الفصل الخامس
منها في صفة الملائكة
ثمّ خلق سبحانه لإسكان سماواته، و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته، خلقا بديعا من ملائكته، ملأ بهم فروج فجاجها، و حشابهم فتوق أجوائها، و بين فجوجات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم في حظاير القدس، و سترات الحجب، و سرادقات المجد، و وراء ذلك الرّجيج الّذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة على حدودها، أنشأهم على صور مختلفات، و أقدار متفاوتات، أولي أجنحة تسبّح جلال عزّته، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه، و لا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا معه ممّا انفرد به، بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون. جعلهم فيما هنا لك أهل الأمانة على وحيه، و حمّلهم إلى المرسلين و دائع أمره و نهيه، و عصمهم من ريب الشّبهات، فما منهم زائغ من سبيل مرضاته، و أمدّهم بفوائد المعونة، و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السّكينة، و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده، و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده، لم تثقلهم موصرات الاثام، و لم ترتحلهم عقب اللّيالي و الأيّام، و لم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم، و لم تعترك الظّنون على معاقد يقينهم، و لا قدحت قادحة الأحن فيما بينهم، و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم، و ما سكن من عظمته و هيبة جلالته في أثناء صدورهم، و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم
اللغة
(عمارة) المنزل جعله أهلا ضدّ الخراب الذى لا أهل له يقال عمره اللَّه منزلك عمارة و أعمره جعله أهلا و (الصفيح) السّماء و وجه كلّ شي ء عريض قاله فى القاموس، و وصفه بالأعلى بالنسبة إلى الأرض لأنه الصفيح الأسفل، فما في شرح المعتزلي من تفسيره بسطح الفلك الأعظم ليس بشي ء بل مخالف لكلام الامام عليه السّلام مضافا إلى مخالفته لتفسير أهل اللغة إذ كلامه هنا و في الخطبة الاولى صريح في عدم اختصاص مسكن الملائكة بالفلك الأعظم، حيث قال ثمّة: ثمّ فتق ما بين السّماوات العلى فملأهنّ أطوارا من ملائكته، و ذكر هنا أنه تعالى ملأ بهم فروج فجاجها و حشابهم فتوق أجوائها.
و (الملكوت) كرهبوت العزّ و السلطان، قال بعض اللّغويين: إنّ أهل التحقيق يستعملون الملك في العالم الظاهر و الملكوت في العالم الباطن، و قال: إنّ الواو و التاء فيه كما في رهبوت و رغبوت و جبروت و تربوت زيدتا للمبالغة فيكون معنى الملكوت الملك العظيم و (الفجاج) بكسر الفاء جمع فجّ بفتحها قال سبحانه: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ و هو الطريق الواسع بين الجبلين و (حشوت) الوسادة بالقطن جعلتها مملوّة منه و (الفجوات) جمع فجوة و هي الفرجة و الموضع المتّسع بين الشيئين و (الزجل) محرّكة رفع الصّوت مصدر زجل كفرح و (الحظيرة) بالحاء المهملة و الظاء المعجمة الموضع الذى يحاط عليه لتأوى إليه الابل و الغنم و غيرهما ليقيها من الحرّ و البرد و (القدس) بسكون الدّال و ضمّها الطهر و (السترات) بضمّتين جمع سترة بالضمّ و هو ما يستتر به كالسّتارة و (السرادق) الذى يمدّ فوق صحن البيت و البيت من الكرسف و (المجد) الشرف و العظمة و (الرجيج) الزلزلة و الاضطراب و منه رجيج البحر و (استكّت) المسامع ضاقت و صمت قال الشّاعر:
- و نبّئت خير النّاس أنّك لمتنىو تلك التي تستكّ منه المسامع
و (السّبحات) بضمّتين النور و البهاء و الجلال و العظمة و قيل: سبحات الوجه محاسنه لأنّك إذا رأيت الوجه الحسن قلت سبحان اللَّه تعجّبا و (ردعه) كمنعه كفّه وردّه و (خسأ) البصر كلّ من باب منع و الخاسئ من الكلاب و نحوها المبعد الذى لا يترك أن يدنو من النّاس و (تسبّح) من التّسبيح و في بعض النسخ تسبح من السّباحة و في هذه النسخة (خلال) بالخاء المعجمة المكسورة و هو وسط الشّي ء أو جمع خلل بالتحريك و هو الفرجة بين الشيئين، و في بعضها جلال بحار عزّته و (انتحل) الشّي ء إذا ادّعاه لنفسه و هو لغيره و (حمّلهم) بتشديد الميم و (الزّيغ) العدول عن الحق قال سبحانه: ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى و (استعنت به) فأعاننى و قد يتعدّى بنفسه فيقال استعنته فأعاننى و الاسم منه العون و المعانة و المعونة بفتح الميم و ضمّ الواو على وزن مكرمة و بضمّ العين أيضا و اتباع الواو على وزن مقولة.
