و من خطبة له عليه السّلام تعرف بخطبة الاشباح و هى التسعون من المختار فى باب الخطب
و هي من خطبه المشهورة روى بعض فقراتها المحدّث العلّامة المجلسي (ره) في البحار من كتاب مطالب السّؤول لمحمّد بن طلحة الشّافعي، و رواها الصّدوق في التّوحيد مسندا باختصار و اختلاف كثير لما أورده السّيد (ره) في الكتاب.
قال: حدّثني عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقاق ره، قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللَّه الكوفي، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل البرمكيّ، قال: حدّثني عليّ بن العبّاس، قال: حدّثنى إسماعيل بن مهران الكوفيّ عن إسماعيل بن إسحاق الجهني عن فرج بن فروة عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: بينا أميرالمؤمنين عليه السّلام يخطب على المنبر بالكوفة إذ قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا ربّك تبارك و تعالى لنزداد له حبّا و به معرفة، فغضب أميرالمؤمنين و نادى: الصّلاة جامعة فاجتمع النّاس حتّى غصّ المسجد بأهله ثمّ قام متغيّر اللّون فقال: الحمد للّه إلى آخر ما رواه هذا
و شرح ما أورده السيّد ره هنا في ضمن فصول:
الفصل الاول
قال السيّد ره: و هي من جلايل خطبه عليه السّلام و كان سأله سائل أن يصف اللَّه له حتّى كأنّه يره عيانا، فغضب عليه السّلام لذلك:
الحمد للّه الّذي لا يفره المنع و الجمود، و لا يكديه الإعطاء و الجود. إذ كلّ معط منتقص سواه، و كلّ مانع مذموم ما خلاه، هو المنّان بفوائد النّعم، و عوائد المزيد و القسم، عياله الخلق، ضمن أرزاقهم، و قدّر أقواتهم و نهج سبيل الرّاغبين إليه، و الطّالبين ما لديه، و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسئل، الأوّل الّذي لم يكن له قبل فيكون شي ء قبله، و الآخر الّذي ليس له بعد فيكون شي ء بعده، و الرّادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه، ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال، و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال، و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال، و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللّجين و العقيان، و نثارة الدّرّ و حصيد المرجان، ما أثّر ذلك في جوده، و لا أنفد سعة ما عنده، و لكان عنده من ذخاير الأنعام، ما لا تنفده مطالب الأنام، لأنّه الجواد الّذي لا يغيضه سؤال السّائلين، و لا يبخله إلحاح الملحّين.
اللغة
(الأشباح) جمع الشّبح و هو الشّخص كالأسباب و السبب و (وفر) الشي ء يفر من باب وعد وفورا تمّ و كمل، و وفرته وفرا من باب وعد أيضا أتممته و أكملته يتعدّى و لا يتعدّى و المصدر فارق و (أكدى) الرّجل إذا بخل أو قلّ خيره أو قلل عطائه قال سبحانه: وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى .
و أصله كدى كرمى و منه أرض كادئة بطيئة الانبات و (الأناسي) جمع الانسان و هو المثال الذى يرى في سواد العين و (الأصداف) جمع الصدف بالتّحريك و هو غشاء الدّر و (الفلز) بكسر الفاء و اللام و تشديد الزاء و كعتلّ قال في القاموس: نحاس أبيض تجعل منه القدور المفرغة أو خبث الحديد أو الحجارة أو جواهر الأرض كلّها أو ما ينفيه الكير من كلّ ما يذاب منها و (العقيان) الذّهب الخالص و يقال هو ما ينبت نباتا و ليس ممّا يحصل من الحجارة و (نثارة) الدّر ما تناثر منه.
قال الشّارح المعتزلي: و تأتي فعالة تارة للجيّد المختار و تارة للسّاقط المتروك فالأوّل نحو الخلاصة و الثاني نحو القلامة و (الدّر) جمع الدّرة و هى اللّؤلؤة العظيمة و (غاض) الماء نقص و غاضه اللَّه كأغاضه أنقصه يتعدّى بنفسه و بالهمز و (أبخلته) وجدته بخيلا.
الاعراب
قوله عليه السّلام: و كلّ مانع مذموم ما خلاه الأصل في خلا أنه لازم يتعدّى إلى المفعول بمن نحو خلت الدار من الانيس، و قد تضمن معنى جاوز فيتعدّى بنفسه كقولهم افعل هذا و خلاك ذمّ أى جاوزك.
