و تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، و تفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، و استشفوا بنوره فإنّه شفاء الصّدور، و أحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص، فإنّ العالم العامل بغير علمه، كالجاهل الحائر الّذي لا يستفيق من جهله، بل الحجّة عليه أعظم، و الحسرة له ألزم، و هو عند اللّه ألوم.
اللغة
(الحائر) المتحيّر.
المعنى
(و تعلّموا القرآن فانّه أحسن الحديث) أى أحسن الكلام، و سمّى الكلام به لتجدّده و حدوثه شيئا فشيئا، و قد مضى في شرح الفصل السّابع عشر من فصول الخطبة الاولى بعض امور المهمّة المتعلّقة بالقرآن، و لعلوّ مقامه و سموّ مكانه و حسن نظمه و جلالة قدره و بعد غوره و عذوبة معناه و دقّة مغزاه و اشتماله على ما لم يشتمل عليه غيره من كلام المخلوقين كان أحسن الكلام و أمر عليه السّلام بتعلّمه بذلك الاعتبار مضافا إلى ما يترتّب على تعلّمه من عظيم الفوائد و مزيد القسم و العوايد.
كما يشهد به ما رواه ثقة الاسلام الكلينيّ عطر اللَّه مضجعه عن عليّ بن محمّد عن عليّ بن العبّاس عن الحسين بن عبد الرّحمن عن سفيان الحريري عن أبيه عن سعد الخفاف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: يا سعد تعلّموا القرآن فانّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليه الخلق، و النّاس صفوف عشرون و مأئة ألف صفّ ثمانون ألف صفّ امّة محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أربعون ألف صفّ من ساير الامم فيأتي على صفّ المسلمين في صورة رجل فيسلّم فينظرون إليه، ثمّ يقولون: لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم إنّ هذا الرّجل من المسلمين نعرفه بنعته و صفته غير أنه كان أشدّ اجتهادا منّافي القرآن، فمن هناك اعطى من البهاء و الجمال و النور ما لم نعطه، ثمّ يتجاوز حتّى يأتي على صفّ الشهداء فينظر إليه الشهداء ثمّ يقولون لا إله إلّا اللَّه الرّبّ الرّحيم انّ هذا الرّجل من الشّهداء نعرفه بسمته و صفته غير أنّه من شهداء البحر فمن هناك اعطى من البهاء و الفضل ما لم نعطه، قال فيجاوز حتّى يأتي صفّ شهداء البحر في صورة شهيد فينظر إليه شهداء البحر فيكثر تعجّبهم و يقولون إنّ هذا من شهداء البحر نعرفه بسمته و صفته غير أنّ الجزيرة التي اصيب فيها كانت أعظم هولا من الجزيرة «الجزائر خ» التي اصبنا فيها فمن هناك اعطى من البهاء و الجمال و النّور ما لم نعطه، ثمّ يجاوز حتّى يأتي صفّ النبيّين و المرسلين في صورة نبيّ مرسل، فينظر النّبيون و المرسلون إليه فيشتدّ لذلك تعجّبهم و يقولون: لا إله إلّا اللَّه الحليم الكريم إنّ هذا النبيّ مرسل نعرفه بصفته و سمته غير انه اعطى فضلا كثيرا، قال: فيجتمعون فيأتون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فيسألونه و يقولون: يا محمّد من هذا فيقول لهم: أو ما تعرفونه فيقولون: ما نعرفه هذا ممّن لم يغضب اللَّه عليه فيقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: هذا حجّة اللَّه على خلقه فيسلم، ثمّ يجاوز حتّى يأتي على صفّ الملائكة في صورة ملك مقرّب فينظر اليه الملائكة فيشتدّ تعجّبهم و يكبر ذلك عليهم لما رأوا من فضله و يقولون: تعالى ربّنا و تقدّس إنّ هذا العبد من الملائكة نعرفه بسمته و وصفه غير أنّه كان