(و الرّضا) هو حسن الاستقبال عمّا يعرض للانسان في كلّ حال من حيث لا يقدر على تغييره بتدبيره، فمن تلبّس بالرّضا تجاه ما قدر و قضى فقد قرن بما حسن حاله في كلّ حين، و جعل لنفسه من نفسه رفيقا يفيض السرور في قلبه.
(و العلم) فطري و هو موهبة إلهيّة الهم على قلب العالم بعناية اللَّه، أو اكتسابي اوحى إليه بعد تحصيل مقدّماته المفضية إليه، و التعبير عنه بأنّه (وراثة) تشير إلى أنّ العلم و هو النور الساطع من باطن العالم ينكشف به الأشياء المجهولة لديه، موهبة من اللَّه و إن تكلّف تحصيل مقدّماته في العلوم الاكتسابيّة، فهو كالرزق للأبدان بذله اللَّه لكلّ من يستحقّه مؤمنا كان أو غيره، إلّا ما كان من العلوم الإلهيّة و المعارف القدسيّة الّتي تختصّ بالمؤمن و من يرد اللَّه أن يهديه.
و الإرث ما يتحصّل للوارث بلا عوض، و بهذا الاعتبار عبّر عنه بالوراثة و ليس المقصود أنّ العلم ميراث من العلماء و الأساتذة، كما في الشرحين لابن ميثم و ابن أبي الحديد، فانّ العلم أعمّ، و المقصود أتمّ.
(و الاداب حلل مجدّدة) الأدب لفظة يشعر بالنظم و الترتيب، و منه مأدبة لسفرة الغذاء، لأنّه يراعى فيه النظم و الأدب رعاية القوانين المقرّرة في الشرع و تنظيم الوظائف الدّينيّة و رعاية القوانين المقرّرة في المعاشرة و المعاملة مع الناس فرعاية الأدب التحلّي بأعمال و أقوال تجاه الخالق أو الخلق.
و حيث إنّ الانسان دائما مسئول من فعله و قوله أمام الخالق و المخلوق و لا بدّ له من رعاية وظائفه حينا بعد حين فكأنه برعاية الاداب يجدّد حلية جماله المعنوي، و يلبس حللا و يبدلها باخرى، و هذا من أحسن التعبيرات و الاستعارات.
و قد ذكر صاحب الشرح في ذيل هذه الجملة قصّة لنا عليها نكتة و تعليق نذكرها بنصّها ثمّ نردفها بهذه النكتة و نعلّق عليها و هذا نصّها (في ص 96 ج 18 ط مصر- عيسى البابي الحلبي). و أنشد منشد بحضرة الواثق هارون بن المعتصم:
أ ظلوم أنّ مصابكم رجلا أهدى السلام تحيّة ظلم
فقال شخص: رجل هو خبر «انّ» و وافقه على ذلك قوم و خالفه آخرون فقال الواثق: من بقي من علماء النحويّين قالوا: أبو عثمان المازني بالبصرة فأمر باشخاصه إلى سرّ من رأى بعد ازاحة علّته، قال أبو عثمان: فاشخصت، فلمّا ادخلت عليه قال: ممّن الرّجل قلت: من مازن، قال: من مازن تميم، أم من مازن ربيعة، أم من مازن قيس، أم مازن اليمن قلت: من مازن ربيعة، قال: باسمك- بالباء- يريد «ما اسمك» لأنّ لغة مازن ربيعة هكذا يبدلون الميم باء و الباء ميما، فقلت: مكر أي «بكر» فضحك و قال: اجلس و اطمئنّ، فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا، فقال: فأين خبر «انّ» فقلت «ظلم» قال: كيف هذا قلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أنّ البيت إن لم يجعل «ظلم» خبر «انّ» يكون مقطوع المعنى معدوم الفائدة، فلما كرّرت القول عليه فهم، و قال: قبح اللَّه من لا أدب له ثمّ قال: ألك ولد قلت: بنيّة، قال: فما قالت لك حين ودّعتها قلت: ما قالت بنت الأعشى:
تقول ابنتي حين جدّ الرحيل أرانا سواء و من قد يتم
أبانا فلا رمت من عندنا
فانا بخير إذا لم ترم
أبانا إذا اضمرتك البلاد نخفى و تقطع منا الرّحم
قال: فما قلت لها قال: قلت: أنشدتها بيت جرير:
ثقي باللّه ليس له شريك و من عند الخليفة بالنّجاح
فقال: ثق بالنجاح إن شاء اللَّه تعالى ثمّ أمر لي بألف دينار و كسوة، و ردّني إلى البصرة انتهى.
أقول: فيها نكتتان: 1- صاحب الشرح حمل لفظة الاداب الواردة في كلام مولانا عليه السّلام على المعنى الاصطلاحي المحدث، و هو علم العربية و ما يلحق بها و ما يسمّونه بعلوم الأدب، و الأدبيّات، و مفهوم العلوم الأدبيّة ليس بواضح من وجهين: الأوّل: ما هي العلوم الأدبيّة الثاني: لما ذا سمّيت تلك العلوم بالأدبيّة و أدبيّات أمّا جواب السؤال الأوّل فليس بمحرّر من حيث إنّ علم اللّغة و الصرف و النحو و البلاغة و الشعر أدبيّات و لكن هل تشتمل اللفظة علم التاريخ و المنطق و نوضح أوّلا جواب السؤال الثاني فنقول: إنّ لفظة أدب كما ذكر يشعر بالنظم و الترتيب، و علوم اللغة و الصرف و النحو ينظّم الكلام فيقال لها: علوم الأدب أو الأدب العربي قال في «المنجد» آدب إيدابا السلطان البلاد ملأها قسطا و عدلا- و العدل هو استقرار النظم الاجتماعي الصّحيح- إلى أن قال: الاداب تطلق على العلوم و المعارف عموما، أو على المستظرف منها فقط و يطلقونها على ما يليق بالشي ء أو الشخص فيقال: آداب الدرس و آداب القاضي- إلخ، و علم الأدب هو علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا و كتابة انتهى.