قال الرّضى: و الزموها هذا التضمن في باب الاستثناء فيكون ما بعدها في صورة المستثنى بالّا التي هي أمّ الباب و لهذا الغرض التزموا إضمار فاعله إلى أن قال: و فاعل خلا عند النحاة بعضهم، و فيه نظر لأنّ المقصود في جائنى القوم خلا زيدا أنّ زيدا لم يكن معهم أصلا و لا يلزم من مجاوزة بعض القوم إياه و خلوّ بعضهم منه مجاوزة الكلّ و خلوّ الكلّ، و الأولى أن يضمر فيه ضمير راجعا إلي مصدر الفعل المتقدّم أى جائنى القوم خلا مجيئهم زيدا، كقوله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى .
فيكون مفسر الضمير سياق القول هذا.
و ما فيه مصدرية و لذلك التزم انتصاب ما بعده لأنّ ماء المصدرية تدخل على الفعلية غالبا، و الاسمية قليلا و ليس بعدها اسمية فتعين الفعلية فتعين أن يكون فعلا فوجب النصب و المضاف محذوف أى وقت ما خلا مجيئهم زيدا، و ذلك انّ الحين كثيرا ما يحذف مع ماء المصدرية نحو: ما ذرّ شارق و نحوه ذكر ذلك كلّه نجم الأئمة الرضيّ (ره).
قال: و جوّز الجرمى الجرّ بعد ما خلا و ما عدا على أنّ ما زايدة، و لم يثبت انتهى.
أقول: حمل ما على الزيادة في كلام الامام عليه السّلام على تقدير ثبوته أقرب إلى المعنى كما لا يخفى، و حملها على المصدرية محتاج إلى التكلّف كما هو غير خفيّ على الفطن العارف، و اضافة الفوائد إلى النعم بيانية، و في قوله و عوائد المزيد من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، و القسم عطف على العوائد، و جملة ضمن في محل النصب على الحالية من ضمير عياله
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما ذكره السيد (ره) من جلائل خطبه عليه السّلام و مشاهرها و تسمى بخطبة الأشباح لاشتمالها على ذكر الأشباح و الأشخاص من الملائكة و كيفية خلقهم و بيان أقسامهم، و لعلّ غضبه عليه السّلام على السائل من أجل أنّ غرض السائل كان وصفه تعالى بصفات الأجسام و زعمه جواز معرفته سبحانه بالاكتناه كما يشهد به قوله: كأنه يراه عيانا، فغضب عليه السّلام لذلك و تغيّر لونه لأجل ذلك و وصفه بأوصاف العزّ و الكمال و صفات الجبروت و الجلال فقال: (الحمد للّه الذى لا يفره المنع و الجمود) أى لا يوجب وفور ماله المنع و الامساك (و لا يكديه الاعطاء و الجود) أى لا يقلل اعطائه البذل و الاحسان يقول عليه السّلام إنه سبحانه ليس كملوك الدنيا يتزيد بالامساك و ينتقص بالانفاق إذ مقدوراته سبحانه غير متناهية و ما عنده لا يدخله نقص و لا فناء، بل يدخلان الفاني المحدود و يشهد به ما مرّ في شرح الخطبة السابقة من الحديث القدسي: يا عبادي لو أنّ أولكم و آخركم و انسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ انسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر أى لا ينقص شيئا.
و إلى ما ذكرنا أشار عليه السّلام بقوله: (إذ كلّ معط منتقص سواه) و بحار فضله لا ينقص بالافضال، و خزائن كرمه لا تقلّ بالانعام و النوال.
و لما نبّه عليه السّلام على عدم إمكان دخول النقصان في بحر فضله وجوده أردف ذلك بنفى لحوق الذّم بمنعه على وجوده بقوله: (و كلّ مانع مذموم ما خلاه) و ذلك لأنّ كلّ مانع غيره إنما يمنع لخوف الضيق و المسكنة و خشية الفقر و الفاقة أو بخل نفسه الامارة، فحرىّ أن يلحقه المذمّة و الملامة و أمّا اللَّه القدّوس السبحان فلما كان منزها عن صفات النقصان و محالا أن يلحقه طوارى الامكان، فليس منعه لضيق أو بخل، و إنما يمنع بمقتضا حكمة بالغة و داعى مصلحة خفية أو ظاهرة، فمنعه في الحقيقة عين الفضل و الاحسان و العطاء و الامتنان.
