أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فإنّها الزّمام و القوام، فتمسّكوا بوثائقها، و اعتصموا بحقائقها، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة، و أوطان السّعة، و معاقل الحرز، و منازل العزّ، في يوم تشخص فيه الأبصار، و تظلم له الأقطار، و تعطّل فيه صروم العشار، و ينفخ في الصّور فتزهق كلّ مهجة، و تبكم كلّ لهجة، و تذلّ الشّمّ الشّوامخ، و الصّمّ الرّواسخ، فيصير صلدها سرابا رقرقا، و معهدها قاعا سملقا، فلا شفيع يشفع، و لا حميم يدفع، و لا معذرة تنفع.
اللغة
(الاكنان) جمع كن و هو السّتر يستر من الحرّ و البرد قال تعالى مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً و (المعاقل) جمع معقل و هو الملجأ. و (الصّروم) إمّا جمع صرمة بالكسر القطعة من الابل ما بين العشرة إلى الأربعين و القطعة من السّحاب و تجمع على صرم مثل سدرة و سدر و إمّا جمع صرم و هى الطّائفة المجتمعة من القوم ينزلون بابلهم ناحية من الماء و يجمع على أصرام مثل حمل و أحمال، أو جمع صرماء و هى النّاقة القليلة اللّبن، و تجمع على صرم وزان قفل و الأخير أظهر. و (العشار) من الابل النّوق أتى عليها من يوم ارسل الفحل فيها عشرة شهر فزال عنها اسم المخاض و لا يزال ذلك اسمها حتّى تضع، و الواحدة عشراء، و قال الفيروز آبادى و العشراء من النّوق الّتى مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية أو هى كالنّفساء من النساء و الجمع عشراوات و عشار، أو العشار اسم يقع على النّوق حتّى تنتج بعضها و بعضها ينتظر نتاجها. (و الشمّ) جمع اشم يقول جبل اشم أى فيه شمم و ارتفاع و رجل اشم أى بأنفه ارتفاع قال في القاموس و (رقرقان) السّراب بالضم ما ترقرق منه أى تحرّك و الرّقراقة التي كان الماء يجرى فى وجهها و (القاع) الأرض السهلة المطمئنة قد انفرجت عنها الجبال و الاكام و (السملق) الصفصف و هى المستوى من الأرض.
الاعراب
قوله: تؤل، بالجزم لوقوعه في جواب الأمر كما في نسخة الشارح المعتزلي، و في أكثر النسخ بالرفع و الظاهر أنه على الاستيناف البياني، و قوله: في يوم تشخص، متعلّق بقوله تؤل، و الفاء في قوله: فتزهق، و قوله: فيصير، و قوله: فلا شفيع، كلّها فصيحة.
المعنى
و لما فرغ من تمجيد الحقّ المتعال بما هو أهله و تنزيهه عن صفات النقص و الافتقار أردفه بالايصاء بما لا يزال يوصى به فقال: (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه فانها الزّمام) للانسان المانع له عن تقحّم المهالك الجاذب إلى أقوم المسالك و الصارف له عن الرّدى إلى الهدى و عن الجحيم إلى النعيم كما أنّ الزّمام للخيل مانع لها عن اقتحام الهلكات و تورّط الورطات (و) هي أيضا (القوام) أى قوام الدّين و نظام وظايف الشرع المبين.
(فتمسكوا بوثائقها) أى بعريها الوثيقة و حبالها المحكمة من الطاعات و القربات التي هي جزؤها.
(و اعتصموا بحقايقها) أى باصولها الثابتة الموافقة للواقع و المطابقة لغرض الشارع.
و أشار إلى ثمرة التمسك و الاعتصام بها بقوله (تؤل بكم) أى ترجعكم و تقودكم (إلى أكنان الدّعة) و مواطن الرّاحة متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا، و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا.
(و أوطان السعة) أى جنة عرضها السموات و الأرض مع عيش سعيد و أكل رغيد، فالدّاخل فيها في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.
(و معاقل الحرز) المانعة من عذاب النار و من غضب الجبار و ظلّ ذى ثلاث شعب لا ظليل و لا يغنى من اللّهب.