أقرب الملائكة إلى اللَّه عزّ و جلّ مقاما فمن هناك البس من النور و الجمال ما لم نلبس، ثمّ يجاوز حتّى ينتهى إلى ربّ العزّة تبارك و تعالى فيخرّ تحت العرش فيناديه تبارك و تعالى: يا حجّتي في الأرض و كلامي الصادق الناطق ارفع رأسك و سل تعط و اشفع تشفع، فيرفع رأسه فيقول اللَّه تبارك: كيف رأيت عبادى فيقول: يا ربّ منهم من صانني و حافظ علىّ و لم يضيّع شيئا، و منهم من ضيّعنى و استخفّ بحقّي و كذب بي و أنا حجّتك على جميع خلقك فيقول اللَّه تبارك و تعالى: و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لاثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب، و لأعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب، قال فيرفع القرآن رأسه في صورة اخرى قال: فقلت له: يا ابا جعفر في أيّ صورة يرجع قال: في صورة رجل شاحب متغيّر ينكره أهل الجمع، فيأتي الرّجل من شيعتنا الذي كان يعرفه و يجادل به أهل الخلاف فيقوم بين يديه فيقول: ما تعرفني فينظر إليه الرّجل فيقول: ما أعرفك يا عبد اللَّه، قال: فيرجع في صورته التي كانت في الخلق الأوّل، فيقول: ما تعرفني فيقول: نعم، فيقول القرآن: أنا الذي أسهرت ليلك و أنصبت عيشك، و سمعت فيّ الأذى و رجمت بالقول، ألا و انّ كلّ تاجر قد استوفى تجارته و انا وراءك اليوم، قال: فينطلق به إلى ربّ العزّة تبارك و تعالى فيقول: يا ربّ عبدك و أنت أعلم به قد كان نصبا بى مواظبا علىّ يعادي بسببي و يحبّ فيّ و يبغض، فيقول اللَّه عزّ و جلّ ادخلوا عبدي جنّتي و اكسوه حلّة من حلل الجنّة و توّجوه بتاج، فاذا فعل به ذلك عرض على القرآن فيقول له: هل رضيت بما صنع بوليّك فيقول: يا ربّ إنيّ أستقلّ هذا له فزده مزيد الخير كلّه، فيقول عزّ و جلّ: و عزّتي و جلالي و علوّي و ارتفاع مكاني لأنحلنّ له اليوم خمسة أشياء مع المزيد له و لمن كان بمنزلته ألا أنّهم شباب لا يهرمون، و أصحّاء لا يسقمون، و أغنياء لا يفتقرون، و فرحون لا يحزنون، و أحياء لا يموتون، ثمّ تلا هذه الآية لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى .
قال قلت: يا أبا جعفر و هل يتكلّم القرآن فتبسّم عليه السّلام ثمّ قال: رحم اللَّه الضّعفاء من شيعتنا إنهم أهل تسليم، ثمّ قال عليه السّلام: نعم يا سعد و الصّلاة تتكلّم، و له صورة و خلق تأمر و تنهى، قال سعد: فتغيّر لذلك لونى و قلت: هذا شي ء لا أستطيع التكلّم به في النّاس، فقال أبو جعفر عليه السّلام: و هل الناس إلّا شيعتنا، فمن لم يعرف الصّلاة فقد أنكر حقّنا، ثمّ قال: يا سعد اسمعك كلام القرآن قال سعد: فقلت: بلى صلّى اللَّه عليك، فقال: إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر اللَّه أكبر، فالنهى كلام و الفحشاء و المنكر رجال و نحن ذكر اللَّه و نحن أكبر (و تفقّهوا فيه) أى تفهّموا في القرآن (فانه ربيع القلوب) و استعار له لفظ الرّبيع باعتبار كونه جامعا لأنواع الأسرار العجيبة و النكات البديعة و المعاني اللّطيفة و العلوم الشريفة التي هي متنزّه القلوب كما أنّ الرّبيع جامع لأنواع الأزهار و الرياحين التي هي مطرح الأنظار و مستمتع الأبصار و محصّل المعنى أنّه يجب عليكم أخذ الفهم في القرآن كيلا تحرموا من فوائده و لا تغفلوا عن منافعه فانه بمنزلة الرّبيع المتضمّن للفوائد الكثيرة و المنافع العظيمة هذا.
