و من خطبة له عليه السّلام و هى الخطبة السابعة
إتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكا، و اتّخذهم له أشراكا، فباض و فرّخ في صدورهم، و دبّ و درج في حجورهم، فنظر في أعينهم، و نطق بألسنتهم، فركب بهم الزّلل، و زيّن لهم الخطل، فعل من قد شرّكه الشّيطان في سلطانه، و نطق بالباطل على لسانه.
اللغة
(الشّيطان) فيعال من شطن إذا تباعد فكأنّه يتباعد عند ذكر اللّه تعالى، و قيل إنّه فعلان من شاط يشيط إذا احترق غضبا لأنّه يحترق و يغضب إذا أطاع العبد للّه سبحانه و (ملاك) الامر ما به قوامه و (الاشراك) إمّا جمع شريك كشريف و أشراف و هو الأظهر، أو جمع شرك و هو حبائل الصّيد و الغالب في جمعه شرك بضمّتين و قد يجمع على أشراك كجبل و أجبال و (باض) الطائر و نحوه يبيض بيضا فهو بائض و (فرّخ) من باب التّفعيل و (دبّ) الصّغير دبيبا من باب ضرب سار و (درج) الصّبي دروجا من باب قعد مشى قليلا، و قد يختصّ الدّبيب بالحركة الخفيّة و (الخطل) الكلام الفاسد يقال: أخطل في كلامه أى أخطأ.
الاعراب
فعل من قد شركه مفعول مطلق مجازى لقوله: اتّخذوا إذ العامل محذوف و التقدير فعلوا ذلك فعل من اه.
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام أشار في هذه الخطبة إلى ذمّ المنابذين و المخالفين له و المتمرّدين عن طاعته فقال: (اتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكا) أى به قوام امورهم و نظام حالهم فجعلوه وليا لهم سلطانا عليهم متصرّفا فيهم بالأمر و النّهي كما قال سبحانه: «فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ» و قال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» أي حكمنا بذلك لأنّهم يتناصرون على الباطل يؤمنون به و يتولّون الشّيطان و يشركون بالرّحمن كما قال تعالى: «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» (و انّخذهم له أشراكا) يعني أنّهم بعد ما ملكوا الشّيطان امورهم فتصرّف فيهم بأن أخذهم شركاء له و جعلهم جنوده و أتباعه كما قال تعالى: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» و أمّا على جعل الاشراك جمعا لشرك فقد قال الشّارح البحراني أنّه استعارة حسنة، فإنّه لمّا كان فايدة الشّرك اصطياد ما يراد صيده و كان هؤلاء القوم بحسب ملك الشّيطان لآرائهم و تصرّفه فيهم على حسب حكمه أسبابا لدعوة الخلق إلى مخالفة الحقّ و منابذة إمام الوقت و خليفة اللّه في أرضه اشبهوا الأشراك لاصطيادهم الخلق بألسنتهم و أموالهم و جذبهم إلى الباطل بالأسباب الباطلة التي ألقاها إليهم الشّيطان و نطق بها على ألسنتهم فاستعار لهم لفظ الاشراك.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى ملازمة الشّيطان لهم بقوله (فباض و فرخ في صدورهم) كالطاير الذي يبيض و يفرخ و ذلك لا يكون إلّا بعد طول الملازمة و الاقامة، فشبّه
عليه السّلام صدورهم بعشّ الطائر و موطنه إذا البائض لا يبيض إلّا في مسكنه، و كنّى بالبيض و الفرخ عن إقامته عليهم و مكثه في قلوبهم لاغوائهم، و يمكن أن يكون المراد بهما معناهما الاصلي لأنّه لا نتاج له و إنّما يبيض و يفرخ بنفسه.
كما يدلّ عليه ما رواه في البحار من الخصال بإسناده عن أبي عبد الرّحمن عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الآباء ثلاثة آدم ولد مؤمنا، و الجانّ ولد كافرا و إبليس ولد كافرا و ليس فيهم نتاج إنّما يبيض و يفرخ و ولده ذكور ليس فيهم اناث.
