل مصرك و شدتك على عدوك و قد رضيت عجلة سعيد و تؤدتك فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة و أما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنت حزم و قد أحسنت و أصبت و أجرت و أنت عندي من أهل السمع و الطاعة و النصيحة و قد أشخصت إليك حيان بن أبجر الطبيب ليداويك و يعالج جراحاتك و قد بعثت إليك بألفي درهم نفقة تصرفها في حاجتك و ما ينوبك و السلام .
و بعث عبد الله بن أبي عصيفير والي المدائن إلى الجزل بألف درهم و كان يعوده و يتعاهده بالألطاف و الهدايا . و أما شبيب فأقبل حتى قطع دجلة عند الكرخ و أخذ بأصحابه نحو الكوفة و بلغ الحجاج مكانه بحمام أعين فبعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدي فجهزه بألفي فارس منتخبين و قال له اخرج إلى شبيب فالقه و لا تتبعه فخرج بالناس بالسبخة و بلغه أن شبيبا قد أقبل فسار نحوه كأنما يساق إلى الموت هو و أصحابه و أمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة و نادى ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة و لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه و هو يعبيهم و يحرضهم إذ قيل له قد غشيك شبيب فنزل و نزل معه جل أصحابه و قدم رايته فأخبر أن شبيبا لما علم بمكانه تركه و وجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي سويد بن عبد الرحمن به ثم قيل أ ما تراهم فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم فأتى شبيب دار الرزق فنزلها و قيل له إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون فلما بلغهم مكان شبيب ماج الناس بعضهم إلى بعض و جالوا و هموا بدخول الكوفة حتى قيل هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم و هو يقاتلهم في الخيل و مضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات ثم أخذ على الأنبار ثم دخل دقوقاء ثم ارتفع إلى أداني آذربيجان . و خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب و استخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فما شعر الناس إلا بكتاب من مادارست دهقان بابل مهروز إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني يذكر أن شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل و أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك و إني لم ألبث بعد ذلك إذ جاءني اثنان من جيراني فحدثاني أن شبيبا قد نزل خانيجار . فأخذ عروة كتابه فأدرجه و سرح به إلى الحجاج إلى البصرة فلما قرأ الحجاج أقبل جادا إلى الكوفة و أقبل شبيب يسير حتى انتهى إلى قرية حربى على شاطئ دجلة فعبرها و قال لأصحابه يا هؤلاء إن الحجاج ليس بالكوفة و ليس دون أخذها شي ء إن شاء الله فسيروا بنا فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة و كتب عروة إلى الحجاج إن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة فالعجل العجل . فطوى الحجاج المنازل مسابقا لشبيب إلى الكوفة فسبقه و نزلها صلاة العصر و نزل شبيب السبخة صلاة العشاء الآخرة فأصاب هو و أصحابه من الطعام شيئا يسيرا ثم ركبوا خيولهم فدخل شبيب الكوفة في أصحابه حتى انتهى إلى السوق و شد حتى ضرب باب القصر بعموده فحدث جماعة أنهم رأوا أثر ضربة شبيب بالعمود بباب القصر ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبة و أنشد
- و كأن حافرها بكل ثنيةفرق يكيل به شحيح معدم
. ثم أقحم هو و أصحابه المسجد الجامع و لا يفارقه قوم يصلون فيه فقتل منهم جماعة و مر هو بدار حوشب و كان هو على شرطة الحجاج فوقف على بابه في جماعة فقالوا إن الأمير يعنون الحجاج يدعو حوشبا و قد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم فأراد أن يدخل إلى صاحبه فقالوا له كما أنت حتى يخرج صاحبك إليك فسمع حوشب الكلام فأنكر القوم و ذهب لينصرف فعجلوا نحوه فأغلق الباب دونه فقتلوا غلامه ميمونا و أخذوا برذونه و مضوا حتى مروا بالجحاف بن نبيط الشيباني من رهط حوشب فقال له سويد انزل إلينا فقال ما تصنع بنزولي فقال انزل إني لم أقضك ثمن البكرة التي ابتعتها منك بالبادية فقال الجحاف بئس ساعة القضاء هذه و بئس المكان لقضاء الدين هذا ويحك أ ما ذكرت أداء أمانتك إلا و الليل مظلم و أنت على متن فرسك قبح الله يا سويد دينا لا يصلح و لا يتم إلا بقتل الأنفس و سفك الدماء ثم مروا بمسجد بني ذهل فلقوا ذهل بن الحارث و كان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة إلى الليل فصادفوه منصرفا إلى منزله فقتلوه ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة و أمر الحجاج المنادي يا خيل الله اركبي و أبشري و هو فوق باب القصر و هناك مصباح مع غلام له قائم .
و كان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن و معه مواليه و ناس من أهله و قال أعلموا الأمير مكاني أنا عثمان بن قطن فليأمرني بأمره فناداه الغلام صاحب المصباح قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير و جاء الناس من كل جانب و بات عثمان مكانه فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح .
و قد كان عبد الملك بن مروان بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان و كتب له عهده عليها و كتب إلى الحجاج إذا قدم عليك محمد بن موسى الكوفة فجهز معه ألفي رجل و عجل سراحه إلى سجستان . فلما قدم الكوفة جعل يتجهز فقال له أصحابه و نصحاؤه تعجل أيها الرجل إلى عملك فإنك لا تدري ما يحدث و عرض أمر شبيب حينئذ و دخوله الكوفة فقيل للحجاج إن محمد بن موسى إن سار إلى سجستان مع نجدته و صهره لأمير المؤمنين عبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلبه منعك منه قال فما الحيلة قالوا أن تذكر له أن شبيبا في طريقه و قد أعياك و أنك ترجو أن يريح الله منه على يده فيكون له ذكر ذلك و شهرته . فكتب إليه الحجاج إنك عامل على كل بلد مررت به و هذا شبيب في طريقك تجاهده و من معه و لك أجره و ذكره و صيته ثم تمضي إلى عملك فاستجاب له . و بعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي في ألفي رجل و زياد بن قدامة في ألفين و أبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالي و أعين صاحب حمام أعين مولى لبشر بن مروان في ألف و جماعة غيرهم فاجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات و ترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة هؤلاء القواد و أخذ نحو القادسية فوجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة عدتها ألف و ثمانمائة فارس و قال له اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين و بلغ شبيبا مسيره إليه فأقبل نحوه فالتقيا و قد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز و كان شجاعا و على ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي و جمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة ثم اعترض بها الصف يوجف وجيفا حتى انتهى إلى زحر بن قيس فنزل زحر فقاتل حتى صرع و انهزم أصحابه و ظن أنه قد قتل .
