384: الْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ- وَ هُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بِهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍ قد تقدم القول في البخل و الشح- و نحن نذكر هاهنا زيادات أخرى
أقوال مأثورة في الجود و البخل
قال بعض الحكماء- السخاء هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات- حصل معه البذل لها أو لم يحصل- و ذلك خلق و يقابله الشح و أما الجود- فهو بذل المقتنى و يقابله البخل هذا هو الأصل- و إن كان كل واحد منها قد يستعمل في موضع الآخر- و الذي يدل على صحة هذا الفرق- أنهم جعلوا اسم الفاعل من السخاء- و الشح على بناء الأفعال الغريزية- فقالوا شحيح و سخي- فبنوه على فعيل- كما قالوا حليم و سفيه و عفيف- و قالوا جائد و باخل- فبنوهما على فاعل كضارب و قاتل- فأما قولهم بخيل- فمصروف عن لفظ فاعل للمبالغة- كقولهم في راحم رحيم- و يدل أيضا على أن السخاء غريزة و خلق- أنهم لم يصفوا البارئ سبحانه- به فيقولوا سخي- فأما الشح فقد عظم أمره و خوف منه- و لهذا
قال ع ثلاث مهلكات شح مطاع- و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه
- فخص المطاع- تنبيها على أن وجود الشح
في النفس فقط- ليس مما يستحق به ذم لأنه ليس من فعله- و إنما يذم بالانقياد له- قال سبحانه وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ- و قال وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ- . و
قال ع لا يجتمع شح و إيمان في قلب أبدا
- . فأما الجود فإنه محمود على جميع ألسنة العالم- و لهذا قيل كفى بالجود مدحا- أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في حمد- و كفى بالبخل ذما- أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في ذم- . و قيل لحكيم- أي أفعال البشر أشبه بأفعال الباري سبحانه- فقال الجود- . و
قال النبي ص الجود شجرة من أشجار الجنة- من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة- و البخل شجرة من أشجار النار- من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار
- . و من شرف الجود- أن الله سبحانه قرن ذكره بالإيمان- و وصف أهله بالفلاح- و الفلاح اسم جامع لسعادة الدارين قال سبحانه- الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ - وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ- إلى قوله وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- و قال وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- . و حق للجود بأن يقرن بالإيمان- فلا شي ء أخص به و أشد مجانسة له منه- فإن من صفة المؤمن انشراح الصدر كما قال تعالى- فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ - وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً - كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ- و هذا من صفات الجواد و البخيل- لأن الجواد واسع الصدر- منشرح مستبشر للإنفاق و البذل- و البخيل قنوط ضيق الصدر- حرج القلب ممسك- . و
قال النبي ص و أي داء أدوأ من البخل
- . و البخل على ثلاثة أضرب- بخل الإنسان بماله على نفسه- و بخله بماله على غيره- و بخله
بمال غيره على نفسه أو على غيره- و أفحشها بخله بمال غيره على نفسه- و أهونها و إن كان لا هين فيها- بخله بماله على غيره- . و
قال ع اللهم اجعل لمنفق خلفا و لممسك تلفا
- . و قال إن الله عز و جل ينزل المعونة على قدر المئونة
- . و قال أيضا من وسع وسع عليه
- . و قالت الفلاسفة الجود على أقسام- فمنها الجود الأعظم و هو الجود الإلهي- و هو الفيض العام المطلق- و إنما يختلف لاختلاف المواد و استعداداتها- و إلا فالفيض في نفسه عام غير خاص- و بعده جود الملوك- و هو الجود بجزء من المال على من تدعوهم الدواعي- و الأغراض إلى الجود عليه- و يتلوه جود السوقة- و هو بذل المال للعفاة أو الندامى و الشرب و المعاشرين- و الإحسان إلى الأقارب- . قالوا و اسم الجود مجاز- إلا الجود الإلهي العام- فإنه عار عن الغرض و الداعي- و أما من يعطي لغرض و داع- نحو أن يحب الثناء و المحمدة- فإنه مستعيض و تاجر يعطي شيئا ليأخذ شيئا- قالوا قول أبي نواس-
فتى يشتري حسن الثناء بماله و يعلم أن الدائرات تدور
- ليس بغاية في الوصف بالجود التام- بل هو وصف بتجارة محمودة- و أحسن منه قول ابن الرومي-
و تاجر البر لا يزال له ربحان في كل متجر تجره
أجر و حمد و إنما طلب الأجر
و لكن كلاهما اعتوره
- . و أحسن منهما قول بشار-
ليس يعطيك للرجاء و لا الخوف و لكن يلذ طعم العطاء
- و نحن قد ذكرنا ما في هذا الموضع- من البحث العقلي في كتبنا العقلية
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 19، ص 316 - 318)
|