و قال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج
و هو الثامن و الخمسون من المختار في باب الخطب و قيل له انّهم قد عبروا جسر النهروان: مصارعهم دون النّطفة و اللّه لا يفلت منهم عشرة و لا يهلك منكم عشرة. قال السّيد يعنى بالنطفة ماء النّهر و هى أفصح كناية عن الماء و إن كان كثيرا جمّا و قد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم عند مضي ما اشبهه.
اللغة
(الجسر) معروف و (الصّرع) الطرح على الارض و المصرع يكون موضعا و مصدرا و المراد هنا موضع هلاكهم و (النطفة) بالضّم الماء الصّافي قلّ أو كثر و النطفتان في الحديث بحر المشرق و المغرب أو ماء الفرات و بحر جدّة، و المراد بها هنا كما ذكره السّيد (ره) ماء النهروان، و قد مضى التّعبير بها أيضا في الخطبة السابعة و الأربعين و (الافلات) و التفلت و الانفلات التخلّص من الشّي ء فجأة.
الاعراب
كلمة لما في كلام السّيد ظرفية بمعنى حين، و جملة قيل له عطف على عزم و قوله مصارعهم دون النطفة في محلّ النّصب مقول لقال.
المعنى
اعلم أنّ قوله (مصارعهم دون النطفة و اللّه لا يفلت منهم عشرة و لا يهلك منكم عشرة) اخبار عمّا يكون قبل كونه و هو من معجزاته المتواترة.
و روى أنّه لما قتل الخوارج وجدوا المفلت منهم تسعة تفرّقوا في البلاد، فانهزم اثنان منهم الى عمّان، و اثنان إلى كرمان، و اثنان الى سجستان، و اثنان الى الجزيرة، و واحد الى تلّ موزون، فظهرت بدعهم في البلاد و صاروا فرقا كثيرة على ما ستطلع عليه في شرح كلامه الآتى، و وجدوا المقتول من أصحابه ثمانية و يمكن أن يكون خفى على القوم مكان واحد من المقتولين أو يكون التّعبير بعدم إهلاك العشرة للمشاكلة و المناسبة بين القرينتين.
تذكرة
قد مضى في شرح الخطبة السّادسة و الثّلاثين أسماء المقتولين من أصحابه، و مضى أيضا في شرح كلامه الخامس و الثلاثين سند تلك الرّواية و نقلها من العلّامة المجلسى من كتاب الخرائج عن جندب بن زهير.
و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: أنّه روى عن المدايني في كتاب الخوارج أنه لما خرج عليّ إلى أهل النهروان أقبل رجل من أصحابه ممّن كان على مقدمته يركض حتّى انتهى إلى عليّ فقال: البشرى يا أمير المؤمنين، قال: ما بشراك قال: إنّ القوم عبروا النهر لما أبلغهم وصولك فابشر فقد منحك اللّه اكتافهم، فقال اللّه أنت رأيتهم قد عبّروا، قال: نعم فأحلفه ثلاث مرّات في كلّها يقول نعم، فقال: و اللّه ما عبروا و لن يعبروا و أنّ مصارعهم لدون النطفة و الذي فلق الحبّة و برء النسمة لن يبلغوا الا ثلث و لا قصر بوران حتى يقتلهم اللّه، و قد خاب من افترى.
قال: ثمّ أقبل فارس آخر يركض فرسه فقال كقول الأوّل فلم يكترث عليه السّلام بقوله، و جاءت الفرسان كلّها تركض و تقول مثل ذلك فقام عليه السّلام فجال في متن فرسه.
قال فقال شابّ من النّاس: و اللّه لأكوننّ قريبا منه فان كان عبروا النهر لأجعلنّ سنان رمحي في عينه أيدّعي علم الغيب، فلما انتهى عليّ إلى النّهر وجد القوم، قد كسروا جفون سيوفهم و عرقبوا خيولهم و حبوا على ركبهم و تحكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له نرجل، فنزل ذلك الشّاب فقال: يا أمير المؤمنين انّى كنت شككت فيك آنفا و إنّى تائب إلى اللّه و إليك فاغفر لي فقال عليّ: إنّ اللّه هو الذي يغفر الذّنوب فاستغفره.
تنبيه و تحقيق
قال الشّارح المعتزلي: هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة، لاشتهاره و نقل النّاس له كافة، و هو من معجزاته و إخباره المفصلة عن الغيوب و الاخبار على قسمين: أحدهما الأخبار المجملة و لا إعجاز فيها نحو أن يقول الرّجل لأصحابه: إنّكم ستنصرون على هذه الفئة التي تلقونها غدا فان نصر جعل ذلك له حجة عند اصحابه و سماها معجزة و إن لم ينصر قال لهم تغيّرت نيّاتكم فمنعكم اللّه نصره و نحو ذلك من القول.
و القسم الثّاني الأخبار المفصلة عن الغيوب مثل هذا الخبر فانّه لا يحتمل التّلبيس لتقييده بالعدد المعين في أصحابه و في الخوارج و وقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة و لا نقصان، و ذلك أمر إلهيّ عرفه من جهة رسول اللّه و عرفه رسول اللّه من جهة اللّه سبحانه، و القوّة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا، و لقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره.
و بمقتضى ما شاهد النّاس من معجزاته و أحواله المنافية لقوى البشريّة غلافيه من غلا حتّى نسب إلى أنّ الجوهر الإلهي حلّ في بدنه كما قالت النّصارى في عيسى، و قد أخبره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، فقال يهلك فيك محبّ غال و مبغض قال، و قال له تارة: و الذي نفسى بيده لو لا أنّي اشفق أن يقول طوايف من امّتي فيك ما قالت النّصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا تمرّ بملاء من النّاس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة.