و على كلّ حال حمل لفظة الاداب في كلام مولانا عليه السّلام على هذا الاصطلاح، كما يشعر به كلام الشارح المعتزلي بعيد جدّا، فانّ هذا الاصطلاح غير موجود في هذا
العصر و ليس بمقصود في المقام، كما أوضحناه.
2- يظهر من هذه القصّة انحطاط بلاط الخلافة في العلم و الأدب إلى حيث لا يفهم المعتصم هذا البيت العربي الصريح حتّى فهمه المازني و أوضح له المراد مع أنّه قريب العصر بالمأمون العبّاسي الشهير بالفضل و التوجّه إلى أهله.
و أما تعليقنا على هذه القصّة فقد نفلت نظر القرّاء الكرام إلى وضع هذه الشخصيّة الفذّة و هو أبو عثمان المازني أحد أعيان العلوم الأدبية و واضع علم الصرف و قد كان من أعيان الشّيعة الإماميّة في عصره الرّهيب.
قال في تنقيح المقال ج 1 ص 180: بكر بن محمّد بن حبيب بن بقية أبو عثمان المازني- إلى أن قال: قال النجاشي: بكر بن محمّد بن حبيب بن بقية أبو عثمان المازني مازن بني شيبان كان سيّد أهل العلم بالنحو و الغريب و اللغة بالبصرة و مقدّمته مشهورة بذلك- إلى أن قال: و لا إشكال في كون الرّجل إماميّا، و قد سمع من النجاشي أنّه من علماء الاماميّة إلخ.
أقول: و يشعر بعض مضامين القصّة المنقولة أنّه من الاماميّة حيث إنّ دعوته إلى سرّ من رأى بأمر الخليفة كانت رهيبة و معرض خطر، و بهذه المناسبة سأله المعتصم عن أولاده و عمّا قالت له ابنته حين سفره و أعطاه الأمان بقوله: اجلس، و اطمئنّ، فيظهر منها أنّه كان معروفا بالتشيّع و مبتلى بالضغط و ضيق المعاش، فطمع فيه ذمّي و أعطاه مائتي دينار ليعلّمه كتاب سيبويه، و كما نقل عن المبرّد امتنع عن ذلك بأنّ في الكتاب ثلاثمائة و كذا و كذا آية من كتاب اللَّه عزّ و جلّ، و لست أرى أن امكّن ذمّيا منها، غيرة و حميّة للإسلام، و يكشف ذلك عن غاية ورعه و تقواه.
و ذكر العلّامة الأوحد الاقا رضا الاصبهاني قدّس سرّه أحد أساتيدي و شيخ إجازتي أنّ حفظ حرمة كتاب اللَّه صار سببا لحدوث المناقشة بحضرة المعتصم و أدّى إلى إحضاره و إكرامه و بذل المال و الكسوة له و تعريفه بحضرة الخليفة استاذا منحصرا للأدب و اللغة في عصره، فنال تأييدا منه بمنّه تعالى و صار سببا
لشهرته و رفع الضيق عنه ببركة حرمة القرآن الشريف، و من هنا يتوجّه هذا السّؤال: هل يجوز تعليم القرآن بغير المسلم أم لا ربما يستفاد من ظاهر الاية الشريفة «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» 79- سورة الواقعة» عدم الجواز، لأنّ أظهر أفراد مسّ القرآن درك صورته العلميّة و حفظه في القلب، و يستفاد من هذه الاية النهي عن مسّ غير المطهّر، و الكافر غير مطهّر.
كما أنّ خباب بن أرت امتنع عن تسليم جزء من القرآن كان يعلّمه فاطمة أخت عمر المسلمة حين طلبه عمر ليقرئه و قال أو قالت «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ».
و يشعر امتناع المازني أحد شيوخ الإماميّة عن تعليم كتاب سيبويه المتضمّن لايات القرآن الذمّي الغير المسلم بذلك، و لعلّه يتفرّع على ذلك حرمة بيع المصحف بغير المسلم كما ذكره الفقهاء في مسائل المكاسب المحرّمة.
و لكن يضعف ذلك كلّه أنّ القرآن الشريف اوحي إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ليقرأها على المشركين فيفهمونه و يصير سببا لاسلامهم، و كان تعليم القرآن لغير المسلم سيرة ثابتة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله.
(و الفكر مرآة صافية) الفكر أشعاع عقلي ينور القلب و ينكشف به الحقائق و هي حركة روحيّة من المبادي إلى المقاصد و من المقاصد إلى المبادي و عرّفه الشيخ البهائي قدّس سرّه في المبادي المنطقيّة لزبدة الأصول بأنّه تأمّل معقول لكسب مجهول.
و وصفها عليه السّلام بأنّها مرآة صافية ينعكس فيها الحقائق فيجب على كلّ استعمالها في شتّى اموره و يخلّصها من شوب الوهم و التخيّل ليرى الأشياء فيها، كما هي.
( منهاج البراعه فی شرح نهج البلاغه(الخوئی) ج 21 ص 13-17)
|