391: مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُعْصَى إِلَّا فِيهَا - وَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِتَرْكِهَا هذا الكلام نسبه الغزالي- في كتاب إحياء علوم الدين- إلى أبي الدرداء و الصحيح أنه من كلام علي ع- ذكره شيخنا أبو عثمان الجاحظ- في غير موضع من كتبه- و هو أعرف بكلام الرجال
نبذ مما قيل في حال الدنيا و هوانها و اغترار الناس بها
و قد تقدم من كلامنا في حال الدنيا و هوانها على الله- و اغترار الناس بها و غدرها بهم- و ذم العقلاء لها و تحذيرهم منها ما فيه كفاية- . و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك- .
يقال إن في بعض كتب الله القديمة الدنيا غنيمة الأكياس و غفلة الجهال- لم يعرفوها حتى خرجوا منها- فسألوا الرجعة فلم يرجعوا
- . و قال بعض العارفين- من سأل الله تعالى الدنيا- فإنما سأله طول الوقوف بين يديه- .
و قال الحسن لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا- إلا بحسرات ثلاث أنه لم يشبع مما جمع- و لم يدرك ما أمل و لم يحسن الزاد لما يقدم عليه- . و من كلامه أهينوا الدنيا- فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها- . و قال محمد بن المنكدر- أ رأيت لو أن رجلا صام الدهر لا يفطر- و قام الليل لا يفتر و تصدق بماله- و جاهد في سبيل الله- و اجتنب محارم الله تعالى- غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال- إن هذا مع ما قد عمل كان يعظم في عينه ما صغر الله- و يصغر في عينه ما عظم الله- كيف ترى يكون حاله- فمن منا ليس هكذا- الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب و الخطايا- . و قد ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا- قالوا مثل الدنيا و أهلها- كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة- فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة- و حذرهم المقام و خوفهم مرور السفينة و استعجالها- فتفرقوا في نواحي الجزيرة- فقضى بعضهم حاجته و بادر إلى السفينة- فصادف المكان خاليا- فأخذ أوسع المواضع و ألينها و أوفقها لمراده- و بعضهم توقف في الجزيرة- ينظر إلى أزهارها و أنوارها العجيبة- و غياضها الملتفة و نغمات طيورها الطيبة- و ألحانها الموزونة الغريبة- و لحظ في تزيينها أحجارها و جواهرها- و معادنها المختلفة الألوان- ذوات الأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقش- السالبة أعين الناظرين- بحسن زبرجها و عجائب صورها- ثم تنبه لخطر فوات السفينة- فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا- فاستقر فيه- و بعضهم أكب فيها على تلك الأصداف و الأحجار- و قد أعجبه حسنها و لم تسمح نفسه بإهمالها و تركها- فاستصحب منها جملة- فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا- و زاده ما حمله ضيقا و صار ثقلا عليه و وبالا- فندم على أخذه و لم تطعه نفسه على رميه- و لم يجد موضعا له فحمله على عنقه
و رأسه- و جلس في المكان الضيق في السفينة- و هو متأسف على أخذه و نادم و ليس ينفعه ذلك و بعضهم تولج بتلك الأنوار و الغياض- و نسي السفينة و أبعد في متفرجه و متنزهه- حتى أن نداء الملاح لم يبلغه- لاشتغاله بأكل تلك الثمار- و اشتمامه تلك الأنوار و التفرج بين تلك الأشجار- و هو مع ذلك خائف على نفسه من السباع- و السقطات و النكبات و نهش الحيات- و ليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه- و غصن يجرح جسمه و مروة تدمي رجله- و صوت هائل يفزع منه و عوسج يملأ طريقه- و يمنعه عن الانصراف لو أراده- و كان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله- فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه- فلم يجد في السفينة موضعا واسعا و لا ضيقا- فبقي على الشط حتى مات جوعا- و بعضهم بلغه النداء فلم يعرج عليه- و استغرقته اللذة و سارت السفينة- فمنهم من افترسته السباع- و منهم من تاه و هام على وجهه حتى هلك- و منهم من ارتطم في الأوحال- و منهم من نهشته الحيات- فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة- فأما من وصل إلى السفينة- مثقلا بما أخذه من الأزهار و الفاكهة اللذيذة- و الأحجار المعجبة فإنها استرقته- و شغله الحزن بحفظها- و الخوف من ذهابها عن جميع أموره- و ضاق عليه بطريقها مكانه- فلم تلبث أن ذبلت تلك الأزهار- و فسدت تلك الفاكهة الغضة- و كمدت ألوان الأحجار و حالت- فظهر له نتن رائحتها- فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها و وحشتها- فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها- و قد أثر في مزاجه ما أكله منها- فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام- بما أكل و ما شم من تلك الروائح- فبلغ سقيما وقيذا مدبرا- و أما من كان رجع عن قريب و ما فاته إلا سعة المحل- فإنه تأذى بضيق المكان مدة- و لكن لما وصل إلى الوطن استراح- و أما من رجع أولا فإنه وجد المكان الأوسع- و وصل إلى الوطن سالما طيب القلب مسرورا- .
فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة- و نسيانهم موردهم و مصدرهم- و غفلتهم عن عاقبة أمرهم- و ما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل- و تغره حجارة الأرض و هي الذهب و الفضة- و هشيم النبت و هو زينة الدنيا- و هو يعلم يقينا أن شيئا من ذلك لا يصحبه عند الموت- بل يصير كله وبالا عليه- و هو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف عليه- و الحزن و الهم لحفظه- و هذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله- . و قد ضرب أيضا لها مثال آخر- في عبور الإنسان عليها- قالوا الأحوال ثلاثة- حال لم يكن الإنسان فيها شيئا- و هي ما قبل وجوده إلى الأزل- و حال لا يكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا- و هي بعد موته إلى الأبد- و حالة متوسطة بين الأزل و الأبد- و هي أيام حياته في الدنيا- فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين- و لينظر إلى الحالة المتوسطة- هل يجد لها نسبة إليها- و إذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها- و لم يبال كيف تقضت أيامه فيها- في ضر و ضيق أو في سعة و رفاهة- بل لا يبني لبنة على لبنة-
توفي رسول الله ص و ما وضع لبنة على لبنة- و لا قصبة على قصبة- و رأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص- فقال أرى الأمر أعجل من هذا و أنكر ذلك
و لهذا
قال النبي ص ما لي و للدنيا- إنما مثلي و مثلها كراكب سار في يوم صائف- فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة- ثم راح و تركها
و إلى هذا أشار عيسى ابن مريم حيث قال الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها
- و هو مثل صحيح- فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الآخرة- و المهد هو أحد جانبي القنطرة- و اللحد الجانب الآخر و بينهما مسافة محدودة- فمن الناس من قطع نصف القنطرة- و منهم من قطع ثلثيها- و منهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة و هو غافل عنها- و كيفما كان فلا بد من العبور و الانتهاء- و لا ريب أن عمارة هذه القنطرة- و تزيينها بأصناف الزينة- لمن
هو محمول قسرا و قهرا على عبورها- يسوقه سائق عنيف غاية الجهل و الخذلان- . و
في الحديث المرفوع أن رسول الله ص مر على شاة ميتة- فقال أ ترون أن هذه الشاة هينة على أهلها- قالوا نعم و من هوانها ألقوها- فقال و الذي نفسي بيده- للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها- و لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة- لما سقى كافرا منها شربة ماء
- . و قال ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر
- . و قال أيضا الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها
- . و قال أيضا من أحب دنياه أضر بآخرته- و من أحب آخرته أضر بدنياه- فآثروا ما يبقى على ما يفنى
- . و قال أيضا حب الدنيا رأس كل خطيئة
- . و روى زيد بن أرقم قال كنا مع أبي بكر فدعا بشراب- فأتي بماء و عسل- فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه- فسكتوا و ما سكت ثم عاد ليشرب- فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته- ثم مسح عينيه- فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك- قال كنت مع رسول الله ص- فرأيته يدفع بيده عن نفسه شيئا و لم أر معه أحدا- فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك- قال هذه الدنيا مثلت لي- فقلت لها إليك عني- فرجعت و قالت- إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك- و قال ص يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود- و هو يسعى لدار الغرور
- . و من الكلام المأثور عن عيسى ع لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا عبيدا- فاكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه- فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة- و صاحب كنز الآخرة لا يخاف عليه
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 19، ص 326 - 330)
|