الفصل الرابع
أوّل الدّين معرفته، و كمال معرفته التّصديق به، و كمال التّصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّاه، و من جزّاه فقد جهله.
اللغة
(الاوّل) ذهب جمهور البصريّين إلى أنّه على وزن أفعل مهموز الوسط، فقلبت الهمزة الثّانية واوا ثم ادغمت، و عن الجوهري أنّه يدلّ عليه قولهم هذا أوّل منك، و الجمع الأوائل و الاوالي على القلب، و ذهب الكوفيون و طائفة من البصريّين إلى أنّ أصله و وئل على وزن فوعل، قلبت الواو الاولى همزة.
إذا علمت ذلك فمعنى الأوّل في اللّغة ابتداء الشّي ء، ثم قد يكون له ثان، و قد لا يكون، كما يقول: هذا أول ما اكتسبته، فقد يكسب بعده شيئا، و قد لا يكسب، و استدلّ الزّجاج عليه بقوله تعالى حكاية عن الكفار المنكرين للبعث، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى . فعبّر بالاولى و ليس لهم غيرها (و الدّين) الطاعة و الانقياد و العبادة و الاسلام، قال سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
و تقول: دنت دينا أى أسلمت و دان الرّجل إذا أطاع، قال الطريحي: الدّين وضع إلهي لاولي الألباب يتناول الاصول و الفروع (و المعرفة) العلم و قيل: هي إدراك البسائط و الجزئيات، و العلم إدراك المركبات و الكليات، و من ثم يقال: عرفت اللّه، و لا يقال: علمته، و قيل هي عبارة عن الادراك التصوري، و العلم عبارة عن الادراك التّصديقي، و قيل: هي إدراك الشّي ء ثانيا بعد توسّط نسيانه فلذلك يسمّى الحق سبحانه بالعالم، دون العارف، قيل: و هذا أشهر الأقوال في تعريف المعرفة.
أقول: و على هذا فاستعمال المعرفة في المقام«» نظرا الى سبق إدراك ذاته سبحانه في عالم الذّر، أو عند أخذ الميثاق من العقول المجرّدة، فافهم«» (و التّوحيد) جعل الشّي ء واحدا أى الحكم بوحدانيته، و قد يطلق على التّفريق بين شيئين بعد الاتصال، و على الاتيان بالفعل الواحد منفردا، و في الاصطلاح إثبات ذات اللّه بوحدانيّته، و وحدانيّته بمعنى أنّه لا ثاني له في الوجود، و بمعنى أنّه لا كثرة فيه مطلقا لا في عين الذّات، لانتفاء التركيب و الأجزاء، و لا في مرتبة الذّات لانتفاء زيادة الوجود، و لا بعد مرتبة الذّات لانتفاء زيادة الصّفات، و قد يقصد بها معنى أنّه لم يفته شي ء من كماله، بل كلّ ما ينبغي له فهو له بالذّات و الفعل (و الاخلاص) مصدر من أخلص الشّي ء إذا جعله خالصا ممّا يشوبه، يقال: خلص الماء اذا صفا من الكدر، و كلّ شي ء صفا عن شوبه و خلص يسمّى خالصا قال تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً.
أى لا شوب فيه من الفرث و الدّم، و الاخلاص في الطاعة ترك الريا، و الاخلاص في الدّين ترك الشّرك (و قرن) بين الحجّ و العمرة من باب قتل و في لغة من باب ضرب: جمع بينهما في الاحرام و (ثنيت) الشّي ء بالتثقيل: جعلته اثنين و (جزأت) الشي ء تجزأة قسمته، و جعلته أجزاء.
الاعراب
لفظ الأوّل له استعمالان أحدهما أن يكون اسما مجردا عن الوصفيّة فيكون منصرفا، و منه قولهم: ما له أوّل و لا آخر، قال أبو حيّان في الارتشاف في محفوظي إنّ هذا يؤنّث بالتّاء و يصرف أيضا فيقال: أوّلة و آخرة، الثّاني أن يكون صفة، اى أفعل تفضيل بمعنى الأسبق فيعطى حكم غيره من صيغ أفعل التّفضيل، من منع الصّرف، و عدم تأنيثه بالتّاء، و ذكر من التّفضيليّة بعده، يقال: هذا أوّل من هذين، و لقيته عاما أوّل بنصب أوّل ممنوع الصّرف، على انّه، صفة للمنصوب، و اللام في قوله كمال توحيده الاخلاص له زائدة للتقوية، مفيدة للتوكيد، كما في قوله: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ... مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ... نَزَّاعَةً لِلشَّوى و نحو ضربي لزيد حسن، و هي من أقسام اللّام الجارّة التي تفتح مع الضمير دائما إلّا المتكلّم، فتكون مكسورة معه، و مكسورة مع الظاهر إلّا المستغاث فتكون مفتوحة، نحو يا لزيد فرقا بينها و بين لام المستغاث لأجله، لأنّها مكسورة و من في قوله فمن وصف اللّه و ما يتلوه، من كلم المجازات اسم شرط مرفوع المحل على الابتداء، و خبره الجزاء، لتمامية الفائدة به، و قيل: الشّرط لتحمله ضمير المبتدأ، و قيل هما معا.
المعنى
اعلم أنّ هذه الفقرة من الخطبة مع وجازتها متضمّنة لأكثر العلوم الالهيّة ببراهينها السّاطعة، و لذلك تحير في إدراك معناها اولو الأفهام، و عجزت عن الوصول إلى مغزاها العقول و الأوهام، و لا بأس بالاشارة إلى نبذ من كنوز أسرارها، و أنموذج من رموز أنوارها ثم نتبعها بما ذكره بعض الأعلام، في تفسير المقام.
فنقول: قوله عليه السلام (أوّل الدّين معرفته) يعني ابتداء الطاعة و العبادة معرفة اللّه سبحانه، إذ الطاعة و العبادة أى كون العبد عبدا فرع معرفة المطاع و المعبود، فما لم يعرف لا يمكن اطاعته، و لذلك أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بعد ما سأل عنه حبر بقوله: هل رأيت ربّك حين عبدته أجاب بقوله: ويلك ما أعبد ربّا لم أره، قال: و كيف رأيته قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقايق الايمان، رواه في الكافي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام، و رواه السّيد قد (ره) أيضا في المتن باختلاف، و هو المختار المأة و الثّامن و السّبعون.
ثمّ إنّ معرفته سبحانه قد تكون ناقصة، و قد تكون تامة، أمّا النّاقصة فهو إدراك أنّ للعالم صانعا مدبّرا، و أمّا التّامة فقد أشار اليها بقوله: (و كمال معرفته التّصديق به) أى الاذعان بوجوده و وجوبه، لأنّ التّصور للشّى ء إذا اشتدّ يصير إذعانا و حكما بوجوده، إذ من ضرورة كونه صانع العالم و الهه أن يكون موجودا في نفسه فان ما لم يكن موجودا في نفسه، استحال أن يصدر عنه أثر موجود، فهذا الحكم اللّاحق هو كمال معرفته و تصوّره.
ثمّ إنّ التّصديق به قد يكون ناقصا و قد يكون تاما، أمّا النّاقص فهو التّصديق به مع تجويز الشّريك له، و أمّا التّام فقد أشار إليه بقوله: (و كمال التّصديق به توحيده) أى الحكم بوحدانيّته، و أنّه لا شريك له في ذاته، لأن طبيعة واجب الوجود لو فرض اشتراكها بين اثنين لزم أن يكون لكلّ واحد منهما من مميّزو راء ما به الاشتراك، فيلزم التّركيب في ذاتيهما، و كلّ مركب ممكن، و بعبارة اخرى، لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود، و متغايرين بامر من الامور، و إلّا لم يكونا اثنين، و ما به الامتياز إمّا أن يكون تمام الحقيقة، أو لا يكون تمام الحقيقة بل جزؤها، لا سبيل إلى الأول، لأنّ الامتياز لو كان بتمام الحقيقة لكان وجوب الوجود المشترك بينهما خارجا عن حقيقة كلّ واحد منهما، و هو محال، لأنّا بيّنا أنّ وجوب الوجود نفس حقيقة الواجب لذاته، و لا سبيل إلى الثّاني، لأنّ كل واحد منهما يكون مركبا ممّا به الاشتراك و ممّا به الامتياز، و كلّ مركب يحتاج إلى غيره أى إلى جزئه، فيكون ممكنا لذاته هذا خلف.
ثمّ إنّ التّوحيد قد يكون ناقصا و قد يكون تاما، أمّا النّاقص فهو الحكم بوحدانيّته مع عدم الاخلاص له، و أمّا التّام فهو ما أشار اليه بقوله (و كمال توحيده الاخلاص له) أى جعله خالصا عن النّقايص أى سلب النّقايص عنه ككونه جسما أو عرضا أو نحوهما ممّا هو من صفات النّقص هذا.
