464: وَ سُئِلَ عَنْ أَشْعَرِ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ ع- إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَجْرُوا فِي حَلْبَةٍ- تُعْرَفُ الْغَايَةُ عِنْدَ قَصَبَتِهَا- فَإِنْ كَانَ وَ لَا بُدَّ فَالْمَلِكُ الضِّلِّيلُ قال يريد إمرأ القيس
في مجلس علي بن أبي طالب
قرأت في أمالي ابن دريد قال أخبرنا الجرموزي عن ابن المهلبي عن ابن الكلبي عن شداد بن إبراهيم عن عبيد الله بن الحسن العنبري عن ابن عرادة قال كان علي بن أبي طالب ع- يعشي الناس في شهر رمضان باللحم و لا يتعشى معهم- فإذا فرغوا خطبهم و وعظهم- فأفاضوا ليلة في الشعراء و هم على عشائهم- فلما فرغوا خطبهم ع و قال في خطبته- اعلموا أن ملاك أمركم الدين و عصمتكم التقوى- و زينتكم الأدب و حصون أعراضكم الحلم- ثم قال قل يا أبا الأسود- فيم كنتم تفيضون فيه- أي الشعراء أشعر فقال يا أمير المؤمنين الذي يقول-
و لقد أغتدي يدافع ركني أعوجي ذو ميعة إضريج
مخلط مزيل معن مفن منفح مطرح سبوح خروج
- . يعني أبا دواد الإيادي- فقال ع ليس به- قالوا فمن يا أمير المؤمنين- فقال لو رفعت للقوم غاية- فجروا إليها معا علمنا من السابق منهم- و لكن إن يكن فالذي لم يقل عن رغبة و لا رهبة- قيل من هو يا أمير المؤمنين- قال هو الملك الضليل ذو القروح- قيل إمرؤ القيس يا أمير المؤمنين- قال هو قيل فأخبرنا عن ليلة القدر- قال ما أخلو من أن أكون أعلمها فأستر علمها- و لست أشك أن الله إنما يسترها عنكم نظرا لكم- لأنه لو أعلمكموها عملتم فيها و تركتم غيرها- و أرجو أن لا تخطئكم إن شاء الله انهضوا رحمكم الله- . و قال ابن دريد لما فرغ من الخبر- إضريج ينبثق في عدوه- و قيل واسع الصدر و منفح يخرج الصيد من مواضعه- و مطرح يطرح ببصره- و خروج سابق- . و الغاية بالغين المعجمة الراية قال الشاعر-
و إذا غاية مجد رفعت نهض الصلت إليها فحواها
- . و يروى قول الشماخ-
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها غرابة باليمين
- . بالغين و الراء أكثر- فأما البيت الأول فبالغين لا غير- أنشده الخليل في عروضه- و في حديث طويل في الصحيح فيأتونكم تحت ثمانين غاية- تحت كل غاية اثنا عشر ألفا- و الميعة أول جري الفرس- و قيل الجري بعد الجري
اختلاف العلماء في تفضيل بعض الشعراء على بعض
و أنا أذكر في هذا الموضع ما اختلف فيه العلماء- من تفضيل بعض الشعراء على بعض- و أبتدئ في ذلك- بما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني- في كتاب الأغاني- قال أبو الفرج- الثلاثة المقدمون على الشعراء- إمرؤ القيس و زهير و النابغة- لا اختلاف في أنهم مقدمون على الشعراء كلهم- و إنما اختلف في تقديم بعض الثلاثة على بعض- . قال فأخبرني أبو خليفة- عن محمد بن سلام عن أبي قبيس- عن عكرمة بن جرير عن أبيه- قال شاعر أهل الجاهلية زهير- . قال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري- قال حدثني