أ فهذه تؤثرون أم إليها تطمئنّون أم عليها تحرصون فبئست الدّار لمن لم يتّهمها و لم يكن فيها على وجل منها، فاعلموا و أنتم تعلمون بأنّكم تاركوها و ظاعنون عنها، و اتّعظوا فيها بالّذين قالوا من أشدّ منّا قوّة، حملوا إلى قبورهم، فلا يدعون ركبانا، و أنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا، و جعل لهم من الصّفيح أجنان، و من التّراب أكفان، و من الرّفات جيران، فهم جيرة لا يجيبون داعيا، و لا يمنعون ضيما، و لا يبالون مندبة، إن جيدوا لم يفرحوا، و إن قحطوا لم يقنطوا، جميع و هم آحاد، و جيرة و هم أبعاد، متدانون لا يتزاورون، و قريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، و جهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، و لا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطنا، و بالسّعة ضيقا، و بالأهل غربة، و بالنّور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة، قد ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة، و الدّار الباقية، كما قال سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ.
الاعراب
و في قوله: أ فهذه تؤثرون، على سبيل التوبيخ و التقريع، و قوله: فاعلموا و أنتم تعلمون بأنّكم تاركوها، تعدية اعلموا بالباء لتضمينه معنى اليقين، أو أنّ الباء زايدة و جملة و أنتم تعلمون معترضة على حدّ قوله:
- ألا هل أتاها و الحوادث جمّةبأنّ امرء القيس بن تملك يبقرا
فانّ جملة و الحوادث جمّة معترضة بين الفعل أعنى أتاها، و معموله الذى هو بأن اه. و الباء زايدة فيه أيضا و يحتمل جعل الجملة حالا من مفعول اعلموا فتكون في محلّ النصب، و على هذا فهى في المعنى قيد لعامل الحال و وصف له بخلاف ما لو كانت معترضة فانّ لها تعلّقا بما قبلها لكن ليست بهذه المرتبة أشار إلى ذلك صاحب الكشاف في تفسير قوله « ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ».
حيث قال: انّه حال أى عبدتم العجل و أنتم واضعون العبادة في غير موضعها، او اعتراض، أى و أنتم عادتكم الظلم هذا.
و في بعض نسخ المتن: فاعلموا، بدل فاعلموا، و عليه فتكون قوله عليه السّلام بأنّكم معمولا لتعلمون، كما هو واضح.
المعنى
(أ فهذه) الغدّارة الغرّارة (تؤثرون أم اليها تطمئنّون أم عليها تحرصون) مع ما رأيتم من مكائدها و جرّبتم من خياناتها (فبئست الدار لمن لم يتّهمها) في نفسه (و لم يكن فيها على و جل منها) على عرضه فكانت موجبة لهلاكه و عطبه و أمّا المتّهم لها بالخديعة و الغرور و الخائف منها و الحذر فنعمت الدّار في حقّه لكونه منها على و جل دائم و خوف لازم، فيأخذ حذره بعد عدّته و يقدم الزاد ليوم المعاد و يتزوّد لحال رحيله و وجه سبيله (فاعلموا و أنتم تعلمون) و استيقنوا (بأنكم تاركوها و ظاعنون) أى مرتحلون (عنها و اتّعظوا فيها بالّذين) كانوا قبلكم و (قالوا من أشدّ منّا قوّة) و عدّة و انتقلوا عن دورهم و (حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا و انزلوا الأجداث) بعد الادعاث«» (فلا