قال الفيومى: وزن المعونة مفعلة بضمّ العين و بعضهم يجعل الميم أصلية و يقول هي مأخوذة من الماعون و يقول هي فعولة و (اشعر) قلوبهم من شعرت بالشّي ء شعورا من باب قعد علمت و قيل مأخوذ من الشعار و هو ما يلبس تحت الدّثار أى الزم قلوبهم تشبيها بلزوم الشعار للبدن و (أخبت) الرجل خضع للّه و خشع قلبه و (السكينة) الوقار و الطمأنينة و المهابة و (الذّلل) بضمّتين جمع الذّلول و هو ضدّ الصّعب و (مجدّه) تمجيدا عظّمه و أثنا عليه و الجمع للدّلالة على الأنواع و (الأعلام) جمع علم بالتحريك و هو الجبل الطويل قال الشّاعر:
- ربما اوفيت في علمترفعن ثوبي شمالات
و (الاصر) الثقل و (العقب) جمع العقبة كغرف و غرفة و هي النوبة و اللّيل و النّهار يتعاقبان أى يتناوبان و يجي ء كلّ منهما بعد الآخر و (نوازعها) في بعض النسخ بالعين المهملة من نزع في القوس إذا مدّها و في بعضها بالغين المعجمة من نزغ الشيطان بين القوم أى أفسد و (الاعتراك) الازدحام و (قدح) بالزند من باب منع أى رام الايراء به و هو استخراج النّار و (أحن) الرّجل من باب تعب حقد و أضمر العداوة، و الاحنة اسم منه و الجمع احن كسدرة و سدر و (لاق) الشّي ء بغيره أى لزق و منه الليقة للصوق المداد بها و (الاقتراع) الضرب بالقرعة و الاختيار.
و في شرح المعتزلي هو من الاقتراع بالسهام بأن يتناوب كلّ من الوساوس عليها، و الأنسب أن يجعل المزيد بمعنى المجرّد يقال قرعته بالمقرعة ضربته بها، و في بعض النسخ فتفترع بالفاء من فرعه أى علاه و الأول أنسب بالطبع و (الرّين) بالنون كما في بعض النسخ و هو الدنس و الطبع و الغطاء و ران ذنبه على قلبه رينا غلب، و في بعضها بالباء الموحّدة بمعنى الشّك.
الاعراب
قوله: و بين فجوات آه الجملة حال من مفعول حشا، و قوله: و وراء ذلك خبر قدّم على مبتدئه و هو سبحات، و الابصار في بعض النسخ بالنصب على أنّه مفعول تردع و فاعله راجع إلى سبحات، و في بعضها بالرّفع على بناء تردع للمفعول، و أنشأهم عطف على ملاء بهم، و أولى أجنحة حال من مفعول أنشأ، و جملة تسبح صفة لأولى أجنحة أو لأجنحة، و جملة لا ينتحلون حال، و اللّام في قوله: بالقول عوض عن المضاف إليه أى لا يسبقون اللَّه بقولهم.
و قوله إلى المرسلين متعلّق بحملهم على تضمين معنى البعث أو الارسال أو نحوه، و ودائع أمره بالنصب مفعول حمّلهم، و جملة لم تثقلهم استيناف بيانى
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن لبيان صفات الملائكة و كيفية خلقتهم و حالة عبوديّتهم و خشوعهم و ذلّتهم لمعبودهم، و قد مضى شطر واف من الكلام على هذا العنوان خطبه 91 نهج البلاغه بخش 5 في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الأولى، و تقدّم ثمّة ما ينفعك في هذا المقام و لما كان الغرض من هذه الخطبة الاشارة إلى عظمة اللَّه سبحانه و قدرته و الابانة عن الصّفات الجمالية و الجلالية له تعالى، و كان ملائكة السماوات من أفضل الموجودات و أشرف المجعولات و عجائب الخلايق و بدايع الصّنايع و عظم المخلوق كان دالا على عظم الخالق و بديع صنعة المصنوع كان دليلا على كمال قدرة الصّانع و تدبيره و حكمته، لا جرم ساق عليه السّلام هذا الفصل لبيان حالهم و ضمنه ذكر أوصافهم المختلفة و شئوناتهم المتفاوتة بعبارات رائقة و بدائع فائقة.
