الفصل السادس عشر
على ذلك نسّلت القرون، و مضت الدّهور، و سلفت الآباء، و خلفت الأبناء، إلى أن بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لإنجاز عدته، و إتمام نبوّته، مأخوذا على النّبيّين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده، و أهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة، و أهواء منتشرة، و طرائق متشتّتة، بين مشبّه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهديهم به من الضّلالة، و أنقذهم بمكانه من الجهالة.
اللغة
(نسل) نسلا من باب ضرب كثر نسله، و يتعدّى إلى مفعول يقال: نسلته أى ولدته و نسل الماشي ينسل بالضّم و بالكسر نسلا و نسلا و نسلانا أسرع، و نسلت القرون أى ولدت أو أسرعت و (سلف) سلوفا من باب قعد مضى و انقضى و (خلفته) جئت بعده، و الخلف بالتّحريك الولد الصالح، فاذا كان فاسدا أسكنت اللّام و ربّما استعمل كلّ منهما مكان الآخر و (الميثاق) و الموثق كمجلس العهد و (السّمات) جمع السّمة و هي العلامة و (الميلاد) كالمولد وقت الولادة، و لم يستعمل في الموضع كما توهّمه الشارح البحراني بل مختص بالزّمان، و المولد يطلق على الوقت و الموضع كما صرّح به الفيومي (و الملل) جمع الملّة و هي الشريعة و الدّين (و الأهواء) جمع هوا بالقصر إرادة النّفس (و طرائق متشتّتة) أى متفرقة و (الملحد) من الالحاد يقال الحد و لحد إذا حاد عن الطريق و عدل عنه و (الانقاذ) كالنّقذ و الاستنقاذ التّخليص و (المكان) مصدر بمعنى الكون.
الاعراب
قوله عليه السّلام: على ذلك متعلّق بالفعل الذي يليه، و اللّام في قوله لانجاز عدته تعليل للبعث متعلّق به، و مأخوذا و مشهورة و كريما منصوبات على الحالية من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، كما أنّ محلّ الجملة أعني قوله عليه السّلام: و أهل الارض اه، كذلك، و ملل و أهواء و طرائق مرفوعات على الخبريّة من أهل الأرض، و إسنادها إليه من باب التّوسّع، و الأصل ذو ملل متفرقة، و قيل: إنّ المبتدأ محذوف أى مللهم ملل متفرقة، و أهواؤهم أهواء منتشرة، و طرائقهم طرائق متشتّتة، و بين ظرف متعلّق بقوله: متشتّتة، و هو من الظروف المبهمة لا يتبيّن معناه إلّا بالاضافة إلى اثنين فصاعدا أو ما يقوم مقامه كقوله تعالى: عوان بين ذلك، قال الفيومي في المصباح: و المشهور في العطف بعدها أن يكون بالواو، لأنّها للجمع المطلق، نحو المال بين زيد و عمرو، و أجاز بعضهم بالفاء مستدلّا بقول امرء القيس: بين الدّخول فحومل، و أجيب بأن الدّخول اسم لمواضع شتى، فهو بمنزلة قولك المال بين القوم و بها يتمّ المعنى انتهى.
إذا عرفت ذلك فأقول: الظاهر أنّ كلمة أو في قوله: أو ملحد، أو مشير، بمعنى الواو إجراء للفظ بين على ما هو الأصل فيه، مضافا إلى عدم معنى الانفصال هاهنا، و قول الشارح البحراني، إنّ الانفصال هنا لمنع الخلوّ فاسد، ضرورة أنّ بعض أهل الأرض عند بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان من أهل التّوحيد حسبما تعرفه و هؤلاء ليس داخلا في أحد الأصناف الثلاثة فافهم جيّدا، و الباء في بمكانه سببيّة، أى أنقذهم بسبب كونه و وجوده صلّى اللّه عليه و آله من الجهالة.