و قيل: إن المراد بالاخلاص إخلاص العمل له، و على هذا فاللّام للتّعليل قال سبحانه: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
قال الشّارح البحراني و صدر الدّين الشّيرازي في شرح الكافي في قوله: و كمال توحيده الاخلاص له: فيه إشارة إلى أنّ التّوحيد المطلق للعارف إنّما يتمّ بالاخلاص له، و هو الزّهد الحقيقي الذي هو تنحية كل ما سوى الحقّ الأوّل عن سنن الايثار و بيان ذلك أنّه ثبت في علم السّلوك أن العارف ما دام يلتفت مع ملاحظة جلال اللّه و عظمته الى شي ء سواه فهو بعد واقف دون مقام الوصول، جاعل مع اللّه غيرا، حتّى أنّ أهل الاخلاص ليعدّون ذلك شركا خفيّا، كما قال بعضهم:
من كان في قلبه مثقال خردلةسوى جلالك فاعلم أنه مرض
و أنّهم ليعتبرون في تحقّق الاخلاص أن يغيب العارف عن نفسه حال ملاحظته لجلال اللّه، و ان لحظها فمن حيث هي لاحظة لا من حيث هي مزيّنة بزينة الحق، فاذن التّوحيد المطلق أن لا يعتبر معه غيره مطلقا انتهى و لكن الاظهر«» ما قلناه«».
ثمّ إنّ الاخلاص له قد يكون ناقصا و قد يكون تاما، أمّا النّاقص فهو جعله خالصا عن صفات النّقصان مع اثبات صفات الكمال، و أمّا التام فهو ما أشار إليه بقوله (و كمال الاخلاص له نفى الصّفات عنه) أى الصّفات التي وجودها غير وجود الذّات، و إلا فذاته بذاته مصداق لجميع النّعوت الكمالية، و الأوصاف الالهية، من دون قيام أمر زائد بذاته تعالى فرض أنّه صفة كماليّة له، فعلمه و إرادته و قدرته و حياته و سمعه و بصره كلّها، موجودة بوجود ذاته الأحديّة، مع أنّ مفهوماتها متغايرة، و معانيها متخالفة، فانّ كمال الحقيقة الوجوديّة في جامعيّتها للمعاني الكثيرة الكماليّة مع وحدة الوجود هذا.
و قد تحصّل ممّا ذكره عليه السلام أنّ مراتب العرفان خمسة.
الاولى مرتبة التّصوّر و هي إدراك أنّ للعالم مؤثرا، و هذه المرتبة هي التي نفوس الخلائق مجبولة إليها باقتضاء فطرتها التي فطر النّاس عليها، و كلّ مولود يولد على الفطرة إلّا أنّ أبويه يهوّد انه أو ينصّرانه أو يمجّسانه.
الثّانية مرتبة التّصديق و الاذعان بوجوده و وجوبه بالبراهين السّاطعة، و الأدلة القاطعة، قال سبحانه: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ.
الثّالثة مرتبة التّوحيد و التّفريد عن الشركاء قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ... قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
الرّابعة مرتبة الاخلاص أى جعله خالصا عن النّقايص.
اللَّهُ الصَّمَدُ اى المتعالي عن الكون و الفساد لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ أو جعل العمل خالصا له فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
الخامسة مرتبة نفي الصّفات و هي غاية العرفان و منتهى قوة الانسان.
و قد ظهر ممّا ذكره عليه السلام أيضا أنّ كلّ واحدة من المراتب الأربعة الاولى مبدء لما بعدها، و كلّ مرتبة من المراتب الأربعة الأخيرة كمال لما قبلها، و هذه المراتب الخمسة في التمثيل كقشر الجوز، و قشر قشره، و لبّه، و لبّ لبّه، و الدّهن المستخرج منه.
فالمرتبة الاولى كالقشرة العليا من الجوز لا خير فيها ألبتّة، إن اكلت فهو مرّ المذاق، بعيدة عن المساغ، و لكنّها تحفظ القشرة الصّلبة السّفلى.
و المرتبة الثّانية مثل القشرة الثّانية، فانّها ظاهرة النّفع بيّنة الجدوى، تصون اللّبّ عن الفساد و تربّيه إلى وقت الحصاد، لكنّها نازلة القدر، زهيدة النفع بالنّظر إلى اللب.
و المرتبة الثالثة كالغطاء المحيط باللّب المأكول بتبعية اللبّ.
و المرتبة الرّابعة كاللّب.
و المرتبة الخامسة كالدّهن المستخرج من اللّب الصّافي من المشوبات، و الخالص عن الكدورات الذي يكاد يضي ء و لو لم تمسسه نار هذا.
و لبعض العرفاء في تفسير كلامه عليه السلام تقرير آخر لا بأس بتحريره، قال: الدّين الانقياد و الطاعة، و المراد من أوّلية المعرفة للانقياد إمّا توقفه عليها، أو كونه ابتداء له، لأنّ المراد من المعرفة إمّا التصور، و إمّا عقد القلب عليه، و هو ما يحصل بالموعظة الحسنة، و أمّا التّصديق الذي هو كمال المعرفة فهو إنّما يحصل بالحكمة و البرهان و لعلّ المراد من التّصديق به هو مرتبة علم اليقين، و من كمال التّصديق به توحيده هو مرتبة عين اليقين، و من كمال توحيده الاخلاص له هو مرتبة حق اليقين، و هو الذي يحصل عند الفناء، و من كمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه هو الفناء عن الفناء، و هذه المراتب مترتّبة في الحصول للسّالك التّارك، و يكون كلّ مرتبة لاحقة، غاية للسّابقة عليها، و لذا عبّر عليه السلام عن كلّ مرتبة لاحقة بالكمال بالنسبة الى السّابقة، و أيضا كلّ مرتبة لاحقة أخص من السّابقة عليها، و السّابقة أعمّ منها، و وجود العام إنّما يكون بالخاص فيكون كمالا له و قوله عليه السلام: و كمال توحيده الاخلاص له، أى سلب النّقايص باثبات الكمالات المقابلة لها، كسلب الجهل عنه باثبات العلم، و سلب العجز عنه باثبات القدرة له، و هكذا، و إنّما كان هذا كمال التّوحيد، لأنّه يدلّ على أنّ وحدته تعالى ليست وحدة ناقصة هي ما سوى الوحدة الحقة الحقيقة من أقسام الوحدة، بل وحدته وحدة حقّة هي حقّ الوحدة، و لما كان الاخلاص له مستلزما لاثبات الصّفات له، قال عليه السلام: و كمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه، أى جعل الكمالات الحاصلة الثّابتة له بسلب النّقايص عنه عين ذاته الاحدية، فيكون ذاته كلّ الكمالات على وجه أعلى و أشرف، فهو الكلّ في وحدته، و يحتمل أن يكون المراد من نفي الصّفات عنه، أن وصف الواصفين له غير لايق بجنابه مسلوب عنه، كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم
عجز الواصفون عن صفتكاعتصام الورى بمغفرتك
تب علينا فانّنا بشر
ما عرفناك حق معرفتك
فيكون غاية غايات المعرفة العجز عنها، لا احصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك هذا، و قوله عليه السلام (لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة) المراد بالشهادة هنا شهادة الحال، و هي الدّلالة، فان حال الصفة يشهد بحاجتها إلى الموصوف و عدم قيامها بدونه، و حال الموصوف يشهد بالاستغناء عن الصفة في أصل الوجود و القيام بالذّات بدونها، و افتقاره إليها في كماله الذي لا يكمل إلّا بها، فلا يكون أحدهما عين الآخر.
ثم إن هذه الفقرة إشارة إلى برهان نفى الصّفات العارضة التي فرضت قديمة، كما يقوله الأشاعرة، و ذلك لأن الصفة إذا كانت عارضة كانت مغايرة للموصوف لا محالة حسبما عرفت، و كلّ متغايرين في الوجود لا بدّ أن يكون كلّ واحد منهما متميّزا عن صاحبه بشي ء، و مشاركا له بشي ء آخر، لاشتراكهما في الوجود، و محال أن يكون جهة الاشتراك عين جهة الامتياز، و إلّا لكان الواحد بما هو واحد كثيرا، بل الوحدة بعينها كثيرة، هذا محال، فاذن لا بدّ أن يكون كلّ منهما مركبا من جزء به الاشتراك، و جزء به الامتياز، فيلزم التّركيب في ذات الواجب، و قد ثبت أنّه بسيط الحقيقة، و إلى ذلك أشار عليه السلام بقوله: (فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه) أى من وصفه تعالى بصفة زايدة فقد قرنه بغيره في الوجود (و من قرنه فقد ثنّاه) أي من قرنه بغيره فقد جعل له ثانيا في الوجود، لأنّه قد أثبت قديمين (و من ثنّاه فقد جزّاه) لأن من فرضه ثاني اثنين، فقد جعله مركبّا ذا جزئين، بأحدهما يشاركه في الوجود، و بالآخر يباينه، و أمّا ما ذكره الشارح المعتزلي في تعليل التجزية بقوله: لأنّه أذا اطلق لفظ اللّه على الذّات و العلم القديم، فقد جعل مسمّى هذا اللّفظ و فايدته متجزّية، كاطلاق لفظ الأسود على الذّات التي حلّها السّواد، فليس بشي ء، لأنّ الكلام في مرتبة الذّات من حيث هي، لا من حيث إطلاق لفظة عليها، كما هو ظاهر (و من جزّاه فقد جهله) لأنّه اعتقد خلاف ما هو الواقع.