قال الشّارح المعتزلي و لنعم ما قال: إذا جاء هذا الكلام الرّباني و اللّفظ القدسي بطلت فصاحة العرب و كانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص، و لو فرضنا أنّ العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ من أين لهم المادّة التي عبرت هذه الألفاظ عنها و من أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله هذه المعاني الغامضة السّمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها.
أما الجاهلية فانّهم إنما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات و نحو ذلك.
و أما الصّحابة المذكورون منهم بفصاحة إنما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا يتجاوز السطرين أو الثلاثة إما في موعظة تتضمّن ذكر الموت أو ذمّ الدّنيا و ما يتعلّق بحرب و قتال من ترغيب أو ترهيب.
فأمّا الكلام في الملائكة و صفاتها و عبادتها و تسبيحها و معرفتها بخالقها و حبّها له و ولهها إليه و ما جرى مجرى ذلك ممّا تضمّنه هذا الفصل بطوله فانّه لم يكن معروفا عندهم على هذا التّفصيل، نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم و لا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم، فثبت أنّ هذه الامور الدقيقة مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلّا لعليّ عليه السّلام وحده، و اقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللّبيب اقشعرّ جلده و رجف قلبه و استشعر عظمة اللَّه العظيم في روعه و خلده و هام نحوه و غلب الوجد عليه و كاد أن يخرج من مسكه شوقا و أن يفارق هيكله صبابة و وجدا.
إذا عرفت ذلك فلنعد إلى شرح كلامه عليه السّلام فأقول: قال عليه السّلام (ثمّ خلق سبحانه لإمكان سماواته و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته) ظاهر كلمة ثمّ المفيد للترتيب الحقيقي كون خلق الملائكة بعد خلقة السّماوات، و يدلّ عليه أخبار كثيرة إلّا أنّ في بعض الرّوايات سبق خلقة الملائكة على خلقة السّماوات، و يمكن الجمع بالتخصيص ههنا بسكان السّماوات الذين لا يفارقونها، و المراد بالصفيح الأعلى سطح كلّ سماء، و يقابله الصفيح الأسفل الذى هو الأرض، و يظهر من ذلك عدم تلاصق السّماوات على ما ذهبت إليه الفلاسفة من غير دليل يعتمد عليه.
و أمّا ما في شرح البحراني من أنّه يحتمل أن يشير عليه السّلام بالصّفيح الأعلى إلى الفلك التاسع و هو العرش لكونه أعظم الأجرام و أعلاها و سكانه الملائكة المدبّرون له، فمبنىّ على اصول الفلاسفة مخالف للأخبار و كلام أهل اللغة حسبما عرفت آنفا في ترجمة لفظ الصفيح، و مخالف أيضا لظاهر قوله عليه السّلام (فملأ بهم فروج فجاجها و حشابهم فتوق أجوائها) إذ المستفاد من ذلك أنّ ما بين السّماوات مملوّة بهم فيكون السّطوح المحدّبة منها محلّ إسكان الملائكة و مكان عبادتهم للّه سبحانه بأنواع العبادة و يستفاد منه أيضا تجسم الملائكة و هو المستفاد من الأخبار المتواترة معنى.
و العجب أنّ شارح البحراني أوّل ذلك أيضا بناء على الاصول الفاسدة بأنه عليه السّلام استعار لفظ الفروج و الفجاج و الفتوق لما يتصوّر بين أجزاء الفلك من التباين لولد الملائكة الذين هم أرواح الأفلاك و بها قام وجودها، و بقاء جواهرها محفوظة بها، و وجه المشابهة ظاهر، و رشح تلك الاستعارة بذكر الملاء و الحشو، و أما فجاجها و فروجها فاشارة إلى ما يعقل بين أجزائها و أجوائها المنتظمة على التباس لو لا الناظم لها بوجود الملائكة، فيكون حشو تلك الفرج بالملائكة كناية عن نظامها بوجودها و جعلها مدبّرة لها انتهى.