فلما كان الليل و أصابه البرد قام يمشي حتى دخل قرية فبات بها و حمل منها إلى الكوفة و بوجهه أربع عشرة ضربة فمكث أياما ثم أتى الحجاج و على وجهه و جراحه القطن فأجلسه معه على السرير و قال أصحاب شبيب لشبيب و هم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا قد هزمنا جندهم و قتلنا أميرا من أمرائهم عظيما فانصرف بنا الآن موفورين فقال لهم إن قتلكم هذا الرجل و هزيمتكم هذا الجند قد أرعب هؤلاء الأمراء فاقصدوا بنا قصدهم فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون قتل الحجاج و أخذ الكوفة شي ء فقالوا له نحن طوع لأمرك و رأيك فانقض بهم جادا حتى أتى ناحية عين التمر و استخبر عن القوم فعرف اجتماعهم في روذبار في أسفل الفرات على رأس أربعة و عشرين فرسخا من الكوفة . و بلغ الحجاج مسير شبيب إليهم فبعث إليهم إن جمعكم قتال فأمير الناس زائدة بن قدامة . فانتهى إليهم شبيب و فيهم سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة و قد عبى كل أمير أصحابه على حدة و هو واقف في أصحابه فأشرف شبيب على الناس و هو على فرس أغر كميت فنظر إلى تعبيتهم ثم رجع إلى أصحابه و أقبل في ثلاث كتائب يزحف بها حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم .
فوقفت بإزاء ميمنة زائدة بن قدامة و فيها زياد بن عمرو العتكي و مضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب فوقفت بإزاء الميسرة و فيها بشر بن غالب الأسدي و جاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القوم في القلب فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس بين الميمنة و الميسرة يحرض الناس و يقول عباد الله إنكم الطيبون الكثيرون و قد نزل بكم الخبيثون القليلون فاصبروا جعلت لكم الفداء إنما هي حملتان أو ثلاث ثم هو النصر ليس دونه شي ء أ لا ترونهم و الله لا يكونون مائتي رجل إنما هم أكلة رأس و هم السراق المراق إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم و يأخذوا فيئكم فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه و هم قليل و أنتم كثير و هم أهل فرقة و أنتم أهل جماعة غضوا الأبصار و استقبلوهم بالأسنة و لا تحملوا عليهم حتى آمركم .
ثم انصرف إلى موقفه فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو العتكي فكشف صفه و ثبت زياد قليلا ثم ارتفع سويد عنهم يسيرا ثم كر عليهم ثانية . فقال فروة بن لقيط الخارجي اطعنا ذلك اليوم ساعة فصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا و قاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا و لقد رأيت سويد بن سليم يومئذ و إنه لأشد العرب قتالا و أشجعهم و هو واقف لا يعرض لهم ثم ارتفعنا عنهم فإذا هم يتقوضون فقال بعض أصحابنا لبعض أ لا ترونهم يتقوضون احملوا عليهم فأرسل إلينا شبيب خلوهم لا تحملوا عليهم حتى يخفوا فتركناهم قليلا ثم حملنا عليهم الثالثة فانهزموا فنظرت إلى زياد بن عمرو و إنه ليضرب بالسيوف و ما من سيف يضرب به إلا نبا عنه و لقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا و هو مجفف فما ضره شي ء منها ثم انهزم . و انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة أمير سجستان عند المغرب و هو قائم في أصحابه فقاتلناه قتالا شديدا و صبر لنا . ثم إن مصادا حمل على بشر بن غالب في الميسرة فصبر و كرم و أبلى و نزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبي الضريس فهزمناه ثم انتهينا إلى موقف أعين ثم شددنا على أعين فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة فلما انتهوا إليه نزل و نادى يا أهل الإسلام الأرض الأرض ألا لا يكونون على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم فقاتلوا عامة الليل إلى السحر . ثم إن شبيبا شد على زائدة بن قدامة في جماعة من أصحابه فقتله و قتل ربضة حوله من أهل الحفاظ و نادى شبيب في أصحابه ارفعوا السيف و ادعوهم إلى البيعة فدعوهم عند الفجر إلى البيعة .
قال عبد الرحمن بن جندب فكنت فيمن تقدم فبايعه بالخلافة و هو واقف على فرس أغر كميت و خيله واقفة دونه و كل من جاء ليبايعه ينزع سيفه عن عاتقه و يؤخذ سلاحه ثم يدنو من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين ثم يبايع فإنا كذلك إذ أضاء الفجر و محمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه و كان الحجاج قد جعل موقفه آخر الناس و زائدة بن قدامة بين يديه و مقام محمد بن موسى مقام الأمير على الجماعة كلها فأمر محمد مؤذنه فأذن فلما سمع شبيب الأذان قال ما هذا قيل هذا ابن طلحة لم يبرح قال ظننت أن حمقه و خيلاءه سيحملانه على هذا نحوا هؤلاء عنا و انزلوا بنا فلنصل فنزل و أذن هو ثم استقدم فصلى بأصحابه و قرأ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ و أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ثم سلم و ركب و أرسل إلى محمد بن موسى بن طلحة إنك امرؤ مخدوع قد اتقى بك الحجاج المنية و أنت لي جار بالكوفة و لك حق فانطلق لما أمرت به و لك الله ألا أسوءك فأبى محاربته فأعاد عليه الرسول فأبى إلا قتاله فقال له شبيب كأني بأصحابك لو التقت حلقتا البطان قد أسلموك و صرعت مصرع أمثالك فأطعني و انصرف لشأنك فإني أنفس بك عن القتل فأبى و خرج بنفسه و دعا إلى البراز فبرز له البطين ثم قعنب بن سويد و هو يأبى إلا شبيبا فقالوا لشبيب إنه قد رغب عنا إليك قال فما ظنكم بمن يرغب عن الأشراف ثم برز له و قال له أنشدك الله يا محمد في دمك فإن لك جوارا فأبى إلا قتاله فحمل عليه بعموده الحديد و كان فيه اثنا عشر رطلا فهشم رأسه و بيضة كانت عليه فقتله و نزل إليه فكفنه و دفنه و تتبع ما غنم الخوارج من عسكره فبعث به إلى أهله و اعتذر إلى أصحابه و قال هو جاري بالكوفة و لي أن أهب ما غنمت فقال له أصحابه ما دون الكوفة الآن أحد يمنعك فنظر فإذا أصحابه قد فشا فيهم الجراح فقال ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم .
و خرج بهم على نفر ثم خرج بهم نحو بغداد يطلب خانيجار و بلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر فظن أنه يريد المدائن و هي باب الكوفة و من أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر فهال ذلك الحجاج و بعث إلى عثمان بن قطن فسرحه إلى المدائن و ولاه منبرها و الصلاة و معونة جوخى كلها و خراج الأستان فجاء مسرعا حتى نزل المدائن و عزل الحجاج ابن أبي عصيفير عن المدائن و كان الجزل مقيما بها يداوي جراحاته و كان ابن أبي عصيفير يعوده و يكرمه و يلطفه فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده و لا يلطفه بشي ء فكان الجزل يقول اللهم زد ابن أبي عصيفير فضلا و كرما و زد عثمان بن قطن ضيقا و بخلا .ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال له انتخب الناس فأخرج ستمائة من قومه من كندة و أخرج من سائر الناس ستة آلاف و استحثه الحجاج على الشخوص فخرج بعسكره بدير عبد الرحمن فلما استتموا هناك كتب إليهم الحجاج كتابا قرئ عليهم . أما بعد فقد اعتدتم عادة الأذلاء و وليتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين و قد صفحت عنكم مرة بعد مرة و تارة بعد أخرى و إني أقسم بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تنهزمون منه في بطون الأودية و الشعاب و تستترون منه بأثناء الأنهار و الواد الجبال فليخف من كان له معقول على نفسه و لا يجعل عليها سبيلا فقد أعذر من أنذر و السلام . و ارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن فنزل بها يوما ليشتري أصحابه منها حوائجهم ثم نادى في الناس بالرحيل و أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا ثم أتى الجزل عائدا فسأله عن جراحته و حادثه فقال الجزل يا ابن عم إنك تسير إلى فرسان العرب و أبناء الحرب و أحلاس الخيل و الله لكأنما خلقوا من ضلوعها ثم ربوا على ظهورها ثم هم أسد الأجم الفارس منهم أشد من مائة إن لم يبدأ به بدأ هو و إن هجهج أقدم و إني قد قاتلتهم و بلوتهم فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني و كان لهم الفضل علي و إذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب و كانت لي عليهم فلا تلقهم و أنت تستطيع إلا و أنت في تعبية أو خندق ثم ودعه و قال له هذه فرسي الفسيفساء خذها فيها لا تجارى فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب فلما دنا منه ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء و شهرزور فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على تخوم تلك الأرض أقام و قال إنما هو في أرض الموصل فليقاتل أمير الموصل و أهلها عن بلادهم أو فليدعوا . و بلغ ذلك الحجاج فكتب إليه أما بعد فاطلب شبيبا و اسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه عن الأرض فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين و الجند جنده و السلام . فلما قرأ عبد الرحمن كتاب الحجاج خرج في طلب شبيب فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه ليبيته فيجده قد خندق و حذر فيمضي و يتركه فيتبعه عبد الرحمن فإذا بلغ شبيبا أنه قد تحمل و سار يطلبه كر في الخيل نحوه فإذا انتهى إليه وجده قد صف خيله و رجالته المرامية فلا يصيب له غرة و لا غفلة فيمضي و يدعه . و لما رأى شبيب أنه لا يصيب غرته و لا يصل إليه صار يخرج كلما دنا منه عبد الرحمن حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا ثم يقيم في أرض غليظة وعرة فيجي ء عبد الرحمن في ثقله و خيله حتى إذا دنا من شبيب ارتحل فسار عشرين أو خمسة عشر فرسخا فنزل منزلا غليظا خشنا ثم يقيم حتى يبلغ عبد الرحمن ذلك المنزل ثم يرتحل فعذب العسكر و شق عليهم و أحفى دوابهم و لقوا منه كل بلاء . فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى صار إلى خانقين و جلولاء ثم أقبل على تامرا فصار إلى البت و نزل على تخوم الموصل ليس بينه و بين الكوفة إلا نهر حولايا و جاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقي حولايا و هم في راذان الأعلى من أرض جوخى و نزل في عواقيل من النهر و نزلها عبد الرحمن حيث نزلها و هي تعجبه يرى أنها مثل الخندق الحصين . فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن أن هذه الأيام أيام عيد لنا و لكم فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فعلتم فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك و لم يكن شي ء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة و الموادعة فكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلها عليه خندقا واحدا و خلى شبيبا و كسر خراجها فهو يأكل أهلها و السلام . فكتب إليه الحجاج قد فهمت ما ذكرت و قد لعمري فعل عبد الرحمن فسر إلى الناس فأنت أميرهم و عاجل المارقة حتى تلقاهم فإن الله إن شاء ناصرك عليهم و السلام . و بعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة و خرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن و من معه و هم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البت و ذلك يوم التروية عشاء فنادى في الناس و هو على تلعة أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم فوثبوا إليه و قالوا ننشدك الله هذا المساء قد غشينا و الناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال فبت الليلة ثم اخرج على تعبية فجعل يقول لأناجزنهم الليلة و لتكونن الفرصة لي أو لهم فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخذ بعنان بغلته و ناشده الله لما نزل و قال له عقيل بن شداد السلوني إن الذي تريده من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا و هو خير لك و للناس إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساء فانزل ثم أبكر بنا غدوة .
فنزل و سفت عليه الريح و شق عليه الغبار فاستدعى صاحب الخراج علوجا فبنوا له قبة فبات فيها ثم أصبح فخرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة و غبرة فصاح الناس إليه و قالوا ننشدك الله ألا تخرج بنا في هذا اليوم فإن الريح علينا فأقام ذلك اليوم . و كان شبيب يخرج إليهم فلما رآهم لا يخرجون إليه أقام فلما كان الغد خرج عثمان يعبئ الناس على أرباعهم و سألهم من كان على ميمنتكم و ميسرتكم فقالوا خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا و عقيل بن شداد السلوني على ميمنتنا فدعاهما و قال لهما قفا في مواقفكما التي كنتما بها فقد وليتكما المجنبتين فاثبتا و لا تفرا فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها فقالا نحن و الله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل فقال لهما جزاكما الله خيرا ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة ثم خرج بالخيل فنزل يمشي في الرجال و خرج شبيب و معه يومئذ مائة و أحد و ثمانون رجلا فقطع إليهم النهر و كان هو في ميمنة أصحابه و جعل على الميسرة سويد بن سليم و جعل في القلب مصادا أخاه و زحفوا و كان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلا قليلا . ثم قال شبيب لأصحابه إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم و لا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري ثم حمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا و نزل عقيل بن شداد مع طائفة من أهل الحفاظ فقاتل حتى قتل و قتلوا معه .