تذنيبات
الاول في تحقيق صفاته سبحانه على ما حقّقها بعض العارفين
فنقول: ان الصّفات على ثلاثة أقسام: منها سلبيّة محضة كالقدوسيّة و الفردية، و منها إضافية محضة كالمبدئية و الرّازقية، و منها حقيقية سواء كانت ذات إضافة كالعالمية و القادرية أولا، كالحياة و البقاء، و لا شك أنّ السّلوب و الاضافات زائدة على الذّات، و زيادتها لا توجب انفعالا و لا تكثّرا، لأنّ اعتبارها بعد اعتبار المسلوب بها عنها، و المضاف إليها، لكن يجب أن يعلم أنّ السّلوب عنه تعالى كلّها راجعة إلى سلب الامكان، فانّه يندرج فيه سلب الجوهريّة، و سلب الجسميّة، و سلب المكان و الحيز و الشّريك و النّقص و العجز و الآفة، و غير ذلك.
و الاضافات في حقّه تعالى كلها راجعة إلى الموجديّة التي تصحح جميع الاضافات، كالخالقية و الرازقية و الكرم و الجود و الرّحمة و الغفران، و لو لم يكن له إضافة واحدة اتحدت فيها جميع الاضافات اللّايقة به لأدّى تخالف حيثياتها إلى اختلاف حيثيات في الذّات الأحديّة، و امّا الصّفات الحقيقية فكلها غير زائدة على ذاته، و ليس معنى عدم زيادتها مجرّد نفى أضدادها عنه تعالى، حتى يكون علمه تعالى عبارة عن نفى الجهل، و قدرته عبارة عن نفى العجز، و على هذا القياس في السمع و البصر و غيرهما ليلزم التعطيل، و لا أيضا معنى كونه عالما و قادرا أن يترتب على مجرّد ذاته ما يترتب على الذّات مع الصّفة، بأن ينوب ذاته مناب تلك الصّفات، ليلزم أن لا يكون إطلاق العلم و القدرة و غيرهما عليه تعالى على سبيل الحقيقة، فيكون عالما قادرا حيّا سميعا بصيرا بالمجاز، فيصحّ سلبها عنه، لأنّه علامة المجاز و لازمه.
فان قلت: فما معنى قوله عليه السلام: و كمال الاخلاص له نفى الصّفات عنه قلنا: معناه حسبما أشرنا إليه كونها صفات عارضة موجودة بوجود زايد، كالعالم و القادر في المخلوقات، فان العلم فينا صفة زائدة على ذاتنا، و كذا القدرة كيفية نفسانية، و كذا ساير الصّفات، و المراد أنّ هذه المفهومات ليست صفات له تعالى، بل صفاته ذاته و ذاته صفاته، لا أنّ هناك شيئا هو الذّات، و شيئا آخر هو الصّفة، ليلزم التركيب فيه تعالى عنه علوّا كبيرا، فذاته وجود و علم و قدرة و إرادة و حياة و سمع و بصر، و هو أيضا موجود عالم قادر حي مريد سميع بصير.
فان قلت: الموجود ما قام به الوجود، و العالم ما قام به العلم، و كذا ساير المشتقات.
قلنا: ليس كذلك، بل ذلك متعارف أهل اللغة لما رأوا أنّ أكثر ما يطلق عليه المشتق لا بدّ فيه من صفة زائدة على الذّات، كالابيض و الكاتب و الضّاحك و غيرها، فحكموا على الاطلاق أنّ المشتقّ ما قام به المبدأ، و التحقيق و الاستقراء يوجبان خلافه، فانّا لو فرضنا بياضا قائما بنفسه لقلنا: انّه مفرّق للبصر، و إنّه أبيض، فكذا الحال فيما سواه من العالم و القادر، فالعالم ما ثبت له العلم سواء كان بثبوت عينه أو بثبوت غيره.
الثاني في الاشارة إلى جملة من الأخبار الواردة في بعض مراتب العرفان
و هي كثيرة جدّا، و نحن نذكر شطرا منها تيمنا و تبرّكا.
فنقول: روى الصّدوق في التّوحيد باسناده عن زيد بن وهب عن أبي ذرّ (ره) قال: خرجت ليلة من الليالي، فاذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمشي وحده ليس معه إنسان فظننت أنّه يكره أن يمشي معه أحد، قال (ره): فجعلت أمشي في ظلّ القمر فالتفت فرآني، فقال صلّى اللّه عليه و آله: من هذا فقلت أبو ذر جعلني اللّه فداك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم يا أبا ذر تعال فمشيت معه ساعة، فقال: إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلّا من أعطاه اللّه خيرا فنفخ منه بيمينه و شماله و بين يديه و ورائه، و عمل فيه خيرا قال: فمشيت ساعة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: اجلس هاهنا، و أجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: اجلس حتّى أرجع إليك، قال: و انطلق في الحرّة«» حتّى لم أره و توارى عنّي و أطال اللّبث، ثم إنّي سمعته عليه السلام و هو مقبل يقول: و إن زنى و إن سرق، قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت له: يا نبيّ اللّه جعلني اللّه فداك من تكلّمه في جانب الحرّة فانّي ما سمعت أحدا يردّ عليك شيئا، فقال عليه السلام، ذاك جبرئيل، عرض لي في جانب الحرّة، فقال: ابشر امّتك أنّه من مات لا يشرك باللّه عزّ و جلّ شيئا دخل الجنّة، قال: قلت يا جبرئيل، و إن زنى و إن سرق و إن شرب الخمر، قال: نعم، و إن شرب الخمر.
قال الصّدوق (ره) بعد ذكر الحديث يعني بذلك أنّه يوفّق للتّوبة حتّى يدخل الجنّة.
و فيه أيضا عن الأسود بن هلال، عن معاذ بن الجبل، قال: كنت رفقت النّبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال يا معاذ: هل تدري ما حقّ اللّه على العباد يقولها ثلاثا، قلت: اللّه و رسوله أعلم، فقال رسول اللّه: حق اللّه عزّ و جلّ على العباد أن لا يشركوا به شيئا، ثم قال: هل تدري ما حق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك قلت: اللّه و رسوله أعلم، قال: أن لا يعذّبهم، أو قال: أن لا يدخلهم النّار.
و فيه أيضا عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي بعثني بالحق نبيّا، لا يعذّب اللّه بالنّار موحدا ابدا، و انّ أهل التّوحيد ليشفّعون فيشفعون، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّه إذا كان يوم القيامة أمر اللّه تبارك و تعالى بقوم سائت أعمالهم في دار الدّنيا إلى النّار، فيقولون: يا ربّنا كيف تدخلنا النّار و قد كنّا نوحّدك في دار الدّنيا و كيف تحرق بالنّار ألسنتا و قد نطقت بتوحيدك في دار الدّنيا، و كيف تحرق قلوبنا و قد عقدت على أن لا إله إلّا اللّه، أم كيف تحرق وجوهنا و قد عفّرناها لك في التّراب، أم كيف تحرق أيدينا و قد رفعناها بالدّعاء إليك، فيقول اللّه عزّ و جلّ: عبادي سائت أعمالكم في دار الدّنيا فجزاكم نار جهنّم، فيقولون: يا ربّنا عفوك أعظم أم خطيئتنا فيقول اللّه عزّ و جلّ: بل عفوي، فيقولون رحمتك أوسع أم ذنوبنا فيقول اللّه عزّ و جلّ: بل رحمتي، فيقولون إقرارنا بتوحيدك أعظم أم ذنوبنا فيقول اللّه عزّ و جلّ: بل إقراركم بتوحيدى أعظم، فيقولون: يا ربّنا فليسعنا عفوك و رحمتك التي وسعت كلّ شي ء، فيقول اللّه جلّ جلاله: ملائكتي و عزّتي و جلالي ما خلقت خلقا أحب إلىّ من المقرّين بتوحيدي و أن لا إله غيري، و حقّ عليّ أن لا اصلى بالنّار أهل توحيدي، ادخلوا عبادي الجنّة.
الثالث
ينبغي أن يعلم أن مجرّد الاعتقاد بالتّوحيد و نفى الشّرك و الاعتراف بالوحدانيّة لا يكفي في ترتّب الثّواب و دفع العقاب، بل لا بدّ مع ذلك من الاعتقاد بالولاية، و الأخبار الواردة في أبواب التّوحيد و المعرفة و إن كانت مطلقة إلّا أنّها يقيّدها مضافة إلى إجماع أصحابنا «قد» أخبار اخر مفيدة لكون الولاية شرطا في التّوحيد ككونها شرطا في صحّة الفروع و قبولها، و بدونها لا ينتفع بشي ء منها، و هذه الأخبار كثيرة جدّا بالغة حدّ الاستفاضة بل التّواتر.