و قد مضى فساد ذلك و بطلانه في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الأولى فتذكّر (و بين فجوات تلك الفروج) و متّسعاتها (زجل المسّبحين منهم) و أصواتهم الرفيعة العالية بالتضرّع و الابتهال و المسكنة (في حظاير القدس و سترات الحجب و سرادقات المجد) لعلّ المراد بها المواضع المعدّة لعبادة الملائكة بين أطباق السّماوات و وصفها بالقدس من حيث اتصافها بالطهارة و النزاهة من الأدناس و الأرجاس و يمكن أن يكون الاشارة بها إلى ما فوق السماء السّابعة من الحجب و السّرادقات النورانية.
ففي الخبر أنّ ما فوق السّماء السابعة صحارى من نور، و لا يعلم فوق ذلك إلّا اللَّه.
و عن وهب بن منبه فوق السّماوات حجب فيها ملائكة لا يعرف بعضهم بعضا لكثرتهم يسبّحون اللَّه تعالى بلغات مختلفة و أصوات كالرّعد العاصف، هذا.
و قد أشار عليه السّلام إلى تفصيل الحجب و السرادقات فيما رواه الصّدوق في التوحيد باسناده عن زيد بن وهب قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن الحجب، فقال عليه السّلام: أوّل الحجب سبعة غلظ كلّ حجاب منها مسيرة خمسمائة عام و بين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام، و الحجاب الثاني سبعون حجابا بين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام و طوله خمسمائة عام حجبة كلّ حجاب منها سبعون ألف ملك قوّة كلّ ملك منهم قوّة الثّقلين، منها ظلمة، و منها نور، و منها نار، و منها دخان، و منها سحاب، و منها برق، و منها مطر، و منها رعد، و منها ضوء، و منها رمل، و منها جبل، و منها عجاج، و منها ماء، و منها أنهار، و هي حجب مختلفة غلظ كلّ حجاب مسيرة سبعين ألف عام.
ثمّ سرادقات الجلال و هي ستّون «سبعون» سرادقا في كلّ سرادق سبعون ألف ملك بين كلّ سرادق و سرادق مسيرة خمسمائة عام، ثمّ سرادقات العزّ، ثمّ سرادق الكبرياء، ثمّ سرادق العظمة، ثمّ سرادق القدس، ثمّ سرادق الجبروت، ثمّ سرادق الفخر، ثمّ سرادق النور الأبيض، ثمّ سرادق الوحدانية، و هو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف عام، ثمّ الحجاب الأعلى و انقضى كلامه عليه السّلام و سكت، فقال له عمر: لا بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا الحسن.
قال المجلسيُّ (ره) بعد رواية ذلك في البحار: قوله عليه السّلام: منها ظلمة، لعلّ المراد من مطلق الحجب لا من الحجب المتقدّمة كما يدلّ عليه قوله غلظ كلّ حجاب اه (و وراء ذلك الرجيج الذى تستكّ منه الأسماع) و الزجل الذى تنسدّ منه الآذان (سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها) و تمنع الأعين عن وصولها لشدّة ضيائها و فرط بهائها (فتقف) الأبصار (خاسئة) حسيرة (على حدودها) أى حدود تلك السبحات، و يستفاد من شرح المعتزلي رجوع الضمير إلى الأبصار، قال: أى تقف حيث تنتهى قوّتها، لأنّ قوّتها متناهية فاذا بلغت حدّها وقفت هذا.
و المراد بسبحات النور إما الأنوار التي تغشي العرش.
و يدلّ عليه ما روى عن ميسرة قال: لا تستطيع الملائكة الذين يحملون العرش أن ينظروا إلى ما فوقهم من شعاع النور.
و عن زاذان قال: حملة العرش أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور.
و في حديث المعراج قال: و رأيت في علّيين بحارا و أنوارا و حجبا و غيرها لو لا تلك لاحترق كلّ ما تحت العرش من نور العرش، و إمّا حجب النّور التي دون العرش، و يؤيّده ما في الحديث أنّ جبرئيل عليه السّلام قال للّه سبحانه: دون العرش سبعون حجابا لو دنونا من أحدها لاحترقتنا سبحات وجه ربّنا، و في حديث آخر من طرق المخالفين حجابه النّور و النّار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شي ء أدركه بصره.