قال الشّارح: و اوّل من جهر بالغلوّ في أيّامه عبد اللّه بن سبا قام إليه و هو يخطب فقال له أنت أنت و جعل يكرّرها، فقال له ويلك من أنا فقال أنت اللّه فأمر بأخذه و أخذ قوم كانوا على رأيه.
و روى ابو العباس أحمد بن عبيد اللّه من عمّار الثّقفي عن عليّ بن محمّد بن سليمان النّوفلي عن أبيه و عن غيره من مشيخته أنّ عليّا قال: يهلك فيّ رجلان: محبّ مطر يضعني غير موضعى و يمدحني بما ليس فيّ، و مبغض مفترير مينى بما أنا منه برى ء.
قال أبو العباس: و هذا تأويل الحديث المروّى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيه و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله إنّ فيك مثلا عن عيسى بن مريم، أحبّته النصارى فرفعته فوق قدره، و أبغضته اليهود حتّى بهتت أمّه.
قال ابو العباس و قد كان عليّ عثر على قوم خرجوا من محبّته باستحواذ الشيطان عليهم إلى أن كفروا بربّهم و جحد و اما جاء به نبيّهم و اتّخذوه ربّا و إلها و قالوا: أنت خالقنا و رازقنا فاستتابهم و توعّدهم فأقاموا على قولهم فحفر لهم حفرا دخن عليهم طمعا في رجوعهم فأبوا فحرّقهم بالنّار.
قال الشّارح: و روى أصحابنا في كتاب المقالات أنّه لما حرّقهم صاحوا إليه الآن ظهر لنا ظهورا بيّنا أنك أنت الاله لأنّ ابن عمك الذي أرسلته قال لا يعذّب بالنار إلّا ربّ النّار.
و روى أبو العباس عن محمّد بن سليمان بن حبيب المصيصى عن عليّ بن محمّد النّوفلي عن أبيه و مشيخته، أن عليّا مرّ بهم و هم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال أسفر أم مرضى قالوا: و لا واحدة، قال: أ فمن أهل الكتاب أنتم قالوا: لا قال: فما بال الأكل في شهر رمضان نهارا قالوا: أنت أنت لم يزيدوه على ذلك، ففهم مرادهم و نزل عليه السّلام عن فرسه فألصق خدّه بالتّراب ثمّ قال عليه السّلام: ويلكم إنّما أنا عبد من عبيد اللّه فاتّقوا اللّه و ارجعوا إلى الاسلام فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على أمرهم فنهض عنهم، ثمّ قال شدّوهم وثاقا و علىّ بالفعلة و النّار و الحطب ثمّ أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل أحدهما سربا و الآخرة مكشوفة و ألقى الحطب في المكشوفة و فتح بينهما فتحا و ألقى النّار في الحطب فدخن عليهم و جعل يهتف بهم و يناشدهم ارجعوا إلى الاسلام فأبوا فأمر بالحطب و النّار و القى عليهم فاحترقوا فقال الشّاعر:
- لترم بى المنية حيث شائتاذا لم ترم بى في الحفرتين
- اذا ما حشّتا حطبا بنارفذاك الموت نقدا غير دين
قال أبو العباس ثمّ إنّ جماعة من أصحاب علىّ منهم عبد اللّه بن عبّاس شفعوا في عبد اللّه بن سبا خاصّة و قالوا: يا أمير المؤمنين إنّه قد تاب فاعف عنه فأطلقه بعد ان اشترط عليه أن لا يقيم بالكوفة، فقال: أين أذهب قال: المداين فنفاه إلى المداين فلما قتل أمير المؤمنين أظهر مقالته و صارت له طائفة و فرقة يصدّقونه و يتبعونه.
و قال لمّا بلغه قتل عليّ عليه السّلام: و اللّه لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة لعلمنا أنّه لم يمت و لا يموت حتّى يسوق العرب بعصاه، فلما بلغ ابن عباس ذلك قال: لو علمنا لما تزوّجنا نساءه و لا قسّمنا ميراثه.
قال أصحاب المقالات: و اجتمع إلى عبد اللّه بن سبا بالمداين جماعة على هذا القول و تفاقم أمرهم و شاع بين النّاس قولهم و صار لهم دعوة يدعون إليها و شبهة يرجعون اليها و هي ما ظهر و شاع بين النّاس من اخباره بالمغيبات حالا بعد حال، فقالوا: إنّ ذلك لا يمكن أن يكون إلّا للّه تعالى أو من حلّت ذات الاله في جسده، و لعمرى أنّه لا يقدر على ذلك إلّا باقدار اللّه تعالى إيّاه عليه، و لكن لا يلزم من إقداره إيّاه عليه أن يكون هو الاله أو تكون ذات الاله حالّة فيه هذا.
و حيث انجرّ الكلام إلى هذا المقام فلا بأس بأن نحقّق الكلام في معنى الغلوّ و التّفويض و نشير إلى بعض الآيات و الأخبار الواردة فيهما، و نذكر وجوه التفويض و ما ينبغي أن يدان به و يعتقد عليه.