منها ما رواه في جامع الأخبار باسناده عن محمّد بن عمارة عن أبيه، عن الصّادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن آبائه الصّادقين عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل لأخي عليّ بن أبي طالب عليه السلام فضائل لا يحصي عددها غيره، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّا بها غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخر، و لو أتى القيامة بذنوب الثقلين، و من كتب فضيلة من فضائل عليّ ابن أبي طالب عليه السلام، لم تزل الملائكة يستغفر له ما بقى لتلك الكتابة رسم، و من استمع فضيلة غفر اللّه له الذّنوب التي اكتسبها بالاستماع، و من نظر إلى كتابة في فضائله غفر اللّه له الذّنوب التي اكتسبها بالنّظر، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: النّظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام عبادة، و ذكره عبادة، و لا يقبل ايمان عبد إلّا بولايته، و البراءة من أعدائه.
و في الكافي باسناده عن أبي حمزة، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام إنّما يعبد اللّه من يعرف اللّه، فأمّا من لا يعرف اللّه فانّما يعبده هكذا ضلالا، قلت جعلت فداك: فما معرفة اللّه قال: تصديق اللّه عزّ و جل و تصديق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و موالاة عليّ و الايتمام به و بالأئمة عليهم السّلام، و البراءة إلى اللّه عزّ و جل من عدوّهم، هكذا يعرف اللّه.
و في الوسائل و مجمع البيان عن أبي حمزة الثّمالي قال: قال لنا عليّ بن الحسين عليهما السّلام: أىّ البقاع أفضل فقلنا: اللّه و رسوله و ابن رسوله أعلم، فقال: أفضل البقاع لنا ما بين الرّكن و المقام، و لو أنّ رجلا عمر«» ما عمر نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما، يصوم النّهار و يقوم اللّيل في ذلك المكان، ثم لقى اللّه بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا.
و في الوسائل أيضا باسناده عن المعلّى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام يا معلّى لو أنّ عبدا عبد اللّه مأئة عام ما بين الركن و المقام، يصوم النهار و يقوم الليل حتّى يسقط حاجباه على عينيه، و يلتقى تراقيه هرما، جاهلا بحقّنا لم يكن له ثواب.
و فيه أيضا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السّلام قال: نزل جبرئيل على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فقال: يا محمّد السّلام يقرئك السّلام، و يقول خلقت السّماوات السّبع و ما فيهنّ، و خلقت الأرضين السبع و من عليهنّ، و ما خلقت موضعا أعظم من الرّكن و المقام، و لو أنّ عبدا دعاني منذ خلقت السّماوات و الأرض، ثم لقيني جاحدا لولاية عليّ لأكببته في سقر.
و روى عليّ بن ابراهيم القمي باسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، في حديث، قال: ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الاشياء و رضى الرّحمن: الطاعة للامام بعد معرفته، أما لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره و تصدّق بجميع ماله و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه و يكون جميع أعماله بدلالته، ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه، و لا كان من أهل الايمان.
و بالجملة فقد تحصل من هذه الأخبار و غيرها من الأخبار الكثيرة: أنّ معرفة الامام و الطاعة له شرط في صحّة الفروع و الاصول، كما ظهر أنّ اللازم أخذ الأحكام الشّرعيّة، و المسائل الدّينيّة عنهم، لأنّهم الباب الذي أمر اللّه أن يؤتى منه، حيث قال.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ، الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ.
روى في الصّافي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال نحن البيوت التي أمر اللّه أن يؤتى أبوابها، نحن باب اللّه و بيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا و أقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، و من خالفنا و فضّل علينا غيرنا، فقد أتى البيوت من ظهورها، إنّ اللّه لو شاء عرّف نفسه حتّى يعرفونه و يأتونه من بابه، و لكن جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه، قال: فمن عدل عن ولايتنا، و فضل علينا غيرنا، فقد أتى البيوت من ظهورها، و انّهم عن الصّراط لناكبون.
و في الكافي باسناده عن محمّد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كلّ من دان اللّه عزّ و جلّ بعبادة يجهد فيها نفسه و لا إمام له من اللّه، فسعيه غير مقبول، و هو ضالّ متحيّر، و اللّه شانئ«» لأعماله، و مثله كمثل شاة ضلت عن راعيها و قطيعها، فهجمت ذاهبة او جائية يومها، فلما جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع غير«» راعيها، فحنت إليها، و اغترّت بها، فباتت معها في مربضها، فلمّا أن ساق الرّاعي قطيعه، أنكرت راعيها و قطيعها، فهجمت متحيّرة تطلب راعيها، و قطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها، فحنت اليها و اغترت بها، فصاح بها الرّاعي الحقي براعيك و قطيعك، فانت تائهة متحيّرة عن راعيك و قطيعك، فهجمت ذعرة متحيرة تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها، أو يردّها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذّئب ضيعتها فأكلها، و كذلك و اللّه يا محمّد، من أصبح من هذه الامّة و لا إمام له من اللّه عزّ و جلّ ظاهر عادل، أصبح ضالّا تائها، و إن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر و نفاق، و اعلم يا محمّد أنّ أئمة الجور و أتباعهم لمعزولون عن دين اللّه عزّ و جلّ، قد ضلوا و أضلوا، فأعمالهم التي يعملونها: كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ، لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ.
إلى غير ذلك من الأخبار البالغة حدّ الاستفاضة، بل هي متواترة معنى، و سيأتي كثير منها في تضاعيف الكتاب، و اللّه الهادي إلى الصّواب.
الترجمة
يعنى ابتداء اطاعت و انقياد شناختن خداوند عالم است، و كمال و تمامى شناختن حضرت او تصديق و اعتقاد به وجود اوست، و كمال تصديق به او حكم به وحدانيّت و يكتا دانستن و منزّه و مبرّا نمودن اوست از شريك، و كمال يكتا دانستن او خالص نمودن اوست از صفات نقصان يا خالص نمودن عمل است براى او، و كمال خالص نمودن نفى صفات زايده بر ذات است از او و آنرا عين ذات دانستن است، بجهة آنكه هر صفت شهادت و دلالت دارد بر آنكه غير موصوف است، و هر موصوف شاهد و دليل است بر اين كه آن غير صفت، پس بنا بر اين هر كه وصف كرد خداوند را با صفتى كه زايد بر ذات است پس بتحقيق قرين كرد ذات را با صفت، و هر كه قرين پيدا كرد او را پس بتحقيق حكم بدوئيّت نمود، و هر كه ابداء دوئيّت نمود پس بتحقيق كه مجزّى ساخت او را، و هر كه ابداء تجزيه كرد پس بتحقيق جاهل شد بذات شريف او، از جهت اين كه اعتقاد خلاف واقع را نمود، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.
الفصل الخامس
و من أشار إليه فقد حدّه و من حدّه فقد عدّه و من قال فيم فقد ضمّنه و من قال على م فقد أخلى منه.
اللغة
(ضمنه) مأخوذ من ضمّنته الشّي ء أى جعلته محتويا عليه فتضمّنه أى فاشتمل عليه و احتوى و (اخلى) مشتقّ من خلا المنزل من أهله يخلو خلوّا و خلاء، فهو خال و أخليته جعلته خاليا و وجدته كذلك.
الاعراب
أصل فيم و على م فيما و على ما، حرفان دخلا على ماء الاستفهاميّة و الاولى للظرفية، و الثّانية للاستعلاء، و حذف ألف ما لاتّصالها بهما تخفيفا في الاستفهام، و هذه قاعدة كليّة.
قال ابن هشام: و يجب حذف ألف ماء الاستفهاميّة إذا جرّت و بقاء الفتحة دليلا عليها نحو فيم، و إلى م، و على م، قال:
فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهمفحتّى م حتّى م العناء المطوّل
و ربّما تبعت الفتحة الألف في الحذف، و هو مخصوص بالشّعر كقوله:
يا أبا الاسود لم خلفتني لهموم طارقات
ثم قال: و ذكروا أنّ علّة حذف الألف الفرق بين الاستفهام و الخبر، و لهذا حذفت في نحو:
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها... فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ... لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ و ثبتت في لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ... يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ... ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
المعنى
قوله عليه السلام (و من أشار إليه) أى من أشار إليه باشارة عقليّة أو حسية (فقد حدّه) أى جعله محدودا بحدّ خاص، لأنّ المشار إليه لا بدّ أن يكون في جهة مخصوصة، و كلّ ما هو في جهة فهو محدود و له حدّ و حدود، اى أقطار و أطراف ينتهي إليها (و من حده فقد عدّه) أى من جعله محدودا متناهيا فقد عدّه في الاشياء المحدثة، و ذلك لأنّ حقيقة ذاته حقيقة الوجود الصّرف الذي شدّة قوّته لا تنتهي إلى حدّ و نهاية، بل هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، أمّا كونه غير متناه فلأنّ مقدوراته غير متناهية هذا.
و يحتمل أن يكون المراد بقوله: فقد عدّه كونه ذا عدد، و ذلك لأنّ كون وجود الشّي ء محدودا متناهيا يستلزم التركيب من أصل الوجود و من شي ء آخر يقتضي تناهيه الى هذا الحدّ المعين، إذ نفس كون الشّي ء وجودا أو موجودا لا يقتضي هذا التّناهي، و الّا لم يوجد غيره، فهناك أمران، فيكون المحدود ذا عدد هذا.