كما ورد في الحديث القدسي: إنّ من عبادى من لا يصلحه إلّا الفقر و لو أغنيته لأفسده ذلك و في حديث آخر: و إنّ من عبادى المؤمنين لعبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلّا بالفاقة و المسكنة و القسم في أبدانهم فأبلوهم بالفاقة و المسكنة و القسم فصلح إليهم أمر دينهم و أنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي المؤمنين (هو المنان بفوائد النعم) أى كثير الانعام على العباد و المعطى لهم ابتداء من غير سبق سؤال، و به فسّره الفيروز آبادي.
و يدلّ عليه ما رواه الطريحي قال: و في حديث عليّ عليه السّلام و قد سئل عن الحنّان و المنّان فقال: الحنّان هو الذي يقبل على من أعرض عنه، و المنّان هو الذي يبدء بالنّوال قبل السؤال.
و بذلك ظهر أنّ جعل المنّان مبالغة في المنّة و إظهار الاصطناع كما في شرح البحراني ممّا لا وجه له بل هو تفسير بالرأى في مقابلة النصّ، و لا بأس بذكر كلامه لتوضيح مرامه.
قال في شرح هذه الفقرة: المنة تذكير المنعم للمنعم عليه بنعمته و التطاول عليه بها كقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ في غير موضع من كتابه و هي صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كان صفة ذمّ لخلقه.
و السّبب الفارق أنّ كلّ منعم سواه يحتمل أن يتوقّع لنعمته جزاء و يستفيد كمالا يعود إليه ممّا أفاده، و أيسره توقّع الذكر و يقبح ممّن يعامل بنعمته و يتوقّع جزاء أن يمنّ بها لما يستلزمه المن من التّطاول و الكبر و توقّع الجزاء و الحاجة إليه مع التّطاول و الكبر مما لا يجتمعان في العرف، إذ التّطاول و الكبر إنما يليقان بالغنى عن ثمرة ما تطاول به إلى آخر ما ذكره.
أقول: أمّا قبح الامتنان من المخلوق فممّا لا ريب فيه، لكونه ناشئا من خسّة النّفس و دنائة الهمّة و لذلك مدح اللَّه سبحانه عباده المتّقين بما حكى عنهم بقوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً كما أنه لا ريب في جوازه على اللَّه سبحانه، و يدلّ عليه صريح الكتاب و السنّة، و أما جعل المنّان من أسمائه سبحانه بذلك المعنى فلا دليل عليه، بل الدليل قائم على خلافه حسبما عرفت، مع أنّ إرادة هذا المعنى في هذا المقام أعنى كلام الامام عليه السّلام على فرض ثبوت أصله ممّا يأبى عنه الذوق السّليم و الطبع المستقيم إذ المعنى الذي ذكرنا أولى بالتمدّح منه كما لا يخفى، هذا.
و ما أبعد ما بين ما ذكره الشّارح و ما ذهب إليه السيّد عليخان شارح الصحيفة السّجادية من نفي جواز المنة على اللَّه رأسا كعدم جوازه على الخلق حيث قال في شرح دعاء طلب الحوائج عند شرح قوله عليه السّلام: يا من لا يبيع نعمه بالأثمان، و يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان: الامتنان افتعال من المنّ و هو إظهار الاصطناع و اعتداد الصنائع كان تقول: ألم أعطك كذا، ألم أحسن إليك، ألم أعنك و هو تعبير يكدّر المعروف و ينغصه فلهذا نهى الشّارع عنه بقوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى .
و من هنا قيل: سيّان من منح النائل و منّ، و من منع السّائل و ضنّ، و المراد بنفي تكديره تعالى عطاياه بالامتنان نفي الامتنان عنه رأسا فهو من باب نفي الشي ء بلازمه أى لا امتنان فلا تكدير.
ثمّ لما كان الامتنان بالمعنى المذكور ذيلة ناشئة عن دنائة النّفس و صغر الهمة و استعظام النعمة و الاحسان كان تعالى منزّه عن الامتنان، لأنّ كلّ نعمة من نعمه تعالى و إن عظمت و كلّ عطيّة من عطاياه و إن جلّت بالنّسبة إلى العبد المعطى و المنعم عليه فهى حقيرة بالنّسبة إلى عظمته جلّت قدرته، و شأنه تعالى أجلّ من أن يكون لها عنده موقع فيمنّ بها و يعتدّ بها على من أعطاه و أنعم عليه، و قول بعض العلماء إنّ المنّة بالمعنى المذكور صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كان صفة ذمّ للمخلوق ليس بشي ء و عبارة الدّعاء تشهد ببطلانه، انتهى.
