فو الّذي فلق الحبّة و برء النّسمة، إنّ الّذي أنبّئكم به عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ما كذب المبلّغ، و لا جهل السّامع، لكأنّي أنظر إلى ضلّيل قد نعق بالشّام، و فحص براياته في ضواحي كوفان، فإذا فغرت فاغرته، و اشتدّت شكيمته، و ثقلت في الأرض و طأته، عضّت الفتنة أبنائها بأنيابها، و ماجت الحرب بأمواجها، و بدا من الأيّام كلوحها، و من اللّيالي كدوحها، فإذا أينع زرعه، و قام على ينعه، و هدرت شقاشقه، و برقت بوارقه، عقدت رايات الفتن المعضلة، و أقبلن كالّليل المظلم، و البحر الملتطم، هذا و كم يخرق الكوفة من قاصف، و يمرّ عليها من عاصف، و عن قليل تلتفّ القرون بالقرون، و يحصد القائم، و يحطم المحصود.
اللغة
(النسمة) محرّكة الرّيح كالنّسيم ثمّ سميّت بها النّفس و الجمع نسم مثل قصبة و قصب و (ضلّيل) وزان سكيّت الكثير الضّلال و (نعق) الراعى لغنمه من باب ضرب صاح بها و زجرها و (فحص) القطا التراب اتّخذ فيه مفحصا بفتح الميم و الحاء و هو يجثمه و الموضع الذى تبيض فيه و (ضاحية) البلد ناحيته القريبة منه و (الكوفان) الكوفة قال الفيومى: و هى مدينة مشهورة بالعراق قيل: سميّت كوفة لاستدارة بنائها، لأنّه يقال تكوّف القوم إذا اجتمعوا و استداروا، و في القاموس الكوفة بالضمّ الرّملة الحمراء المستديرة أو كلّ رملة يخالطها حصباء و مدينة العراق الكبرى و قبّة الاسلام و دار هجرة المسلمين، مصرّها سعد بن أبى وقاص، و كان منزل نوح عليه السّلام و بنى مسجدها، سميّت بها لاستدارتها و اجتماع النّاس بها، و يقال لها: كوفان و يفتح، و كوفة الجند لأنّه اختطّت فيها خطط العرب أيّام عثمان خطّطها السّائب بن الاقرع الثقفى، أو سميت بكوفان و هو جبل صغير فسهلوه و اختطوا عليه، أو من الكيف القطع لأنّ ابرويزا قطعه لبهرام، أو لأنّها قطعة من البلاد و الأصل كيفة فلمّا سكنت الياء و انضمّ ما قبلها جعلت واوا، أو من قولهم هم في كوفان بالضمّ و يفتح و كوّفان محرّكة مشدّدة الواو أي في عزّ و منعة، أو لأنّ جبل ساتيد ما محيط بها، او لأنّ سعد الما ارتاد هذه، المنزلة للمسلمين قال لهم تكوّفوا، أو لأنه قال كوّفوا هذه الرّملة أى نحوّها، و (فغر) الفم فغرا من باب نصر و نفع انفتح، و فغرته فتحته يتعدّى و لا يتعدّي و (الفاغرة) اصول النّيلوفر و يستعار للفم باعتبار انفتاحها يقال: و فغرت فاغرته أى انفتح فوه و (الشكيمة) في اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس فيها الفاس و الجمع شكائم، يقال: فلان شديد الشكيمة أنف أبيّ لا ينقاد، لأنّ شدّة الشكيمة و قوّتها تدلّ على قوّة الفرس و (الوطاء) الدوس بالقدم و الوطأة الأخذة الشديدة و الضغطة و (كلح) يكلح من باب منع، كلوحا و كلاحا بضمهما تكشر في عبوس و (الكدوح) بالضمّ جمع كدح و هو الخدش و اثر الجراحة.
و (أينع) الزّرع وزان أكرم، و كذلك ينع من باب منع و ضرب ينعا إذا نضج و حان قطافه و قام على ينعه أى على نضجه فيكون مصدرا: و يحتمل أن يكون جمع يانع مثل صحب و صاحب و اليانع الثمر الناضج و (هدر) البعير هدرا من باب ضرب صوّت و (الشقاشق) جمع الشقشقة بالكسر و هو شي ء يشبه الرّية يخرج من فم البعير عند الهياج و يقال للخطيب ذو شقشقة تشبيها له بالفحل و منه الخطبة الشقشقيّة و قد مرّ.
