380 وَ قَالَ ع فِي كَلَامٍ لَهُ غَيْرِ هَذَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى: فَمِنْهُمُ الْمُنْكِرُ لِلْمُنْكَرِ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ- فَذَلِكَ الْمُسْتَكْمِلُ لِخِصَالِ الْخَيْرِ- وَ مِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ وَ التَّارِكُ بِيَدِهِ- فَذَلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِخَصْلَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ- وَ مُضَيِّعٌ خَصْلَةً- وَ مِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَ التَّارِكُ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ- فَذَاكَ الَّذِي ضَيَّعَ أَشْرَفَ الْخَصْلَتَيْنِ مِنَ الثَّلَاثِ- وَ تَمَسَّكَ بِوَاحِدَةٍ- وَ مِنْهُمْ تَارِكٌ لِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ وَ يَدِهِ- فَذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ- وَ مَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ- إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ- وَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ- لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ- وَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ قد سبق قولنا في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و هو أحد الأصول الخمسة عند أصحابنا- و لجة الماء أعظمه و بحر لجي ذو ماء عظيم- و النفثة الفعلة الواحدة- من نفثت الماء من فمي أي قدفته بقوة- . قال ع لا يعتقدن أحد- أنه إن أمر ظالما بالمعروف أو نهى ظالما عن منكر- أن ذلك يكون سببا- لقتل ذلك الظالم المأمور أو المنهي إياه- أو يكون سببا لقطع رزقه من جهته- فإن الله تعالى قدر الأجل و قضى الرزق- و لا سبيل لأحد أن يقطع على أحد عمره أو رزقه- .
و هذا الكلام ينبغي أن يحمل على أنه حث و حض- و تحريض على النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف- و لا يحمل على ظاهره- لأن الإنسان لا يجوز أن يلقي بنفسه إلى التهلكة- معتمدا على أن الأجل مقدر و أن الرزق مقسوم- و أن الإنسان متى غلب على ظنه- أن الظالم يقتله و يقيم على ذلك المنكر- و يضيف إليه منكرا آخر لم يجز له الإنكار- . فأما كلمة العدل عند الإمام الجائر- فنحو ما روي أن زيد بن أرقم رأى عبيد الله بن زياد- و يقال بل يزيد بن معاوية- يضرب بقضيب في يده ثنايا الحسين ع- حين حمل إليه رأسه- فقال له إيها ارفع يدك- فطالما رأيت رسول الله ص يقبلها
فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
و نحن نذكر خلاصة ما يقوله أصحابنا- في النهي عن المنكر- و نترك الاستقصاء فيه للكتب الكلامية- التي هي أولى ببسط القول فيها من هذا الكتاب- . قال أصحابنا الكلام في ذلك يقع من وجوه- منها وجوبه و منها طريق وجوبه- و منها كيفية وجوبه و منها شروط حسنه- و منها شروط وجوبه و منها كيفية إيقاعه- و منها الكلام في الناهي عن المنكر- و منها الكلام في النهي عن المنكر- . أما وجوبه فلا ريب فيه- لأن المنكر قبيح كله- و القبيح يجب تركه فيجب النهي عنه- . و أما طريق وجوبه- فقد قال الشيخ أبو هاشم رحمه الله- إنه لا طريق إلى وجوبه إلا السمع- و قد أجمع المسلمون على ذلك- و ورد به نص القرآن في غير موضع- .
قال الشيخ أبو علي رحمه الله- العقل يدل على وجوبه- و إلى هذا القول مال شيخنا أبو الحسين رحمه الله- . و أما كيفية وجوبه- فإنه واجب على الكفاية دون الأعيان- لأن الغرض ألا يقع المنكر- فإذا وقع لأجل إنكار طائفة- لم يبق وجه لوجوب الإنكار على من سواها- . و أما شروط حسنه فوجوه- منها أن يكون ما ينكره قبيحا- لأن إنكار الحسن و تحريمه قبيح- و القبيح على ضروب- فمنه ما يقبح من كل مكلف و على كل حال كالظلم- و منها ما يقبح من كل مكلف على وجه دون وجه- كالرمي بالسهام و تصريف الحمام و العلاج بالسلاح- لأن تعاطي ذلك لمعرفة الحرب و التقوى على العدو- و لتعرف أحوال البلاد بالحمام حسن لا يجوز إنكاره- و إن قصد بالاجتماع على ذلك الاجتماع- على السخف و اللهو و معاشرة ذوي الريب و المعاصي- فهو قبيح يجب إنكاره- .