عمر بن شبة- عن هارون بن عمر عن أيوب بن سويد- عن يحيى بن زياد عن عمر بن عبد الله الليثي قال- قال عمر بن الخطاب ليلة في مسيره إلى الجابية- أين عبد الله بن عباس فأتي به- فشكا إليه تخلف علي بن أبي طالب ع عنه- قال ابن عباس فقلت له أ و لم يعتذر إليك- قال بلى قلت فهو ما اعتذر به- قال ثم أنشأ يحدثني فقال- إن أول من راثكم عن هذا الأمر أبو بكر- إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوة- قال أبو الفرج- ثم ذكر قصة طويلة ليست من هذا الباب- فكرهت ذكرها ثم قال- يا ابن عباس هل تروي لشاعر الشعراء- قلت و من هو قال ويحك شاعر الشعراء- الذي يقول-
فلو أن حمدا يخلد الناس خلدوا و لكن حمد الناس ليس بمخلد
- .فقلت ذاك زهير- فقال ذاك شاعر الشعراء- قلت و بم كان شاعر الشعراء- قال إنه كان لا يعاظل الكلام- و يتجنب وحشيه و لا يمدح أحدا إلا بما فيه- . قال أبو الفرج و أخبرني أبو خليفة- قال ابن سلام و أخبرني عمر بن موسى الجمحي- عن أخيه قدامة بن موسى و كان من أهل العلم- أنه كان يقدم زهيرا قال فقلت له- أي شعره كان أعجب إليه فقال- الذي يقول فيه-
قد جعل المبتغون الخير في هرم و السائلون إلى أبوابه طرقا
- . قال ابن سلام- و أخبرني أبو قيس العنبري- و لم أر بدويا يفي به- عن عكرمة بن جرير- قال قلت لأبي يا أبت من أشعر الناس- قال أ عن أهل الجاهلية تسألني أم عن أهل الإسلام- قال قلت ما أردت إلا الإسلام- فإذا كنت قد ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها- فقال زهير أشعر أهلها- قلت فالإسلام قال الفرزدق نبعة الشعر- قلت فالأخطل قال يجيد مدح الملوك- و يصيب وصف الخمر- قلت فما تركت لنفسك- قال إني نحرت الشعر نحرا- . قال و أخبرني الحسن بن علي قال- أخبرنا الحارث بن محمد عن المدائني- عن عيسى بن يزيد قال- سأل معاوية الأحنف عن أشعر الشعراء- فقال زهير قال و كيف ذاك- قال ألقى على المادحين فضول الكلام- و أخذ خالصه و صفوته- قال مثل ما ذا قال مثل قوله-
و ما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
و هل ينبت الخطي إلا وشيجه
و تغرس إلا في منابتها النخل
- . قال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز- قال حدثنا عمر بن شبة- قال حدثنا عبد الله بن عمرو القيسي- قال حدثنا خارجة بن عبد الله بن أبي سفيان- عن أبيه عن ابن عباس- قال خرجت مع عمر في أول غزاة غزاها- فقال لي ليلة يا ابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء- قلت من هو قال ابن أبي سلمى- قلت و لم صار كذلك- قال لأنه لا يتبع حوشي الكلام- و لا يعاظل في منطقه- و لا يقول إلا ما يعرف و لا يمدح الرجل إلا بما فيه- أ ليس هو الذي يقول-
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية إلى المجد من يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلق مبرز
سبوق إلى الغايات غير مزند
- . قال أي لا يحتاج إلى أن يجلد الفرس بالسوط- .