و يحتمل أن يكون المراد بالتفّقه التبصّر على حذو ما ذهب اليه بعض الشارحين في شرح قوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: من حفظ على أمّتي أربعين حديثا بعثه اللَّه فقيها عالما، حيث قال: ليس المراد به الفقه بمعنى الفهم فانه لا يناسب المقام، و لا العلم بالأحكام الشرعية عن أدلّتها التفصيليّة فانه مستحدث، بل المراد البصيرة في أمر الدّين، و الفقه أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعني، و إليها أشار صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بقوله: لا يفقه العبد كلّ الفقه حتّى يمقت الناس في ذات اللَّه و حتّى يرى للقرآن وجوها كثيرة ثمّ يقبل على نفسه فيكون لها أشدّ مقتا.
ثمّ قال: هذا البصيرة إمّا موهبيّة و هي التي دعا بها النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام حين أرسله إلى اليمن حيث قال: اللّهم فقّهه في الدّين، أو كسبيّة و هى التي أشار اليها أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال لولده الحسن عليه السّلام و تفقّه يا بنيّ في الدّين انتهى.
و على هذا الاحتمال فتعليل الأمر بالتفقّه بكونه ربيعا إشارة إلى أنّ الرّبيع كما أنّه مورد الاعتبار بما أودع اللَّه فيه من عجايب العبر و الأسرار و أخرج فيه من بدايع النبات و الأزهار و غيرها من شواهد الحكمة و آثار القدرة، فكذلك القرآن محلّ الاستبصار بما تضمنّه من حكاية حال الامم الماضية و القرون الخالية و تفصيل ما أعطاه اللَّه سبحانه للمطيعين من عظيم الثواب و جزاه للمسيئين من أليم العقاب و العذاب، و غير ذلك مما فيه تذكرة لاولى الأبصار و تبصرة لأولى الألباب (و استشفوا بنوره فانه شفاء الصدور) من الاسقام الظاهرة و الباطنة و الأمراض الحسيّة و العقليّة.
كما يدلّ عليه ما رواه في الكافي باسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى و مصابيح الدّجى، فليجل جال بصره و يفتح للضياء نظره، فانّ التّفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنّور.
و فيه عن أبي جميلة قال قال: أبو عبد اللَّه عليه السّلام: كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام لأصحابه: اعلموا أنّ القرآن هدى النهار و نور الليل المظلم على ما كان من جهل و فاقة.
و فيه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوافلي عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عن آبائه عليهم السّلام قال: شكى رجل النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم وجعا في صدره فقال: استشف بالقرآن فانّ اللَّه عزّ و جلّ يقول و شفاء لما في الصّدور، إلى غير ذلك مما لا نطيل بروايتها و يأتي طائفة كثيرة منها في شرح الفصل الرابع من فصول الخطبة المأة و السابعة و التسعين إنشاء اللَّه تعالى (و أحسنوا تلاوته فانّه أنفع القصص) يعني أنه لما كان أحسن القصص و أنفعها كما يرشد إليه قوله تعالى: نحن نقصّ عليك أحسن القصص، لا جرم ينبغي أن يحسن تلاوته و أن يتلى حقّ التلاوة بحسن التّدبّر و النظر لتدرك منافع قصصه و تنال بها فيها من الفوائد العظيمة.
روى في الكافي باسناده عن عبد اللَّه بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قول اللَّه عزّ و جلّ: و رتّل القرآن ترتيلا، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بيّنه تبيانا و لا تهذّه هذّ الشعر و لا تنثره نثر الرّمل و لكن افرغوا قلوبكم القاسية و لا يكن همّ أحدكم آخر السّورة.