و منه ما يقبح من مكلف و يحسن من آخر- على بعض الوجوه كشرب النبيذ- و التشاغل بالشطرنج- فأما من يرى حظرهما- أو يختار تقليد من يفتي بحظرهما- فحرام عليه تعاطيهما على كل حال- و متى فعلهما حسن الإنكار عليه- و أما من يرى إباحتهما- أو من يختار تقليد من يفتي بإباحتهما- فإنه يجوز له تعاطيهما على وجه دون وجه- و ذلك أنه يحسن شرب النبيذ- من غير سكر و لا معاقرة- و الاشتغال بالشطرنج للفرجة و تخريج الرأي و العقل- و يقبح ذلك إذا قصد به السخف- و قصد بالشرب المعاقرة و السكر- فالثاني يحسن إنكاره و يجب- و الأول لا يحسن إنكاره لأنه حسن من فاعله- . و منها أن يعلم المنكر أن ما ينكره قبيح- لأنه إذا جوز حسنه كان بإنكاره له و تحريمه إياه- محرما لما لا يأمن أن يكون حسنا- فلا يأمن أن يكون ما فعله من النهي
نهيا عن حسن- و كل فعل لا يأمن فاعله- أن يكون مختصا بوجه قبيح فهو قبيح- أ لا ترى أنه يقبح من الإنسان أن يخبر على القطع- بأن زيدا في الدار إذا لم يأمن ألا يكون فيها- لأنه لا يأمن أن يكون خبره كذبا و منها أن يكون ما ينهى عنه واقعا- لأن غير الواقع لا يحسن النهي عنه- و إنما يحسن الذم عليه و النهي عن أمثاله- . و منها ألا يغلب على ظن المنكر- أنه إن أنكر المنكر فعله المنكر عليه- و ضم إليه منكرا آخر- و لو لم ينكر عليه لم يفعل المنكر الآخر- فمتى غلب على ظنه ذلك قبح إنكاره- لأنه يصير مفسدة- نحو أن يغلب على ظننا- أنا إن أنكرنا على شارب الخمر شربها- شربها و قرن إلى شربها القتل- و إن لم ننكر عليه شربها و لم يقتل أحدا- .
و منها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر- أن نهيه لا يؤثر فإن غلب على ظنه ذلك- قبح نهيه عند من يقول من أصحابنا- إن التكليف من المعلوم منه أنه يكفر لا يحسن- إلا أن يكون فيه لطف لغير ذلك المكلف- و أما من يقول من أصحابنا- إن التكليف من المعلوم منه أنه يكفر حسن- و إن لم يكن فيه لطف لغير المكلف- فإنه لا يصح منه القول بقبح هذا الإنكار- . فأما شرائط وجوب النهي عن المنكر فأمور- منها أن يغلب على الظن وقوع المعصية- نحو أن يضيق وقت صلاة الظهر- و يرى الإنسان لا يتهيأ للصلاة- أو يراه تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلته- و متى لم يكن كذلك- حسن منا أن ندعوه إلى الصلاة- و إن لم يجب علينا دعاؤه- . و منها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر- أنه إن أنكر المنكر- لحقته في نفسه و أعضائه مضرة عظيمة- فإن غلب ذلك على ظنه- و أنه لا يمتنع من ينكر عليه- من فعل
ما ينكره عليه أيضا- فإنه لا يجب عليه الإنكار- بل و لا يحسن منه لأنه مفسدة- . و إن غلب على ظنه أنه لا يفعل ما أنكره عليه- و لكنه يضر به نظر فإن كان إضراره به- أعظم قبحا مما يتركه إذا أنكر عليه- فإنه لا يحسن الإنكار عليه- لأن الإنكار عليه قد صار و الحالة هذه مفسدة- نحو أن ينكر الإنسان على غيره شرب الخمر- فيترك شربها و يقتله- و إن كان ما يتركه إذا أنكر عليه- أعظم قبحا مما ينزل به من المضرة- نحو أن يهم بالكفر- فإذا أنكر عليه تركه و جرح المنكر عليه أو قتله- فإنه لا يجب عليه الإنكار- و يحسن منه الإنكار- أما قولنا لا يجب عليه الإنكار- فلأن الله تعالى قد أباحنا- التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه- فبأن يبيحنا ترك غيرنا أن يتلفظ بذلك- عند الخوف على النفس أولى- و أما قولنا إنه يحسن الإنكار- فلأن في الإنكار مع الظن- لما ينزل بالنفس من المضرة إعزازا للدين- كما أن في الامتناع من إظهار كلمة الكفر- مع الصبر على قتل النفس- إعزازا للدين لا فضل بينهما- .