و يأتي إن شاء اللَّه توضيح هذه الفقرة و تحقيقها بنحو آخر في شرح الخطبة المأة و الثانية و الخمسين.
ثم لا يخفى أنّ المراد بالاشارة في كلامه عليه السلام: الاشارة الحضورية الحسيّة التي لا يجوز في حقّه سبحانه و تعالى، و أمّا الاشارة الغيبيّة فتجوز في حقّه، و قد وقعت في كتاب العزيز، قال سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و تحقيق ذلك ما حقّقه الباقر عليه السلام في حديث التّوحيد: من أنّ كلمة هو اسم مكنّى مشاربه إلى غايب، فالهاء تنبيه، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواس، كما أنّ هذا اشارة إلى الشّاهد و ذلك ان الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بما يشاربه إلى الشّاهد المدرك، فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتّى نراه و ندركه لا ناله فيه، فانزل اللَّه تبارك و تعالى: قل هو إشارة إلى كونه تعالى عن ذلك بل هو يدرك الأبصار و هو اللّطيف الخبير، اللَّه معناه المعبود الذي اله الخلق عن ادراك ذاته، و الاحاطة بكنهه، أحد معناه الفرد المتفرّد الذي لا نظير له، و هاهنا لطيفة، و هي أنّ قوله: قل هو اللَّه أحد ثلاثة ألفاظ، كلّ منها إشارة إلى مقام من مقامات السّالكين: المقام الأول مقام المقرّبين، و هو أعلى مقامات السائرين إلى اللَّه، و هؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيّات الأشياء و حقايقها، من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا موجودا في الحقيقة سوى اللَّه، لانحصار وجوب الوجود فيه، و كون ما عداه ممكنا فيكون هو إشارة إليه سبحانه، و لم يفتقر في تلك الاشارة إلى مميّز، لأنّ الحاجة إلى المميز إنما يحصل إذا كان هناك موجودان، و قد عرفت أنّهم ما شاهدوا بعقولهم إلا الواحد فقط، فكفى لفظ لفظة هو في حصول العرفان التام.
المقام الثّاني مقام أصحاب اليمين الذي أدون من المقام الأوّل، و ذلك أنّهم شاهدوا الحقّ موجودا، و شاهدوا الخلق موجودا، فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة هو كافية، فاحتاجوا إلى اقتران لفظة اللَّه بلفظة هو حتّى يحصل التميز.
المقام الثّالث مقام أصحاب الشّمال الذي هو أحسن المقامات، و هم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد، فقرن لفظ أحد بما تقديم ردّا على هؤلاء، و إبطالا لمقالتهم فقيل قل هو اللَّه أحد (و من قال فيم فقد ضمنه، و من قال على م فقد أخلى منه) هاتان القضيتان في تقدير شرطيّتين متّصلتين يراد بهما تنزيه الحق سبحانه عن مثل هذين الاستفهامين في حقّه. و تأديب الخلق أن لا يستفهموا عنه كذلك، و بيان المراد منهما باستثناء نقيض تاليهما، و حذف الاستثناء هاهنا الذي هو كبرى القياس على ما هو المعتاد في القياس المضمر، و تقدير المتّصلة الاولى أنّه لو صحّ السّؤال عنه بفيم، لكان له محلّ يتضمّنه و يصدق عليه أنّه فيه، صدق العرض في المحلّ، أو الجسم في المكان، لكنّه يمتنع كونه في محل و نحوه فيمتنع السّؤال عنه بفيم، بيان الملازمة أنّ في لمّا كان مفيدا للظرفية و المحل، فالاستفهام بفيم، يقتضي صحّة كونه في محلّ أو مكان إذا لا يصحّ الاستفهام عن المحلّ لشي ء إلّا إذا صحّ كونه حالا فيه، و أمّا بطلان التّالي فلأنه لو صحّ كونه في المحلّ لكان إمّا أن يجب كونه فيه، فيلزم أن يكون محتاجا إلى ذلك المحلّ، و المحتاج إلى الغير ممكن بالذات، و إن لم يجب حلوله جاز أن يستغنى عنه، و الغني في وجوده عن المحلّ يستحيل أن يعرض له ما يحوجه إلى المحلّ، فان الكون في المحل يستلزم الافتقار إليه، و إذا استحال أن يكون في محلّ امتنع السّؤال عنه بفيم.
و تقدير المتّصلة الثّانية أنّه لو صحّ السّؤال عنه بعلى م، لجاز خلوّ بعض الجهات و الأماكن عنه، لكنّه لا يجوز خلوّ مكان عنه، فامتنع الاستفهام بعلى م، بيان الملازمة أنّ لفظة على لمّا كانت مفيدة للعلوّ و الفوقية، فالاستفهام بعلى م، عن شي ء لا يصحّ إلّا إذا صحّ كونه عاليا على شي ء، و ذلك يستلزم أمرين، أحدهما بالواسطة، و الآخر بلا واسطة، فالذي بالواسطة هو إخلاء ساير الجهات و الأماكن عنه، و هو ما ذكره عليه السلام، و الذي بلا واسطة هو إثبات الجهة المعيّنة أعني جهة فوق، إذ اختصاصه بجهة معيّنة مستلزم نفى كونه في ساير الجهات.
و إنّما جعل عليه السلام لازم هذه المتّصلة كونه قد أخلى منه، ليلزم من بطلان اللازم و هو الاخلاء منه، بطلان ملزومه أعني اختصاصه بالجهة، ليلزم منه بطلان المقدم، و هو صحّة السّؤال عنه بعلى م. و أمّا بطلان التّالي فلقوله تعالى: وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ و قوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ لا يقال: مثبت الجهة لا يجهل هذه الآيات، بل له أن يقول: بعدم التّنافي بين الاختصاص و بين مفاد تلك الآيات، اذ المقصود من كونه في السّماء و في الأرض، كونه عالما بما فيهما، و كذلك المراد بالمعية، و المراد من كونه في جهة فوق، كونه فيها بذاته، فلا دلالة فيها على بطلان التّالي.
قلنا: إنّما جعل عليه السلام قوله: فقد أخلى منه لازما في هذه القضيّة، لأن نفي هذا اللّازم بهذه الآيات ظاهر، و ذلك، لأنّ مثبت الجهة إنّما اعتمد في إثبات دعويها على ظواهر الآيات المفيدة له من أمثال قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فكانت معارضة مقتضاها بظواهر هذه الآيات أنفع في الخطابة، و أوقع في قلوب العامة من البراهين العقليّة على نفي الجهة، فلو ارتكب الخصم المثبت للجهة للتّأويل فيها، باحاطة العلم لارتكبناه فيما تمسّك به من الآيات، و قلنا إنّ المراد بالاستواء هو الاستيلاء بالقدرة حسبما سيأتي تحقيقه.
فان قيل: إنّما خصّ جهة العلوّ بانكار اعتقادها.
قلنا: لأنّ كلّ معتقد للّه جهة يخصّصه بها، لما توهّم أنّه أشرف الجهات، لأنّها التي نطق بها الكتاب الكريم، فكانت شبهة المجسمة في إثباتها أقوى، و كيف كان، فقد تحصّل ممّا ذكرنا، أنّه لا يصحّ السّؤال عنه بفيم، و على م، كما لا يجوز اعتقاد كونه في شي ء، أو على شي ء.
و يشهد به أيضا ما رواه في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من زعم أنّ اللّه من شي ء أو في شي ء أو على شي ء فقد كفر، قلت: فسّر لى، قال: أعني بالحواية من الشي ء له أو بامساك له أو من شي ء سبقه، قال و في رواية اخرى: من زعم أنّ اللّه من شي ء فقد جعله محدثا، و من زعم أنّه في شي ء فقد جعله محصورا، و من زعم أنّه على شي ء فقد جعله محمولا.
قال بعض شرّاح الكافي في شرح هذا الحديث: يعني أن إطلاق شي ء من هذه الألفاظ بالمعنى الذي هو متعارف أهل اللّغة عليه تعالى مستلزم لاعتقاد التّجسيم في حقه تعالى و ذلك الاعتقاد كفر، فمن زعم أنّ أحد هذه المعاني صادق في حقّه تعالى فقد كفر.
ثم فسر عليه السلام الألفاظ على ترتيب اللف، فقوله: أعني بالحواية من الشّي ء، تفسير لمعنى في شي ء، لأنّ كلّ ما هو في شي ء فيحويه ذلك الشّي ء، و قوله: أو بامساك له، تفسير لمعنى على شي ء، لأنّ كلّ ما هو على شي ء فذلك الشّي ء ممسك له، و قوله: أو من شي ء سبقه، تفسير لمعنى من شي ء، لأنّ ما كان من شي ء فذلك الشي ء مبدؤه و سابق عليه، و لذلك قال في الرّواية الأخيرة: من زعم أنّ اللّه من شي ء فقد جعله محدثا، لأنّ معنى المحدث هو الموجود بسبب شي ء سابق عليه بالوجود، و قال عليه السلام: و من زعم أنّه في شي ء فقد جعله محصورا، أى محويّا، فيلزمه الحواية من ذلك الشّي ء، و قال عليه السلام: و من زعم أنّه على شي ء فقد جعله محمولا، فاذن له حامل يملكه هذا.