أقول: و الانصاف أنّ نفي الامتنان عنه سبحانه رأسا لا وجه له مع نصّ الآية الشّريفة أعنى قوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ بخلافه«» و دلالة الآيات الواردة في مقام الامتنان عليه بل المنفيّ عنه هو الامتنان المتصوّر في الخلايق.
بيان ذلك أنّ الامتنان من المنعم على المنعم عليه تارة يكون لارادة مكافاة الأنعام و طلب العوض من الثّواب الآجل و الثناء العاجل، و بعبارة أخرى لتوقّع منفعة عايدة على المنعم بانعامه، و أخرى إرادة تذكّر المنعم عليه للنّعمة و استعداده بذلك لقبول نعمة اخرى و تحصيل منفعة ثانية من دون أن يكون للمنعم فيه تحصيل فايدة و اكتساب منفعة لنفسه أصلا.
فالامتنان على الوجه الأوّل هو القبيح و إليه يعود منّة الخلايق، و أمّا الثاني فلا قبح فيه أصلا بل هو حسن يشهد به الوجدان فلا غبار على جوازه على اللَّه سبحانه و على ما حقّقته فمعنى قوله عليه السّلام: يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان: أنّ امتنانه لا يوجب التكدّر كما يوجبه امتنان غيره إذ غرضه تعالى منه ليس إلّا محض التّفضل و التّطول و إيصال نعمة أخرى إلى الممتنّ عليه، و غرض غيره منه تحصيل منفعة لنفسه فمنّته يكشف عن عدم خلوص إحسانه و كونه مشوبا بالاغراض النّفسانية، و على ذلك فالمنفىّ في كلام الامام عليه السّلام هو التكدير لا أصل الامتنان و إلّا امتنع الجمع بينه و بين الادلّة الدالّة على الامتنان و يكون مناقضا صريحا لها، فافهم و اغتنم، و اللَّه العالم.
و قوله (و عوائد المزيد و القسم) قال البحرانيّ: أى معتادهما، و هو سهو إذ العوائد جمع العايدة لا العادة حتّى يكون بمعنى المعتاد، و العائدة كما في القاموس المعروف و الصّلة و العطف و المنفعة، و المزيد مصدر إما بمعنى الفاعل أو المفعول و إضافة العايدة إليه من باب إضافة الموصوف إلى صفته لا بالعكس كما هو لازم ما فسّره البحراني، و المراد أنّه سبحانه منّان على العباد بصلاته و عطوفاته الزائدة أو المزيد و قسمه المقدرة.
(عياله الخلق ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم) لما كان عيال الرّجل عبارة عمن يمونه و ينفق عليه و يصلح حاله استعار لفظه للخلايق بالنّسبة إلى ربّهم لخلقه لهم و تربيته في حقّهم و إصلاحه حالهم في المعاش و المعاد.
قال البحراني: و استعار لفظ الضّمان لما وجب في الحكمة الالهيّة من وجود ما لا بدّ منه في تدبير إصلاح حالهم من الأقوات و الأرزاق و تقدير أقواتهم إعطاء كلّ ما كتب له في اللّوح المحفوظ من زائد و ناقص، انتهى، و هذا هو المشار إليه بقوله سبحانه: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
و اعلم أنّ الرزق في اللّغة هو العطاء و يطلق على النصيب المعطى، و أمّا في العرف فقالت الأشاعرة هو مطلق ما ينتفع به حيّ مباحا كان أو حراما بالتغذّي أو بغيره، و ذهب أصحابنا كالمعتزلة إلى أنه ما صحّ انتفاع الحيوان به و ليس لأحد منعه منه فلا يكون الحرام رزقا، لأنّ اللَّه سبحانه منع من الانتفاع به و أمر بالزّجر عنه و لا بأس بذكر أدلّة الظرفين ليتّضح الحقّ من البين.
فأقول: استدلّ الأشاعرة بما رووه عن صفوان بن اميّة قال: كنّا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إذ جاء عمر بن قرّة فقال: يا رسول اللَّه إنّ اللَّه كتب علىّ الشّقوة فلا أراني أرزق إلّا من دفّي بكفّي فأذن لي في الغناء، فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا آذن لك و لا كرامة و لا نعمة كذبت أى عدوّ اللَّه و اللَّه لقد رزقك اللَّه حلالا طيبا، فاخترت ما حرّم اللَّه عليك مكان ما أحلّ اللَّه لك من حلاله، و بقوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها.