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام ساق هذه الخطبة بما اقتضاه التّرتيب الطبيعي، أى من لدن آدم عليه السّلام إلى بعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هداية الخلق به و اقتباسهم من أنوار وجوده الذي هو المقصود العمدة في باب البعثة، فقال عليه السّلام (على ذلك) يعني على هذا الاسلوب الذي ذكرناه من عدم إخلاء الارض و الخلق من الأنبياء و الحجج (نسّلت القرون) و ولدت أو أسرعت، و هو كناية عن انقضائها (و مضت الدّهور، و سلفت الآباء) أى تقدّموا و انقضوا (و خلفت الأبناء) أى جاءوا بعد آبائهم و صاروا خليفة لهم (إلى أن بعث اللّه) النّبيّ الأمّيّ العربيّ القرشيّ الهاشميّ الابطحيّ التّهاميّ المصطفى من دوحة الرّسالة، و المرتضى من شجرة الولاية (محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لانجاز عدته) التي وعدها لخلقه على ألسنة رسله السّابقين بوجوده عليه السّلام (و لاتمام نبوّته) الظاهر رجوع الضمير فيه الى اللّه سبحانه، و قيل: برجوعه إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لا يخلو عن بعد.
و ينبغي الاشارة إلى الحجج الذين لم يخل اللّه سبحانه خلقه منهم من لدن آدم عليه السّلام إلى بعث نبيّنا صلوات اللّه عليهم أجمعين فنقول: روى الصّدوق في الأمالى عن ابن المتوكل عن الحميري عن ابن عيسى عن الحسن بن محبوب عن مقاتل بن سليمان عن أبي عبد اللّه الصّادق عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنا سيّد النّبيّين، و وصيّي سيد الوصيّين، و أوصيائى سادة الأوصياء، إنّ آدم سأل اللّه عزّ و جلّ ان يجعل له وصيّا صالحا، فاوحى اللّه عزّ و جلّ إليه إني أكرمت الأنبياء بالنّبوة ثمّ اخترت خلقا (خلقى خ ل) و جعلت خيارهم الأوصياء، فقال آدم: يا ربّ اجعل وصيّي خير الأوصياء، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه يا آدم اوص إلى شيث و هو هبة اللّه بن آدم، و أوصى شيث إلى ابنه شبان«»، و هو ابن نزلة الحوراء التي أنزلها اللّه على آدم من الجنّة فزوّجها ابنه شيثا، و أوصى شبان إلى محلث،«» و أوصى محلث إلى محوق«» و أوصى محوق إلى عثميا«»، و أوصى عثميا إلى اخنوخ و هو إدريس النّبيّ، و أوصى إدريس إلى ناخور«» و دفعها ناخور إلى نوح النّبيّ و أوصى نوح إلى سام، و أوصى سام إلى عثامر«» و اوصى عثامر إلى برغيثاشا«»، و أوصى برغيثاشا إلى يافث، و أوصى يافث إلى برة، و أوصى برة إلى جفشية«»، و أوصى جفشية إلى عمران، و دفعها عمران إلى ابراهيم الخليل عليه السّلام، و أوصى ابراهيم إلى ابنه اسماعيل، و أوصى اسماعيل إلى إسحاق، و أوصى إسحاق إلى يعقوب، و أوصى يعقوب إلى يوسف، و أوصى يوسف إلى بريثا، و أوصى بريثا إلى شعيب، و دفعها شعيب إلى موسى بن عمران، و أوصى موسى بن عمران إلى يوشع بن نون، و أوصى يوشع بن نون إلى داود، و أوصى داود إلى سليمان، و أوصى سليمان إلى آصف بن برخيا و أوصى آصف بن برخيا إلى زكريا، و أوصى (دفعها خ ل) زكريّا إلى عيسى بن مريم و أوصى عيسى بن مريم إلى شمعون بن حمون الصّفا، و أوصى شمعون إلى يحيى«» ابن زكريا، و أوصى يحيى بن زكريّا إلى منذر، و أوصى منذر إلى سليمة، و أوصى سليمة إلى بردة.
ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و دفعها إلىّ بردة، و أنا أدفعها إليك يا عليّ، و أنت تدفعها إلى وصيّك، و يدفعها وصيّك إلى أوصيائك من ولدك واحدا بعد واحد حتى تدفع إلى خير أهل الأرض بعدك، و لتكفرنّ بك الامّة، و لتختلفن عليك اختلافا شديدا الثّابت عليك كالمقيم، و الشّاذ عنك في النّار، و النّار مثوى للكافرين.
و قد مضى في شرح قوله عليه السّلام: و اصطفى من ولده أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم، ما يوجب ازدياد البصيرة في المقام فراجعه و قوله عليه السّلام: (مأخوذا على النبيّين ميثاقه).