و قال الشّارح البحراني (ره) أشار عليه السّلام بسبحات النّور التي وراء ذلك الرّجيج إلى جلال وجه اللَّه و عظمته و تنزيهه أن يصل إليه أبصار البصاير، و نبّه بكون ذلك وراء رجيجهم على أنّ معارفهم لا تتعلّق به كما هو، بل وراء علومهم و عباداتهم أطوار اخرى من جلاله تقصر معارفهم عنها و تردع أبصار البصاير عن ادراكها فترجع حسيرة متحيّرة واقفة عند حدودها و غاياتها من الادراك.
أقول: و هو لا ينافي ما ذكرناه إذ ما ذكرته تفسير للظّاهر و ما ذكره الشّارح تأويل للباطن، و قد تقدّم في شرح الخطبة التي قبل هذه الخطبة«» ما ينفعك ذكره في هذا المقام (أنشأهم على صور مختلفات و أقدار متفاوتات اولى أجنحة تسبّح جلال عزّته) قال الشّارح البحراني اختلاف صورهم كناية عن اختلافهم بالحقايق و تفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم في الكمال و القرب منه، و لفظ الاجنحة مستعار لقواهم التي بها حصلوا على المعارف الالهيّة و تفاوتها بالزيادة و النّقصان كما قال تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ كناية عن تفاوت ادراكهم لجلال اللَّه و علومهم بما ينبغي له، و لذلك جعل الأجنحة هي التي تسبّح جلال عزّته فانّ علمهم بجلاله منزّه عمّا لا ينبغي لكرم وجهه و لا يناسب جلال عزّته.
أقول: تسليط يد التّأويل على الظواهر من غير دليل هدم لأساس الشّريعة و حمل اللّفظ على المجازات إنّما هو عند تعذّر إرادة الحقيقة، و امّا مع إمكانها و دلالة الدّليل عليها فهو خلاف السيرة المستمرة مناف لمقتضى الاصول اللفظية المتداولة بين أهل اللّسان من العرب و من حذاحذوهم من علماء الاصول و الأدب.
بل المراد انشاءهم على صور مختلفة و أشكال متشتّتة فبعضهم على صورة الانسان و بعضهم على صورة الحيوان من الأسد و الثور و الدّيك و غيرها من أصناف الحيوان على ما ورد في الأخبار، و بعضهم أولى أجنحة مثنى و ثلاث و رباع يزيد سبحانه عليها ما يشاء على وفق حكمته و مقتضى تدبيره و إرادته.
و ايجادهم على أقدار متفاوتة في الصغر و الكبر و الطّول و القصر، روى عليّ ابن إبراهيم القمّي (ره) في تفسير قوله سبحانه: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ عن الصّادق عليه السّلام أنّه قال: خلق اللَّه الملائكة مختلفين، و قد رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم جبرئيل و له ستّمأة جناح على ساقه الدّر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السّماء و الأرض، و قال: إذا أمر اللَّه ميكائيل بالهبوط إلى الدّنيا صارت رجله اليمنى في السّماء السّابعة و الأخرى في الأرض السّابعة، و أنّ للَّه ملائكة أنصافهم من برد و أنصافهم من نار يقولون: يا مؤلّفا بين البرد و النّار ثبّت قلوبنا على طاعتك، و قال: إنّ اللَّه ملكا بعد ما بين شحمة اذنه إلى عينه مسير خمسمائة عام بخفقان الطير، و قال عليه السّلام: إنّ الملائكة لا يأكلون و لا يشربون و لا ينكحون و إنما يعيشون بنسيم العرش و إنّ للّه ملائكة ركّعا إلى يوم القيامة و إنّ للَّه ملائكة سجّدا إلى يوم القيامة ثمّ قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام ما من شي ء ممّا خلق اللَّه أكثر من الملائكة و أنّه ليهبط في كلّ يوم أو في كلّ ليلة سبعون ألف ملك فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثمّ يأتون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ثمّ يأتون أمير المؤمنين عليه السّلام فيسلّمون عليه ثمّ يأتون الحسين عليه السّلام فيقيمون عنده، فاذا كان وقت السّحر وضع لهم معراج إلى السّماء ثمّ لا يعودون أبدا.