و (المعضلة) كالمشكلة لفظا و معنى يقال: أعضل الأمر أى أشكل و أعضلنى الأمر أى أعياني يتعدّى و لا يتعدّي، وداء عضال لا يهتدى بعلاجه و (المظلم) كمحسن الكثير الظلام و (التطم) البحر ضرب أمواجه بعضها بعضا فهو يلتطم و (حصد) الزرع قطعه بالمنجل و (الحطم) الكسر.
الاعراب
عن النّبيّ متعلّق بمقدّر خبر أنّ أى صادر عن النبيّ أو مأخوذ عنه و نحو ذلك. و جملة ما كذب المبلّغ استيناف بياني، و اللّام في قوله لكأنّى جواب قسم محذوف، و كأنّ للتقريب، و فاغرته بالضمّ فاعل فغرت، و على في قوله على ينعه للاستعلاء المجازي، و كم في قوله كم يخرق خبرية بمعنى كثير على حدّ قوله سبحانه: كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها.
و من قاصف تميز لكم، و عن في قوله و عن قليل بمعنى بعد على حدّ قوله: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ.
المعنى
(فوالذي فلق الحبّة) أى خلقها أو شقّها باخراج النبات منها (و برء النّسمة) أى خلق النّفس الانساني و أوجدها (انّ الذي أنبئكم به) ما أقوله من تلقاء نفسي فتسرعوا و تبادروا إلى تكذيبي، و انما هو متلقا و مأخوذ (عن النّبيّ) الصّادق الأمين (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أجمعين (ما كذب المبلّغ و لا جهل السّامع) أراد بالمبلّغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تبليغه عن اللّه سبحانه و بالسّامع نفسه الشّريف، فيكون فيه إشعار بأنّ ما يخبرهم به مأخوذ من اللّه سبحانه.
قال الشّارح المعتزلي: و المبلّغ و السّامع نفسه، يقول: ما كذبت على الرّسول تعمدا و لا جهلت ما قاله فانقل عنه غلطا، و الأوّل أظهر هذا.
و لمّا وطّن نفوس السّامعين لقبول ما يقوله و نحّاهم من الاستيحاش شرع في مقصده و ما هو بصدده من الاخبار عمّا سيكون فقال (لكأنّى) أى تااللّه لكأنّي (أنظر إلى ضليل) أى إلى رجل كثير الضلال و اختلف في هذا الرّجل فقيل: إنّه السّفياني الموعود، و قيل: إنّه معاوية، و قيل: بل يمكن أن يريد به شخصا آخر يظهر بعد بالشام، و الأشبه كما في شرح المعتزلي أنّه أراد به عبد الملك بن مروان.
و استبعد الشّارح كون المراد به معاوية بأنّ ظاهر الكلام يدلّ على انسان ينعق فيما بعد و معاوية كان في أيّام أمير المؤمنين عليه السّلام نعق بالشام و دعاهم إلى نفسه، و استقرب عبد الملك بأنّ هذه الصّفات و الامارات كان فيه أتمّ منها في غيره فانه (قد نعق بالشام) أى صاح فيه حين دعا أهله إلى نفسه، أوصاح بهم و زجرهم حين الشّخوص إلى العراق (و فحص براياته في ضواحى كوفان) أى أخذ نواحى كوفة مفحصا لراياته كما تأخذ القطاة في الأرض مفحصا لها، و ذلك حين شخص عبد الملك بنفسه إلى العراق و قتل مصعبا و استخلف الأمراء من بشر بن مروان أخيه و غيره عليه حتى انتهى الأمر إلى الحجّاج.
(فاذا فغرت فاغرته) أى انفتح فوه و هو استعارة لاقتحامه للناس و افتراسه لهم بالفتك و القتل كما يفتح الأسد فاه عند افتراس فريسته.
و ما في شرح المعتزلي و غيره من أنّ تأنيث الفاغرة للفتنة لا يفهم معناه، بل الظاهر أنّ التأنيث بملاحظة أصل المعنى المستعار منه على ما قدّمناه.
(و اشتدّت شكيمته) و هو كناية عن شدّة بأسه و قوّته، لأنّ الفرس القوىّ شديد الرأس يحتاج إلى قوّة الشكيمة (و ثقلت في الأرض وطأته) و هو كناية عن شدّة جوره و ظلمه قال الشارح المعتزلي: و ذلك حين ولي الحجاج على العراق فصعب الأمر جدا و عند ذلك (عضّت الفتنة أبنائها بأنيابها) شبّه الفتنة بحيوان صائل و أثبت لها النّاب على سبيل التخييل و رشح الاستعارة بذكر العضّ و أراد بأبناء الفتنة أهلها، و المراد أنه اذا قوى سلطنة ذلك الضليل كثر الفتن و يقع أهلها في الشدّة و الألم.