تقريب الاستدلال ما ذكره الفخر الرّازي في التفسير الكبير حيث قال: تعلّق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أنّ الرّزق قد يكون حراما قالوا: لأنّه ثبت أنّ إيصال الرّزق إلى كلّ حيوان واجب على اللَّه تعالى بحسب الوعد و بحسب الاستحقاق، و اللَّه تعالى لا يخلّ بالواجب، ثمّ قد نرى انسانا لا يأكل من الحلال طول عمره فلو لم يكن الحرام رزقا لكان اللَّه تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون تعالى قد أخلّ بالواجب و ذلك محال، فعلمنا أنّ الحرام قد يكون رزقا.
و اجيب عن الأوّل تارة بالطّعن في السّند، و أخرى بأنّه على تقدير صحّته لا بدّ من تأويله بأنّ إطلاق الرّزق على الحرام فيه لمشاكلة قوله فلا أراني ارزق، على حدّ قوله: و مكروا و مكر اللَّه، و باب المشاكلة و إن كان نوعا من المجاز لكنه واسع كثير الورود في الكتاب و السنة معروف الاستعمال في نظم البلغاء و نثرهم فلا بدّ من المصير إليه جمعا بين الأدلّة.
و عن الثّاني بمنع وجود مادّة النقض إذ لا نسلّم وجود حيوان لا يرزق إلّا بالحرام مدّة عمره، أمّا غير الانسان فواضح إذ لا يتصوّر بالنّسبة إليه حلّ و لا حرمة.
أمّا الانسان فلأنّه في أيّام الصّبا و عدم التّكليف لا يتّصف ما يأكله بالحرمة كعدم اتصافه بالاباحة، بل هو كالحيوان في عدم اتصاف أفعاله بشي ء من الأحكام الخمسة.
و أمّا بعد البلوغ فلأنّه بعد ما كان الرّزق أعمّ من الغذاء باتفاق المعتزلة و الأشاعرة يشمل التنفّس في الهوا و معلوم أنه مباح في حقّه قطعا فلم يوجد حيوان لا يرزق إلّا بالحرام طول عمره، و يوضحه أنّه لو مات انسان قبل أن يأكل شيئا حلالا أو حراما لزم أن يكون غير مرزوق فما هو جواب الأشاعرة فهو جوابنا.
و استدلّ المعتزلة على المذهب المختار بقوله سبحانه: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ حيث مدحهم بانفاقهم من رزقة فلا بدّ أن يكون الرّزق حلالا إذ الانفاق من الحرام بمعزل عن إيجاب المدح.
أقول: و لا يخفى ما فيه: إذ يجوز جعل من تبعيضيّة فيكون معنى الآية أنّهم ينفقون بعض ما رزقهم اللَّه، و مدحهم بذلك يستلزم أن يكون ما أنفقوه حلالا و لا يستلزم أن يكون جميع ما رزقهم اللَّه حلالا، و هو واضح.
و استدلّ بعض أصحابنا بما رواها العامة و الخاصّة من خطبته صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع و هي صريحة غير قابلة للتّأويل. و رواها الكلينيّ باسناده إلى الامام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع: ألّا إنّ الرّوح الأمين نفث في روعى أنه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا اللَّه و أجملوا في الطلب و لا يحملنكم استبطاء شي ء من الرّزق أن تطلبوه بشي ء من معصية اللَّه، فانّ اللَّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقى اللَّه و صبر أتاه رزقه من حلّه، و من هتك حجاب ستر اللَّه و عجّل و أخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة، هذا.
و بقى الكلام في أنّ الرزق هل يقبل الزيادة و النّقصان بالسّعى و عدمه ظاهر بعض الأخبار العدم، و هو ما رواه في الكافى باسناده إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: ايّها النّاس اعلموا أنّ كمال الدّين طلب العلم و العمل به ألا و إنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم و ضمنه و سيفى لكم، و العلم مخزون عند أهله و قد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه.
و في دعاء الصّحيفة السجادية على صاحبها آلاف الصّلاة و السّلام و التّحية جعل لكلّ روح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقة لا ينقص من زاده ناقص و لا يزيد من نقص منهم زائد، يعنى أنّ من زاد اللَّه رزقه منهم لا ينقصه ناقص، و من نقصه سبحانه لا يزيده زايد، و تقديم المفعول في الفقرتين لمزيد الاعتناء ببيان فعله من الزيادة و النقصان و هو نصّ في أنّ غيره تعالى لا يستطيع أن يتصرّف في الرزق المقسوم بالزيادة و النّقص.