(و منازل العزّ) أى حظاير القدس و مجالس الانس مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين من السادة الأبرار و القادة الأخيار في جنات تجرى من تحتها الأنهار، و إذا رأيت ثمّ رأيت نعيما و ملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر و استبرق و حلّوا أساور من فضّة و سقيهم ربّهم شرابا طهورا، إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا و لما أوصى بالتقوى و أمر بالتمسك و الاعتصام بها و رغّب فيها بالتنبيه على مالها من المنفعة العظيمة و هى إرجاعها إلى جنّة النعيم أكّد ذلك الترغيب بانجائها من الهول العظيم و أشار إلى ذلك بقوله.
(في يوم) أى اعتصموا بالتقوى تؤل بكم إلى مساكن الأمن و العزّ و السعة و الراحة في يوم القيامة و ما أعظم شدايدها و أهوالها، و قد زلزلت الأرض فيها زلزالها و أخرجت الارض أثقالها و قال الانسان ما لها.
(تشخص فيه الأبصار و تظلم له الأقطار) أما شخوص الأبصار في ذلك اليوم فهو نصّ الكتاب الكريم قال تعالى فى سورة إبراهيم وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ.
قال الطبرسيّ: معناه إنما يؤخّر عقابهم إلى يوم القيامة و هو اليوم الذي تكون الابصار فيه شاخصة عن مواضعها لا تغمض لهول ما ترى في ذلك اليوم و لا تطرف، و قيل تشخص أبصارهم إلى إجابة الدّاعي حين يدعوهم، و قيل: تبقى أبصارهم مفتوحة لا تنطبق للتحير و الرّعب.
مهطعين أى مسرعين، و قيل: يريد دائمى النظر إلى ما يرون لا يطرفون.
مقنعى رؤسهم، أى رافعى رؤوسهم إلى السماء حتى لا يرى الرّجل مكان قدمه من شدّة رفع الرّأس، و ذلك من هول يوم القيامة.
لا يرتدّ إليهم طرفهم، أى لا يرجع إليهم أعينهم و لا يطبقونها و لا يغمضونها، و إنما هو نظر دائم.
و أما ظلمة الاقطار فقد اشير إليها و إلى ما تقدّم أيضا في قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ.
في الصّافي عن القمّي قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف و قرء بفتح الرّاء و هو لغة، أو من البريق من شدّة شخوصه، و خسف القمر ذهب ضوءه و نوره، و جمع الشّمس و القمر قال الطبرسيّ: أى جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف ليتكامل ظلام الأرض على أهلها حتّى يراهما كلّ أحد بغير نور و ضياء.
و في الصّافي من الاحتجاج عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه سئل عن قوله «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» و قيل له: فأين النّاس يومئذ فقال: في الظلمة دون المحشر.
(و تعطل فيه صروم العشار) قد مرّ تفسيرهما في بيان اللّغة، و قد صرّح بتعطيلها و اشير إلى ظلمة الأقطار كليهما في قوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قال أمين الاسلام الطبرسيّ: أخبر اللّه سبحانه عن القيامة و شدائدها فقال: إذا الشّمس كوّرت، أى ذهب ضوءها و نورها فاظلمت و اضمحلّت، و إذا النّجوم انكدرت، أى تساقطت و تناثرت، و إذا الجبال سيّرت، عن وجه الأرض فصارت هباء منبثّا، و إذا العشار عطلت، أى النّوق الحوامل الّتي أتت عليها عشرة أشهر، و هو أنفس مال عند العرب تركت هملا بلا راع، هذا.
و لمّا ذكر جملة من أوصاف يوم القيامة و أهاويلها تحذيرا منها أردفها بذكر نفخ الصّور الذى هو من أشراط الساعة و علاماتها الدّالة على قربها تهويلا به أيضا فقال: (و ينفخ في الصّور) و قد مضى شرح وصفه و تفصيل كيفيّة النفخ فيه في شرح الفصل الثّالث من الخطبة الثّانية و الثمانين بما لا مزيد عليه.
و أراد به النّفعة الاولى كما يدلّ عليه قوله: (فتزهق كلّ مهجة و تبكم كلّ لهجة) أى تضمحلّ و تهلك كلّ قلب و تخرس كلّ لسان، و هو كناية عن هلاك العموم، و قد اشير إليه في قوله تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.
و يدلّ عليه أيضا قوله (و تذلّ الشّم الشّوامخ) أى الجبال الرّاسيات الشّامخات العاليات (و الصّم الرّواسخ) أى الثابتات المحكمات الرّاسيات و أراد بذلّتها دكّ بعضها بعضا من هيبة جلاله عزّ و جلّ و مخوف سلطنته.