و قد تحقّق من ذلك كلّه، أنّ اللّه سبحانه لا يكون محصورا في شي ء، و لا يخلو عنه شي ء، فلا يكون في أرض و لا في سماء، و لا يخلو عنه أرض و لا سماء، كما ورد في الحديث: لو دليتم بحبل على الأرض السّفلى لهبط على اللّه، و لهذا قال عليه السلام: و من قال: فيم، فقد ضمنه، و من قال: على م، فقد أخلى منه، تصديقا لقوله تعالى: هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ و قوله: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
و قول النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّه فوق كلّ شي ء و تحت كل شي ء، قد ملاء كلّ شي ء عظمته، فلم يخل منه أرض و لا سماء و لا برّ و لا بحر و لا هواء.
و في الكافي باسناده عن أبي حمزة الثمالى، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: مكتوب في التّوراة التي لم تغير أنّ موسى عليه السلام سأل ربّه، فقال: يا رب أ قريب أنت منّي فاناجيك، أم بعيد فاناديك فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني الحديث.
فان قلت: سلمنا هذا كله، و لكن ما تقول في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى .
فان الظاهر من الاستواء هو الاستقرار و الجلوس عليه.
قلنا: هذه الآية هي التي تعلقت بها المشبّهة في أنّ معبودهم جالس على العرش، و بعد ما قام البراهين العقلية و الحجج النقلية على نفي المكان عنه حسبما عرفته و تعرف إن شاء اللّه أيضا تفصيلا في شرح الخطبة المأة و السّابعة و السّبعين، ثبت تجرده عن جميع الأحياز و الأمكنة، و إذا ثبت تجرّده عنها ثبت أنّ نسبته إلى الكلّ نسبة واحدة، فلا بدّ من ارتكاب التّأويل في الآية الشّريفة.
و قد ذكروا فيه وجوها و أقوالا كثيرة، أقربها ما ذكره القفال من علماء المعتزلة و هو أنّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة اللّه و كبريائه.
و تقريره أنّه لما خاطب اللّه عباده في تعريف ذاته و صفاته بما اعتادوه في ملوكهم و عظمائهم، فمن ذلك أنّه جعل الكعبة بيتا يطوف الناس به كما يطوفون بيوت ملوكهم، و أمر النّاس بزيارته كما يزورون بيوت ملوكهم، و ذكر في الحجر الأسود أنّه يمين اللّه في أرضه، ثم جعله موضع تقبيلهم كما يقبل النّاس أيدي ملوكهم و كذلك ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة و النّبيّين و الشّهداء و وضع الموازين، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا فقال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ثم قال: وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ و قال: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ و قال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ.
ثم أثبت لنفسه كرسيّا، فقال: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ إذا عرفت هذا فنقول: إنّ كلّ ما جاء من الألفاظ الموهمة للتّشبيه، من العرش و الكرسي فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة، و الطواف، و تقبيل الحجر، و لما توقفنا هاهنا على أن المقصود تصوير عظمة اللّه و كبريائه، مع القطع، بأنّه منزّه عن أن يكون في الكعبة، فكذا الكلام في العرش، و الكرسى، انتهى كلامه على ما حكي عنه، و تبعه على ذلك التّأويل جماعة من العامة، منهم الزّمخشري، و الرازي، و النيسابوري، و البيضاوي، على ما حكي عنهم.
و لكنّك خبير بأنّ الآية من المتشابهات، و ما يعلم تأوليها إلّا اللّه و الرّاسخون في العلم، و حملها على ما ذكره القفال، تفسير بالرّأى و تأويل بالباطل، لأنّ حمل الآيات القرآنية على مجرّد التخيّيل و التمثيل، من غير حقيقة دينيّة و أصل ايمانيّ يوجب قرع باب السّفسطة و التّعطيل، و سدّ باب الاهتداء و التّحصيل، و فتح باب التّأويل في المعاد الجسماني من عذاب القبر و البعث و الميزان و الحساب و الكتاب و الصّراط و الجنان و النيران.
بل الحقّ المعتمد تفويض تأويل أمثال هذه إلى أهل بيت العصمة الذين هم ينابيع العلم و الحكمة، فقد ذكروا عليهم السّلام فيه وجوها مثل ما رواه في الكافي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام، أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى .
فقال استوى على كلّ شي ء فليس شي ء أقرب إليه من شي ء و فيه أيضا عنه عليه السلام بعد ما سئل عنه، فقال: استوى من كلّ شي ء، فليس شي ء أقرب إليه من شي ء و فى ثالث عنه عليه السلام أيضا أنّه قال بعد السّؤال عنه: استوى في كلّ شي ء، فليس شي ء أقرب إليه من شي ء لم يبعد منه بعيد، و لم يقرب منه قريب، استوى في كلّ شي ء، إلى غير ذلك من الأخبار.
و توضيح ما ذكره عليه السلام على وجه يتّضح به المرام، من الآية الشّريفة أيضا يستدعي بسطا في الكلام، فنقول: إنّ الاستواء على ما ذكره المحدث المجلسي «قده» أن الاستواء يطلق على معان الاول الاستقرار و التمكن على الشّي ء الثاني قصد الشّي ء و الاقبال عليه الثالث الاستيلاء على الشّي ء، قال الشّاعر:
قد استوى رجل على العراقبغير سيف و دم مهراق
الرابع الاعتدال، يقال: سوّيت الشّي ء فاستوى الخامس المساواة في النّسبة.
أمّا المعنى الأوّل فقد علمت استحالته على اللّه سبحانه و اما الثاني فمن المفسّرين من حمل الآية عليه، أى أقبل على خلقه، و قصد إلى ذلك، و قد رووا أنّه سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن هذه الآية، فقال: الاستواء الاقبال على الشّي ء و نحو هذا قال الفراء و الزّجاج: في قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ.
و الأكثرون منهم حملوها على الثالث أى استولى عليه و ملكه و دبّره، و يحتمل أن يراد به المعنى الرابع بأن يكون كناية عن نفي النّقص عنه تعالى من جميع الوجوه، فيكون على العرش حالا و اما المعنى الخامس فهو الظاهر من الأخبار التي اسلفناها.
ثمّ اعلم أنّ العرش قد يطلق على الجسم العظيم المحيط بساير الجسمانيات، و قد يطلق على جميع المخلوقات، و قد يطلق على العلم أيضا كما نطقت به الأخبار الكثيرة.
فاذا عرفت ذلك، فنقول: إنّه يصحّ أن يفسّر العرش بمجموع الأشياء، و ضمن الاستواء معنى الاستيلاء و نحوه ممّا يتعدى بعلى، أى استوت نسبته إلى كلّ شي ء حالكونه مستوليا عليه، أو يفسّر بالعلم، و يكون متعلق الاستواء مقدّرا، أى تساوت نسبته من كلّ شي ء حالكونه متمكنا على عرش العلم، فيكون إشارة إلى بيان نسبته تعالى، و أنّها بالعلم و الاحاطة، أو يفسّر بعرش العظمة و الجلال و القدرة، كما فسّر بها في بعض الأخبار، أى استوى من كلّ شي ء مع كونه في غاية العظمة، و متمكنا على عرش التّقدس و الجلال، و الحاصل أنّ علوّ قدره ليس مانعا من دنوّه بالحفظ و التّربية و الاحاطة، و كذا العكس، و على التّقادير، فقوله: استوى خبر، و قوله: على العرش حال.
هذا غاية ما وصل إليه نظري الفاتر في تحقيق المرام، و جملة ما نقدته من كلمات الأعلام في توضيح المقام، و اللّه العالم بحقايق كلامه.
الترجمة
يعنى و هر كسى كه اشاره كرد بسوى او با اشاره عقليه يا با اشاره حسيّه پس بتحقيق كه محدود نمود او را بحدّى معين، و هر كه او را محدود كرد پس بتحقيق او را در شمار آورد و معدود نمود او را در عداد مخلوقين، و هر كس گفت خداوند در كدام محل يا در كدام مكان است پس بتحقيق متضمن گردانيد او را در ضمن محل و مكان، و هر كه گفت كه او بر چيست پس بتحقيق خالى گردانيد بعض امكنه را از آن و حال آنكه نسبت حضرت او سبحانه بجميع امكنه و همه اشياء برابر است و هيچ مكان از او خالى و هيچ شي ء از او غائب نيست و لنعم ما قيل.
در عالم اگر فلك اگر ماه و خور استاز باده هستى تو پيمانه خور است
فارغ ز جهانى و جهان غير تو نيست
بيرون ز مكانى و مكان از تو پر است
الفصل السادس
كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كلّ شي ء لا بمقارنة، و غير كلّ شي ء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات و الالة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوّحد إذ لا سكن يستأنس به، و لا يستوحش لفقده.