فأقول: قال الصّدوق في اعتقاداته: اعتقادنا في الغلاة و المفوّضة أنّهم كفار باللّه جلّ جلاله و أنّهم شرّ من اليهود و النصارى و المجوس و القدريّة و الحرورية و من جميع أهل البدع و الأهواء المضلّة، و أنّه ما صغر اللّه جل جلاله تصغيرهم شي ء و قال اللّه جلّ جلاله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ و قال اللّه عزّ و جلّ: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ و اعتقادنا في النبيّ و الأئمة أنّ بعضهم قتلوا بالسيف و بعضهم بالسمّ و أنّ ذلك جرى عليهم على الحقيقة و أنه ما شبّه أمرهم كما يزعمه من يتجاوز الحدّ فيهم «إلى أن قال» و كان الرّضا عليه السّلام يقول في دعائه:
اللّهمّ إنّي بري ء اليك من الحول و القوّة، و لا حول و لا قوّة إلّا بك، اللهمّ إنّي أعوذ بك و أبرء إليك من الذين ادّعوا لنا ما ليس لنا بحقّ، اللهمّ إنّي أبرء إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللهمّ لك الحقّ و منك الرّزق و إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اللهمّ أنت خالقنا و خالق آبائنا الأوّلين و آبائنا الآخرين، اللهمّ لا تليق الرّبوبيّة إلّا بك، و لا تصلح الالهيّة إلّا لك، فالعن النّصارى الذين صغّروا عظمتك، و العن المضاهئين لقولهم من بريّتك.
اللهمّ إنّا عبيدك و أبناء عبيدك، لا نملك لأنفسنا نفعا و لا ضرّا، و لا موتا، و لا حياة، و لا نشورا، اللهمّ من زعم أنّنا أرباب فنحن منه براء، و من زعم أنّ إلينا الخلق و علينا الرّزق، فنحن منه براء كبراءة عيسى بن مريم من النّصارى، اللهمّ إنّا لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون، و اغفرنا ما يدعون، و لا تدع على الأرض منهم ديّارا، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً و روى عن زرارة أنّه قال: قلت للصّادق عليه السّلام إنّ رجلا من ولد عبد اللّه بن سبا يقول بالتّفويض، فقال: و ما التّفويض قلت: يقول إنّ اللّه خلق محمّدا و عليّا صلوات اللّه عليهما ففوّض الأمر إليهما فخلقا و رزقا و أماتا و أحييا، فقال: كذب عدوّ اللّه إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرّعد أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
فانصرفت إلى الرّجل فأخبرته بما قال الصّادق عليه السّلام فكأنّي ألقمته حجرا أو قال فكانّما خرس و قد فوّض اللّه عزّ و جلّ إلى نبيّه أمر دينه فقال عزّ و جلّ: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
و قد فوّض ذلك إلى الأئمة عليهم السّلام و عن المفيد في شرح هذا الكلام: الغلوّ في اللغة هو تجاوز الحدّ و الخروج عن القصد قال اللّه تعالى:
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ الآية فنهى عن تجاوز الحدّ في المسيح و حذّر من الخروج عن القصد في القول و جعل ما ادّعته النّصارى فيه غلوّا لتعدية الحدّ على ما بينّاه، و الغلاة من المتظاهرين بالاسلام الذين نسبوا أمير المؤمنين و الأئمة من ذرّيته عليهم السّلام إلى الالهيّة و النّبوّة، و وصفوهم من الفضل في الدّين و الدّنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدّ، و خرجوا عن القصد و هم ضالّ كفّار حكم فيهم أمير المؤمنين بالقتل و التّحريق بالنّار و قضت الأئمة عليهم السلام عليهم بالاكفار و الخروج عن الاسلام، و المفوّضة صنف من الغلاة و قولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة و خلقهم، و نفى القدم عنهم و إضافة الخلق و الرّزق مع ذلك إليهم، و دعواهم أنّ اللّه تفرّد بخلقهم خاصّة و أنّه فوّض إليهم خلق العالم بما فيه و جميع الأفعال انتهى كلامه رفع مقامه و قال المحدّث العلامة المجلسى طاب ثراه: اعلم أنّ الغلوّ في النبيّ و الأئمة عليهم الصّلاة و السّلام إنّما يكون بالقول بالوهيّتهم، أو بكونهم شركاء للّه تعالى في المعبوديّة أو في الخلق و الرّزق، أو أنّ اللّه تعالى، حلّ فيهم، أو اتحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحى أو إلهام من اللّه تعالى، أو بالقول في الأئمة أنهم كانوا أنبياء أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأنّ معرفتهم تغنى عن جميع الطاعات و لا تكليف معها بترك المعاصي، و القول بكلّ منها الحاد و كفر و خروج عن الدّين كما دلّت عليه الأدلّة العقلية و الآيات و الأخبار و قد عرفت أنّ الائمّة عليهم السّلام تبرّؤوا منهم و حكموا بكفرهم و أمروا بقتلهم و إن قرع سمعك شي ء من الأخبار الموهمة لشي ء من ذلك فهى إمّا مأوّلة أو هي من مفتريات الغلاة، و لكن أفرط بعض المتكلمين و المحدّثين في الغلوّ لقصورهم عن معرفة الأئمة عليهم السّلام و عجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم و عجائب شئوناتهم فقدحوا في كثير من الرّوات الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتّى قال بعضهم من الغلوّ نفى السّهو عنهم أو القول بأنّهم يعلمون ما كان و ما يكون و غير ذلك مع أنّه قد ورد في أخبار كثيرة: لا تقولوا فينا ربا و قولوا ما شئتم و لن تبلغوا و ورد أنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان، و ورد لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله و غير ذلك فلا بدّ من المتديّن أن لا يباد ربردّ ما ورد عنهم من فضايلهم و معجزاتهم و معالي أمورهم إلّا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة، انتهى كلامه رفع مقامه و هو كاف في تحقيق المقام و توضيح المرام و ما ذكره (ره) هي الجادّة الوسطى و النّمط الأوسط و الصّراط المستقيم الذي ينبغي سلوكه و المذهب الحقّ الواجب أخذه و لزومه، فالرّاغب عنه مارق و اللّازم له لاحق و المقصّر فيه زاهق و أما التفويض فالوارد في الأخبار الكثيرة المنع من القول به، و قد أكثروا فيها من ذمّ المفوّضة و تكذيبهم و التّبرّى منهم و من ذلك ذهب جمع من الاصحاب إلى نفيه و المنع من القول به، و لكن الانصاف أنّ القول بالمنع مطلقا تفريط، كما أنّ القول بثبوته