و دخل شبيب عسكرهم و حمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها و عليها خالد بن نهيك الكندي فنزل خالد و قاتل قتالا شديدا فحمل عليه شبيب من ورائه فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله و مشى عثمان بن قطن و قد نزلت معه العرفاء و الفرسان و أشراف الناس نحو القلب و فيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا فلما دنا منهم عثمان شد عليهم في الأشراف و أهل الصبر فضربهم مصاد و أصحابه حتى فرقوا بينهم و حمل شبيب من ورائهم بالخيل فما شعروا إلا و الرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم و عطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله و قاتل عثمان فأحسن القتال . ثم إن الخوارج شدوا عليهم فأحاطوا بعثمان و حمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه ضربة بالسيف فاستدار لها و سقط و قال و كان أمر الله قدرا مقدورا فقتل و قتل معه العرفاء و وجوه الناس و قتل من كندة يومئذ مائة و عشرون رجلا و قتل من سائر الناس نحو ألف و وقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الأرض فعرفه ابن أبي سبرة فنزل و أركبه و صار رديفا له و قال له عبد الرحمن ناد في الناس ألحقوا بدير ابن أبي مريم فنادى بذلك و انطلقا ذاهبين و أمر شبيب أصحابه فرفعوا عن الناس السيف و دعاهم إلى البيعة فأتاه من بقي من الرجال فبايعوه و بات عبد الرحمن بدير اليعار فأتاه فارسان ليلا فخلا به أحدهما يناجيه طويلا و قام الآخر قريبا منهما ثم مضيا و لم يعرفا فتحدث الناس أن المناجي له كان شبيبا و أن الذي كان يرقبهما كان مصادا أخاه و اتهم عبد الرحمن بمكاتبة شبيب من قبل .
ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل فسار حتى أتى دير ابن أبي مريم فإذا هو بالناس قبله قد سبقوه و قد وضع لهم ابن أبي سبرة صبر الشعير و ألقت كأنها القصور و نحر لهم من الجزور ما شاءوا و اجتمع الناس إلى عبد الرحمن فقالوا له إن علم شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة قد تفرق الناس عنك و قتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة . فخرج و خرج معه الناس حتى دخل الكوفة مستترا من الحجاج إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك . ثم إن شبيبا اشتد عليه الحر و على أصحابه فأتى ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر و أتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا و الغنيمة كثير و لحق به ناس ممن كان يطلبهم الحجاج بمال و تبعة فمنهم رجل يقال له الحر بن عبد الله بن عوف كان قتل دهقانين من أهل نهر درقيط كانا أساءا إليه و لحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه إلى أن هلك و له مقام عند الحجاج و كلام سلم به من القتل و هو أن الحجاج بعد هلاك شبيب أمن كل من خرج إليه ممن كان يطلبهم الحجاج بمال أو تبعة فخرج إليه الحر فيمن خرج فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج فأحضره و قال يا عدو الله قتلت رجلين من أهل الخراج فقال قد كان أصلحك الله مني ما هو أعظم من هذا قال و ما هو قال خروجي عن الطاعة و فراقي الجماعة ثم إنك أمنت كل من خرج عليك و هذا أماني و كتابك لي . فقال الحجاج قد لعمري فعلت ذلك أولى لك و خلى سبيله . ثم لما باخ الحر و سكن عن شبيب خرج من ماه نهروان في نحو من ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن و عليها المطرف بن المغيرة بن شعبة فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان فكتب ماذراسب و هو عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج يخبره خبر شبيب و قدومه إلى قناطر حذيفة فقام الحجاج في الناس و خطبهم و قال أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم و فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع و أسمع و أصبر على البلاء منكم فيقاتلون عدوكم و يأكلون فيئكم يعني جند الشام .
فقام إليه الناس من كل جانب يقولون بل نحن نقاتلهم و نغيث الأمير ليندبنا إليهم فإنا حيث يسره .
و قام إليه زهرة بن حوية و هو يومئذ شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال أصلح الله الأمير إنك إنما تبعث الناس متقطعين فاستنفر إليهم الناس كافة و ابعث عليهم رجلا متينا شجاعا مجربا يرى الفرار هضما و عارا و الصبر مجدا و كرما فقال الحجاج فأنت ذاك فاخرج . فقال أصلح الله الأمير إنما يصلح لهذا الموقف رجل يحمل الرمح و الدرع و يهز السيف و يثبت على متن الفرس و أنا لا أطيق ذلك قد ضعفت و ضعف بصرى و لكن ابعثني مع أمير تعتمده فأكون في عسكره و أشير عليه برأيي . فقال جزاك الله عن الإسلام و الطاعة خيرا لقد نصحت و صدقت و أنا مخرج الناس كافة ألا فسيروا أيها الناس . فانصرف الناس يتجهزون و ينتشرون و لا يدرون من أميرهم . و كتب الحجاج إلى عبد الملك أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن شبيبا قد شارف المدائن و إنما يريد الكوفة و قد عجز أهل العراق عن قتاله في مواطن كثيرة في كلها تقتل أمراؤهم و يفل خيولهم و أجنادهم فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلي جندا من جند الشام ليقاتلوا عدوهم و يأكلوا بلادهم فعل إن شاء الله . فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف و بعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين و سرحهم نحوه حين أتاه الكتاب .
و قد كان الحجاج بعث إلى عتاب بن ورقاء الرياحي ليأتيه و كان على خيل الكوفة مع المهلب و دعا الحجاج أشراف أهل الكوفة منهم زهرة بن حوية و قبيصة بن والق فقال من ترون أن أبعث على هذا الجيش قالوا رأيك أيها الأمير أفضل قال إني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء و هو قادم عليكم الليلة فيكون هو الذي يسير بالناس فقال زهرة بن حوية أصلح الله الأمير رميتهم بحجرهم لا و الله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل .
فقال قبيصة بن والق و إني مشير عليك أيها الأمير برأي اجتهدته نصيحة لك و لأمير المؤمنين و لعامة المسلمين إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام لأن أهل الكوفة قد هزموا و هان عليهم الفرار و العار من الهزيمة فكأنما قلوبهم في صدور قوم آخرين فإن رأيت أن تبعث إلى الجيش الذي قد أمددت به من أهل الشام فليأخذوا حذرهم و لا يثبتوا بمنزل إلا و هم يرون أنهم يبيتون فعلت فإن فعلت فإنك إنما تحارب حولا قلبا محلالا مظعانا إن شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى و لا آمن أن يأتيهم و هم غارون فإن يهلكوا يهلك العراق كله . فقال الحجاج لله أبوك ما أحسن ما رأيت و ما أصح ما أشرت به فبعث إلى الجيش الوارد عليه من الشام كتابا قرءوه و قد نزلوا هيت و هو أما بعد فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات و الأنبار و خذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله . فأقبل القوم سراعا و قدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه فيها قادم فأمره الحجاج فخرج بالناس و عسكر بحمام أعين و أقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا فقطع منها دجلة و أقبل حتى نزل بهرسير و صار بينه و بين مطرف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة فقطع مطرف الجسر و رأى رأيا صالحا كاد به شبيبا حتى حبسه عن وجهه و ذلك أنه بعث إليه أن ابعث إلي رجالا من فقهاء أصحابك و قرائهم و أظهر له أنه يريد أن يدارسهم القرآن و ينظر فيما يدعون إليه فإن وجد حقا اتبعه فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب و سويد و المحلل و وصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرف و أرسل إلى مطرف أن ابعث إلي من أصحابك و وجوه فرسانك بعدة أصحابي ليكونوا رهنا في يدي حتى ترد على أصحابي فقال مطرف لرسوله القه و قل له كيف آمنك الآن على أصحابي إذ أبعثهم إليك و أنت لا تأمنني على أصحابك فأبلغه الرسول فقال قل له قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا و أنتم قوم غدر تستحلون الغدر و تفعلونه فبعث إليه مطرف جماعة من وجوه أصحابه فلما صاروا في يد شبيب سرح إليه أصحابه فعبروا إليه في السفينة فأتوه فمكثوا أربعة أيام يتناظرون و لم يتفقوا على شي ء فلما تبين لشبيب أن مطرفا كاده و أنه غير متابع له تعبى للمسير و جمع إليه أصحابه و قال لهم إن هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام و ذلك أني هممت أن أخرج في جريدة من الخيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام و أرجو أن أصادف غرتهم قبل أن يحذروا و كنت ألقاهم منقطعين عن المصر ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه و لا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به و قد جاءني عيون أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر فهم الآن قد شارفوا الكوفة و جاءني أيضا عيون من نحو عتاب أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة و أهل البصرة فما أقرب ما بيننا و بينهم فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب . و كان عتاب حينئذ قد أخرج معه خمسين ألفا من المقاتلة و هددهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة و توعدهم و عرض شبيب أصحابه بالمدائن فكانوا ألف رجل فخطبهم و قال يا معشر المسلمين إن الله عز و جل كان ينصركم و أنتم مائة و مائتان و اليوم فأنتم مئون و مئون ألا و إني مصل الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله . فصلى الظهر ثم نادى في الناس فتخلف عنه بعضهم . قال فروة بن لقيط فلما جاز ساباط و نزلنا معه قص علينا و ذكرنا بأيام الله و زهدنا في الدنيا و رغبنا في الآخرة ثم أذن مؤذنه فصلى بنا العصر ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء فلما رأى جيش عتاب نزل من ساعته و أمر مؤذنه فأذن ثم تقدم فصلى بأصحابه صلاة المغرب و خرج عتاب بالناس كلهم فعبأهم و كان قد خندق على نفسه مذ يوم نزل . و جعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال له يا ابن أخي إنك شريف فاصبر و صابر فقال أما أنا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان . و قال لقبيصة بن والق التغلبي اكفني الميسرة فقال أنا شيخ كبير غايتي أن أثبت تحت رايتي أ ما تراني لا أستطيع القيام إلا أن أقام و أخي نعيم بن عليم ذو غناء فابعثه على الميسرة فبعثه عليها و بعث حنظلة بن الحارث الرياحي ابن عمه و شيخ أهل بيته على الرجالة و بعث معه ثلاثة صفوف صف فيه الرجالة و معهم السيوف و صف هم أصحاب الرماح و صف فيه المرامية . ثم سار عتاب بين الميمنة و الميسرة يمر بأهل راية راية فيحرض من تحتها على الصبر و من كلامه يومئذ إن أعظم الناس نصيبا من الجنة الشهداء و ليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي أ لا ترون عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه لا يرى ذلك إلا قربة لهم فهم شرار أهل الأرض و كلاب أهل النار فلم يجبه أحد فقال أين القصاص يقصون على الناس و يحرضونهم فلم يتكلم أحد فقال أين من يروي شعر عنترة فيحرك الناس فلم يجبه أحد و لا رد عليه كلمة فقال لا حول و لا قوة إلا بالله و الله لكأني بكم و قد تفرقتم عن عتاب و تركتموه تسفي في استه الريح ثم أقبل حتى جلس في القلب و معه زهرة بن حوية و عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث .
و أقبل شبيب في ستمائة و قد تخلف عنه من الناس أربعمائة فقال إنه لم يتخلف عني إلا من لا أحب أن أراه معي فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة و بعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب و مضى هو في مائتين إلى الميمنة و ذلك بين المغرب و العشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم لمن هذه الرايات قالوا رايات همدان . فقال رايات طالما نصرت الحق و طالما نصرت الباطل لها في كل نصيب أنا أبو المدلة اثبتوا إن شئتم ثم حمل عليهم و هم على مسناة أمام الخندق ففضهم و ثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق . فجاء شبيب فوقف عليه و قال لأصحابه مثل هذا قوله تعالى وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ . ثم حمل على الميسرة ففضها و صمد نحو القلب و عتاب جالس على طنفسة هو و زهرة بن حوية فغشيهم شبيب فانفض الناس عن عتاب و تركوه فقال عتاب يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد و قل فيه الغناء لهفي على خمسمائة فارس من وجوه الناس أ لا صابر لعدوه أ لا مواس بنفسه فمضى الناس على وجوههم فلما دنا منه شبيب وثب إليه في عصابة قليلة صبرت معه فقال له بعضهم إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد هرب و انصفق معه ناس كثير فقال أما إنه قد فر قبل اليوم و ما رأيت مثل ذلك الفتى ما يبالي ما صنع ثم قاتلهم ساعة و هو يقول ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبل بمثله أقل ناصرا و لا أكثرها ربا خاذلا فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب و كان أصاب دما في قومه و التحق بشبيب فقال إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء فحمل عليه فطعنه فوقع و قتل و وطئت الخيل زهرة بن حوية فأخذ يذبب بسيفه و هو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله و انتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه فقال من قتل هذا قال الفضل أنا قتلته فقال شبيب هذا زهرة بن حوية أما و الله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك و عظم فيه غناؤك و لرب خيل للمشركين هزمتها و سرية لهم ذعرتها و مدينة لهم فتحتها ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين .
و قتل يومئذ وجوه العرب من عسكر العراق في المعركة و استمكن شبيب من أهل العسكر فقال ارفعوا عنهم السيف و دعاهم إلى البيعة فبايعه الناس عامة من ساعتهم و احتوى على جميع ما في العسكر و بعث إلى أخيه و هو بالمدائن فأتاه فأقام بموضع المعركة يومين و دخل سفيان بن الأبرد الكلبي و حبيب بن عبد الرحمن فيمن معهما إلى الكوفة فشدوا ظهر الحجاج و استغنى بهم عن أهل العراق و وصلته أخبار عتاب و عسكره فصعد المنبر فقال يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز و لا نصر من أراد منكم النصر اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا و الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود و النصارى و لا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء . و خرج شبيب يريد الكوفة فانتهى إلى سورا فقال لأصحابه أيكم يأتيني برأس عاملها فانتدب إليه قطين و قعنب و سويد و رجلان من أصحاب شبيب فكانوا خمسة و ساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج و العمال فيها فقالوا أجيبوا الأمير فقال الناس أي أمير قالوا أمير قد خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا فاغتر بذلك عامل سورا فخرج إليهم فلما خالطهم شهروا السيوف و حكموا و خبطوه بها حتى قتلوه و قبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال و لحقوا بشبيب . فلما رأى شبيب البدر قال أتيتمونا بفتنة المسلمين هلم يا غلام الحربة فخرق بها البدر و أمر أن تنخس الدواب التي كانت البدر عليها فمرت رائحة و المال يتناثر من البدر حتى وردت الصراة فقال إن كان بقي شي ء فاقذفوه في الماء .
و قال سفيان بن الأبرد للحجاج ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة فقال لا ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم و الكوفة في ظهرنا و أقبل شبيب حتى نزل حمام أعين و دعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم عتاب فخرج في ألف رجل حتى انتهى إلى شبيب ليدفعه عن الكوفة فلما رآه شبيب حمل عليه فقتله و فل أصحابه فجاءوا حتى دخلوا الكوفة و بعث شبيب البطين في عشرة فوارس يرتادون له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق فوجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة فأخذوا بأفواه السكك فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس من أصحابه فعقروا فرس حوشب و هزموه فنجا بنفسه و مضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه و نزل شبيب بها و لم يوجه إليه الحجاج أحدا فابتنى مسجدا في أقصى السبخة و أقام ثلاثا لم يوجه إليه الحجاج أحدا و لا يخرج إليه من أهل الكوفة و لا من أهل الشام أحد و كانت امرأته غزالة نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما بالبقرة و آل عمران . فجاء شبيب مع امرأته حتى أوفت بنذرها في المسجد و أشير على الحجاج أن يخرج بنفسه إليه فقال لقتيبة بن مسلم إني خارج فاخرج أنت فارتد لي معسكرا فخرج و عاد فقال وجدت المدى سهلا فسر أيها الأمير على اسم الله و الطائر الميمون فخرج الحجاج بنفسه و مر على مكان فيه كناسة و أقذار فقال ألقوا لي هنا بساطا فقيل له إن الموضع قذر فقال ما تدعوني إليه أقذر الأرض تحته طيبة و السماء فوقه طيبة .
و وقف هناك و أخرج مولى له يعرف بأبي الورد و عليه تجفاف و أحاط به غلمان كثير و قيل هذا الحجاج فحمل عليه شبيب فقتله و قال إن يكن الحجاج فقد أرحت الناس منه و دلف الحجاج نحوه حينئذ و على ميمنته مطر بن ناجية و على ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء و هو في زهاء أربعة آلاف فقيل له أيها الأمير لا نعرف شبيبا بمكانك فتنكر و أخفى مكانه و تشبه به مولى آخر للحجاج في هيئته و زيه فحمل عليه شبيب فضربه بالعمود فقتله و يقال إنه قال لما سقط أخ بالخاء المعجمة فقال شبيب قاتل الله ابن أم الحجاج اتقى الموت بالعبيد و ذلك أن العرب تقول عند التأوه أح بالحاء المهملة . ثم تشبه بالحجاج أعين صاحب حمام أعين و لبس لبسته فحمل عليه شبيب فقتله فقال الحجاج علي بالبغل لأركبه فأتي ببغل محجل و قيل أيها الأمير أصلحك الله إن الأعاجم كانت تتطير أن تركب مثل هذا البغل في مثل هذا اليوم فقال أدنوه مني فإنه أغر محجل و هذا يوم أغر محجل فركبه ثم سار في الناس يمينا و شمالا ثم قال اطرحوا لي عباءة فطرحت له فنزل فجلس عليها ثم قال ائتوني بكرسي فأتي به فقام فجلس عليه ثم نادى أهل الشام فقال يا أهل الشام يا أهل السمع و الطاعة لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم غضوا الأبصار و اجثوا على الركب و استقبلوا القوم بأطراف الأسنة فجثوا على الركب و كأنهم حرة سوداء . و منذ هذا الوقت ركدت ريح شبيب و أذن الله تعالى في إدبار أمره و انقضاء أيامه فأقبل حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثة كراديس كتيبة معه و كتيبة مع سويد بن سليم و كتيبة مع المحلل بن وائل و قال لسويد احمل عليهم في خيلك فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشي أطراف أسنتهم وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا فصبروا له ثم طاعنوه قدما قدما حتى ألحقوه بأصحابه .