اللغة
(كائن) اسم فاعل من كان قال الفيومي: كان زيد قائما أى وقع منه قيام و انقطع و تستعمل تامّة فتكتفى بمرفوع، نحو كان الأمر، اى حدث و وقع، قال تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ أى و إن حصل، و قد تأتي بمعنى صار، و زائدة، كقوله تعالى: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
أى من هو في المهد، و اللّه عليم حكيم انتهى.
و قال الصّدر الشّيرازي في شرح الكافي: اعلم أنّ كلمة كان تستعمل في اللّغة على ثلاثة اوجه.
أحدها بصيغتها دالة على الوجود و الزّمان، و يسمّى في عرف النّحاة كان التّامّة، كقول الشّاعر:
اذا كان«» الشّتاء فادفئونى،أى اذا وجد و حدث.
الثّاني ما يدلّ على النّسبة و الزّمان، فيحتاج في الدلالة على الوجود إلى خبر يتمّ به، و هي النّاقصة و استعمالها أكثر، و هي أداة عند المنطقيين و إن كانت على قالب الكلمة و الفعل، لأنّ معناها غير مستقلّ في الانفهام، كقوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً و قوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا الثّالث أن يكون زائدة خالية عن الدلالة على وجود و زمان، كقوله:
على كان المسوّمة العرابأى على المسوّمة
إذا عرفت هذا، فنقول: إن كلمة كائن ماخوذة من كان التّامة، أى موجود لا عن حدث (و الحدث) من حدث الشّي ء حدوثا كقعد تجدّد وجوده، فهو حادث و حديث، و منه يقال حدث به عيب اذا تجدّد، و كان معدوما قبل ذلك (و المزايلة) من زايله زيالا إذا فارقه (و السّكن) بالفتحتين من سكنت إلى الشّي ء و هو ما يسكن إليه من اهل و مال و نحوهما، هو سكن له (و استانست) به و تأنست به إذا سكن القلب و لم ينفر، و الأنيس الذي يستأنس به (و استوحش) الرّجل إذا وجد الوحشة.
الاعراب
كلمة لا في جميع الفقرات للنّفى، ففي الخمس الاولى بمعنى ليس و في قوله: إذ لا منظور إذ لا سكن، لنفى الجنس، و كلمة عن في الفقرتين بمعنى من، على حدّ قوله سبحانه: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ و يجوز كونها في الفقرة الثّانية بمعنى بعد، كما في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ و إذ في قوله: إذ لا منظور، ظرف زمان كما في قوله: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا و في قوله: إذ لا سكن، كذلك على ما نبّه عليه الشّارح المعتزلي، و لكنّ الأظهر كونها تعليليّة على حدّ قوله: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ.
لاحتياج جعلها ظرفا إلى تكلّف كما لا يخفى، و لا يستوحش لفقده جملة استينافيّة كما ذكره القطب الراوندي، و ايراد الشّارح المعتزلي عليه بأنّه كيف يكون مستأنفا و الهاء في فقده ترجع إلى المذكور، فاسد جدّا.
أمّا اوّلا فلأنّ وجود الضمير لا ينافي الاستيناف كما لا ينافيه وجود الواو، و هذا بعينه مثل قوله تعالى: ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ فانّهم ذكروا أنّه جملة مستأنفة نظرا إلى أنّ إعادة الخلق لم يقع بعد، فيقرّروا برؤيتها و أمّا ثانيا فلأنّه لو لم يكن كلاما مستأنفا لا بدّ و أن يجعل معطوفا، إمّا على جملة الصّفة أعني قوله: يستأنس، أو على الموصوف مع صفته، و كلاهما غير ممكن، كما هو واضح، فقد تحقّق كون الجملة استينافيّة، اللّهم إلّا أن يقال إنّه عطف على جملة الصّفة، و لا زايدة، كما في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ.
و احتمل العلامة المجلسي كونها حالا، و الأوّل أظهر.
المعنى
قد عرفت معانى كلمة كان، و الأنسب بل المتعين في المقام هو أن يجعل المبدأ في قوله: (كائن) هو التّامّة، و لكن لمّا كان المفهوم منه حسبما عرفت، الوجود المقارن للزّمان الذي قد انقضى، و كان ذاته سبحانه منزّهة عن الزّمان، استحال أن يقصد وصفه بالكون الدّالّ على الزّمان المستلزم للتّجدد و الحدثان، و إذا استحال ذلك لم يكن له دلالة إلّا على الوجود المجرّد عن القيدين، فلذلك قيّده عليه السلام بقوله: (لا عن حدث) تنبيها على أنّ وجوده سبحانه ليس وجودا حدوثيا، و أنّه سبحانه كائن بلا كينونية، و قوله: (موجود لا عن عدم) إشارة إلى أنّ وجوده سبحانه ليس على حدّ وجودات ساير الأشياء ناشيا من العدم و مسبوقا به، و الفرق بين الفقرتين بعد اتحادهما في الدّلالة على نفى الوجود التّجددي هو أنّ الاولى نافية للحدوث الزّماني، و الثّانية نافية للحدوث الذاتي، و هي أبلغ في الدّلالة على وجوب الوجود من الاولى كما لا يخفى، و مساقهما مساق قوله عليه السلام في الخطبة المأة و الخامسة و الثّمانين: سبق الأوقات كونه و العدم وجوده، فليلاحظ ثمّة (مع كلّ شي ء لا بمقارنة) هذه الفقرة كسابقتيها و تاليتها مركبة من قضيّتين، إحداهما ايجابيّة و الاخرى سلبيّة.
أمّا الاولى فهي أنّ اللَّه سبحانه مع كلّ شي ء عالم بهم، شاهد عليهم، مصاحب معهم، غير غايب عنهم، كما قال: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و قال: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ و أما الثّانية فهي ما أشار إليه بقوله: لا بمقارنة، تنبيها على أنّ معيته سبحانه للأشياء ليست بعنوان التّقارن المتبادر إلى الأذهان القاصرة، و الاوهام النّاقصة كما توهّمه كثير من النّاس، حيث إنّهم لم يعرفوا من المعيّة و الحضور الّا معيّة حال بمحلّ، أو محلّ بحال، أو حضور جسم عند جسم، أو حضور جسم في مكان، و لذلك استبعدوا كونه مع كلّ شي ء، و حضوره في كلّ مكان، زعما منهم أنّ كونه مع شي ء أو في مكان مستلزم لكونه فاقدا لمعيّة ساير الأشياء، و خلوّ ساير الأمكنة عنه، و لم يدروا أنّ ما توهّموه إنّما هو من لوازم معيّة الأجسام مع أمثالها، و خصايص حضور الجسمانيات عند اشباهها، و أمّا اللَّه العظيم القيّوم ذو القوة الشديدة الغير المتناهية، فنسبة جميع الأمكنة و المكانيات و أضعاف أضعافها إلى ذاته، كنسبة القطرة إلى بحر لا يتناهى، و كذلك نسبة جميع الأزمنة إلى تسرمد بقائه، كنسبة الان الواحد إلى زمان لا ينقطع، فلا يشغله شأن عن شأن و لا عالم عن عالم.
و برهان ذلك أنّه سبحانه فاعل الخلق و مبدئهم و موجدهم و غايتهم و تمامهم فكيف يكون غائبا عنهم، و الشّي ء مع نفسه بالامكان بين أن يكون و بين أن لا يكون و مع موجوده بالوجوب و الضرورة، فكيف يصحّ الشي ء أن ينفك و يغيب عنه موجده و خالقه الذي هو به موجود، و لا ينفك و لا يغيب عنه نفسه التي هو بها هو فقط، فبهذا البرهان ظهر أنّه سبحانه مع خلقه، شاهد عليهم أقرب إليهم من ذواتهم، كما قال: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الذي هو جزء من البدن، فاذا كان كذلك فيرى أشخاصهم، و يسمع كلامهم و يعلم أسرارهم.
كما نبّه عليه الامام عليه السلام في جواب ابن أبي العوجاء، على ما رواه في الكافي باسناده عن عيسى بن يونس، قال: قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد اللَّه عليه السلام في بعض ما كان يحاوره: ذكرت اللَّه فأحلت«» على غائب، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد، و اليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، و يرى أشخاصهم، و يعلم أسرارهم، فقال ابن أبي العوجاء: أ هو في كلّ مكان أ ليس إذا كان في السّماء كيف يكون في الأرض و إذا كان في الأرض كيف يكون في السّماء فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان، و خلا منه مكان، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأمّا اللَّه العظيم الشأن الملك الدّيان، فلا يخلو منه مكان، و لا يشتغل به مكان، و لا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.