كفعل جواد يسبق الخيل عفوه السراع و إن يجهد و يجهدن يبعد
فلو كان حمدا يخلد الناس لم تمت
و لكن حمد الناس ليس بمخلد
- . أنشدني له فأنشدته حتى برق الفجر- فقال حسبك الآن اقرأ القرآن- قلت ما أقرأ قال الواقعة فقرأتها- و نزل فأذن و صلى- . و قال محمد بن سلام في كتاب طبقات الشعراء- دخل الحطيئة على سعيد بن العاص متنكرا- فلما قام الناس و بقي الخواص أراد الحاجب أن يقيمه- فأبى أن يقوم- فقال سعيد دعه- و تذاكروا أيام العرب و أشعارها- فلما أسهبوا قال الحطيئة ما صنعتم شيئا- فقال سعيد فهل عندك علم من ذلك قال نعم- قال فمن أشعر العرب قال الذي يقول-
قد جعل المبتغون الخير في هرم و السائلون إلى أبوابه طرقا
- . قال ثم من قال الذي يقول-
فإنك شمس و الملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
- . يعني زهيرا ثم النابغة- ثم قال و حسبك بي إذا وضعت إحدى رجلي على الأخرى- ثم عويت في أثر القوافي كما يعوي الفصيل في أثر أمه- قال فمن أنت قال أنا الحطيئة- فرحب به سعيد و أمر له بألف دينار- . قال و قال من احتج لزهير- كان أحسنهم شعرا و أبعدهم من سخف- و أجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق- و أشدهم مبالغة في المدح و أبعدهم تكلفا و عجرفية- و أكثرهم حكمة و مثلا سائرا في شعره- . و
قد روى ابن عباس عن النبي ص أنه قال أفضل شعرائكم القائل و من من
يعني زهيرا- و ذلك في قصيدته التي أولها أ من أم أوفى يقول فيها-
و من يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه و يذمم
و من لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم و من لا يظلم الناس يظلم
و من هاب أسباب المنايا ينلنه و لو نال أسباب السماء بسلم
و من يجعل المعروف من دون عرضه
يفره و من لا يتق الشتم يشتم
- . فأما القول في النابغة الذبياني- فإن أبا الفرج الأصفهاني قال في كتاب الأغاني- كنية النابغة أبو أمامة- و اسمه زياد بن معاوية و لقب بالنابغة لقوله-
فقد نبغت لهم منا شئون
- . و هو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم- و هو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء- .
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري و حبيب بن نصر- قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو نعيم- قال شريك عن مجالد عن الشعبي- عن ربعي بن حراش- قال قال لنا عمر يا معشر غطفان من الذي يقول-
أتيتك عاريا خلقا ثيابي على خوف تظن بي الظنون
- . قلنا النابغة قال ذاك أشعر شعرائكم- . قلت قوله أشعر شعرائكم- لا يدل على أنه أشعر العرب- لأنه جعله أشعر شعراء غطفان- فليس كقوله في زهير شاعر الشعراء- و لكن أبا الفرج قد روى بعد هذا خبرا آخر صريحا- في أن النابغة عند عمر أشعر العرب- قال حدثني أحمد و حبيب عن عمر بن شبة- قال حدثنا عبيد بن جناد- قال حدثنا معن بن عبد الرحمن- عن عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن جده عن الشعبي- قال قال عمر يوما من أشعر الشعراء- فقيل له أنت أعلم يا أمير المؤمنين- قال من الذي يقول-
إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند
و خيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح و العمد
- قالوا النابغة قال فمن الذي يقول-
أتيتك عاريا خلقا ثيابي على خوف تظن بي الظنون
- قالوا النابغة قال فمن الذي يقول-
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة و ليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة
لمبلغك الواشي أغش و أكذب