و قد اشير إلى ذلك في قوله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ.. وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. قال السيّد المحدّث الجزائرى: إنّ النفخة الاولى الّتي هى للهلاك تأتى النّاس بغتة و هم في أسواقهم و طلب معايشهم، فاذا سمعوا صوت الصّور تقطعت قلوبهم و أكبادهم من شدّته فيموتوا دفعة واحدة، فيبقى الجبّار جلّ جلاله فيأمر عاصفة فتقطع الجبال من أماكنها و تلقيها في البحار، و تفور مياه البحار و كلّما في الأرض و تسطح الأرض كلّها للحساب، فلا يبقى جبل و لا شجر و لا بحر و لا وهدة و لا تلعة، فتكون أرضا بيضاء حتّى أنّه روي لو وضعت بيضة في المشرق رأيت في المغرب.
و إلى ذلك أشار بقوله (فيصير صلدها سرابا رقرقا) أى يصير صلبها مثل السّراب المترقرق المتحرّك.
(و معهدها قاعا سملقا) أى ما كان منها معهدا للنّاس و منزلا لهم أرضا خالية صفصفا مستوية ليس للجبل فيها أثر.
و قد اشير إلى هذين في قوله تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً و في قوله وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا و قوله يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا و قد مضى تفسير هذه الايات و جملة ممّا ينفع في هذا المقام في شرح الفصل الثالث من الخطبة المأة و الثامنة، هذا.
و لمّا ذكر جملة من أهوال يوم القيامة و أفزاعها و شدائدها رتّب على ذلك قوله (فلا شفيع يشفع و لا حميم يدفع و لا معذرة تنفع) تنبيها بذلك على أنه لا ملجأ من أهاويلها و لا منجا ترغيبا به على ملازمة التقوى الّتي هى الغرض الأصلى من سوق هذا الفصل و النتيجة لتمهيد تلك المقدّمات لأنّها المعاذ و الملاذ و الملجاء و المنجا من هذه الأهاويل القائدة للاخذ بها و الملازم عليها إلى أكنان الدّعة و أوطان السّعة و غرفات الجنان و منازل الرّضوان كما قال تعالى وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و قد اشير إلى عدم الشفيع و الحميم في قوله تعالى في سورة الشعرا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَ بُرِّزَتِ. الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ إلى قوله حكاية عن الغاوين فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ قال أمين الاسلام الطبرسيّ: أى لا ينفع المال و البنون أحدا إذ لا يتهيّأ لذى مال أن يفتدى من شدائد ذلك اليوم به، و لا يتحمّل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه إلّا من أتى اللّه بقلب سليم من الشّرك و الشكّ.
و روى عن الصادق عليه السّلام أنه قال: هو القلب الذى سلم من حبّ الدّنيا، و يؤيّده قول النبي صلّى اللّه عليه و آله: حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة.
و ازلفت الجنّة للمتقين أى قربت لهم ليدخلوها، و برّزت الجحيم للغاوين.
أى أظهرت و كشف الغطاء عنها للضالين عن طريق الحقّ و الصواب.
ثمّ أظهر الغاوون الحسرة فقالوا: فما لنا من شافعين يشفعون لنا و يسألون فى أمرنا، و لا صديق حميم أى ذى قرابة يهمّه أمرنا أى ما لنا شفيع من الأباعد و لا صديق من الأقارب، و ذلك حين يشفع الملائكة و النّبيون و المؤمنون.
و اشير إلى عدم نفع المعذرة فى سورة الرّوم بقوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» أى لا ينفع الظالمين اعتذارهم لعدم تمكنهم من الاعتذار، و لو اعتذروا لم يقبل عذرهم و لا يطلب منهم الاعتاب و الرّجوع إلى الحقّ، و فى سورة المؤمن «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» أى ان اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم و إن تابوا لم ينفعهم التّوبة.
قال الطبرسىّ: و انما نفى أن ينفعهم المعذرة فى الاخرة مع كونها نافعة فى دار الدّنيا، لأنّ الاخرة دار الالجاء إلى العمل و الملجأ غير محمود على العمل الذى الجأ اليه، و لهم اللعنة و البعد من الرّحمة، و لهم سوء الدّار جهنّم و بئس القرار، نعوذ باللّه من غضب الجبار.
بشارة
اعلم أنّ ظاهر قوله: فلا شفيع يشفع و لا حميم يدفع، عموم انتفاء الانتفاع بالشفيع و الحميم يوم القيامة على ما هو مقتضى القاعدة الاصولية المقرّرة من إفادة النّكرة في سياق النفى للعموم، لكن الأدلة القاطعة من الكتاب و السّنة قد قامت على التخصيص أمّا القرابة فقد ورد في الأخبار الكثيرة المستفيضة أنّ كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا سبب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نسبه.