قال الشارح و هو اشارة إلى تفاقم الفتن بين عبد الملك و بين الخوارج و عبد الرّحمن بن الأشعث (و ماجت الحرب بأمواجها) كالبحر المتلاطم التيار المتراكم الزّخار (و بدا من الأيام كلوحها) نسبة الكلوح إلى الأيام من التوسّع في الاسناد و أراد به كثرة ما يلقى النّاس فيها من العبوس و سواء الحال و كذلك نسبة الكدوح إلى الليالي في قوله (و من اللّيالي كدوحها) و هو إشارة إلى ما يبتلى به النّاس فيها من المصائب الشبيهة بآثار الجراحات و الخدوش و الجنايات.
(فاذا أينع زرعه) أراد به انتظام أمره و كمال شوكته (و قام على ينعه) أى على نضجه و كماله (و هدرت شقاشقة) و هو إشارة إلى ظهور طغيانه و بأسه (و برقت بوارقه) أى سيوفه و رماحه البارقة (عقدت رايات الفتن المعضلة) أى الموجبة للاعضال و الاشكال أو التي يعيي عن رفعها و علاجها (و أقبلن كاللّيل المظلم) وجه تشبيهها بالليل كونها لا يهتدى فيها إلى حقّ كما لا يهتدى في ظلمة اللّيل إلى المقصد (و البحر الملتطم) أى كثير الأمواج و تشبيهها به في عظمها، و في التّوصيف بالملتطم اشارة إلى خلط الخلق فيها بعضهم ببعض و محق بعضهم بعضا كما يلتطم الأمواج بعضها بعضا هذا.
و قال الشارح أراد بعقد رايات الفتن الموصوفة بالأوصاف المذكورة ما وقع بعد عبد الملك من حروب أولاده مع بني المهلّب و حروبهم مع زيد بن عليّ عليه السّلام و الفتن الكائنة بالكوفة أيّام يوسف بن عمر و خالد القسرى و عمر بن هبيرة و غيرهم و ما جرى فيها من الظلم و استيصال الأموال و ذهاب النفوس.
و إلى ذلك أشار عليه السّلام بقوله (هذا و كم يخرق الكوفة) أى يجوبها و يقطعها (من) ريح (قاصف) و هى التي تقصف كلّ ما مرّت عليه (و تمرّ عليها من) ريح (عاصف) قال الشارح البحراني: استعار وصفى القاصف و العاصف لما يمرّ بها و يجرى على أهلها من الشدائد.
ثمّ قال عليه السّلام (و عن قليل تلتفّ القرون بالقرون و يحصد القائم و يحطم المحمود) أى بعد برهة من الزّمان تجتمع الام بالامم و تختلط أجيال النّاس بعضهم ببعض، و حصد القائم و حطم المحصود، قيل: اشارة إلى عموم البلاء، و حصد القائم كناية عن قتل القوى، و حطم المحصود كناية عن استيصال الضّعيف.
و قال الشارح البحرانى: كنّى عليه السّلام بالتفاف بعضهم ببعض عن اجتماعهم في بطن الأرض، و استعار لهم لفظ الحصد و الحطم لمشابهتهم الزّرع يحصد قائمه و يحطم محصوده، فكنّى بحصدهم عن قتلهم أو موتهم، و بحطم محصودهم عن فنائهم و تفرّق أوصالهم فى التراب.
و قال الشارح المعتزلي: و هو كناية عن الدّولة العبّاسية التي ظهرت على دولة بنى اميّة، و يحصد القائم و يحطم المحصود كناية عن قتل الأمراء من بنى اميّة في الحرب، ثم قتل الماسورين منهم صبرا، فحصد القائم قتل المحاربة، و حطم الحصيد القتل صبرا، و هكذا وقعت الحال مع عبد اللّه بن عليّ و أبي العبّاس السّفاح.
و قيل: التفافهم كناية عن جمعهم في موقف الحساب أو طلب بعضهم مظالمهم من بعض، و حصدهم عن ازالتهم عن موضع قيامهم أى الموقف وسوقهم إلى النّار، و حطمهم عن تعذيبهم في نار جهنم، و اللّه العالم بحقايق الكلام.
|