مطلقا إفراط إذ الأخبار في طرفى المنع و الثّبوت بالغة حدّ الاستفاضة لو لم تبلغ حدّ التواتر، فالعمل باحدى الطائفتين و طرح الطايفة الأخرى بالمرّة و إسقاطها عن درجة الاعتبار غير ممكن، فاللازم الأخذ بكلّ منهما في الجملة، و مقتضاه القول بالتفصيل في المسألة و يظهر ذلك برسم وجوه التّفويض فأقول و باللّه التّوفيق إنّ التفويض عبارة عن تسليم الأمر إلى الخلق و ردّه إليه، و هو على وجهين أحدهما تفويض أمور الخلق إلى أنفسهم، و هو الذي قال به القدرية و يقال لها المفوّضة أيضا و محصّل ما ذهبوا إليه أنّ اللّه أوجد العباد و أقدرهم على أفعالهم و فوّض إليهم الاختيار فهم مستقلّون بايجادها على وفق مشيّتهم و ارادتهم و طبق قدرتهم من دون أن يكون له سبحانه تأثير فيها بوجه من الوجوه، و بازاء هؤلاء الجماعة جماعة أخرى ذهبت إلى أن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه فيفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا علّة لفعله و لا رادّ لقضائه و هذان الفريقان واقعان في طرفي التّضادّ، أحدهما يسمّى بالقدريّة و الآخر بالجبريّة، و زعم الفرقة الاولى أنّ بالقول بالتّفويض يظهر فايده التّكليف بالأمر و النّهى و الوعد و الوعيد، و به يحصل استحقاق الثواب و العقاب، و به ينزّه اللّه سبحانه عن ايجاد الشّرور و القبايح التي هي أنواع الكفر و المعاصي، و زعم الفرقة الاخرى أنّ بالقول بالجبر يحصل سلطنة مالك الملوك في ملكوته و ملكه و أنّ فيه تعظيما لقدرة اللّه تعالى و تقديسا له عن شوائب النّقصان و الافتقار في التّاثير إلى شي ء آخر و أنت خبير بأنّ القول الأوّل مستلزم للشّرك، و الثاني مستلزم للكفر، و قد ورد في الأخبار الكثيرة المنع منهما و الرّد عليهما صريحا بقولهم: لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين، و تحقيق الأمر بين الأمرين و توضيح الرّد على الفريقين لعلنا نشير إليها في مقام مناسب إنشاء اللّه.
الوجه الثاني تفويض أمور الخلق إلى النّبيّ و الأئمة الطاهرين سلام اللّه عليهم وردّها إلى اختيارهم و هو يتصوّر على أنحاء بعضها صحيح و بعضها باطل
الاول
التّفويض في الخلق و الايجاد و التّربية و الرّزق و الاماتة و الاحياء و غيرها من الأفعال، و قد أثبته بهذا المعنى بعض النّاقصين من الغلاة فان كان مرادهم منه أنّهم يفعلون جميع ذلك بارادتهم و قدرتهم و هم الفاعلون لها حقيقة كما هو ظاهر كلماتهم على ما حكى عنهم غير واحد، فهو كفر صريح دلّت على امتناعه الأدلة العقليّة و النقلية، و قد مضى الاشارة إلى بعضها في كلامي الصّدوق و المفيد السابقين و يدلّ عليه صريحا ما رواه في العيون عن الرّضا عليه السّلام أنّه قال: من زعم أن اللّه يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر، و من زعم أنّ اللّه فوّض أمر الخلق و الرّزق إلى حججه فقد قال بالتّفويض، و القائل بالجبر كافر و القائل بالتفويض مشرك و فيه أيضا باسناده عن أبي هاشم الجعفرى قال: سألت أبا الحسن الرّضا عليه السّلام عن الغلاة و المفوّضة فقال: الغلاة كفّار و المفوّضة مشركون من جالسهم أو خالطهم أو و اكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوّجهم أو تزوّج إليهم أو امنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة، خرج من ولاية اللّه عزّ و جلّ و ولاية رسول اللّه و ولايتنا أهل البيت و في البحار من كتاب الرّجال للكشّي باسناده عن عبد اللّه بن شريك عن أبيه قال: بينا عليّ عند امرأة له من غنزة و هي امّ عمرو إذ أتاه قنبر فقال: إنّ عشرة نفر بالباب يزعمون أنّك ربّهم فقال: ادخلهم قال: فدخلوا عليه فقال لهم: ما تقولون فقالوا إنّك ربّنا و أنت الّذي خلقتنا و أنت الذي رزقتنا، فقال لهم: ويلكم ربّي و ربّكم اللّه، ويلكم توبوا أو ارجعوا فقالوا: لا نرجع عن مقالتنا أنت ربّنا ترزقنا و أنت خلقتنا فقال: يا قنبر ائتني بالفعلة فخرج قنبر فأتاه بعشرة رجال مع الزّبل و المرود، فأمر أن يحفروا لهم في الأرض فلمّا حفروا خدّا أمر بالحطب و النّار فطرح فيه حتّى صار نارا تتوقّد قال لهم: توبوا قالوا: لا نرجع فقذف عليّ عليه السّلام بعضهم ثمّ قذف بقيّتهم في النّار قال عليه السّلام:
- إنّي إذا أبصرت شيئا منكراأو قدت نارى و دعوت قنبرا
و عن العيون عن ماجيلويه، عن عليّ، عن أبيه، عن ياسر الخادم قال: قلت للرّضا عليه السّلام ما تقول في التفويض فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى فوّض إلى نبيّه أمر دينه فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فامّا الخلق و الرّزق فلا ثمّ قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ خالق كلّ شي ء و هو يقول عزّ و جلّ:اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا و في الاحتجاج و عن العيون جميعا عن عليّ بن أحمد الدّلال القمّي، قال: اختلف جماعة من الشّيعة في أنّ اللّه عزّ و جلّ فوّض إلى الأئمة أن يخلقوا و يرزقوا فقال قوم: هذا محال لا يجوز على اللّه، لأنّ الاجسام لا يقدر على خلقها غير اللّه عزّ و جلّ، و قال آخرون بل اللّه عزّ جلّ أقدر الأئمة على ذلك و فوّض إليهم، فخلقوا و رزقوا، و تنازعوا في ذلك نزاعا شديدا فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان فتسألونه عن ذلك ليوضح لكم الحقّ فيه فانّه الطريق إلى صاحب الأمر عليه السّلام فرضيت الجماعة بأبي جعفر و سلّمت و أجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة فأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته إنّ اللّه تعالى هو الّذى خلق الأجسام و قسّم الأرزاق، لأنّه ليس بجسم و لا حالّ في جسم، ليس كمثله شي ء و هو السّميع البصير، فأمّا الأئمة فانّهم يسألون اللّه فيخلق و يسألونه فيرزق ايجابا لمسألتهم و إعظاما لحقهم إلى غير هذه من الأخبار الواردة في ردّ هذه المقالة الفاسدة و طعن القائلين به، فلا يستريب عاقل في الحكم بكفرهم إن كان مرادهم التّفويض بالاستقلال.