- قالوا النابغة قال فهو أشعر العرب- . قال و أخبرني أحمد قال حدثنا عمر- قال حدثني علي بن محمد المدائني- قال قام رجل إلى ابن عباس- فقال له أي الناس أشعر قال أخبره يا أبا الأسود- فقال أبو الأسود الذي يقول-
فإنك كالليل الذي هو مدركي و إن خلت أن المنتأى عنك واسع
- يعني النابغة- . قال أبو الفرج- و أخبرني أحمد و حبيب عن عمر عن أبي بكر العليمي- عن الأصمعي قال كان يضرب للنابغة قبة أدم بسوق عكاظ- فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها- فأنشده مرة الأعشى ثم حسان بن ثابت- ثم قوم من الشعراء ثم جاءت الخنساء فأنشدته-
و إن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
- . فقال لو لا أن أبا بصير يعني الأعشى- أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الإنس و الجن- فقام حسان بن ثابت- فقال أنا و الله أشعر منها و من أبيك- فقال له النابغة يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول-
فإنك كالليل الذي هو مدركي و إن خلت أن المنتأى عنك واسع
خطاطيف حجن في حبال متينة
تمد بها أيد إليك نوازع
- . قال فخنس حسان لقوله- . قال و أخبرني أحمد و حبيب عن عمر عن الأصمعي- عن أبي عمرو بن العلاء-
قال حدثني رجل سماه أبو عمرو و أنسيته- قال بينما نحن نسير بين أنقاء من الأرض- فتذاكرنا الشعر فإذا راكب أطيلس- يقول أشعر الناس زياد بن معاوية- ثم تملس فلم نره- . قال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز- عن عمر بن شبة عن الأصمعي- قال سمعت أبا عمرو بن العلاء- يقول ما ينبغي لزهير إلا أن يكون أجيرا للنابغة- . قال أبو الفرج- و أخبرنا أحمد عن عمر- قال قال عمرو بن المنتشر المرادي- وفدنا على عبد الملك بن مروان- فدخلنا عليه فقام رجل فاعتذر من أمر و حلف عليه- فقال له عبد الملك- ما كنت حريا أن تفعل و لا تعتذر- ثم أقبل على أهل الشام فقال- أيكم يروي اعتذار النابغة إلى النعمان في قوله-
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة و ليس وراء الله للمرء مذهب
- . فلم يجد فيهم من يرويه- فأقبل علي و قال أ ترويه قلت نعم- فأنشدته القصيدة كلها فقال هذا أشعر العرب- . قال و أخبرني أحمد و حبيب عن عمر- عن معاوية بن بكر الباهلي- قال قلت لحماد الراوية- لم قدمت النابغة قال لاكتفائك بالبيت الواحد من شعره- لا بل بنصف البيت لا بل بربع البيت- مثل قوله-
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة و ليس وراء الله للمرء مذهب
و لست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
- ربع البيت يغنيك عن غيره- فلو تمثلت به لم تحتج إلى غيره- . قال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز- عن عمر بن شبة عن هارون بن عبد الله الزبيري- قال حدثني شيخ يكنى أبا داود عن الشعبي- قال دخلت على عبد الملك و عنده الأخطل و أنا لا أعرفه- و ذلك أول يوم وفدت فيه من العراق على عبد الملك- فقلت حين دخلت- عامر بن شراحيل الشعبي يا أمير المؤمنين- فقال على علم ما أذنا لك- فقلت هذه واحدة على وافد أهل العراق- يعني أنه أخطأ- قال ثم إن عبد الملك سأل الأخطل- من أشعر الناس فقال أنا- فعجلت و قلت لعبد الملك- من هذا يا أمير المؤمنين فتبسم و قال الأخطل- فقلت في نفسي اثنتان على وافد أهل العراق- فقلت له أشعر منك الذي يقول-
هذا غلام حسن وجهه مستقبل الخير سريع التمام
للحارث الأكبر و الحارث
الأصغر فالأعرج خير الأنام
ثم لعمرو و لعمرو و قد أسرع في الخيرات منه أمام
- قال هي أمامة أم عمرو الأصغر بن المنذر- بن إمرئ القيس بن النعمان بن الشقيقة-