و رواه الصّدوق أيضا في الفقيه في باب الحج (و غير كلّ شي ء لا بمزايلة) يعنى أنّه سبحانه مغاير لجميع الأشياء، مغايرة ذاتية من حيث عدم النّسبة بين الرّب و المربوب، و الصّانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، إذ ذاته لا تماثل به ذات شي ء من الموجودات، و صفاته لا تشابه صفات شي ء من الممكنات، و من ذلك تحقّق أن غيريّته ليست على جهة المزايلة، كالمتغايرين من الأجسام على وجه التعاند أو التّضادّ اللذين وجود أحدهما في محلّ أو مكان مستلزم لزوال الآخر عنه، لأنّه سبحانه لا يضادّه شي ء و لا يعانده شي ء، كيف و هو خالق الأضداد، فلو كان معاندا لشي ء أو مضادّا له، للزم احتياجه إلى المحلّ أو المكان المنافي لوجوب الوجود فظهر، أنّ تغايره سبحانه للأشياء و تميّزه عنها إنّما هو بنفس ذاته المقدّسة التي في غاية الكمال و التّمام، و كون ما سواه في نهاية الافتقار و النّقصان، و يأتي مزيد تحقيق لذلك إن شاء اللَّه تعالى في شرح الكلام الثّامن و المأتين (فاعل) للأشياء و صانع لهم بنفس قدرته الكاملة و إرادته التّامّة الجامعة (لا) فاعل (بمعنى الحركات و الآلة) لأنّه لا يحتاج في خلقه و فعله إلى حركة ذهنيّة أو بدنيّة كما يفتقر غيره إليها في أفعاله و صنايعه، لأن الحركة من عوارض الجسم و الجسمانيات و اللَّه سبحانه منزّه عن ذلك، كما أنّه غير محتاج إلى آلة.
أمّا اجمالا فلأنّ افتقاره إلى الآلة من صفات الممكن.
و أمّا تفصيلا، فلأنّه لو صدر عنه شي ء من الآثار بآلة فإمّا أن تكون تلك الآلة من فعله أم لا.
و على الأوّل، فهي إمّا بتوسط آلة اخرى أو بدونها، فان كانت بدونها، فقد صدق أنّه فاعل بالذات لا بآلة، و إن كانت بتوسّط آلة اخرى فالكلام فيها، كالكلام في الاولى و يلزم التّسلسل.
و على الثّاني يلزم أن يكون الباري جلّ شأنه مفتقرا في تحقّق فاعليّته و قدرته إلى الغير و المفتقر إلى الغير ممكن بالذّات هذا خلف (بصير إذ لا منظور إليه من خلقه) يعني أنّه سبحانه كان بصيرا في الأزل و لا مبصر، كما أنّه كان سميعا و لا مسموع.
و اختلف العلماء في أنّ السّمع و البصر هل هو عين العلم بالمسموعات و المبصرات، أو صفة اخرى فذهب المحقّقون على ما عزى إليهم إلى الأوّل و ذهب طائفة إلى الثّاني استدلالا بذكرهما مع العلم في كثير من الآيات و الرّوايات و بتجشّم الاستدلال في إثباتهما بعد إثبات العلم بجميع المعلومات.
و يضعّف بأن ذكر الخاص مع العام شايع و تكلف الاستدلال في إثباتهما تنبيها على تحقق هذا العلم المخصوص له سبحانه أعني العلم بالمسموع و المبصر من حيث إنّه مسموع و مبصر، حتّى أنّهما حاضران عنده، على هذه الحيثيّة المشاهدة الذّاتية بلا آلة، كما أنهما حاضران عندك بالمشاهدة العينيّة و توسط الآلة، فاثبات السّمع و البصر من حيث إنّهما علم داخل تحت إثبات العلم مطلقا و من حيث الخصوصيّة المذكورة محتاج إلى دليل مستقلّ.
و ممّا ذكرنا ظهر ما في كلام بعض الأعلام حيث أورد بقوله: فان قلت:
لم يكن شي ء من المبصرات و المسموعات في الأزل فلم يكن اللَّه سميعا و بصيرا في الأزل، إذ لا يعقل سماع المسموعات الحادثة و إبصار المبصرات الحادثة في الأزل و أجاب بقوله: قلنا: إنّه سميع و بصير في الأزل بمعنى أنّه كان على وجه إذا وجد المسموع و المبصر لإدراكهما عند وجودهما انتهى كلامه.
و توضيح ما أجاب به ما حكاه الشّارح المعتزلي عن أبي هاشم و أصحابه، حيث قال: إنّهم يطلقون عليه في الأزل أنّه سميع بصير و ليس هناك مسموع و لا مبصر، و معنى ذلك كونه بحال يصحّ منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت و ذلك يرجع إلى كونه حيّا لا آفة به، و لا يطلقون عليه أنّه سامع مبصر في الأزل، لأن السّامع هو المدرك بالفعل لا بالقوّة، و كذلك المبصر.
و أنت بعد الخبرة بما ذكرناه، تعرف فساد جميع ما ذكروا من السّؤال و الجواب و ما حكيناه عن أبي هاشم و أصحابه.
أمّا السّؤال فلأن السمع و البصر حسبما عرفت عبارة عن العلم، و العلم بالشّي ء غير متوقّف على وجوده، و قد يتحقّق ذلك في أفراد البشر، فكيف الباري الذي لا يخفى عليه شي ء و أما الجواب، فلأن فيه اعترافا بورود السّؤال، و أنّه تعالى لا يدرك المسموع و المبصر قبل وجودهما، و إشعارا بأنّ فيه جلّ شانه استعدادا لحصول العلم و الادراك كما ينبّه عليه ما حكيناه عن أبي هاشم، من أنّ القول بذلك ضروري البطلان، حيث إن الصّفات الذّاتية الكمالية كلّها فعليّة في حقه سبحانه، و ليست شأنية كما برهن في محلّه.
فقد تحقق مما ذكرنا كله أنّه سبحانه مدرك للمسموعات و المبصرات في الأزل، كادراكه لها في الأبد من غير تفاوت بينهما أصلا.
و يشهد به ما رواه في الكافي باسناده عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: لم يزل اللَّه عزّ و جلّ ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم، و السّمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر، و القدرة ذاته و لا مقدور، فلمّا أحدث الأشياء، و كان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، و السّمع على المسموع، و البصر على المبصر، و القدرة على المقدور، الحديث. و سيأتي، مزيد تحقيق لهذا الحديث في الفصل الآتي عند شرح قوله عليه السلام: عالما بها قبل ابتدائها فانتظر (متوحّد) في ملكه و ملكوته و سلطانه (إذ لا سكن) له أى لا يمكن أن يكون له سكن (يستأنس به و لا) أنيس (يستوحش لفقده) بل توحّد بالتّحميد، و تمجّد بالتمجيد، و علا عن اتّخاذ الأبناء، و تطهر و تقدّس عن ملامسة التّساء، عزّ و جلّ عن مجاورة الشّركاء و إنّما امتنع في حقّه السّكن و الأنيس و الاستيناس و الاستيحاش أما إجمالا فلأنّ الانس و الوحشة من توابع المزاج و لواحق الحيوان، الذي يأخذ لنفسه من جنسه أو من غير جنسه أنيسا يستأنس بصحبته، و يستوحش بفقدانه، و اللَّه سبحانه منزّه عن ذلك.
و أمّا تفصيلا فلأنّه سبحانه جامع الكمالات و الخيرات بلا فقد شي ء عنه، لأنّه كلّ وجود «و منشأ خ ل» و مبدء كلّ موجود، فلذلك علا عن اتّخاذ الأبناء، و تقدس عن مباشرة النّساء، و جلّ عن أخذ الشّركاء، لأنّ الحاجة إلى الأولاد و النّساء و الشّركاء و أمثالها سببها قصور الوجود، و قلّة الابتهاج بمجرّد الذّات، و كثرة التوحّش عن الانفراد بالوجود المشوب بالاعدام و النّقايص، فيجبر القصور، و يزول التّوحش بوجود الأمثال و الاشباه، استيناسا بها، و تخلصا عن وحشة الفراق بسببها و أمّا الذّات الالهية الجامعة لجميع الخيرات، و السّعادات، و الابتهاجات، فكلّ الموجودات به مبتهجة مسرورة، و إليه مفتقرة، و منه مستفيضة، بل هو في الحقيقة انس كلّ مستوحش غريب، و به سرور كلّ محزون كئيب.
و بعبارة اخرى أوضح و ألطف ان الاستيحاش و التّوحش الحاصل للانسان و نحوه عن التفرّد عن الأمثال و الاشباه، لنقص جوهره و قصور وجوده من الكمال، و خلو ذاته عن الفضيلة التّامة، و استصحابه للاعدام و الظلمات، فيستوحش من ذاته الخالية عن نور الفضيلة و الكمال، و يستأنس بغيره من الأشباه و الأمثال، و أمّا الباري سبحانه فالأشياء الصّادرة عنه، وجوداتها رشحات لبحر وجوده، و لمعات لشمس حقيقته، و البحر لا يستزيد بالرشحة و النداوة، و الشّمس لا تستنير بلمعاتها و ذراتها، فكيف يستأنس ذاته المقدّسة بما يفيض عنها.
هذا كلّه مضافا إلى أن حصول الاستيناس و زوال الاستيحاش إنّما يكون بوجود الأشباه، و هو تعالى لا يشبه شيئا مذكورا، سواء كان موجودا في العين أم لا، فانّ المذكور قد لا يكون موجودا، و هو أعمّ من الموجود، و نفى الأعمّ يستلزم نفى الأخص كما هو ظاهر.
|