ثمّ إنه عليه السّلام لما أمر بتعلّم القرآن و عقّبه بامور ملازمة للعمل به من التفقّه فيه و الاستشفاء بنوره و حسن تلاوته، علّل ذلك بقوله: (فانّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحاير) أى المتحيّر (الّذى لا يستفيق من جهله) في اشتراكهما في التورّط في الضلال و العدول عن قصد السبيل (بل الحجّة عليه أعظم) لانقطاع معذرته بمعرفته و عدم تمكّنه من أن يعتذر و يقول: إنّا كنّا عن هذا غافلين و قد مرّ في شرح الفصل الثاني من فصول الخطبة الثانية و الثمانين تحقيق الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه، و روينا هنالك عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنه قال: يا حفص يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد (و الحسرة له ألزم) كما يوضحه رواية سليم بن قيس الهلالى المتقدّمة ثمّة و قال الشارح البحراني «قد»: إنّ النفوس الجاهلة غير عالمة بمقدار ما يفوتها من الكمال بالتفصيل فإذا فارقت أبدانها فهى و إن كانت محجوبة عن ثمار الجنّة و ما أعدّها اللَّه فيها لأوليائه العلماء، إلّا أنها لما لم تجد لذّتها و لم تطعم حلاوة المعارف الالهية لم تكن لها كثير حسرة عليها و لا أسف على التقصير في تحصيلها، بخلاف العارف بها العالم بنسبتها إلى اللّذات الدّنيويّة، فانّه بعد المفارقة إذا علم و انكشف له أنّ الصارف له و المانع عن الوصول إلى حضرة جلال اللَّه هو تقصيره في العمل بما علم مع علمه بمقدار ما فاته من الكمالات و الدّرجات، كان أسفه و حسرته على ذلك أشدّ الحسرات، و جرى ذلك مجرى من علم قيمة جوهرة ثمينة تساوى جملة من المال ثمّ اشتغل عن تحصيلها ببعض لعبه فانّه يعظم حسرته عليها و ندمه على التفريط فيها بخلاف الجاهل بقيمتها (و هو عند اللَّه ألوم) و شدّة اللّائمه مساوق لشدة العقوبة، و هو باعتبار أنّ عدم قيامه بوظايف علمه و اتّباعه هواه كاشف عن منتهى جرأته على مولاه، فبذلك يستحقّ من اللؤم و العتاب و الخزى و العذاب ما لا يستحقّه غيره ممّن ليس له هذه الجرأة، فهو عند اللَّه أشد لؤما و عتابا، و أعظم نكالا و عقابا
تكملة
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة حسبما أشرنا إليه ملتقطة من خطبة طويلة روى تمامها الشيخ المحدّث الثقة أبي محمّد الحسن بن عليّ بن شعبة قدّس اللَّه سرّه في كتاب تحف العقول.
قال: خطبته عليه السّلام المعروفة بالدّيباج: الحمد للَّه فاطر الخلق و خالق الاصباح و منشر الموتى و باعث من في القبور، و أشهد أن لا اله إلا اللَّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم عباد اللَّه إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللَّه جلّ ذكره الايمان باللَّه و برسله و ما جاءت به من عند اللَّه، و الجهاد في سبيله فانه ذروة الاسلام، و كلمة الاخلاص فانها الفطرة، و إقامة الصلاة فانّها الملّة، و إيتاء الزكاة فانها فريضة و صوم شهر رمضان فانّه جنّة حصينة، و حجّ البيت و العمرة فانهما ينفيان الفقر و يكفّر ان الذنب و يوجبان الجنّة، و صلة الرّحم فانها ثروة في المال و منساة في الأجل و تكثير للعدد، و الصّدقة في السّر فانها تكفّر الخطاء و تطفى غضب الرّب تبارك و تعالى، و الصّدقة في العلانية فانها تدفع ميتة السوء، و صنايع المعروف أنها تقى مصارع السوء، و أفيضوا في ذكر اللَّه جلّ ذكره فانه أحسن الذكر، و هو أمان من النفاق و برائة من النار و تذكير لصاحبه عند كلّ خير يقسمه اللَّه جلّ و عزّ له دويّ تحت العرش، و ارغبوا فيما وعد المتّقون فانّ وعد اللَّه أصدق الوعد، و كلّما وعد فهو آت كما وعد، فاقتدوا بهدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فانّه أفضل الهدي، و استنّوا بسنّته فانها أشرف السنن، و تعلّموا كتاب اللَّه تبارك و تعالى فانه أحسن الحديث و أبلغ الموعظة، و تفقّهوا فيه فانه ربيع القلوب، و استشفوا بنوره فانّه شفاء لما في الصّدور، و أحسنوا تلاوته فانّه أحسن القصص، و إذا قرء عليكم القرآن فاستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون، و إذا هديتم لعلمه فاعلموا بما علمتم من علمه لعلّكم تفلحون.