فأما كيفية إنكار المنكر- فهو أن يبتدئ بالسهل- فإن نفع و إلا ترقى إلى الصعب- لأن الغرض ألا يقع المنكر- فإذا أمكن ألا يقع بالسهل- فلا معنى لتكلف الصعب- و لأنه تعالى أمر بالإصلاح قبل القتال في قوله- فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما - فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي- . فأما الناهي عن المنكر من هو- فهو كل مسلم تمكن منه و اختص بشرائطه- لأن الله تعالى قال- وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ - وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ- و لإجماع المسلمين على أن كل من شاهد غيره- تاركا للصلاة غير محافظ عليها- فله أن يأمره بها بل يجب عليه- إلا أن الإمام و خلفاءه أولى بالإنكار بالقتال- لأنه أعرف بسياسة الحرب و أشد استعدادا لآلاتها- .
فأما المنهي من هو- فهو كل مكلف اختص بما ذكرناه من الشروط- و غير المكلف إذا هم بالإضرار لغيره منه- و يمنع الصبيان- و ينهون عن شرب الخمر حتى لا يتعودوه- كما يؤاخذون بالصلاة حتى يمرنوا عليها- و هذا ما ذكره أصحابنا- . فأما قوله ع- و منهم المنكر بلسانه و قلبه و التارك بيده- فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير- و مضيع خصلة- فإنه يعني به من يعجز عن الإنكار باليد لمانع- لأنه لم يخرج هذا الكلام مخرج الذم- و لو كان لم يعن العاجز- لوجب أن يخرج الكلام مخرج الذم- لأنه ليس بمعذور في أن ينكر بقلبه و لسانه- إذا أخل بالإنكار باليد- مع القدرة على ذلك و ارتفاع الموانع- . و أما قوله ضيع أشرف الخصلتين فاللام زائدة- و أصله ضيع أشرف خصلتين من الثلاث- لأنه لا وجه لتعريف المعهود هاهنا في الخصلتين- بل تعريف الثلاث باللام أولى- و يجوز حذفها من الثلاث- و لكن إثباتها أحسن- كما تقول قتلت أشرف رجلين من الرجال الثلاثة- . و أما قوله فذلك ميت الأحياء- فهو نهاية ما يكون من الذم- . و اعلم أن النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف- عند أصحابنا أصل عظيم من أصول الدين- و إليه تذهب الخوارج الذين خرجوا على السلطان- متمسكين بالدين و شعار الإسلام- مجتهدين في العبادة- لأنهم إنما خرجوا لما غلب على ظنونهم- أو علموا جور الولاة و ظلمهم- و أن أحكام الشريعة قد غيرت- و حكم بما لم يحكم به الله- و على هذا الأصل تبنى الإسماعيلية من الشيعة- قتل ولاة الجور غيلة- و عليه بناء أصحاب الزهد في الدنيا- الإنكار على الأمراء و الخلفاء- و مواجهتهم بالكلام الغليظ- لما عجزوا عن الإنكار باليد- و بالجملة فهو أصل شريف- أشرف من جميع أبواب البر و العبادة- كما قال أمير المؤمنين ع
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 19، ص 306 - 311)
|