خمسة آباء هم ما هم أفضل من يشرب صوب الغمام
- . و الشعر للنابغة- فالتفت إلي الأخطل- فقال إن أمير المؤمنين إنما سألني عن أشعر أهل زمانه- و لو سألني عن أشعر أهل الجاهلية- كنت حريا أن أقول كما قلت أو شبيها به- فقلت في نفسي ثلاث على وافد أهل العراق- . قال أبو الفرج- و قد وجدت هذا الخبر أتم من هذه الرواية- ذكره أحمد بن الحارث الخراز في كتابه- عن المدائني عن عبد الملك بن مسلم- قال كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج- أنه ليس شي ء من لذة الدنيا إلا و قد أصبت منه- و لم يبق عندي شي ء ألذ من مناقلة الإخوان الحديث- و قبلك عامر الشعبي فابعث به إلي- فدعا الحجاج الشعبي فجهزه و بعث به إليه- و قرظه و أطراه في كتابه- فخرج الشعبي حتى إذا كان بباب عبد الملك- قال للحاجب استأذن لي- قال من أنت قال أنا عامر الشعبي- قال يرحمك الله- قال ثم نهض فأجلسني على كرسيه- فلم يلبث أن خرج إلي فقال ادخل يرحمك الله- فدخلت فإذا عبد الملك جالس على كرسي- و بين يديه رجل أبيض الرأس و اللحية- جالس على كرسي فسلمت فرد علي السلام- فأومأ إلي بقضيبه فجلست عن يساره- ثم أقبل على ذلك الإنسان الذي بين يديه فقال له- من أشعر الناس فقال أنا يا أمير المؤمنين- قال الشعبي فأظلم ما بيني و بين عبد الملك- فلم أصبر أن قلت- و من هذا الذي يزعم أنه أشعر الناس يا أمير المؤمنين- فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي- فقال هذا الأخطل- فقلت يا أخطل أشعر و الله منك الذي يقول-
هذا غلام حسن وجهه مستقبل الخير سريع التمام
- الأبيات- قال فاستحسنها عبد الملك ثم رددتها عليه حتى حفظها- فقال الأخطل من هذا يا أمير المؤمنين- قال هذا الشعبي- فقال و الجيلون ما استعذت بالله من شر إلا من هذا- أي و الإنجيل- صدق و الله يا أمير المؤمنين النابغة أشعر مني- قال الشعبي فأقبل عبد الملك حينئذ علي- فقال كيف أنت يا شعبي- قلت بخير يا أمير المؤمنين- فلا زلت به ثم ذهبت لأصنع معاذير- لما كان من خلافي مع ابن الأشعث على الحجاج- فقال مه إنا لا نحتاج إلى هذا المنطق- و لا تراه منا في قول و لا فعل حتى تفارقنا- ثم أقبل علي فقال ما تقول في النابغة- قلت يا أمير المؤمنين قد فضله عمر بن الخطاب- في غير موطن على جميع الشعراء- ثم أنشدته الشعر الذي كان عمر يعجب به من شعره- و قد تقدم ذكره- قال فأقبل عبد الملك على الأخطل فقال له- أ تحب أن لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب- أم تحب أنك قلته- قال لا و الله يا أمير المؤمنين- إلا أني وددت أني كنت قلت أبياتا قالها رجل منا- ثم أنشده قول القطامي-
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل و إن بليت و إن طالت بك الطيل
ليس الجديد به تبقى بشاشته
إلا قليلا و لا ذو خلة يصل
و العيش لا عيش إلا ما تقر به عين و لا حال إلا سوف تنتقل
إن ترجعي من أبي عثمان منجحة
فقد يهون على المستنجح العمل
و الناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي و لأم المخطئ الهبل
قد يدرك المتأني بعض حاجته
و قد يكون مع المستعجل الزلل
- . قال الشعبي- فقلت قد قال القطامي أفضل من هذا- قال و ما قال قلت قال-
طرقت جنوب رحالنا من مطرق ما كنت أحسبها قريب المعنق
إلى آخرها- فقال عبد الملك ثكلت القطامي أمه- هذا و الله الشعر- قال فالتفت إلى الأخطل- فقال يا شعبي إن لك فنونا في الأحاديث- و إنما لي فن واحد- فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضا- فقلت لا أعرض لك في شي ء من الشعر أبدا- فأقلني هذه المرة- فقال من يتكفل بك قلت أمير المؤمنين- فقال عبد الملك هو علي أنه لا يعرض لك أبدا- ثم قال عبد الملك يا شعبي أي نساء الجاهلية أشعر- قلت الخنساء قال و لم فضلتها على غيرها- قلت لقولها-