و إن كان مرادهم أنّ اللّه يفعل الأشياء مقارنا لارادتهم كشقّ القمر و إحياء الموتى و قلب العصاحيّة و غير ذلك من المعجزات، بمعنى أن يكون الفاعل لها حقيقة هو اللّه سبحانه و يكون هو الخالق و الرّازق و المحيى و المميت و الضارّ و النافع إلّا أن ذلك لما كان مقارنا لإرادتهم و مقترنا لمشيّتهم فاطلق ذلك عليهم مجازا.
و بعبارة أخرى لما كان وقوع هذه الأفعال بسبب ارادتهم فصاروا بمنزلة الفاعل لها حقيقة، فهذا المعنى مما لا إباء للعقل عنه لأنه لا يأبى عن أن يكون اللّه خلقهم و أكملهم و ألهمهم ما يصلح لنظام العالم ثمّ خلق كلّشي ء بقدرته مقارنا لارادتهم و مشيتهم.
إلّا انّ المحدّث المجلسي قال: إنّ الأخبار الكثيرة تمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهرا بل صريحا، مع أنّ القول به قول بما لا يعلم، إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما نعلم، و ما ورد من الأخبار الدّالّة على ذلك كخطبة البيان و أمثالها فلم يوجد إلّا في كتب الغلاة و أشباههم مع أنه يمكن أن يكون المراد كونهم علّة غائية لجميع الممكنات، و ايجاد جميع المكونات و انه تعالى جعلهم مطاعين في الأرضين و السماوات، و يطيعهم باذن اللّه تعالى كلّ شي ء حتى الجمادات، و انهم إذا شاءوا امرا لا يرد اللّه مشيتهم و لكنّهم لا يشاءون إلّا أنّ يشاء اللّه.
و أمّا ما ورد من الاخبار فى نزول الملائكة و الرّوح اليهم لكلّ أمر و أنه لا ينزل من السماء ملك لأمر إلّا بدء بهم فليس ذلك لمدخلهم في ذلك و لا للاستشارة بهم، بل له الخلق و الأمر تعالى شأنه و ليس ذلك إلّا لتشريفهم و إكرامهم و اظهار رفعة مقامهم
الثاني
التّفويض في أمر الدّين في الجملة و إنّما قيّدنا به و خالفنا ظاهر أكثر العباير لأنّ كثيرا من الأمور الدّينيّة ممّا نطق به الكتاب العزيز، و بعضها ثبت بالاحاديث القدسيّة، فلا بدّ أن يكون التّفويض فيما عداها، و به يظهر ما في إطلاقات الاكثر، فالمقصود بذلك أنّه سبحانه لمّا أكمل نبيّه بحيث لم يكن يختار من الأمور شيئا إلّا ما يوافق الحقّ و الصّواب، و لم يكن يخطر بباله ما يخالف مشيّة اللّه في كلّ باب فوّض إليه تعيين بعض الامور كالزيادة في الصّلاة و تعيين النّوافل في الصّلاة و الصّوم و طعمة بالجد، و تحريم كلّ مسكر و نحو ذلك ممّا سيأتي في ضمن الأخبار و التّفويض بذلك المعنى حقّ ثابت بالأخبار المستفيضة و قد ذهب إليه جمع من الأصحاب و هو الظّاهر من أكثر المحدّثين بل صريح بعضهم كالكليني حيث عقد في الكافي بابا فيه و الصّدوق في جملة من كتبه، فقد ذكر الأخبار الدالة على ذلك من غير تعرّض لردّها، و صرّح به في عقايده حسبما عرفت سابقا، و المحدّث المجلسي في جملة من كتبه و غيرهم فممّا يدلّ على ذلك رواية ياسر الخادم الّتي أسلفناها و ما رواه في الكافي عن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إنّ اللّه عزّ و جلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ثم فوّض إليه أمر الدّين و الامّة ليسوس عباده فقال: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و إنّ رسول اللّه كان مسدّدا موفّقا مؤيّدا بروح القدس لا يذلّ «يزلّ ظ» و لا يخطى شي ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب اللّه ثمّ إنّ اللّه عزّ و جلّ فرض الصّلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الركعتين ركعتين و إلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنّ إلّا في سفر، و أفرد الرّكعة في المغرب فتركها قائمة في السّفر و الحضر، فأجاز اللّه له ذلك كلّه فصارت الفريضة سبع عشر ركعة.