فاعلموا عباد اللَّه أنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذى لا يستفيق من جهله، بل الحجّة عليه أعظم و هو عند اللَّه ألوم و الحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه مثل ما على هذا الجاهل المتحيّر في جهله و كلاهما حاير باير مضلّ مفتون مبتور ما هم فيه و باطل ما كانوا يعملون.
عباد اللَّه لا ترتابوا فتشكّوا، و لا تشكّوا فتكفروا فتندموا، و لا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا و تذهب بكم الرّخص مذاهب الظلمة فتهلكوا، و لا تداهنوا في الحقّ إذا ورد عليكم و عرفتموه فتخسروا خسرانا مبينا.
عباد اللَّه إنّ من الحزم أن تتّقوا اللَّه، و إنّ من العصمة أن لا تغترّوا باللَّه.
عباد اللَّه إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربّه، و أغشّهم لنفسه أعصاهم له عباد اللَّه إنه من يطع اللَّه يأمن و يستبشر، و من يعصيه يخب و يندم و لا يسلم عباد اللَّه سلوا اللَّه اليقين فانّ اليقين رأس الدّين، و ارغبوا اليه في العافية فانّ أعظم النعمة العافية فاغتنموها للدّنيا و الآخرة و ارغبوا اليه في التوفيق فانه اسّ وثيق، و اعلموا أنّ خير ما لزم القلب اليقين، و أحسن اليقين التّقى، و أفضل امور الحقّ عزائمها، و شرّها محدثاتها، و كلّ محدثة بدعة و كلّ بدعة ضلالة، و بالبدع هدم السّنن، المغبون من غبن دينه، و المغبوط من سلم له دينه و حسن يقينه، و السّعيد من وعظ بغيره، و الشقى من انخدع لهواه.
عباد اللَّه اعلموا أنّ يسير الرّياء شرك، و انّ اخلاص العمل اليقين، و الهوى يقود إلى النار، و مجالسة أهل الهوى ينسى القرآن و يحضر الشّيطان، و النسى ء زيادة في الكفر و اعمال العصاة تدعو الى سخط الرّحمن و سخط الرّحمن يدعو إلى النّار، و محادثة النساء تدعو إلى البلاء و تزيغ القلوب، و الرّمق لهنّ يخطف نور أبصار القلوب، و لمح العيون مصائد الشيطان، و مجالسة السّلطان يهيج النّيران.
عباد اللَّه أصدقوا فانّ اللَّه مع الصّادقين، و جانبوا الكذب فانّه مجانب للايمان و إنّ الصّادق على شرف منجاة و كرامة، و الكاذب على شفا مهواة و هلكة، و قولوا الحقّ تعرفوا به، و اعملوا به تكونوا من أهله، و أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها، و صلوا أرحام من قطعكم، و عودوا بالفضل على من حرمكم، و إذا عاقدتم فأوفوا، و إذا حكمتم فاعدلوا، و إذا ظلمتم فاصبروا، و إذا اسي ء إليكم فاعفوا و اصفحوا كما تحبّون أن يعفى عنكم، و لا تفاخروا بالآباء، و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان، و لا تمازحوا، و لا تغاضبوا، و لا تباذخوا، و لا يغتب بعضكم بعضا أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا، و لا تحاسدوا فانّ الحسد يأكل الايمان كما تأكل النّار الحطب، و لا تباغضوا فانها الحالقة، و افشوا السّلام في العالم، و ردّوا التحيّة على اهلها بأحسن منها، و ارحموا الأرملة و اليتيم، و اعينوا الضعيف و المظلوم و الغارمين و في سبيل اللَّه و ابن السّبيل و السّائلين و في الرّقاب و المكاتب و المسكين، و انصروا المظلوم، و اعطوا الفروض، و جاهدوا انفسكم في اللَّه حقّ جهاده فانّه شديد العقاب، و جاهدوا في سبيل اللَّه، و أقروا الضيف و أحسنوا الوضوء، و حافظوا على الصّلوات الخمس في أوقاتها، فانها من اللَّه عزّ و جلّ بمكان.
« فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ... فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» « تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ» «وَ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».
و اعلموا عباد اللَّه أنّ الأمل يذهب العقل و يكذب الوعد و يحثّ على الغفلة و يورث الحسرة، فاكذبوا الأمل فانّه غرور و أنّ صاحبه مأزور، فاعملوا في الرغبة و الرهبة فان نزلت بكم رغبة فاشكروا و اجمعوا معها رغبة، فانّ اللَّه قد تأذّن للمسلمين بالحسنى و لمن شكر بالزيادة، فانّى لم أر مثل الجنّة نام طالبها، و لا كالنّار نام هاربها، و لا أكثر مكتسبا ممن كسبه ليوم تذخر فيه الذخائر و تبلى فيه السّراير، و أنّ من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل، و من لا يستقيم به الهدى تضرّه الضّلالة، و من لا ينفعه اليقين يضرّه الشّك و انكم قد امرتم بالظعن و دللتم على الزّاد، ألا انّ أخوف ما أتخوّف عليكم اثنان: طول الأمل و اتّباع الهوى ألا و إنّ الدّنيا أدبرت و آذنت بانقلاع، ألا و انّ الآخرة قد أقبلت و آذنت باطلاع، ألا و إنّ المضمار اليوم و السباق غدا، ألا و إنّ السبقة الجنّة و الغاية النار، ألا و إنكم في أيّام مهل من ورائه أجل يحثّه عجل فمن أخلص للَّه عمله في أيّامه قبل حضور أجله نفعه عمله و لم يضرّه أجله، و من لم يعمل في أيّام مهله ضرّه أجله و لم ينفعه عمله عباد اللَّه أفزعوا إلى قوام دينكم باقام الصّلاة لوقتها، و ايتاء الزكاة في حينها و التضرّع و الخشوع و صلة الرّحم، و خوف المعاد و إعطاء السّائل و إكرام الضعيفة و الضعيف و تعلّم القرآن و العمل به و صدق الحديث و الوفاء بالعهد و أداء الأمانة إذا ائتمنتم، و ارغبوا في ثواب اللَّه و ارهبوا عذابه و جاهدوا في سبيل اللَّه بأموالكم و أنفسكم، و تزوّدوا من الدّنيا ما تحرزون به أنفسكم و اعملوا بالخير تجزوا بالخير يوم يفوز بالخير من قدّم الخير، أقول قولي و أستغفر اللَّه لي و لكم.
بيان
لا يخفى على الضّابط المحيط بما تقدّمت من الخطب أن الأشبه أن تكون الخطبة الثّامنة و العشرون، و أو آخر الخطبة الخامسة و الثمانين، و هذه الخطبة التي نحن في شرحها جميعا ملتقطة من تلك الخطبة المعروفة بالدّيباج، فانّك إذا لاحظتها ترى توافق هذه الخطبة لأوائل تلك الخطبة، و أواخر الخامسة و الثمانين لأواسطها، و الثامنة و العشرين لأواخرها، و إن كان بينها اختلاف يسير في بعض العبارات، و تقديم و تأخير في بعض الفقرات، و لا ضير فيه فانّه من تفاوت مراتب حفظ الرّواة في القوّة و الضعف، و هو عمدة جهات الاختلاف في الأخبار كما هو غير خفىّ على اولى الأبصار.
|