و في التّوحيد بإسناده عن زيد بن وهب قال: سئل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن قدرة اللَّه جلّت عظمته، فقام خطيبا فحمد اللَّه و أثنا عليه ثمّ قال: إنّ اللَّه تبارك و تعالى ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظمة خلقته و كثرة أجنحته، و منهم من لو كلّفت الجنّ و الانس أن يصفوه ما وصفوه لبعد ما بين مفاصله و حسن تركيب صورته، و كيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه و شحمة اذنيه، و منهم من يسدّ الافق بجناح من أجنحته دون عظم بدنه، و منهم من السّماوات إلى حجزته«»، و منهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل و الأرضون إلى ركبتيه، و منهم من لو ألقى في نقرة ابهامه جميع المياه لوسعتها، و منهم من لو القيت السفن في دموع عينه لجرت دهر الداهرين فتبارك اللَّه أحسن الخالقين.
و فيه بإسناده عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ للَّه تبارك و تعالى ديكا رجلاه في تخوم الأرض السّابعة و رأسه عند«» العرش ثاني عنقه تحت العرش «إلى أن قال:» و لذلك الدّيك جناحان إذا نشرهما جاوز المشرق و المغرب، فاذا كان في آخر اللّيل نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول: سبحان الملك القدّوس الكبير المتعال لا إله إلّا اللَّه الحيّ القيّوم، فاذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلّها و خفقت بأجنحتها و أخذت في الصّراخ، فاذا سكن ذلك الدّيك في السّماء سكنت الديكة في الأرض فإذا كان في بعض السحر نشر جناحيه فجاوز بهما المشرق و المغرب و خفق بهما و صرخ بالتسبيح سبحان اللَّه العظيم «سبحان خ» العزيز القهار سبحان اللَّه ذي العرش المجيد سبحان اللَّه ربّ العرش الرّفيع، فاذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض فاذا هاج هاجت الدّيكة في الأرض تجاوبه بالتسبيح و التقديس للّه عزّ و جلّ و لذلك الدّيك ريش أبيض كأشدّ بياض رأيته قطّ و له زعبا«» خضر تحت ريشه الأبيض كأشدّ خضرة رأيتها قطّ فما زلت مشتاقا إلى أن أنظر إلى ريش ذلك الدّيك. و بهذا الإسناد عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ للَّه تبارك و تعالى ملكا من الملائكة نصف جسده الأعلى نار و نصفه الأسفل ثلج، فلا النّار تذيب الثلج و لا الثلج تطفئ النّار و هو قائم ينادى بصوت رفيع: سبحان اللَّه الذي كفّ حرّ هذه النّار فلا يذيب الثلج و كفّ برد هذا الثلج فلا يطفى ء حرّ النّار اللّهمّ يا مؤلّفا بين الثلج و النّار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين على طاعتك هذا.
و بقى الكلام في قوله عليه السّلام اولى أجنحة تسبح جلال عزّته، فأقول: إن كان تسبح بالتخفيف و الخلال بالخاء المعجمة فالمراد سباحتهم و سيرهم في اطباق السّماوات و فوقها أو نزولهم و صعودهم لأداء الرّسالات و غيرها أو سيرهم في مراتب القرب بالعبادة و التسبيح.
و أمّا على رواية التشديد و كون الجلال بالجيم فالجملة إما صفة لاولى أجنحة فالتأنيث باعتبار الجماعة و المقصود أنهم يسبّحونه و يقدّسون جلاله و عظمته و عزّته و قوّته سبحانه من النقائص.
و إمّا صفة لأجنحة فالمقصود بالتسبيح إمّا التنزيه و التقديس بلسان الحال إذ كلّ جناح من اجنحتهم بل كلّ ذرّة من ذرّات وجودهم ناطقة بلسان حالها شارحة لعظمة بارئها و مبدعها، برهان صدق على قدرته و قوّته و كماله، و دليل متين على تدبيره و حكمته و جلاله، و هذا عام لجميع الملائكة.
و إمّا التنزيه بلسان المقال و هو مخصوص ببعض الملائكة.
و يشهد به ما رواه في التوحيد باسناده عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال: إنّ اللَّه تبارك و تعالى ملائكة ليس شي ء من أطباق أجسادهم إلّا و هو يسبّح اللَّه عزّ و جلّ و يحمده من ناحية بأصوات مختلفة لا يرفعون رؤوسهم إلى السماء و لا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء و الخشية للَّه عزّ و جل.