و قائلة و النعش قد فات خطوها لتدركه يا لهف نفسي على صخر
ألا هبلت أم الذين غدوا به
إلى القبر ما ذا يحملون إلى القبر
فقال عبد الملك أشعر منها و الله التي تقول-
مهفهف أهضم الكشحين منخرق عنه القميص بسير الليل محتقر
لا يأمن الدهر ممساه و مصبحه
من كل أوب و إن يغز ينتظر
- . قال ثم تبسم عبد الملك و قال لا يشقن عليك يا شعبي- فإنما أعلمتك هذا- لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام- و يقولون إن كان غلبونا على الدولة- فلم يغلبونا على العلم و الرواية- و أهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق- ثم ردد علي أبيات ليلى حتى حفظتها- ثم لم أزل عنده أول داخل و آخر خارج- فكنت كذلك سنين و جعلني في ألفين من العطاء- و جعل عشرين رجلا من ولدي و أهل بيتي في ألف ألف- ثم بعثني إلى أخيه عبد العزيز بمصر- و كتب إليه يا أخي قد بعثت إليك بالشعبي- فانظر هل رأيت قط مثله- . قال أبو الفرج الأصبهاني في ترجمة أوس بن حجر- إن أبا عبيدة قال كان أوس شاعر مضر حتى أسقطه النابغة- قال و قد ذكر الأصمعي- أنه سمع أبا عمرو بن العلاء يقول- كان أوس بن حجر فحل العرب- فلما نشأ النابغة طأطأ منه- . و قال محمد بن سلام في كتاب طبقات الشعراء- و قال من احتج للنابغة كان أحسنهم ديباجة شعر- و أكثرهم رونق كلام و أجزلهم بيتا- كأن شعره كلام ليس بتكلف- و المنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر- لأن الشاعر يحتاج إلى البناء و العروض و القوافي- و المتكلم مطلق يتخير الكلام كيف شاء- قالوا و النابغة نبغ بالشعر بعد أن احتنك و هلك قبل أن يهتر- . قلت و كان أبو جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد- العلوي البصري- يفضل النابغة- و استقرأني يوما و بيدي ديوان النابغة- قصيدته التي يمدح بها النعمان بن المنذر- و يذكر مرضه- و يعتذر إليه مما كان اتهم به و قذفه به أعداؤه- و أولها-
كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا و همين هما مستكنا و ظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يريبها
و ورد هموم لو يجدن مصادرا
تكلفني أن يغفل الدهر همها و هل وجدت قبلي على الدهر ناصرا
- . يقول هذه النفس تكلفني ألا يحدث لها الدهر هما و لا حزنا- و ذلك مما لم يستطعه أحد قبلي- .
أ لم تر خير الناس أصبح نعشه على فتية قد جاوز الحي سائرا
- . كان الملك منهم إذا مرض حمل على نعش- و طيف به على أكتاف الرجال- بين الحيرة و الخورنق و النجف ينزهونه- .
و نحن لديه نسأل الله خلده يرد لنا ملكا و للأرض عامرا
و نحن نرجي الخير إن فاز قدحنا
و نرهب قدح الدهر إن جاء قامرا
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا و أصبح جد الناس بعدك عاثرا
و ردت مطايا الراغبين و عريت
جيادك لا يحفي لها الدهر حافرا
رأيتك ترعاني بعين بصيرة و تبعث حراسا علي و ناظرا
و ذلك من قول أتاك أقوله
و من دس أعداء إليك المآبرا
فآليت لا آتيك إن كنت مجرما و لا أبتغي جارا سواك مجاورا
- . أي لا آتيك حتى يثبت عندك أني غير مجرم- .
فأهلي فداء لامرئ إن أتيته تقبل معروفي و سد المفاقرا
سأربط كلبي إن يريبك نبحه
و إن كنت أرعى مسحلان و حامرا
- . أي سأمسك لساني عن هجائك- و إن كنت بالشام في هذين الواديين البعيدين عنك- .