ثمّ سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النّوافل أربعا و ثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز اللّه له ذلك، و الفريضة و النافلة احدى و خمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعدّ بركعة مكان الوتر، و فرض اللّه في السّنة صوم شهر رمضان و سنّ رسول اللّه صوم شعبان و ثلاثة أيّام في كل شهر مثلي الفريضة فأجاز اللّه له ذلك و حرّم اللّه الخمر بعينها و حرّم رسول اللّه المسكر من كلّ شراب فأجاز اللّه ذلك و عاف رسول اللّه أشياء و كرهها لم ينه عنها نهى حرام إنما نهى عنها نهى إعافة و كراهة، ثمّ رخّص فيها فصار الاخذ برخصته واجبا على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه و عزايمه و لم يرخّص لهم رسول اللّه فيما نهيهم عنه نهى حرام، و لا فيما أمر به أمر فرض لازم فكثير المسكر من الأشربة نهيهم عنه نهى حرام و لم يرخّص رسول اللّه تقصير الركعتين اللتين ضمّهما إلى ما فرض اللّه بل ألزمهم ذلك إلزاما واجبا لم يرخّص لأحد في شي ء من ذلك إلّا للمسافر، و ليس لأحد أن يرخّص ما لم يرخّصه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوافق أمر رسول اللّه أمر اللّه عزّ و جلّ، و نهيه نهى اللّه عزّ و جلّ، و وجب على العباد التسليم له كالتسليم للّه تبارك و تعالى و في الكافي أيضا عن عبد اللّه بن سليمان العامرى عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لما عرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين، فلما ولد الحسن و الحسين زاد رسول اللّه سبع ركعات شكرا للّه فأجاز اللّه له ذلك و ترك الفجر لم يزد فيها لضيق وقتها، لأنّه يحضرها ملائكة اللّيل و ملائكة النّهار، فلمّا أمره اللّه تعالى بالتقصير في السّفر وضع عن امّته ستّ ركعات و ترك المغرب لم ينقص منها شيئا و في البحار من كتاب الاختصاص باسناده عن جابر بن يزيد، قال تلوت على أبي جعفر عليه السّلام هذه الآية من قول اللّه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ فقال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حرص أن يكون علىّ وليّ الأمر من بعده فذلك الّذي عنى اللّه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ و كيف لا يكون له من الأمر شي ء و قد فوّض اللّه إليه فقال: ما أحلّ النّبيّ فهو حلال و ما حرّم النّبيّ فهو حرام و فيه أيضا من بصائر الدّرجات باسناده عن محمّد بن الحسن الميثمي، عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ اللّه أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد ثمّ فوض إليه فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض اللّه إلى رسوله فقد فوّض إلينا، و رواه في الكافي أيضا مثله و في البحار من البصاير أيضا عن أديم بن الحرّ، قال اديم: سأله موسى بن اشيم يعنى أبا عبد اللّه عليه السّلام عن آية من كتاب اللّه فخبّره بها، و لم يبرح حتّى دخل رجل فسأله عن تلك الآية بعينها فأخبره بخلاف ما أخبره، قال ابن أشيم فدخلنى من ذلك ما شاء اللّه حتّى كنت كاد قلبي أن يشرح بالسّكاكين، و قلت. تركت أبا قتادة بالشّام لا يخطي في الحرف الواحد الواو و شبهها و جئت إلى من يخطي هذا الخطاء كلّه فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية بعينها فأخبره بخلاف ما أخبرني و الّذي سأله بعدى فتجلّى عنّي و علمت أنّ ذلك تعمّدا منه، فحدّثت نفسي بشي ء فالتفت إلىّ أبو عبد اللّه عليه السّلام فقال يابن اشيم لا تفعل كذا و كذا فحدّثني عن الامر الذي حدثت به نفسى ثمّ قال: يابن اشيم إنّ اللّه فوّض إلى سليمان بن داود فقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ و فوّض إلى نبيّه فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض إلى نبيّه فقد فوّضه إلينا، و رواه في الكافي نحوها إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب هذا و المستفاد من الرّوايتين الأخيرتين هو ثبوت التّفويض إلى الأئمة كما ثبت للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو نصّ الصّدوق في عبارته التي نقلناها سابقا، و لكنه مشكل جدّا، و ذلك لأنّ الظاهر من تفويض أمر الدّين إليهم حسبما ذكرناه سابقا هو تسليم أمره إليهم و جعله موكولا إلى اختيارهم، بمعنى أن يكون لهم الخيار في تحريم شي ء أو تحليله و الحكم بطهارة شي ء أو نجاسته إلى غير ذلك من الأحكام الشّرعية و الوضعيّة و هو مناف للأحاديث المستفيضة بل المتواترة الدّالة على أنّ جميع الأحكام ممّا علمه رسول اللّه عليّا و الأئمة من ولده، و أنّه ما بقي شي ء يحتاج إليه الامّة من الأحكام الشّرعيّة و المسائل الدّينيّة حتّى أرش الخدش إلّا بيّنه صلّى اللّه عليه و آله و تنافيه للتّفويض ظاهر، إذ المستفاد من هذه الأخبار أنّه لم يبق من أمر الدّين شي ء إلّا و أودعه صلّى اللّه عليه و آله عندهم، فلم يبق حكم واقعىّ حتّى يفوّض الأمر فيه إليهم أو يحكموا به من تلقاء أنفسهم، بل الظاهر أنّ كلّ ما حكموا به فهو نور مقتبس من أنوار الرّسالة.