أقول: قد عرفت في الفصل الرّابع عشر عند شرح قوله عليه السّلام: لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم، ما دلّ على أخذ ميثاق جميع الخلق على توحيد اللّه تعالى و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إمامة الأئمة عليهم السّلام في عالم الميثاق.
و ينبغي أن نذكر هنا بعض ما يفيد أخذ ميثاق النبيّين بخصوصهم سلام اللّه عليهم، فأقول: قال سبحانه في سورة آل عمران: «وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي، قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ».
قال الطبرسيّ عند تفسير الآية: و روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عبّاس و قتادة أنّ اللّه أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أن يخبروا أممهم بمبعثه و رفعته، و يبشّروهم به و يأمروهم بتصديقه.
و قال أيضا: و قد روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال، لم يبعث اللّه نبيّا آدم و من بعده إلّا أخذ عليه العهد لئن بعث اللّه محمّدا و هو حىّ ليؤمننّ به و لينصرنّه، و أمره بأن أخذ العهد بذلك على قوله و في تفسير عليّ بن ابراهيم القميّ قال الصّادق عليه السّلام في قوله: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ- الآية» كان الميثاق مأخوذا عليهم بالرّبوبيّة و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله بالنّبوّة و لأمير المؤمنين و الأئمة عليهم السّلام بالامامة فقال «أ لست بربّكم» و محمّد نبيّكم و عليّ إمامكم و الأئمة الهادون أئمتكم فقالوا: بلى، فقال اللّه تعالى.
«أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» أي لئلّا تقولوا يوم القيامة «إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» فأوّل ما أخذ اللّه عزّ و جلّ الميثاق على الأنبياء بالرّبوبيّة و هو قوله: «وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ» فذكر جملة الأنبياء ثمّ أبرز أفضلهم بالأسامي فقال: «وَ مِنْكَ» يا محمّد فقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه أفضلهم «وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» فهؤلاء الخمسة أفضل الأنبياء، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضلهم، ثم أخذ بعد ذلك ميثاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الأنبياء بالايمان به و على أن ينصروا أمير المؤمنين، فقال: «وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ» يعنى أمير المؤمنين عليه السّلام تخبروا اممكم بخبره و خبر وليّه من الأئمة.
و في البحار عن كشف الغمّة من كتاب بكر بن محمّد الشّامي باسناده عن أبي الصّباح الكناني عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: أتى رجل أمير المؤمنين عليه السّلام و هو في مسجد الكوفة قد احتبى بسيفه، قال: يا أمير المؤمنين إنّ في القرآن آية قد أفسدت قلبي و شككتني في ديني، قال عليه السّلام له: و ما هي قال: قوله عزّ و جلّ:
«وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا» هل كان في ذلك الزّمان نبيا غيره صلّى اللّه عليه و آله يسأله فقال له عليّ عليه السّلام: اجلس اخبرك إنشاء اللّه إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» فكان من آيات اللّه عزّ و جلّ التي أراها محمّدا صلّى اللّه عليه و آله أنّه أتاه جبرئيل فاحتمله من مكة فوافى به بيت المقدّس في ساعة من اللّيل، ثمّ أتاه بالبراق فرفعه إلى السّماء، ثم إلى البيت المعمور، فتوضّأ جبرئيل و توضّأ النّبي صلّى اللّه عليه و آله كوضوئه، و أذّن جبرئيل و أقام مثنى مثنى، و قال للنّبيّ: تقدم فصل و اجهر بصلاتك فانّ خلفك افقا من الملائكة لا يعلم عددهم الّا اللّه، و في الصّف الأوّل أبوك آدم و نوح و هود و ابراهيم و موسى و كلّ نبيّ أرسله اللّه مذ خلق السّماوات و الأرض إلى أن بعثك يا محمّد، فتقدّم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فصلى بهم غير هائب و لا محتشم ركعتين، فلمّا انصرف من صلاته أوحى اللّه إليه اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الاية، فالتفت إليهم النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال بم تشهدون قالوا: نشهد أن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له، و أنّك رسول اللّه، و أنّ عليّا أمير المؤمنين و وصيّك و كلّ نبيّ مات خلّف وصيّا من عصبته غير هذا، و أشاروا إلى عيسى بن مريم، فانّه لا عصبة له، و كان وصيّه شمعون الصّفا ابن حمون بن عمامة، و نشهد أنّك رسول اللّه سيّد النّبيّين، و أنّ عليّ بن ابي طالب عليه السّلام سيّد الوصيّين، اخذت على ذلك مواثيقنا لكما بالشّهادة، فقال الرّجل أحييت قلبي و فرّجت عنّي يا أمير المؤمنين.