و حلت بيوتي في يفاع ممنع تخال به راعي الحمولة طائرا
تزل الوعول العصم عن قذفاته
و يضحي ذراه بالسحاب كوافرا
حذارا على ألا تنال مقادتي و لا نسوتي حتى يمتن حرائرا
- يقول أنا لا أهجرك- و إن كنت من المنعة و العصمة على هذه الصفة- .
أقول و قد شطت بي الدار عنكم إذا ما لقيت من معد مسافرا
ألا أبلغ النعمان حيث لقيته
فأهدى له الله الغيوث البواكرا
و أصبحه فلجا و لا زال كعبه على كل من عادى من الناس ظاهرا
و رب عليه الله أحسن صنعه
و كان على كل المعادين ناصرا
- . فجعل أبو جعفر رحمه الله يهتز و يطرب- ثم قال و الله لو مزجت هذه القصيدة بشعر البحتري- لكادت تمتزج لسهولتها و سلامة ألفاظها- و ما عليها من الديباجة و الرونق- من يقول إن إمرأ القيس و زهيرا أشعر من هذا- هلموا فليحاكموني- .
فأما إمرؤ القيس بن حجر- فقال محمد بن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء- أخبرني يونس بن حبيب- أن علماء البصرة كانوا يقدمونه على الشعراء كلهم- و أن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى- و أن أهل الحجاز و البادية يقدمون زهيرا و النابغة- . قال ابن سلام- فالطبقة الأولى إذن أربعة- قال و أخبرني شعيب بن صخر عن هارون بن إبراهيم- قال سمعت قائلا يقول للفرزدق- من أشعر الناس يا أبا فراس- فقال ذو القروح يعني إمرأ القيس- قال حين يقول ما ذا قال حين يقول-
وقاهم جدهم ببني أبيهم و بالأشقين ما كان العقاب
- . قال و أخبرني أبان بن عثمان البجلي- قال مر لبيد بالكوفة في بني نهد- فأتبعوه رسول يسأله من أشعر الناس- فقال الملك الضليل فأعادوه إليه- فقال ثم من فقال الغلام القتيل- يعنى طرفة بن العبد- و قال غير أبان قال ثم ابن العشرين- قال ثم من قال الشيخ أبو عقيل يعني نفسه- . قال ابن سلام- و احتج لإمرئ القيس من يقدمه- فقال إنه ليس قال ما لم يقولوه- و لكنه سبق العرب إلى أشياء- ابتدعها استحسنتها العرب- فاتبعه فيها الشعراء- منها استيقاف صحبه و البكاء في الديار- و رقة النسيب و قرب المأخذ- و تشبيه النساء بالظباء و بالبيض- و تشبيه الخيل بالعقبان و العصي- و قيد الأوابد و أجاد في النسيب- و فصل بين النسيب و بين المعنى- و كان أحسن الطبقة تشبيها- . قال و حدثني معلم لبني داود بن علي- قال بينا أنا أسير في البادية إذا أنا برجل على ظليم- قد زمه و خطمة و هو يقول-
هل يبلغنيهم إلى الصباح هقل كأن رأسه جماح
- . قال فما زال يذهب به ظليمه و يجي ء- حتى أنست به و علمت أنه ليس بإنسي- فقلت يا هذا من أشعر العرب- فقال الذي يقول-
أ غرك مني أن حبك قاتلي و أنك مهما تأمري القلب يفعل
- يعني إمرأ القيس- قلت ثم من قال الذي يقول-
و يبرد برد رداء العروس بالصيف رقرقت فيه العبيرا
و يسخن ليلة لا يستطيع
نباحا بها الكلب إلا هريرا
- . ثم ذهب به ظليمه فلم أره- . قال و حدث عوانة عن الحسن- أن رسول الله ص قال لحسان بن ثابت- من أشعر العرب قال الزرق العيون من بني قيس- قال لست أسألك عن القبيلة- إنما أسألك عن رجل واحد- فقال حسان يا رسول الله- إن مثل الشعراء و الشعر كمثل ناقة نحرت- فجاء إمرؤ القيس بن حجر فأخذ سنامها و أطائبها- ثم جاء المتجاوران من الأوس و الخزرج- فأخذا ما والى ذلك منها- ثم جعلت العرب تمزعها- حتى إذا بقي الفرث و الدم- جاء عمرو بن تميم و النمر بن قاسط فأخذاه-
