و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَ لَا
مَشُورَةِ مُشِيرٍ وَ لَا مَعُونَةِ مُعِينٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ انْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ
اللغة
أقول: الخفاش: مفرد جمعه خفافيش، و هو من الخفش و هو ضعف البصر خلقة. و انحسرت: كلت. و درعت: كفّت. و المساغ: المسلك.
المعنى
و قد حمد اللّه تعالى باعتبارات:
الأوّل: انحسار الأوصاف عن كنه معرفته
و لمّا كانت ذاته تعالى بريئة من أنحاء التراكيب لم يمكن العقول إدراكها بشي ء من الأوصاف بالكنه، و قد سبق ذلك مرارا.
الثاني: ردع عظمته العقول عن بلوغ غاية ملكوته
و ذلك ظاهر لأنّ الإدراك للأشياء بحقائقها إنّما يتمّ بإدراك حقائق عللها، و إذا استلزمت عظمته و ارتفاعه عن إدراك العقول ردعها عن معرفة كنهه فظاهر أنّها لا تجد مسلكا إلى غاية ملكوته، و ما عليه نظام الوجود الأعلى و الأسفل كما هو.
الثالث: قوله: هو
فهو الهوية المطلق، و هو الّذي لا يكون هويّته موقوفة على غيره و مستفادة منه فإنّ كلّ ما كان مستفادا من الغير فما لم يعتبر غيره لم يكن هو فلم يكن هو هو المطلق، و كلّ ما كان هو هو لذاته فسواء اعتبر غيره أ و لم يعتبر فهو هو لكن كلّ ممكن فوجوده من غيره فكلّ ما كان وجوده من غير فخصوصيّة وجوده و تعيّنه من غيره و هو الهويّة فإذن كلّ ممكن فهويّته من غيره فلا يكون هو هو لذاته لكنّ المبدأ الأوّل هو هو لذاته فلا يكون من غيره فلا يكون ممكنا فهو واجب لذاته فإذن واجب الوجود هو الّذي لذاته هو هو بل ذاته أنّه هو البراءة عن التركيب المستلزم للإمكان.
الرابع: تعقيبه لذكر الهويّة باسم اللّه
و ذلك لأنّه لمّا كانت تلك الهويّة و الخصوصيّة عديمة الاسم لا يمكن شرحها إلّا بلوازمها، و اللوازم منها إضافيّة و منها سلبيّة، و اللوازم الإضافيّة أشدّ تعريفا و الأكمل في التعريف هو اللازم الجامع لنوعي الإضافة و السلب، و ذلك هو كون تلك الهويّة إليها فإنّ الإله هو الّذي ينسب إليه غيره و لا ينسب هو إلى غيره فانتساب غيره إليه إضافيّ، و عدم انتسابه إلى غيره سلبيّ فلا جرم عقّب ذكر الهويّة بما يدلّ على ذلك اللازم لأكمليّته في التعريف من غيره ليكون كالكاشف لما دلّ عليه لفظ هو، و فيه سرّ آخر، و هو أنّه لمّا عرّف تلك الهويّة بلازمها، و هو الإلهيّة نبّه على أنّه لا جزء لتلك الهويّة و إلّا لكان العدول عنه إلى التعريف باللازم قصور.
الخامس: ذكر الحقّ
و هو الثابت الموجود فإنّه لمّا أشار إلى الهويّة و شرح اسمها عقّب ذلك بالإشارة إلى كونها حقّا موجودا وجودها عند العقول أحقّ و أبين ممّا [عمّا خ ] ترى العيون، و ذلك ظاهر فإنّ العلم بوجود الصانع جلّت عظمته فطرىّ للعقول و إن احتاج إلى بيّنة ما. و العلوم الّتي مستندها الحس قد يقع الخلل فيها بسبب ما يقع للوهم من اشتباه المحسوسات و عدم ضبطها أو بسبب تقصير الحسّ في كيفيّة الأداء لصورة المحسوس فكانت المعقولات الصرفة أحقّ لإدراك العقل لها بذاته.
السادس: أنّ العقول لم تبلغه تجديد فيكون مشبّها
و فيه إشارة لطيفة تدل على كمال علمه عليه السّلام، و ذلك أنّك علمت في المقدّمات أنّ العقول إذا قويت على الاتّصال بالامور المجرّدة، و كانت القوّة المتخيّلة بحيث تقوى على استخلاص الحسّ المشترك و ضبطه عن الحواسّ الظاهرة فإنّ النفس و الحال هذه إذا توجّهت لاقتناص أمر معقول و انجذبت القوى النفسانيّة أثرها انتقشت بذلك المعقول. ثمّ إنّها تستعين في ضبط ذلك الأمر بالقوّة المتخيّلة فتحاكيه بما يشبهه من الامور المحسوسة. ثمّ تحطّه إلى خزانة الخيال فيصير مشاهدا ممثّلًا.
إذا عرفت ذلك فنقول: لو كان الباري تعالى ممّا تدركه العقول و تشتبه بحدّ وصفة لكان استثباتها له على النحو المذكور فيلزم أن يكون مشبّها بغيره من الأجسام، و الجسمانيّات ليثبت صورته عند الذهن، و قد تنزّه قدس اللّه عن التشبيه بشي ء منها.
السابع: و كذلك لم تقع الأوهام عليه بتقدير فيكون ممثّلا.
إذ الوهم لا يدرك إلّا المعاني الجزئيّة المتعلّقة بالمحسوسات، و لا بدّ له في إدراك ذلك المدرك من بعث المتخيّلة على تشبيهه بمثال من الصور الجسمانيّة فلو وقع عليه و هو لمثّله في صورة حسّية حتّى أنّ الوهم إنّما يدرك نفسه في مثال من صورة و حجم و مقدار.
الثامن: خلقه [خلق خ ] الخلق على غير مثال. إلى قوله: معين
و قد سبق أيضا بيانه في الخطبة الاولى و غيرها، و تمام خلقه بأمره بلوغه إلى غايته في الكمال الممكن له إذ [إذا خ ] نطقت البراهين العقليّة أنّ كلّ ما أمكن لشي ء وصل إليه من الجود الإلهي المنزّه عن البخل و المنع من جهته، و إذعانه لطاعته دخوله تحت القدرة الالهيّة، و كذلك إجابته من غير مدافعة و انقياده من غير منازعة.
|