و فيه أيضا عن بصائر الدّرجات باسناده عن حمران عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أخذ الميثاق على اولى العزم أنّي ربّكم و محمّد رسولي و عليّ أمير المؤمنين و أوصياؤه من بعده ولاة أمري و خزّان علمي، و أنّ المهديّ أنتصر به لديني.
إلى غير هذه مما يطلع عليه المتتبّع (مشهورة سماته) إى صفاته و علاماته في الكتب المنزلة و الصّحف السّماوية من التّوراة و الزّبور و الانجيل و صحف ابراهيم و دانيال و كتاب زكريا و شعيا و غيرها، قال سبحانه في سورة البقرة: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» يعني يعرفون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بنعته و صفته و مبعثه و مهاجره و صفة أصحابه كما يعرفون أبنائهم في منازلهم، و قال أيضا في سورة الأعراف: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» روى العياشي عن الباقر عليه السّلام يعني اليهود و النّصارى صفة محمّد و اسمه.
و في الصّافي عن المجالس عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث قال يهودي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّي قرأت نعتك في التّوراة محمّد بن عبد اللّه، مولده بمكة، و مهاجره بطيبة ليس بفظّ و لا غليظ و لا سخاب«» و لا مترنن«» بالفحش و لا قول الخنا، و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه، هذا مالي فاحكم فيه بما انزل اللّه.
و في الكافي عن الباقر عليه السّلام لما انزلت التّوراة على موسى بشّر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، قال: فلم تزل الأنبياء تبشّر به حتّى بعث اللّه المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام فبشّر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك قوله: يجدونه، يعني اليهود و النّصارى، مكتوبا، يعني صفة محمّد عندهم، يعنى في التّوراة و الانجيل، و هو قول اللّه عزّ و جلّ يخبر عن عيسى: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» و قد مضى تمامه عند شرح قوله عليه السّلام: و اصطفى من ولده أنبياء، أخذ على الوحى ميثاقهم اه.
و في الكافي أيضا مرفوعا أنّ موسى عليه السّلام ناجاه ربّه تبارك و تعالى، فقال في مناجاته: اوصيك يا موسى وصيّة الشّفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم، و من بعده بصاحب الجمل الأحمر الطيب الطاهر المطهّر، فمثله في كتابك أنّه مهيمن«» على الكتب كلّها، و أنّه راكع ساجد راغب راهب«»، إخوانه المساكين و أنصاره قوم آخرون (كريما ميلاده) أى وقت ولادته صلّى اللّه عليه و آله، فقد تولد و كان طالع ولادته على ما حكاه المجلسي قده عن أبي معشر: الدّرجة العشرون من جدى، و كان زحل و المشتري في العقرب، و المريخ في بيته في الحمل، و الشمس في الحمل في الشّرف، و الزهرة في الحوت في الشّرف، و العطارد أيضا في الحوت، و القمر في أوّل الميزان، و الرّأس في الجوزاء، و الذّنب في القوس.
و روي أيضا اتّفاق الحكماء على أنّ طالعه صلّى اللّه عليه و آله المشتري و العطارد و الزّهرة و المرّيخ، و قالوا إنّ نظر المشتري علامة العلم و الحكمة و الفطنة و الكياسة و الرّياسة له صلّى اللّه عليه و آله، و إنّ نظر العطارد كان آية لطافته و ظرافته و ملاحته و فصاحته و حلاوته صلّى اللّه عليه و آله، و إنّ نظر الزّهرة دليل صباحته و سروره و بشاشته و حسنه و طيبه و بهائه و جماله و دلاله صلّى اللّه عليه و آله، و إنّ نظر المرّيخ علامة شجاعته و جلادته و محاربته و قتاله و قهره و غلبته.