يدعون ضيفانا) يعنى انهم انقطعت عنهم بعد ارتحالهم أسماء، الأحياء فلا يسمّون بالركبان و لا بالضيفان و كانت عادة العرب انهم إذا ركبوا يسمّون ركبانا، و إذا نزلوا يسمّون ضيفانا، و هؤلاء الأموات مع كون الجنائز حمولة لهم و كونهم محمولين عليها كالراكبين لا يطلق عليهم اسم الركب«»، و كذلك هم مع نزولهم بالأجداث و القبور لا يطلق عليهم اسم الضيف و ان كان تسمية الضيف إنما هى بذلك الاسم باعتبار نزوله، و هذا الاعتبار موجود فيهم مأخوذ من ضافه ضيفا إذا نزل عنده فافهم (و جعل لهم من الصّفيح أجنان) أى من وجه الأرض العريض قبور (و من التراب أكفان) و في بعض النسخ بدله أكنان، و هى السّتاير جمع الكن و هى السترة أى ما يستتر به، و على ذلك فالكلام على حقيقته، و على الرواية الاولى فلا بدّ من ارتكاب المجاز بأن يقال إنّ جعل التراب أكفانا لهم باعتبار إحاطته عليهم كالأكفان أو باعتبار المجاورة بينه و بينها، أو من أجل اندراس الكفن و انقلابه ترابا كما قيل، و الأظهر الأوّلان (و من الرفات) و العظام البالية (جيران فهم جيرة) أى جيران كما في بعض النسخ (لا يجيبون داعيا و لا يمنعون ضيما) أى ظلما عن أنفسهم أو عمّن استجار بهم لانقطاع الاقتدار عنهم (و لا يبالون مندبة) أى لا يكترثون بالندب و البكاء على ميّت (إن جيدوا لم يفرحوا و إن قحطوا لم يقنطوا) يعنى أنّهم إن جادت السماء عليهم بالمطر لا يفرحون و ان احتبست عنهم المطر لا ييأسون كما هو شأن. الأحياء فانّهم يفرحون عند الخصب و يحزنون عند الجدب (جميع) أى مجتمعون (و هم آحاد) متفرّدون (و جيرة و هم أبعاد) متباعدون (متدانون لا يتزاورون و قريبون لا يتقاربون) إلى هذا المعنى نظر السّجاد عليه السّلام في ندبته حيث قال:
- و اضحوا رميما في التراب و اقفرتمجالس منهم عطّلت و مقاصر
- و حلّوا بدار لا تزاور بينهم و أنّى لسّكان القبور التزاور
- فما أن ترى إلّا جثي قد ثووا بهامسنمة تسفى عليه الأعاصر
و قال آخر:
- لكلّ اناس معمر في ديارهمفهم ينقصون و القبور يزيد
- فكاين ترى من دار حيّ قد اخربت و قبر بأكنان التّراب جديد
- هم جيرة الأحياء أما مزارهمفدان و أمّا الملتقى فبعيد
(حلماء قد ذهبت أضغانهم و جهلاء قد ماتت أحقادهم) يعنى أنهم بموتهم و انقطاع مادّة الحياة عنهم صار و احلماء جهلاء لا يشعرون شيئا فارتفع عنهم الضغن و الحقد و الحسد و ساير الصّفات النفسانيّة المتفرّعة عن الحياة، و توصيفهم بالحلم و الجهل في تلك الحال من باب التوسّع و المجاز باعتبار أنهم لا يستفزّهم الغضب و لا يشعرون و إلّا فالحلم هو الصّفح و الاناة و العقل و الجهل عدم العلم عمّن من شأنه أن يكون عالما و هما من صفات الأحياء كما لا يخفى.
(لا يخشى فجعهم و لا يرجى دفعهم) يعنى أنهم بارتفاع الاقتدار عنهم لا يخشون و لا يرجون فلا يخشى أحد من أن ينزل عليه بهم فجيعة و رزيّة و لا يرجو أحد أن يدفع بهم من نفسه نازلة و بلية (استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسّعة ضيقا و بالأهل غربة و بالنّور ظلمة).