و منه ينقدح إشكال آخر، و هو أنّ المستفاد من كثير من الأخبار و الآيات أنّ في القرآن تبيان كلّ شي ء و أنّه لا رطب و لا يابس إلّا في كتاب مبين، و أنّ جميع الأحكام ممّا نزل به الرّوح الأمين من عند ربّ العالمين، و ذلك ينافي التفويض إلى النّبيّ أيضا بالتقريب الذي ذكرناه آنفا، و قد قال سبحانه: «و ما ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحى يوحى، و إن اتّبع إلّا ما يوحى الىّ و ما أنا إلّا نذير مبين» و من المعلوم أنّه كثيرا ما كان ينتظر الوحى و لا يجيب من تلقاء نفسه، فلو كان الأمر مفوّضا إليه لما احتاج إلى ذلك و يمكن الجواب عن الاشكال الأوّل بحمل الأحكام المفوّضة إليهم على الأحكام الظاهريّة كالواردة في مقام التّقية و ربّما يشعر به الرّواية الأخيرة إلّا أنّ المستفاد من ذيلها كالرّواية المتقدّمة عليها هو كون التّفويض إلى الأئمة على حدّ التّفويض إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّ ما فوّض إلى رسول اللّه فوّض إلى الأئمة، و قد ظهر من رواية الفضيل أنّ التّفويض إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما هو في الأحكام الواقعيّة فالأولى الجواب بأنّ المراد بالتّفويض إليهم هو التّفويض في تشريع الأحكام و اختراعها.
لا يقال: إنّ تشريع الأحكام كان مختصّا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذ لم يبق بعده حكم حتّى يكون مفوّض التشريع إلى الأئمة لأنّا نقول: إنّ غاية ما يستفاد من الأخبار هو أنّ إكمال الدّين و إنزال جميع الاحكام كان في زمن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمّا تبليغه لها كلّها إلى الامة فلا بل لم يبلّغ صلوات اللّه عليه إلّا قليلا من الاحكام، و إنّما أودعها كلّها عند الأئمة و سلّمها إليهم و هم عليهم السّلام بلّغوا منها إلى الامّة ما كانت محتاجة إليه، و بقى مخزونا عندهم ما لم يكن لها إليه حاجة و بمثل هذا الجواب أيضا يمكن الذّبّ عن الاشكال الثّاني إلّا أنّ التّحقيق في الجواب عنه أن يقال: إنّ كون جميع الاحكام ممّا اوحى بها إلى النبيّ لا ينافي التّفويض إليه، لأنّ المستفاد من الأخبار أنّ تفويض أمور الدّين إليه صلّى اللّه عليه و آله إنّما وقع بعد أن أدّبه اللّه سبحانه، و المراد بتأديبه هو اجتبائه بالهداية إلى جميع ما فيه صلاح العباد في أمر المعاش و المعاد، و اكرامه بالعصمة المانعة من الخطاء و الزّلل، و اكمال عقله و إقداره على معرفة جهات الأفعال من المصالح و المفاسد الواقعة فيها فيكون محصّل المراد بتلك الأخبار أنّ اللّه أكمل عقل نبيّه و علّمه جميع المصالح و المفاسد الواقعيّة، فحسن علمه و كماله، ثمّ فوّض إليه أمر دينه أى أذن له في مراجعة عقله في معرفة الأحكام، فعرف في شي ء جهة حسن ملزم فحكم في نفسه بوجوبه، و في شي ء آخر جهة قبح ملزم فحكم في نفسه بحرمته، و هكذا ثمّ لحقه الاجازة من اللّه سبحانه، فحاله عند التّحقيق كحال المجتهد إذا رجع الأدلّة فحكم بحكم ثمّ عرض على المعصوم فأقرّه عليه و أجاز له ذلك و بعبارة أخرى أنّ اللّه لمّا أكمل نبيّه بالعقل و العلم و العصمة و الهداية، و النّبيّ لمّا عرف الجهات الواقعيّة للأفعال، فعيّن في نفسه الشّريف لكلّ فعل حكما من الأحكام على حسب ملاحظة الجهات و مراعات اقتضاء المقتضيات الواقعيّة فلحقه الاجازة منه سبحانه بما عيّنه في نفسه، ثمّ كلف النّاس به بعد لحوق الاجازة فيكون و حيا و يندرج في أحكام اللّه سبحانه، ثمّ في الكتاب المشتمل عليها و على غيرها، و كيف كان فلا ينطق بما اختاره في نفسه إلّا بعد الاجازة و نزول وحى يدلّ على تقريره عليه.
و من هنا ذهب بعض أصحابنا الأصوليّين إلى أنّ المراد بقولهم كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع: هو العقل الكلّ العالم بالجهات المحسّنة و المقبحة العارف بالمصالح و المفاسد الواقعيّة، و يوضح ما حقّقناه ما ورد في أمر تحويل القبلة من أنّ النبيّ كان متعبّدا باستقبال بيت المقدّس، فلما عيرت به اليهود و قالوا له: إنك تابع لقبلتنا كره استقبال قبلتهم و أحبّ التحويل إلى الكعبة فأنزل اللّه سبحانه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
فانّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد اختار في نفسه التّحويل، و مع ذلك لم يكلّف النّاس به من هوى نفسه و إنما كلّفهم بعد نزول الوحى، فولّى وجهه شطره فولّوا وجوههم إليه، فافهم و اغتنم
الثالث
تفويض أمر الخلق إليهم من سياستهم و تأديبهم و تكميلهم و تعليمهم و وجوب إطاعتهم فيما أحبّوا و كرهوا، و فيما علموا جهة المصلحة فيه و ما لم يعلموا، و بعبارة اخرى أنّه تعالى فوّض زمام الخلق إليهم و أوجب عليهم طاعتهم في كلّ ما يأمرون به و ينهون عنه، سواء علموا جهة المصلحة أم لم يعلموا، و انما الواجب عليهم الاذعان و الانقياد.