و في رواية اخرى: إنّ أرزاقكم تطلبكم كما تطلبكم آجالكم فلن تفوتوا الأرزاق كما لم تفوتوا الآجال.
و المستفاد من الأدلّة الاخر مدخلية الطلب و السّعى فيها، مثل ما رواه في الوسائل من كنز الفوائد للكراجكى قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الدّنيا دول فاطلب حظك منها بأجمل الطلب.
و فيه عن شيخنا الطوسي قدّس اللَّه روحه باسناده عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: ما فعل عمر بن مسلم قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة و ترك التجارة، فقال: ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له دعوة، إنّ قوما من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لما نزلت: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
اغلقوا الأبواب و أقبلوا على العبادة و قالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فأرسل اليهم فقال: ما حملكم على ما صنعتم فقالوا: يا رسول اللَّه تكفّل اللَّه لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: إنّه من فعل ذلك لم يستجب له عليكم بالطلب.
و عن الكلينيّ باسناده عن عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيته و أغلق بابه أ كان يسقط عليه شي ء من السّماء و عن أحمد بن فهد في عدّة الدّاعي عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنى لأركب في الحاجة التي كفانيها اللَّه، ما أركب فيها إلّا لالتماس أن يراني اللَّه اضحى في طلب الحلال أما تسمع قول اللَّه عزّ و جلّ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه و قال: رزقى ينزل علىّ كاين يكون هذا أما أنّه يكون أحد الثّلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة، قلت: من هؤلاء قال عليه السّلام: رجل عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له، لأنّ عصمتها في يده و لو شاء أن يخلّى سبيلها، و الرّجل يكون له الحقّ على الرجل فلا يشهد عليه فيجحد حقّه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنّه ترك ما امر به، و الرجل يكون عنده الشّي ء فيجلس في بيته فلا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس الرّزق حتّى يأكله فيدعو فلا يستجاب له، و بمعناها روايات اخر.
و يمكن الجمع بينها و بين الأخبار السّابقة بجعل الرزق على قسمين: أحدهما ما ليس للطلب و السعى مدخلية فيه، و الثاني ما لا ينال إلّا بالطلب فيحمل الأخبار السّابقة على القسم الأوّل، و الأدلّة الأخيرة على القسم الثّاني.
و يشهد على هذا الجمع ما رواه في الوسائل من مقنعة المفيد قال: قال الصادق عليه السّلام: الرزق مقسوم على ضربين: أحدهما و اصل إلى صاحبه و إن لم يطلبه، و الآخر معلّق بطلبه فالذى قسّم للعبد على كلّ حال آتيه و إن لم يسع له و الذي قسّم له بالسّعى فينبغي أن يلتمسه من وجوهه و هو ما أحلّه اللَّه دون غيره، فان طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه و حوسب به.
(و نهج سبيل الراغبين إليه و الطالبين ما لديه) كما قال سبحانه: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً.
أراد أنّه تعالى أوضح السّبيل للراغبين إلى النظر إلى وجهه الكريم، و الطالبين لما عنده من الفوز العظيم بما وضعه لهم من الشرع القويم و الدين المستقيم (و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل) تنزيه له سبحانه عن صفات الخلق فانّهم يتحركون بالسؤال و تهزهم الطلبات فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألوا، لكونه أسهل عندهم و أقرب إلى الانجاح، إذ السائل لا يسأل ما ليس في وسع المسئول عنه و ما هو أعزّ عنده و لذلك كانوا بما سئلوا أجود، و أما اللَّه تبارك و تعالى فليس في عموم جوده و خزانة كرمه تفاوت بين المسئول و غير المسئول.
بيان ذلك على ما حقّقه الشّارح البحراني (ره) أنّ فيضان ما صدر عنه سبحانه له اعتبار ان: أحدهما بالنظر إلى جوده، و هو من تلك الجهة غير مختلف في جميع الموجودات بل نسبتها إليه على سواء بذلك الاعتبار فلا يقال: هو بكذا أجود منه بكذا و إلّا لاستلزم ذلك أن يكون ببعض الأشياء أبخل أو اليها أحوج فيلزمه النقصان تعالى اللَّه عن ذلك علوّا كبيرا.