- ضربوا بمدرجة الفناء قبائهممن غير أطناب و لا أوتاد
- ركب أناخوا لا يرجّى منهمقصد لاتهام و لا انجاد
- كرهوا النزول فانزلتهم وقعةللدّهر نازلة لكلّ مفاد«»
- فتهافتوا عن رحل كلّ مذلّلو تطاوحوا عن سرج كلّ جواد
- بادون في صور الجميع و انّهم متفرّدون تفرّد الأحياء
(فجاءوها كما فارقوها حفاتا عراتا) قيل:«» انّ المراد بمجيئهم اليها فيها و بمفارقتهم لها خروجهم عنها، و وجه الشبه كونهم حفاتا عراتا و قيل«» انّ المراد بمجيئهم اليها دفنهم فيها و بمفارقتهم لها خلقتهم منها كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ و هو أقرب من الأوّل بل أقوى، لأنّ جملة فجاءوها معطوفة على جملة استبدلوا، و الفاء العاطفة موضوع خطبه 111 نهج البلاغه بخش 5ة للتعقيب و الترتيب و لا ترتيب كما لا تعقيب بين مضمون الجملتين على الأوّل، و أمّا على الثاني فهو من قبيل عطف تفصيل المجمل على المجمل على حدّ قوله: وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي الآية و هاهنا لما ذكر عليه السّلام استبدا لهم بظهر الأرض بطنها عقّب ذلك ببيان تفصيل حالهم بأنّهم جاءوا اليها حالكونهم حافين عارين ليس لهم نعال و لا لبايس. و لكن ينبغي أن يعلم أنّ اللازم على هذا القول حمل المفارقة على الولادة حتّى يستقيم كونهم حفاتا عراتا.
أقول: و الأظهر عندى يرجع الضمير في قوله فجاءوها كما فارقوها إلى ظهر الأرض، و التأنيث باعتبار المضاف إليه، فانه قد يكتسب المضاف المؤنث من المضاف إليه المذكر التأنيث إذا صحّت اقامته مقامه كما في قوله: «كما شرقت صدر القناة من الدّم» و يراد بمجيئهم إليها بعثهم فيها و إعادتهم إليها بعد مفارقتهم لها كما قال تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ و على هذا فالأنسب جعل حفاتا عراتا حالين من ضمير الجمع في جاءوها لا فارقوها إلّا أنّه يبعده قوله: (قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة و الدّار الباقية) إذ الظاهر كونه حالا من فاعل فارقوها مؤكّدة لعاملها كما أنّ حفاتا عراتا مؤسّسة و إن أمكن توجيهه بأنّه على جعله حالا من ضمير جاءوها يكون فيه نحو من التوكيد أيضا، و يؤيّد ذلك أنّ الحياة الدائمة إنما هو بعد البرزخ و البعث.
فان قلت: هذا التوجيه ينافيه الضمير في عنها، لأنّ ظعنهم على ما ذكرت إنما هو عن بطن الأرض، و الضمير في جاءوها كان راجعا ظهر الأرض.
قلت: غاية الأمر يكون أنه من باب الاستخدام، و لا يقدح ذلك في كونه حالا منه فافهم جيدا، و يقرّب ما ذكرناه من الوجه استشهاده عليه السّلام بالآية الشريفة أعنى قوله (كما قال سبحانه) أى في سورة الأنبياء: يوم نطوى السّماء كطىّ السّجلّ للكتب (كما بدئنا أوّل خلق نعيده وعدا علينا إنّا كنّا فاعلين) فانّها مسوقة لبيان حال البعث و النشور، و معناها نبعث الخلق كما ابتدأناه، أى قدرتنا على الاعادة كقدرتنا على الابتداء.
روى في الصّافي عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أنه قال: تحشرون يوم القيامة عراتا حفاتا كما بدئنا أوّل خلق نعيده، و قيل معناها كما بدأناهم في بطون امّهاتهم حفاتا عراتا عز لا كذلك نعيدهم.
قال الطبرسيّ روى ذلك مرفوعا و هو يؤيّد القول الثاني أعني قول من قال أنّ المراد بفارقوها خلقهم منها و ان كان لا يخلو عن دلالة على ما استظهرناه أيضا فليتأمل و قوله تعالى: وعدا، منصوب على المصدر أى وعدناكم ذلك وعدا علينا انجازه إنّا كنّا فاعلين ذلك لا محالة.
تكملة
اعلم أنّ هذه الخطبة رواها المحدّث العلّامة المجلسي «قد» في البحار من كتاب مطالب السؤول لمحمّد بن طلحة باختلاف كثير أحببت ايرادها بتلك الطريق على عادتنا المستمرّة.