و أمّا تاريخ ولادته صلّى اللّه عليه و آله فقد قال في الكافي: إنّه ولد صلّى اللّه عليه و آله لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل في عام الفيل«» يوم الجمعة مع الزّوال.
و روى أيضا عند طلوع الفجر قبل أن يبعث بأربعين سنة، و حملت به أمّه أيّام التّشريق عند الجمرة الوسطى، و كانت في منزلة عبد اللّه بن عبد المطلب و ولدته في شعب أبي طالب في دار«» محمّد بن يوسف في الزّاوية القصوى عن يسارك و انت داخل في الدّار، و قد اخرجت الخيزران ذلك البيت فصيّروه مسجدا يصلّي النّاس فيه، انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: أمّا ما ذكره من كون تولّده في ثاني عشر من شهر ربيع الأوّل فهو المشهور بين الجمهور و لعلّه (ره) و افقهم على ذلك تقيّة، و لبعض العامّة قول بكونه في ثامن ذلك الشّهر، و قول آخر بأنّه في عاشره و قول شاذّ بكونه في شهر رمضان.
و المشهور في أخبارنا و بين أصحابنا بل المدّعى عليه إجماعنا في جملة من العباير أنّ تولّده صلّى اللّه عليه و آله في السّابع عشر.
و أمّا ما ذكره من أنّ أمّه حملت به في أيام التّشريق عند الجمرة الوسطى يستلزم بقائه في بطن أمّه إمّا ثلاثة أشهر أو سنة و ثلاثة أشهر مع أنّه خلاف ما اتّفق عليه أصحابنا من كون أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر و أكثرها تسعة، و لم يقل أحد أيضا بكون ذلك من خصائصه و لا وردت عليه رواية.
و أجاب عنه جمع من الأصحاب كالمجلسي (ره) و المحدّث الجزايري (ره) و غيرهما بأنّه مبنيّ على النسي ء المراد بقوله: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» و ذلك أنّ المشركين كانوا يؤخّرون موسم الحجّ، فمرّة كانوا يحجّون في صفر و اخرى في محرّم و هكذا، تبعا لاعتدال الوقت و الهواء و كان حجّهم في سنة تولّده في جمادى الآخرة.
قال الجزائري و يؤيّده ما رواه ابن طاوس في كتاب الاقبال أنه صلّى اللّه عليه و آله حملت به امّه في ثمان عشر مضت من جمادى الآخرة، و لمّا فتح النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مكّة كان حجّهم في شهر ذي الحجّة فقال الآن دار الزّمان كما كان فلا يجوز لأحد تغييره و لا تبديله انتهى.
و كيف كان فقد كان مولده على مذهب الشّيعة اليوم السّابع عشر من شهر ربيع الأوّل و بعث للرّسالة يوم السّابع و العشرين من رجب و له حينئذ أربعون سنة (و) قد كان (أهل الأرض يومئذ) أى يوم بعثه و تصديعه بالرّسالة ذي (ملل) و شرايع (متفرّقة و أهواء) أى آراء (منتشرة و طرائق) أى مسالك (متشتتة) و متفرّقة و مذاهب مختلفة (بين مشبّه للّه بخلقه، او ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره).