فقال رسول الله ص ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها خامل يوم القيامة- معه لواء الشعراء إلى النار
- . فأما الأعشى- فقد احتج أصحابه لتفضيله بأنه كان أكثرهم عروضا- و أذهبهم في فنون الشعر- و أكثرهم قصيدة طويلة جيدة- و أكثرهم مدحا و هجاء- و كان أول من سأل بشعره- و إن لم يكن له بيت نادر- على أفواه الناس كأبيات أصحابه الثلاثة- . و قد سئل خلف الأحمر من أشعر الناس- فقال ما ينتهى إلى واحد يجمع عليه- كما لا ينتهى إلى واحد هو أشجع الناس- و لا أخطب الناس و لا أجمل الناس- فقيل له يا أبا محرز فأيهم أعجب إليك- فقال الأعشى كان أجمعهم- . قال ابن سلام- و كان أبو الخطاب الأخفش مستهترا به يقدمه- و كان أبو عمرو بن العلاء يقول- مثله مثل البازي يضرب كبير الطير و صغيره- و يقول نظيره في الإسلام جرير- و نظير النابغة الأخطل و نظير زهير الفرزدق- . فأما قول أمير المؤمنين ع الملك الضليل- فإنما سمي إمرؤ القيس ضليلا- لما يعلن به في شعره من الفسق- و الضليل الكثير الضلال- كالشريب و الخمير و السكير و الفسيق- للكثير الشرب و إدمان الخمر و السكر و الفسق- فمن ذلك قوله-
فمثلك حبلى قد طرقت و مرضعا فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
بشق و تحتي شقها لم يحول
- . و قوله-
سموت إليها بعد ما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال
فقالت لحاك الله إنك فاضحي
أ لست ترى السمار و الناس أحوالي
فقلت لها تالله أبرح قاعدا و لو قطعوا رأسي لديك و أوصالي
فلما تنازعنا الحديث و أسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فصرنا إلى الحسنى و رق كلامنا
و رضت فذلت صعبة أي إذلال
حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما إن من حديث و لا صالي
فأصبحت معشوقا و أصبح بعلها
عليه القتام كاسف الوجه و البال
- . و قوله في اللامية الأولى-
و بيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
تخطيت أبوابا إليها و معشرا
علي حراصا لو يسرون مقتلي
فجئت و قد نضت لنوم ثيابها لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فقالت يمين الله ما لك حيلة
و ما إن أرى عنك الغواية تنجلي
فقمت بها أمشي نجر وراءنا على إثرنا أذيال مرط مرجل
فلما أجزنا ساحة الحي و انتحى
بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخل
- . و قوله-
فبت أكابد ليل التمام و القلب من خشية مقشعر
فلما دنوت تسديتها
فثوبا نسيت و ثوابا أجر
و لم يرنا كالئ كاشح و لم يبد منا لدى البيت سر
و قد رابني قولها يا هناه
ويحك ألحقت شرا بشر
- .و قوله-
تقول و قد جردتها من ثيابها كما رعت مكحول المدامع أتلعا
لعمرك لو شي ء أتانا رسوله
سواك و لكن لم نجد لك مدفعا
فبتنا نصد الوحش عنا كأننا قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا
تجافى عن المأثور بيني و بينها
و تدني علي السابري المضلعا
و في شعر إمرئ القيس من هذا الفن كثير- فمن أراده فليطلبه من مجموع شعره
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 20، ص 153 - 172)
|