قال: قال عليه السّلام: احذّركم الدّنيا فانّها خضرة حلوة حفّت بالشّهوات و تخيبت بالعاجلة و عمّرت بالآمال و تزيّنت بالغرور و لا يؤمن فجعتها و لا يدوم خيرها، ضرّارة غدّارة غرّارة زايلة بايدة أكّالة عوّالة، لا تعدو إذا تناهت إلى امنيّة أهل الرّضا بها و الرّغبة فيها أن يكون كما قال اللَّه عزّ و جلّ: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ. على أنّ امرأ لم يكن فيها في حيرة «حبرة ظ» إلّا أعقبته بعدها عبرة، و لم يلق من سرّائها بطنا إلّا منحته من ضرّائها ظهرا، و لم تنله فيها ديمة رخاء إلّا هتنت عليه مزنة بلاء، و حرىّ إذا أصبحت له متنصّرة أن تمسى له متنكّرة، فان جانب منها اعذوذب لامرء و احلولى، أمرّ عليه جانب و أوباه، و ان لقى امرء من غضارتها زوّدته من نوابئها تعبا، و لا يمسى امرء منها في جناح أمن إلّا أصبح في خوافي خوف و غرور.
فانية فان من عليها من أقلّ منها استكثر مما تؤمنه و من استكثر منها لم تدم له و زال عما قليل عنه، كم من واثق بها قد فجعته و ذى طمأنينة اليها قد صرعته، و ذي خدع قد خدعته، و ذي ابّهة قد صيّرته حقيرا و ذي نخوة قد صيّرته خائفا فقيرا، و ذي تاج قد أكبّته لليدين و الفم، سلطانها دول، و عيشها رنق، و عذبها اجاج، و حلوها صبر، و غذائها سمام، و أسبابها رمام، حيّها بعرض موت، و صحيحها بعرض سقم، و منيعها بعرض اهتضام، عزيزها مغلوب، و ملكها مسلوب، و ضيفها مثلوب، و جارها محروب.
ثمّ من وراء ذلك هول المطلع و سكرات الموت و الوقوف بين يدي الحكم العدل ليجزى الّذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ألستم في منازل من كان أطول منكم أعمارا و آثارا، و أعدّ منكم عديدا، و أكثف جنودا و أشدّ منكم عنودا تعبّدوا الدّنيا أيّ تعبّد، و آثروها أىّ ايثار، ثمّ ظعنوا عنها بالصغار فهل يمنعكم أنّ الدّنيا سخت لهم بفدية أو أغنت عنهم فيما قد أهلكهم من خطب، بل قد أوهنتهم بالقوارع، و ضعضعتهم بالنوائب، و عفّرتهم للمناخر، و أعانت عليهم ريب المنون.
فقد رأيتم تنكّرها لمن دان بها و أجدّ اليها حتّى ظعنوا عنها بفراق ابدالى آخر المستند، هل أحلّتهم الّا الضنك، أو زوّدتهم إلّا التّعب، أو نورّت لهم إلّا الظلمة، أو أعقبتهم إلّا النّار، أ فهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إلى هذه تطمئنّون، يقول اللَّه جلّ من قائل: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فبئست الدار لمن لا يتّهمها و ان لم يكن فيها على و جل منها، اعلموا و أنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بدّ فانما هى كما نعّتها اللَّه لهو و لعب، و اتّعظوا بالذين كانوا يبنون بكلّ ريع آية تعبثون و يتّخذون مصانع لعلّهم يخلدون، و اتّعظوا بالّذين قالوا من أشدّ منّا قوّة، و اتّعظوا باخوانكم الّذين نقلوا إلى قبورهم لا يدعون ركبانا قد جعل لهم من الضّريح أكنانا و من التراب أكفانا و من الرّفات جيرانا، فهم جيرة لا يجيبون داعيا، و لا يمنعون ضيما، قد بادت أضغانهم، فهم كمن لم يكن و كما قال اللَّه عزّ و جلّ: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ استبدلوا بظهر الأرض بطنا، و بالسّعة ضيقا، و بالأهل غربة، جاءوها كما فارقوها بأعمالهم إلى خلود الأبد كما قال عزّ من قائل: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ
|