و أمّا الشفاعة فلا خلاف بين علماء الاسلام بل صار من ضرورىّ دين سيّد الأنام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشفع يوم القيامة لامّته بل لساير الامم أيضا.
و إنّما الخلاف في أنّ الشّفاعة هل هى لطلب مزيد الأجر و جلب زيادة المنفعة فمختصّة بالمؤمنين المطيعين المستحقّين للثّواب فقط، أو لدفع مضرّة العقوبة أيضا فتعمّ المجرمين المستحقّين للعقاب.
فأكثر العامّة على عدم اختصاصها بأحد الفريقين، و ذهب الخوارج و الوعيديّة من المعتزلة إلى اختصاصها بالفرقة الاولى.
و الذى ذهبت إليه أصحابنا الاماميّة رضوان اللّه عليهم من دون خلاف بينهم هو عدم الاختصاص، و قالوا: إنّه تنال الشفاعة للمذنبين من الشيعة و لو كان من أهل الكباير و الذى دلت عليه أخبارهم أيضا عدم اختصاص الشفيع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل الأئمّة الهداة من ذرّيته و كذا ابنته الصّديقة الكبرى سلام اللّه عليها و عليهم تترى أيضا شفعاء دار البقاء بل المستفاد من بعض الأخبار أنّ علماء الشّيعة و الصالحين منهم أيضا يشفعون.
إذا عرفت ذلك فلا بأس بايراد بعض الايات و الأخبار الواردة في هذا الباب فأقول: قال أمين الاسلام في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً معناه يقيمك ربك مقاما محمودا يحمدك فيه الأَوّلون و الاخرون، و هو مقام الشّفاعة تشرف فيه على جميع الخلايق تسأل فتعطى و تشفع فتشفع.
و قد أجمع المفسّرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشّفاعة، و هو المقام الذى يشفع فيه للنّاس، و هو المقام الذى يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفّه و يجتمع تحته الأنبياء و الملائكة فيكون أوّل شافع و أوّل مشفّع.
و قال عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الاية: حدّثنى أبي عن الحسن بن محبوب عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن شفاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة قال يلجم الناس يوم القيامة بالعرق فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم عليه السّلام يشفع لنا، فيأتون آدم عليه السّلام، فيقولون اشفع لنا عند ربك فيقول: إنّ لى ذنبا و خطيئة فعليكم بنوح عليه السّلام، فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه، و يردّهم كلّ نبيّ إلى من يليه حتّى ينتهوا إلى عيسى عليه السّلام فيقول: عليكم بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيعرضون أنفسهم عليه و يسألونه فيقول: انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنّة و يستقبل باب الرّحمن و يخرّ ساجدا فيمكث ما شاء اللّه فيقول اللّه: ارفع رأسك و اشفع تشفّع و سل تعط، و ذلك قول اللّه عزّ و جل عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
و روى عليّ بن إبراهيم أيضا عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير عن معاوية و هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في أبي و امّى و عمّي و أخ كان لى في الجاهليّة.
و فى الصافى عن العياشي عن أحدهما عليهما السّلام في هذه الاية قال: هى الشّفاعة.
و فيه عن روضة الواعظين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: هو المقام الذى أشفع لامّتي.
قال و قال صلّى اللّه عليه و آله إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكباير من امّتي فيشفعنى اللّه فيهم، و اللّه لا تشفعت فيمن أذى ذرّيتى و قال الطبرسيّ في قوله تعالى وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ إنّه لا تنفع الشّفاعة عند اللّه إلّا لمن رضيه اللّه و ارتضاه و أذن له في الشفاعة مثل الملائكة و الأنبياء و الأولياء، و يجوز أن يكون المعنى إلّا لمن أذن اللّه في أن يشفع له فيكون مثل قوله وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى و إنّما قال سبحانه ذلك، لأنّ الكفار كانوا يقولون نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى و هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، فحكم اللّه ببطلان اعتقاداتهم.