و فيه من العلل بإسناده عن عمرو بن خالد عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه عزّ و جلّ حين أمر آدم أن يهبط، هبط آدم و زوجته و هبط إبليس و لا زوجة له و هبطت الحيّة و لا زوج لها فكان أوّل من يلوط بنفسه إبليس فكانت ذرّيته من نفسه، و كذلك الحيّة و كانت ذرّية آدم من زوجته فأخبرهما أنّهما عدوّ ان لهما هذا.
و لكنّ الأظهر هو المعنى الأوّل لأنّ الكناية أبلغ من الافصاح و أسدّ من التّصريح، فيكون ذلك نظير قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الشّيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدّم، فإنّ المقصود به ليس أنّه يدخل عروقه و أوراده و تجاويف أعضائه بل المعنى أن الشّيطان لا يزال يراقب العبد و يوسوس إليه في نومه و يقظته، إذ هو جسم لطيف هوائيّ يمكنه أن يصل إلى ذلك الانسان فيوصل كلامه و وسواسه إلى باطن اذنه فيصير إلى قلبه، و اللّه العالم بكيفيّة ذلك.
و بالجملة كلام العرب إشارات و تلويحات و الكلام إذا ذهب عنه المجاز و الاستعارة و الكناية زالت براعته و فارقه رونقه و بقى مغسولا و صار عاميّا مرذولا و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذلك سيّد الأوصياء عليه السّلام أفصح الفصحاء و أكمل البلغاء، فيكون فائدة كلامه صلوات اللّه عليه أنّ الشّيطان يلازمك و يراصدك من حيث لا تعلم فعليك بالاحتراز منه و التّوقّي من كيده و مكره، و فائدة كلامه عليه السّلام أنّ الشّيطان استوطن قلوبهم و لزم صدورهم لزوم الطير البائض على بيضته (و دبّ و درج في حجورهم) دبيب الولد في حجر والديه فهو معهم لا يفارقهم و لا يفارقونه، و على الوجه الآخر الذي ذكرناه من احتمال استعمال باض و فرّخ في معناهما الحقيقي فالأظهر رجوع الضّميرين في دبّ و درج إلى الفرخ المستفاد من فرخ.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى شدّة اتّحاده معهم بقوله (فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم) و ذلك لأنّ النّظر و النّطق و ساير أفعال الأعضاء و الجوارح بأسرها تابعة لارادة القلب، إذ القلب هو الحاكم عليها بالأمر و النهى و المتصرّف في مملكة البدن و الرّئيس على الجوارح و المشاعر الباطنة و الظاهرة.
و لمّا جعلوا هؤلاء قلوبهم عش الشّيطان و موطنه و ألقوا مقاليد امورهم إليه و عزلوا عقولهم عن التّصرف و التّدبير، كان إرادتهم القلبيّة التي هي منشأ الحركات و الأفعال للجوارح تبعا له و منبعثة من وسوسته و إغوائه، فيكون جميع الأفعال و الحركات و السّكنات لهم مستندة إليه و صادرة عن حكمه، فيكون نظرهم نظر الشّيطان و نطقهم نطق الشّيطان لا ينظرون إلّا إلى ما فيه رضاه، و لا ينطقون إلّا بما هو مطلوبه و مناه.
(ف) عند ذلك (ركب بهم الزّلل) و الضّلالة (و زيّن لهم الخطل) و الفكاهة و فعلوا ذلك مثل (فعل من قد شركه الشّيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه) يعني كما أنّ من جعله الشّيطان شريكا له في تسلطه و أمره و نهيه و كان ناطقا بالباطل على لسانه، يكون جميع أفعاله و أقواله في جميع أحواله تبعا لذلك اللعين، فكذلك هؤلاء المنافقين و المنابذين لعنة اللّه عليهم أجمعين.
|