الثّانى بالنظر إلى الممكن نفسه، و الاختلاف الواقع في القرب و البعد إلى جوده إنّما هو من تلك الجهة فكلّ ممكن كان أتمّ استعدادا و أقبل للوجود و أقلّ شرطا و معاندا كان أقرب إلى جوده.
إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ السّائل إن حصل له ما سأله من اللَّه دون ما لم يسأل فليس حرمانه مما لم يسأل لعزّته عند اللَّه، و ليس بينه و بين المسئول بالنسبة إلى جوده تفاوت، بل إنّما خصّ بالمسئول لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم يسأله و لو سأل ما لم يسأله و استحقّ وجوده لما كان في الجود الالهى بخل به و لا منع في حقه، و ان عظم خطره و جلّ قدره و لم يكن له أثر نقصان في خزائن ملكه و عموم جوده.
(الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شي ء قبله، و الآخر الذى ليس له بعد فيكون شي ء بعده) قد سبق في شرح الخطبة الرابعة و الستين معنى أوليّته و آخريته تعالى و ظهر لك هناك أن أوليّته لا ينافي آخريّته، و آخريّته لا ينافي أوليّته و نزيد هنا بيانا و نقول: إنّ الأشياء في سلسلة الوجود بداية و نهاية منتهية إليه سبحانه، فهو أوّل الأشياء و آخرها ليس شي ء قبله و لا شي ء بعده.
قال النيسابوري في تفسيره: معنى الأول و الآخر أنه أوّل في ترتيب الوجود و آخر إذا عكس الترتيب، فانه ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل إلى المعلولات و من الأشرف إلى الأخسّ و على الاخذ من الوحدة إلى الكثرة مما يلي الأزل إلى ما يلي الأبد و مما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز، فهو تعالى أوّل بالترتيب الطبيعى و آخر بالترتيب المنعكس، انتهى.
و مراده بالترتيب المنعكس أنّ الأشياء إذا نسبت إلى أسبابها وقفت عنده، و ذلك انّك إذا نظرت إلى وجود شي ء و فتّشت عن سببه ثمّ عن سبب سببه و هكذا فتنتهى بالأخرة إليه تعالى، لأنّه آخر ما ينحلّ إليه اجتماع أسباب الشّي ء، فظهر بذلك أن كونه أوّلا و آخرا إنّما هو بالنّظر إلى ذاته المقدّس لا باعتبار تقدّمه زمانا و تأخّره زمانا، لكون الزمان متأخّرا عنه تعالى إذ هو من لواحق الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن علّته، فلا يلحقه القبليّة و البعديّة الزمانية فضلا أن تسبق عليه أو تلحق به، فلم يكن شي ء قبله و لا بعده لا من الزمانيات و لا من غيرها.
و ذكر الشّارح المعتزلي في المقام وجها آخر و هو أن يكون المراد أنه الذى لم يكن محدثا أى موجودا قد سبقه عدم فيقال إنه مسبوق بشي ء من الأشياء اما المؤثر فيه او الزمان المقدّم عليه و أنه ليس بذات يمكن فناؤها و عدمها فيما لا يزال فيقال إنه ينقضي و ينصرف فيكون بعده شي ء من الأشياء الزمان أو غيره.
(و الرادع اناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه) أراد به امتناع رؤيته سبحانه لكونه تعالى منزها عن الجهة و المكان، و الباصرة لا تتعلّق إلّا بما كان فيهما و قد تقدّم تفصيل ذلك و تحقيقه بما لا مزيد عليه في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين و هذا اللّفظ و إن كان بظاهره يعطي مذهب الأشاعرة من أنّ اللَّه يجوز إداركه و رؤيته و لكنه خلق في الأبصار مانعا عن إدراكه، إلّا أنّه لا بدّ من تأويله و حمله على ما ذكرنا بعد قيام الأدلّة القاطعة من العقل و النقل على استحالة إدراكه من حيث ذاته.
(ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال) أراد بذلك كونه منزّها عن لحوق الزمان و عن التغيّرات الجارية على الزّمانيات فانّ مبدء التّغيرات و الاختلاف في الأحوال هو الزمان، فلما كان متعاليا عن الزمان كان منزّها عن اختلاف الحالات الذي هو من لواحق الامكان. و يوضح ذلك ما رواه في الكافي باسناده عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قول اللَّه عزّ و جلّ: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ.