فلما رأى شبيب صبرهم نادى يا سويد احمل في خيلك في هذه الرايات الأخرى لعلك تزيل أهلها فتأتي الحجاج من ورائه و نحمل نحن عليه من أمامه فحمل سويد على تلك الرايات و هي بين جدران الكوفة فرمى بالحجارة من سطوح البيوت و من أفواه السكك فانصرف و لم يظفروا . و رماه عروة بن المغيرة بن شعبة بالسهام و قد كان الحجاج جعله في ثلاثمائة رام من أهل الشام ردءا له كي لا يؤتى من ورائه فصاح شبيب في أصحابه . يا أهل الإسلام إنما شريتم لله و من يكن شراؤه لله لم يضره ما أصابه من ألم و أذى لله أبوكم الصبر الصبر شدة كشداتكم الكريمة في مواطنكم المشهورة . فشدوا شدة عظيمة فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم فقال شبيب الأرض دبوا دبيبا تحت تراسكم حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج فوقها فأذلقوها صعدا و ادخلوا تحتها و اضربوا سوقهم و أقدامهم و هي الهزيمة بإذن الله فأقبلوا يدبون دبيبا تحت الحجف صمدا صمدا نحو أصحاب الحجاج . فقال خالد بن عتاب بن ورقاء أيها الأمير أنا موتور و لا أتهم في نصيحتي فأذن لي حتى آتيهم من ورائهم فأغير على معسكرهم و ثقلهم فقال افعل ذلك فخرج في جمع من مواليه و شاكريته و بني عمه حتى صار من ورائهم فالتقى بمصاد أخي شبيب فقتله و قتل غزالة امرأة شبيب و ألقى النار في معسكرهم و التفت شبيب و الحجاج فشاهدا النار فأما الحجاج فكبر و كبر أصحابه و أما شبيب فوثب هو و كل راجل من أصحابه على خيولهم مرعوبين فقال الحجاج لأصحابه شدوا عليهم فقد أتاهم ما أرعبهم فشدوا عليهم فهزموهم و تخلف شبيب في خاصة الناس حتى خرج من الجسر و تبعه خيل الحجاج و غشيه النعاس فجعل يخفق برأسه و الخيل تطلبه .
قال أصغر الخارجي كنت معه ذلك اليوم فقلت يا أمير المؤمنين التفت فانظر من خلفك فالتفت غير مكترث و جعل يخفق برأسه قال و دنوا منا فقلت يا أمير المؤمنين قد دنا القوم منك فالتفت و الله ثانية غير مكترث بهم و جعل يخفق برأسه و بعث الحجاج خيلا تركض تقول دعوه يذهب في حرق الله فتركوه و انصرفوا عنه . و مضى شبيب بأصحابه حتى قطعوا جسر المدائن فدخلوا ديرا هناك و خالد بن عتاب يقفوهم فحصرهم في الدير فخرج شبيب إليه فهزمه و أصحابه نحوا من فرسخين حتى ألقى خالد نفسه في دجلة هو و أصحابه بخيولهم فمر به شبيب فرآه في دجلة و لواؤه في يده فقال قاتله الله فارسا و قاتل فرسه فرس هذا أشد الناس قوة و فرسه أقوى فرس في الأرض و انصرف فقيل له بعد انصرافه إن الفارس الذي رأيت هو خالد بن عتاب بن ورقاء فقال معرق في الشجاعة لو علمت لأقحمت خلفه و لو دخل النار . ثم دخل الحجاج الكوفة بعد هزيمة شبيب فصعد المنبر و قال و الله ما قوتل شبيب قط قبل اليوم ولى هاربا و ترك امرأته يكسر في استها القصب . ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام و قال احذر بياته و حيثما لقيته فنازله فإن الله تعالى قد فل حده و قصم نابه فخرج حبيب في أثره حتى نزل الأنبار و بعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب من جاءنا منكم فهو آمن فكان كل من ليست له بصيرة في دين الخوارج ممن هزه القتال و كرهه ذلك اليوم يجي ء فيؤمن و قبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب من جاءنا فهو آمن فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه . و بلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن بالأنبار فأقبل بأصحابه حتى دنا منه فقال يزيد السكسكي كنت مع أهل الشام بالأنبار ليلة جاءنا شبيب فبيتنا فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعا و جعل على كل ربع أميرا و قال لنا ليحم كل ربع منكم جانبه فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر فإنه بلغني أن الخوارج منكم قريب فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون فمقاتلون قال فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب تلك الليلة فبيتنا فشد على ربع منا فصابرهم طويلا فما زالت قدم إنسان منهم ثم تركهم و أقبل إلى ربع آخر فقاتلهم طويلا فلم يظفر بشي ء ثم طاف بنا يحمل علينا ربعا ربعا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل و لصق بنا حتى قلنا لا يفارقنا ثم ترجل فنازلنا راجلا نزالا طويلا هو و أصحابه فسقطت و الله بيننا و بينهم الأيدي و الأرجل و فقئت الأعين و كثرت القتلى فقتلنا منهم نحو ثلاثين و قتلوا منا نحو مائة و ايم الله لو كانوا أكثر من مائتي رجل لأهلكونا ثم فارقونا و قد مللناهم و ملونا و كرهناهم و كرهونا و لقد رأيت الرجل منا يضرب الرجل منهم بالسيف فما يضره من الإعياء و الضعف و لقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسا ينفخ بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء و البهر حتى ركب شبيب و قال لأصحابه الذين نزلوا معه اركبوا و توجه بهم منصرفا عنا . فقال فروة بن لقيط الخارجي و كان شهد معه مواطنه كلها قال لنا ليلتئذ و قد رأى بنا كآبة ظاهرة و جراحات شديدة ما أشد هذا الذي بنا لو كنا نطلب الدنيا و ما أيسر هذا في طاعة الله و ثوابه فقال أصحابه صدقت يا أمير المؤمنين .