قال العلّامة المجلسي (ره): و هذا المعنى حقّ دلّت عليه الآيات و الأخبار و أدلّة العقل اه أقول: من الآيات قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و قوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.
و من الأخبار ما رواه في الكافي باسناده عن أبي اسحاق النحوي قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فسمعته يقول: إنّ اللّه أدّب نبيّه على محبّته فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ثمّ فوّض إليه، فقال: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ثمّ قال و إنّ نبىّ اللّه فوّض إلى عليّ و ائتمنه فسلمتم و جهد الناس فو اللّه لنحبّكم (لحسبكم خ ل) أن تقولوا اذا قلنا، و أن تصمتوا اذا صمتنا و نحن فيما بينكم و بين اللّه ما جعل اللّه لأحد خيرا في خلاف أمرنا و في الكافي و البحار من بصاير الدّرجات باسنادهما عن زرارة قال سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السّلام يقول: إنّ اللّه فوّض الى نبيّه أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثمّ تلى هذه الآية: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
و عن زرارة أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دية العين و دية النفس و دية الأنف، و حرّم النبيذ و كلّ مسكر فقال له رجل: فوضع هذا رسول اللّه من غير أن يكون جاء فيه شي ء قال: نعم ليعلم من يطع الرّسول ممن يعصيه
الرابع
تفويض القول بما هو أصلح لهم أو للخلق بسبب اختلاف العقول و الافهام و الازمنة و الحالات أو غير ذلك من الاعتبارات و بعبارة أوضح أنّه سبحانه فوّض إليهم بيان العلوم و الأحكام بما أراد و أراد المصلحة فيها بسبب اختلاف عقول النّاس و بسبب التقيّة فيفتون بعض النّاس بالواقع من الأحكام و بعضهم بالتقيّة، و يبيّنون تفسير الآيات و تأويلها بحسب ما يحتمل عقل كلّ سائل و لهم أن يبيّنوا و لهم أن يسكتوا بحسب ما يريهم اللّه من مصالح الوقت و يشهد بذلك رواية ابن أشيم السّالفة.
و ما رواه الكلينيّ باسناده عن الوشا عن الرّضا عليه السّلام قال: قلت له: حقّا علينا أن نسألكم قال: نعم، قلت: حقّا عليكم أن تجيبونا، قال: لا ذاك إلينا إن شئنا فعلنا و ان شئنا لم نفعل أما تسمع قول اللّه: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
و باسناده عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال سألته عن مسألة فأجابني ثمّ جاءه رجل آخر فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني و أجاب صاحبي فلمّا خرج الرّجلان قلت له: يابن رسول اللّه رجلان من أهل العراق من شيعتكم قد ما يسألان فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه، فقال: يا زرارة إنّ هذا خير لنا و لكم و أبقى لنا و لكم و لو اجتمعتم على أمر واحد لما صدقكم النّاس علينا و لكان أقلّ لبقائنا و لبقائكم و عن الخصال بسنده عن حماد قال: قلت للصّادق عليه السّلام: انّ الأحاديث تختلف عنكم قال: فقال: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف و أدنى ما للامام أن يفتى على سبعة وجوه ثمّ قال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
و في الكافي مسندا عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب، يجيئك غيرى فتجيب فيها بجواب آخر، فقال: إنّا نجيب النّاس على الزّيادة و النقصان قال العلّامة المجلسي: و لعلّ تخصيص هذا النّحو من التّفويض بالنّبيّ و الأئمة عليهم السّلام لعدم تيسّر هذه التّوسعة لساير الأنبياء و الأوصياء، بل كانوا مكلّفين بعدم التّقية في بعض الموارد و إن أصابهم الضّرر
الخامس
التّفويض في قطع الخصومات و مقام القضاء، فلهم أن يحكموا بظاهر الشريعة و لهم أن يحكموا بعلمهم و بما يلهمهم اللّه من الواقع و مخّ الحقّ في كلّ واقعة و يدلّ عليه ما رواه محمّد بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لا و اللّه ما فوّض اللّه إلى أحد من خلقه إلّا إلى الرسول و إلى الأئمة عليه و عليهم السّلام فقال: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ و هي جارية في الأوصياء فانّ الظاهر أنّ المراد بالارائة هو الالهام و ما يلقى في القلب فتدلّ على التّفويض بالمعنى المذكور، و يأتي تحقيق ذلك إنشاء اللّه في شرح كلامه المأة و التاسع عشر السادس
التفويض في العطاء و المنع، فانّ اللّه تعالى خلق لهم الأرض و ما فيها و جعل لهم الأنفال و الخمس و الصّفايا فلهم أن يعطوا من شاءوا و أن يمنعوا من شاءوا و يدلّ عليه ما رواه في البحار من كتاب الاختصاص و بصاير الدّرجات، عن محمّد بن خالد الطيالسي عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي عن رفيد مولى ابن هبيرة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إذا رأيت القائم اعطى رجلا مأئة ألف و أعطى آخر درهما فلا يكبر في صدرك، و في رواية اخرى فلا يكبر ذلك في صدرك فانّ الأمر مفوّض اليه و في هذا المعنى أخبار كثيرة أوردها الأصحاب بعضها في أبواب الخمس و بعضها في أبواب الجهاد هذا، و أنت بعد ما أحطت خبرا بما ذكرناه من أقسام التّفويض و عرفت صحيحها و باطلها ظهر لك فساد القول بالنّفى و الاثبات على وجه الاطلاق، و عليك بالتّأمّل حقّ التّأمل في هذا المقام فانّه من مزالّ الاقدام
|