و عن جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام هل في السماء بحار قال عليه السّلام: نعم أخبرني أبي عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: إنّ في السماوات السبع لبحارا عمق أحدها مسيرة خمسمائة عام فيها ملائكة قيام منذ خلقهم اللَّه عزّ و جلّ و الماء إلى ركبهم ليس فيهم ملك إلّا و له ألف و أربع مأئة جناح في كلّ جناح أربعة وجوه في كلّ وجوه «وجه خ» أربعة ألسن ليس فيها جناح و لا وجه و لا لسان و لا فم إلّا و هو يسبّح اللَّه عزّ و جلّ بتسبيح لا يشبه نوع منه صاحبه، و اللَّه أعلم بحقايق ملكه و ملكوته، و آثار جلاله و جبروته.
ثمّ وصف عليه السّلام الملائكة بأنهم (لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه و لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به) أي لا يدّعون الرّبوبية لأنفسهم كما يدّعيه البشر لهم و لأنفسهم فالفقرة الأولى لنفى ادّعاء الاستبداد و الثانية لنفى ادّعاء المشاركة أو الاولى لنفى ادّعائهم الخالقية فيما هم و سايط وجوده و لهم مدخل فيه بأمره سبحانه و الثانية لنفى ذلك فيما خلقه اللَّه سبحانه بمجرّد أمره من دون توسط الوسايل (بل) هم (عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون) و هو اقتباس من قوله سبحانه في سورة الأنبياء.
وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ» الآية قيل: نزلت في خزاعة حيث قالت: الملائكة بنات اللَّه، فنزّه اللَّه سبحانه نفسه عن ذلك و قال سبحانه أنفة له: بل هؤلاء الّذين زعموا أنهم ولد اللَّه ليسوا أولاده، بل هم عباد مكرمون أكرمهم اللَّه و اصطفاهم لا يسبقونه بالقول و لا يتكلّمون إلّا بما يأمرهم به ربّهم، فكلّ أقوالهم طاعة لربّهم و يكفى بذلك جلالة قدرهم، و هم بأمره يعملون، و من كان بهذه الصفة لا يوصف بأنه ولد.
(جعلهم) اللَّه (فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه، و حملهم إلى المرسلين ودايع أمره و نهيه) لعلّ هذا الوصف مختصّ ببعض الملائكة و يشهد به قوله سبحانه اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا و يكفى للنسبة إلى الجميع كون بعضهم كذلك و ما هنالك عبارة عن مراتب الملائكة و يدلّ على الاختصاص بالبعض أيضا قوله عليه السّلام في الفصل التاسع من الخطبة الأولى: و منهم امناء على وحيه و ألسنة إلى رسله و مختلفون بقضائه و أمره، و قد تقدّم في شرح ذلك الفصل ما ينفعك ذكره في المقام و بيّنا ثمّة وجه الحاجة في أداء الامانة إلى وجود الواسطة من الملائكة و أشرنا إلى جهة وصفهم بالامانة.
و محصّله أنّه لما كان ذو الامانة هو الحافظ لما ائتمن عليه ليؤدّيه إلى مستحقّه و كانت الرّسالات النازلة بواسطة الملائكة نازلة كما هي محفوظة عن الخلل الصادر عن سهو لعدم أسباب السّهو هناك أو عن عمد لعدم الدّاعي إليه لقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ صدق أنهم أهل الامانة على وحيه و رسالاته (و عصمهم من ريب الشبهات فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته) هذا الوصف عام لجميع الملائكة لأنهم معصومون من الشكّ و الاشتباه الناشى من معارضة النفس الأمارة للقوّة العاقلة إذ ليس لهم هذه النفس فلا يتصوّر في حقّهم العدول عن سبيل رضوان اللَّه و الانحراف عن القصد لانتفاء سببه الذى هو وجود هذه النفوس.
(و أمدّهم بفوائد المعونة و أشعر قلوبهم تواضع اخبات السّكينة) لعلّ المراد أنّه سبحانه أعطاهم المدد و القوّة و أيّدهم بأسباب الطاعات و القربات و الألطاف و المعارف الصّارفة لهم عن المعصية و أنه ألزم قلوبهم التواضع و الذلّة و الخضوع و الاستكانة لزوم الشعار للجسد أو أنه أعلمهم ذلك، و محصّله عدم انفكاكهم عن الخوف و الخشوع و قد مرّ بعض الأخبار فيه في شرح الفصل التاسع من الخطبة الاولى.
(و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده) أى فتح لهم أبوابا سهلة إلى تعظيماته و الثناء عليه، و الجمع باعتبار أنواع التحيات و فتح الأبواب كناية عن إلهامها عليهم و تسهيلها لهم لعدم معارضة شيطان أو نفس أمارة بالسوء، بل خلقهم خلقة يلتذّون بها كما ورد: أنّ شرابهم التّسبيح و طعامهم التقديس.