قال الشّارح المعتزلي: إنّ العلماء يذكرون أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث و النّاس أصناف شتّى في أديانهم، يهود و نصارى و مجوس و صابئون و عبدة أصنام و فلاسفة و زنادقة، فأمّا الامة التي بعث فيها محمّد صلّى اللّه عليه و آله فهم العرب و كانوا أصنافا شتى، فمنهم معطلة، و منهم غير معطلة، فأمّا المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الاعادة و قالوا: ما قال القرآن العزيز منهم: «ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك الدّهر، و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه و أنكر البعث، و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله: «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» و منهم من أقرّوا بالخالق و نوع من الاعادة، و أنكروا الرّسل و عبدوا الأصنام و زعموا أنّها شفعاء عند اللّه في الآخرة و حجّوا لها و نحروا لها الهدى و قرّبوا لها القربان و حلّلوا و حرّموا، و هم جمهور العرب، و هم الذين قال اللّه تعالى عنهم: «وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» و كانوا في عبادة الأصنام مختلفين، فمنهم من يجعلها مشاركة للباري جلّ اسمه و يطلق عليها لفظ الشّريك، و منهم من لا يطلق عليها لفظ الشّريك و يجعلها وسائل و ذرايع إلى الخالق سبحانه و هم الذين قالوا: «إِنَّما نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى » و كان في العرب مشبّهة و مجسّمة، و كان جمهورهم عبدة الأصنام فكان ودّ لكلب بدومة«» الجندل، و سواع«» لهذيل و نسر لحمير، و يغوث لهمدان، و اللّات لسقيف بالطايف، و العزّى لكنانة و قريش و بعض بني سليم، و مناة لغسان و الأوس و الخزرج، و كان هبل لقريش خاصّة على ظهر الكعبة، و اساف«» و نائلة على الصّفا و المروة، و كان في العرب من يميل إلى اليهوديّة، منهم جماعة من التّبابعة«» و بلوك اليمن، و منهم نصارى كبني تغلب و العباديين رهط عديّ بن زيد و نصارى نجران، و منهم من كان يميل إلى الصّابئة«» و يقول بالنجوم و الانواء«»، فامّا الّذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم و هم المتألهون أصحاب الورع و التّحرج عن القبايح، كعبد اللّه و عبد المطلب و ابى طالب و زيد بن عمرو بن نفيل و قس بن ساعدة الأيادى، و جماعة غير هؤلاء، انتهى باختصار منّا.
إذا عرفت هذا فأقول: قوله عليه السّلام بين مشبّه للّه بخلقه، إشارة إلى بعض هذه الفرق، و هم المشبّهة الذين شبّهوا اللّه تعالى بالمخلوقات و مثلوه بالحادثات و أثبتوا له صفات الجسم.
فمنهم مشبّهة الحشويّة، قالوا: هو جسم لا كالأجسام، و مركب من لحم و دم لا كاللّحوم و الدّماء، و له الأعضاء و الجوارح، و يجوز عليه الملامسة و المعانقة و المصافحة للمخلصين.
و منهم الذين قالوا: إنّ اللّه على العرش من جهة العلوّ مماسّ له من الصّفحة العليا، و يجوز عليه الحركة و الانتقال، قال اميّة بن ابي الصلت:
من فوق عرش جالس قد حطّرجليه على كرسيّه المنصوب.
و منهم اليهود و النّصارى الذين قالوا: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ، وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» و قالت اليهود: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ».
و قد أثبتوا له سبحانه يدا و ولدا إلى غير هؤلاء من المشبّهة و المجسّمة.
و قوله عليه السّلام: أو ملحد في اسمه اشارة إلى فرقة اخرى من هذه، و هم الذين يعدلون بأسماء اللّه تعالى عمّا هي عنه فيسمّون بها أصنامهم، و يغيّرونها بالزّيادة و النّقصان، فاشتقّوا اللّات من اللّه، و العزّى من العزيز، و مناة من المنان و هذا المعنى حكاه الطبرسي عن ابن عبّاس و مجاهد في تفسير قوله تعالى: «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ» ثم قال: و قيل: إنّ معني يلحدون في أسمائه يصفونه بما لا يليق به، و يسمّونه بما لا يجوز تسميته به، و هذا الوجه أعمّ فائدة، و يدخل فيه قول الجبائي: أراد تسميتهم المسيح بأنّه ابن اللّه، ثمّ قال و في هذا دلالة على أنّه لا يجوز أن يسمّى اللّه إلّا بما سمّى به نفسه.
و قوله عليه السّلام: أو مشير إلى غيره إشارة إلى الدّهريّة و بعض عبدة الأصنام ممّن لم يدخل في القسمين السّابقين.
و الحاصل أنّ النّاس عند بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانوا على مذاهب مختلفة، و آراء متفرّقة من اليهوديّة و النّصرانيّة و المجوسيّة و الدّهريّة و عبدة الأصنام و غيرهم (فهداهم اللّه) سبحانه (به) صلّى اللّه عليه و آله أى بنور وجوده (من الضّلالة) و الغواية (و أنقذهم بمكانه) أى خلصهم و أنجاهم بكونه و وجوده (من) ظلمة (الجهالة) فانجلى به عين قلوب العارفين، و اضمحلّ باطل الشّيطان بما جاء به من الحقّ اليقين.
|