و قلت: أمّا الأوّل فقد عرفناه، و أمّا الآخر فبيّن لنا تفسيره، فقال: إنه ليس شي ء إلّا يبيد أو يتغيّر أو يدخله التغيّر و الزوال أو ينتقل من لون إلى لون و من هيئة إلى هيئة و من صفة إلى صفة و من زيادة إلى نقصان و من نقصان إلى زيادة إلّا ربّ العالمين فانّه لم يزل و لا يزال بحالة واحدة، هو الأوّل قبل كلّ شي ء و هو الآخر على ما لم يزل، و لا يختلف عليه الصفات و الأسماء كما تختلف على غيره مثل الانسان الذي يكون ترابا مرّة، و مرّة لحما و دما و مرّة رفاتا و رميما، و كالبسر الذي يكون مرّة بلحا«»، و مرّة بسرا، و مرّة تمرا، فتتبدّل عليه الأسماء و الصّفات و اللَّه عزّ و جلّ بخلاف ذلك.
(و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال) أراد بذلك تنزيهه عن الكون في المكان لاستلزامه الافتقار الذي هو من صفات الامكان و إذا لم يكن في مكان فلا يجوز عليه الانتقال منه إلى غيره، إذ جواز الانتقال انما هو من شأن ذي المكان بل: هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ.
و نسبة جميع الأمكنة إليه تعالى على سواء: وَ هُوَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ.
و قد مرّ تحقيق ذلك في شرح الفصل الخامس و السّادس من فصول الخطبة الأولى فتذكر.
(و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللّجين و العقيان و نثارة الدّر و حصيد المرجان ما أثّر ذلك في جوده) أشار عليه السّلام بذلك إلى سعة جوده سبحانه و عموم كرمه و كمال قدرته و عدم تناهي مقدوراته، و لا يخفى ما فيه من فخامة اللفظ مع عظم المعنى، حيث إنه عليه السّلام شبّه المعادن بحيوان يتنفّس فيخرج من جوفه الهواء، و كذلك المعادن يخرج من بطونها الفلزات، ثمّ شبّه الأصداف بانسان يضحك و أثبت لها الضّحك بملاحظة أنّ الصّدف أوّل ما ينشقّ و ينفتح و يبد و منه اللؤلؤ يشبه بفم الانسان الضاحك و اللؤلؤ فيه يشبه بالاسنان و اللّحمة فيه تشبه اللّسان في رقّة طرفه و لطافته.
و لما ذكر ما يخرج من المعادن و الأصداف مجملا، فصّل بقوله: من فلزّ اللّجين و العقيان، و هو تفسير لما يخرج من معادن الجبال و إنما خصّهما بالذكر مع عدم الاختصاص لأنّهما أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون و يغتنمه أبناء الزمان، و لا عبرة بالنحاس و الرّصاص و نحوهما في جنبهما.
و بقوله: و نثارة الدّر و حصيد المرجان، و هو بيان لما يخرج من الأصداف و الدّر كبار اللؤلؤ و المرجان صغاره و لصغره شبهه عليه السّلام بالحبّ الحصيد و ربما يطلق المرجان على الخرز الأحمر المعروف قال الشاعر:
- أدمى لها المرجان صفحة خدّهو بكى عليها اللّؤلؤ المكنون
هو خرز يخرج من البحر أيضا، و ربما فسّر به قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ... يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ.
و لكنه ليس مرادا في كلام الامام عليه السّلام و لا يمكن حمله عليه كما هو ظاهر.
و كيف كان فالمقصود أنه سبحانه لو بذل جميع ما في الأرض من الكنوز و المعادن البرّية و البحرية لأحد لم يؤثر ذلك في جوده (و لا أنفد سعة ما عنده) من خزائن كرمه (و لكان عنده من ذخائر الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام) و ذلك لعدم إمكان إحصاء ما عنده بعدّ، و عدم وقوفه و انتهائه إلى حدّ (لأنه الجواد الذي لا يغيضه سؤال السّائلين و لا يبخله الحاح الملحّين) يعنى لا يوجب سؤال السّائلين على كثرته نقصانا في جوده و لا إصرار المصرّين بخلا في كرمه، لأنّ البخل و النقصان من توابع المزاج و لو احق الامكان، و هو منزّه عن ذلك بالضرورة و العيان، بل عنده نيل السؤلات و إنجاح الحاجات، و ما يسأله السائلون على كثرته يسير في جوده، و ما يستوهبه الطالبون على خطره حقير في وسعه و كرمه لا يضيق عن سؤال أحد، و يده بالعطاء أعلى من كلّ يد.
|