قال فروة بن لقيط و سمعته تلك الليلة يحدث سويد بن سليم و يقول له لقد قتلت منهم أمس رجلين من أشجع الناس خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم فاشترى أحدهم حاجته و خرج قبل أصحابه فخرجت معه فقال لي أراك لم تشتر علفا فقلت إن لي رفقاء قد كفوني ذلك ثم قلت له أين ترى عدونا هذا نزل فقال بلغني أنه قد نزل قريبا منا و ايم الله لوددت أني لقيت شبيبهم هذا قلت أ فتحب ذلك قال إي و الله قلت فخذ حذرك فأنا و الله شبيب و انتضيت السيف فخر و الله ميتا فقلت له ارتفع ويحك و ذهبت أنظر فإذا هو قد مات فانصرفت راجعا فاستقبلت الآخر خارجا من القرية فقال أين تذهب هذه الساعة التي يرجع فيها الناس إلى معسكرهم فلم أكلمه و مضيت فنفرت بي فرسي و ذهبت تتمطر فإذا به في أثري حتى لحقني فعطفت عليه و قلت ما بالك قال أظنك و الله من عدونا قلت أجل و الله قال إذا لا تبرح حتى أقتلك أو تقتلني فحملت عليه و حمل علي فاضطربنا بسيفينا ساعة فو الله ما فضلته في شدة نفس و لا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته . و بلغ شبيبا أن جند الشام الذي مع حبيب حملوا معهم حجرا و حلفوا لا يفرون حتى يفر هذا الحجر فأراد أن يكذبهم فعمد إلى أربعة أفراس و ربط في أذنابها ترسة في ذنب كل فرس ترسين ثم ندب ثمانية نفر من أصحابه و غلاما له يقال له حيان كان شجاعا فاتكا و أمره أن يحمل معه إداوة من ماء ثم سار ليلا حتى أتى ناحية من عسكر أهل الشام فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر الأربع و أن يكون مع كل رجلين فرس ثم يلبسوها الحديد حتى تجد حره ثم يخلوها في العسكر و واعدهم تلعة قريبة من العسكر و قال من نجا منكم فإن موعده التلعة فكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم فنزل بنفسه حتى صنع بالخيل ما أمرهم به حتى دخلت في العسكر و دخل هو يتلوها و يشد خلفها شدا محكما فتفرقت في نواحي العسكر و اضطرب الناس فضرب بعضهم بعضا و ماجوا و نادى حبيب بن عبد الرحمن ويحكم إنها مكيدة فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر ففعلوا و حصل شبيب بينهم فلزم الأرض معهم حتى رآهم قد سكنوا و قد أصابته ضربة عمود أوهنته .
فلما هدأ الناس و رجعوا إلى مراكزهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة فإذا مولاه حيان فقال أفرغ ويحك على رأسي من هذه الإداوة فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان بضرب عنقه و قال لنفسه لا أجد مكرمة لي و لا ذكرا أرفع من هذا في هذه الخلوة و هو أماني من الحجاج فأخذته الرعدة حين هم بما هم به فلما أبطأ عليه قال له ويحك ما انتظارك بحلها ناولنيها و تناول السكين من موزجه فخرقها به ثم ناوله إياها فأفرغ عليه من الماء فكان حيان بعد ذلك يقول لقد هممت فأخذتني الرعدة فجبنت عنه و ما كنت أعهد نفسي جبانا . ثم إن الحجاج أخرج الناس إلى شبيب و قسم فيهم أموالا عظيمة و أعطى الجرحى و كل ذي بلاء و أمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم فشق ذلك على حبيب بن عبد الرحمن و قال تبعث سفيان إلى رجل قد فللته و قتلت فرسانه و كان شبيب قد أقام بكرمان حتى جبر و استراش هو و أصحابه فمضى سفيان بالرجال و استقبله شبيب بدجيل الأهواز و عليه جسر معقود فعبر إلى سفيان فوجده قد نزل بالرجال و جعل مهاصر بن صيفي على خيله و بشر بن حسان الفهري على ميمنته و عمر بن هبيرة الفزاري على ميسرته و أقبل شبيب في ثلاثة كراديس هو في كتيبة و سويد بن سليم في كتيبة و قعنب في كتيبة و خلف المحلل في عسكره فلما حمل سويد و هو في ميمنته على ميسرة سفيان و قعنب و هو في ميسرته على ميمنة سفيان حمل هو على سفيان ثم اضطربوا مليا حتى رجعت الخوارج إلى مكانها الذي كانوا فيه .
فقال يزيد السكسكي و كان من أصحاب سفيان يومئذ كر علينا شبيب و أصحابه أكثر من ثلاثين كرة و لا يزول من صفنا أحد فقال لنا سفيان لا تحملوا عليهم متفرقين و لكن لتزحف عليهم الرجال زحفا ففعلنا و ما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط ثم نزل شبيب و نزل معه نحو مائة رجل فما هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا من الضرب و الطعن شيئا ما رأينا مثله قط و لا ظنناه يكون فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم و لا يأمن ظفرهم دعا الرماة فقال ارشقوهم بالنبل و ذلك عند المساء و كان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار فرشقهم أصحابه و قد كان سفيان صفهم على حدة و عليهم أمير فلما رشقوهم شدوا عليهم فشددنا نحن و شغلناهم عنهم فلما رأوا ذلك ركب شبيب و أصحابه و كروا على أصحاب النبل كرة شديدة صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين راميا ثم عطف علينا يطاعننا بالرماح حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنا فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه يا قوم دعوهم لا تتبعوهم يا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم قال فكففنا عنهم و ليس شي ء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا . قال فروة بن لقيظ الخارجي فلما انتهينا إلى الجسر قال شبيب اعبروا معاشر المسلمين فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله تعالى قال فعبرنا أمامه و تخلف في آخرنا و أقبل يعبر الجسر و تحته حصان جموح و بين يديه فرس أنثى ماذيانة فنزا حصانه عليها و هو على الجسر فاضطربت الماذيانة و زل حافر فرس شبيب عن حرف السفينة فسقط في الماء فسمعناه يقول لما سقط ليقضي الله أمرا كان مفعولا و اغتمس في الماء ثم ارتفع فقال ذلك تقدير العزيز العليم ثم اغتمس في الماء فلم يرتفع .
هكذا روى أكثر الناس و قال قوم إنه كان مع شبيب رجال كثير بايعوه في الوقائع التي كان يهزم الجيش فيها و كانت بيعتهم إياه على غير بصيرة و قد كان أصاب عشائرهم و ساداتهم فهم منه موتورون فلما تخلف في أخريات الناس يومئذ قال بعضهم لبعض هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثارنا الساعة فقالوا هذا هو الرأي فقطعوا الجسر فمالت به السفينة ففزع حصانه و نفر فسقط في الماء و غرق . و الرواية الأولى أشهر فحدث قوم من أصحاب سفيان قالوا سمعنا صوت الخوارج يقولون غرق أمير المؤمنين فعبرنا إلى عسكرهم فإذا هو ليس فيه صافر و لا أثر فنزلنا فيه و طلبنا شبيبا حتى استخرجناه من الماء و عليه الدرع فيزعم الناس أنهم شقوا بطنه و أخرجوا قلبه فكان مجتمعا صلبا كالصخرة و أنه كان يضرب به الأرض فينبو و يثب قامة الإنسان . و يحكى أن أم شبيب كانت لا تصدق أحدا نعاه إليها و قد كان قيل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل فلما قيل لها إنه قد غرق بكت فقيل لها في ذلك فقالت رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من فرجي نار ملأت الآفاق ثم سقطت في ماء فخمدت فعلمت أنه لا يهلك إلا بالغرق الجزء الخامس
تتمة الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله أجمعين
|