و فى تفسير علىّ بن إبراهيم في هذه الاية قال: لا يشفع أحد من أنبياء اللّه و رسله يوم القيامة حتّى يأذن اللّه له إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ اللّه قد أذن له الشّفاعة من قبل يوم القيامة و الشفاعة له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و للأئمة من ولده، ثمّ بعد ذلك للأنبياء صلوات اللّه عليهم و على محمّد و آله قال: حدّثنى أبي عن ابن أبى عمير عن معاوية بن عمّار عن أبي العبّاس المكبّر قال: دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين عليهما السّلام على أبي جعفر عليه السّلام يقال له أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغترّون الناس و تقولون شفاعة محمّد شفاعة محمّد، فغضب أبو جعفر عليه السّلام حتّى تربد وجهه ثمّ قال: ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عفّ بطنك و فرجك أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و يلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النّار، ثمّ قال: ما أحد من الأوّلين و الاخرين إلّا و هو محتاج إلى شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشفاعة في امّته و لنا شفاعة في شيعتنا، و لشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثمّ قال عليه السّلام: و إنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر، و إنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه و يقول: يا ربّ حقّ خدمتى كان يقينى الحرّ و البرد.
و قال الطبرسيّ فى قوله عزّ و جلّ لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أى لا يقدرون على الشفاعة فلا يشفعون و لا يشفع لهم حين يشفع أهل الايمان بعضهم لبعض، لأنّ تلك الشفاعة على وجهين: أحدهما أن يشفع للغير، و الاخر أن يستدعى الشفاعة من غيره لنفسه، فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفار لا تنفذ شفاعتهم لغيرهم و لا شفاعة لهم لغيرهم، ثمّ استثنى سبحانه فقال: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً، أى لا يملك الشفاعة إلّا هؤلاء، و قيل: لا يشفع إلّا لهؤلاء و العهد هو الايمان و الاقرار بوحدانيّة اللّه تعالى و تصديق أنبيائه، و قيل: هو شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أن يتبرّء إلى اللّه من الحول و القوّة و لا يرجو إلّا اللّه.
و فى الصافى من الكافي عن الصادق عليه السّلام إلّا من دان اللّه بولاية أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام من بعده فهو العهد عند اللّه.
و فيه من الجوامع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لأصحابه ذات يوم: أ يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا قالوا: و كيف ذاك قال: يقول: اللّهمّ فاطر السّموات و الأرض عالم الغيب و الشّهادة إني أعهد إليك بأنّى أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبدك و رسولك و أنّك إن تكلني إلى نفسى تقربنى من الشرّ و تباعدنى من الخير، و أنّى لا أثق إلّا برحمتك، فاجعل لى عندك عهدا توفينه يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد، فاذا قال ذلك طبع عليه بطابع وضع تحت العرش، فاذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند اللّه عهد فيدخلون الجنّة.
و قال الطبرسيّ في قوله تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ في الخبر المأثور عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ الرّجل يقول في الجنّة ما فعل صديقى و صديقه في الجحيم، فيقول اللّه تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة، فيقول من بقى في النّار: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم.
و قال و روى العياشيّ عن حمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا، و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا، و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا حتّى يقول النّاس: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين، و في رواية اخرى حتّى يقول عدوّنا.
و عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفع فيهم حتّى يبقى خادمه فيقول و يرفع سبّا بتيه: يا ربّ خويدمى كان يقيني الحرّ و البرد، فيشفع فيه.
و فى الصافى من المحاسن عن الصادق عليه السّلام الشّافعون الأئمّة و الصّديق من المؤمنين، و اللّه لنشفعنّ من المذنبين في شيعتنا حتّى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم.
و فيه من الكافي عن الباقر عليه السّلام و انّ الشّفاعة لمقبولة و لا تقبل في ناصب، و إنّ المؤمن ليشفع في جاره و ما له حسنة فيقول: يا ربّ جارى كان يكفّ عنّى الأذى فيشفع فيه فيقول اللّه تبارك و تعالى: أنا ربّك و أنا أحقّ من كافي عنك فيدخله اللّه الجنّة و ماله حسنة، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا فعند ذلك يقول أهل النار: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم و لنقتصر بذلك في هذا المقام و نسأل اللّه سبحانه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله الكرام عليهم السّلام أن يثبتنا على القول الثّابت في الحياة الدّنيا، و أن يخرجنا منها إلى الدّار الأخرى بموالاة أئمّة الهدى، و أن لا يحرمنا من شفاعتهم الكبرى يوم لا ينفع مال و لا بنون و لا يدفع صديق حميم إلّا من أتى اللّه بقلب سليم، إنّه الغفور الرحيم ذو الفضل العظيم.
|