(و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده) استعار لفظ الأعلام لأدلّة التّوحيد و براهين التفريد و وجه المشابهة ايصال كلّ منهما إلى المطلوب، و لعلّه أراد بالمنار الواضحة المنصوبة على تلك الأعلام ما يوجب لهم الاهتداء إلى تلك الأدلّة من الوحى و الالهام.
و ربما قيل في شرح ذلك: إنه استعار المنار الواضحة للوسائط من الملائكة المقرّبين بينهم و بين الحقّ سبحانه إذ إخباره عن الملائكة السّماوية و لفظ الاعلام لصور المعقولات في ذواتهم المستلزمة لتوحيده و تنزيهه عن الكثرة، و وجه المشابهة أنّ المنار و الأعلام كما يكون وسايط في حصول العلم بالمطلوب كذلك الملائكة المقرّبون و المعارف الحاصلة بواسطتهم يكون وسايط في الوصول إلى المطلوب الأول محرّك الكلّ عزّ سلطانه، و هو قريب مما قلناه إلّا أنّ ما قلناه أظهروا أشبه هذا.
و أمّا توصيف المنار بوصف الوضوح فمن أجل وفور أسباب الهداية و كثرة الدلائل في حقهم لقربهم من سياحة عزّ و ملكوته و مشاهدتهم ما يخفى علينا من آثار ملكه و جبروته.
(لم تثقلهم موصرات الآثام) أى مثقلاتها و أشار عليه السّلام بذلك إلى عصمتهم من المعاصي لعدم خلق الشهوات فيهم و انتفاء النفس الامارة الداعية إلى المعصية (و لم ترتحلهم عقب اللّيالى و الأيام) أى لم يزعجهم تعاقبهما و لم يوجب رحيلهم عن دارهم، و المقصود تنزيههم عما يعرض للبشر من ضعف القوى أو القرب من الموت بكرور اللّيالى و مرور الأيام.
(و لم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة ايمانهم) عزيمة ايمانهم ما لزم ذواتهم من التّصديق بمبدعهم و ما ينبغي له، و المراد أنه لم ترم الشكوك بمحركاتها و هي شهواتها ما عزموا عليه من الايمان و التّصديق، هذا على رواية نوازعها بالعين المهملة و أما على روايتها بالغين المعجمة فالمقصود عدم انبعاث نفوسهم الأمّارة بالشكوكات و الشبهات و القائها الخواطر الفاسدة إلى أنفسهم المطمئنة.
(و لم تعترك الظنون على معاقد يقينهم) المراد بالظنّ إمّا الاعتقاد الراجح غير الجازم أو الشّك أو ما يشملهما، و لعلّ الأخير أظهر هنا، فالمقصود نفى ازدحام الظنون و الأوهام على قلوبهم التي هي معاقد عقائدهم اليقينية (و لا قدحت قادحة الاحن فيما بينهم) أى لا تثير الأحقاد و العداوات بينهم فتنة كما تثير النّار قادحتها لتنزّهم من القوّة الغضبيّة (و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم و سكن من عظمته و هيبة جلاله في أثناء صدورهم) لمّا كان الحيرة عبارة عن عدم الاهتداء إلى وجه الصواب من حيث تردّد العقل في أنّ أىّ الأمرين أولى بالطلب و الاختيار، و كان منشأ ذلك معارضة الوهم و الخيال للعقل و لم يكن لهم و هم و لا خيال، لا جرم لا حيرة تخالط عقايدهم و تزيل هيبة عظمته من صدورهم.
قال المجلسي (ره): و يحتمل أن يكون المراد بالحيرة الوله لشدّة الحبّ و كمال المعرفة كما سيأتي، فالمعنى أنّ شدّة و لهم لا يوجب نقصا في معرفتهم و غفلة عن ملاحظة العظمة و الجلال كما في البشر، و على هذا فالسلب في كلامه عليه السّلام راجع إلى المحمول كما أنه على ما قلناه راجع إلى الموضوع خطبه 91 نهج البلاغه بخش 5 (و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم) أى لم تطمع فيهم الوساوس الشّيطانية و النّفسانية فتتناوب أو تضرب بأدناسها على قلوبهم، و الغرض نفى عروض الوساوس على عقولهم كما تعرض للبشر لانتفاء أسبابها في حقّهم.
|