إنّه ليس شي ء بشرّ من الشرّ إلّا عقابه، و ليس شي ء بخير من الخير إلا ثوابه، و كلّ شي ء من الدّنيا سماعه أعظم من عيانه، و كلّ شي ء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السّماع، و من الغيب الخبر. و اعلموا أنّ ما نقص من الدّنيا و زاد في الآخرة خير ممّا نقص من الآخرة و زاد في الدّنيا، فكم من منقوص رابح، و مزيد خاسر، إنّ الّذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه، و ما أحلّ لكم أكثر ممّا حرّم عليكم، فذروا ما قلّ لما كثر، و ما ضاق لما اتّسع، قد تكفّل لكم بالرّزق، و أمرتم بالعمل، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنّه و اللَّه لقد اعترض الشّكّ و دخل اليقين حتّى كأنّ الّذي ضمن لكم قد فرض عليكم، و كأنّ الّذي فرض عليكم قد وضع عنكم، فبادروا العمل، و خافوا بغتة الأجل، فإنّه لا يرجا من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرّزق، ما فات اليوم من الرّزق رجي غدا زيادته، و ما فات أمس من العمر لم يرج رجعته، الرّجاء مع الجائي، و اليأس مع الماضي، « اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».
اللغة
(العيان) بالكسر المعاينة يقال لقيه عيانا أى معاينة لم يشكّ في رؤيته إيّاه و (دخل اليقين) أى تزلزل كما في قوله: كنت أرى اسلامه مدخولا، أى متزلزلا و (الرجعة) الرّجوع و (التقاة) الخوف و أصله تقية و زان تهمة.
الاعراب
طلبه بالرفع بدل اشتمال من المضمون و ليس فاعلا له على حدّ قولهم: جاءني المضروب أخوه، و ذلك لأنّ الرزق حصوله مضمون لا طلبه كما هو ظاهر، و يحتمل أن يكون رفعه بالابتداء و أولى بكم خبره، و جملة المبتدأ و الخبر في محلّ النصب خبرا ليكون، و الأول أحسن و أنسب.
المعنى
ثمّ نبّه على شدّة عقاب الآخرة و عظم ثوابها بقوله (إنّه ليس شي ء بشرّ من الشرّ إلّا عقابه و ليس شي ء بخير من الخير إلّا ثوابه) قال الشارح البحراني: يحتمل أن يريد الشرّ و الخير المطلقين و يكون ذلك للمبالغة إذ يقال للأمر الشريف: هذا أشدّ من الشديد و أجود من الجيد، و يحتمل أن يريد شرّ الدّنيا و خيرها، فانّ أعظم شرّ في الدّنيا مستحقر في عقاب اللَّه، و أعظم خير فيها مستحقر بالنسبة إلى ثواب اللَّه، انتهى.
و الاحتمال الأوّل أظهر، و عليه فالمراد انه ليس شي ء يكون أشرّ الأشياء، إلّا عقاب ذلك الشّي ء، و لا شي ء يكون أعظم الأشياء خيرا إلّا ثواب ذلك الشي ء.
إلّا أنّ الاحتمال الثاني يؤيّده قوله (و كلّ شي ء من الدّنيا) خيرا كان أو شرّا (سماعه أعظم من عيانه) أما خيرها فلأنّ الانسان لا يزال يحرص على تحصيل الدّرهم و الدّينار و ساير القنيات الدّنيويّة، و يكون قلبه مشغولا بتحصيلها مسرورا بانتظار وصولها، فاذا وصل إليها هانت عليه و ارتفع وقعها لديه كما يشهد به التجربه و الوجدان، و أمّا شرّها فلأنّ أعظم شرّ يتصوّرها الانسان بالسّماع و يستهوله و يستنكره ممّن يفعله هو صورة القتل و الجرح، فاذا وقع في مثل تلك الأحوال و اضطرّ إلى المخاصمة و القتال سهل عليه ما كان يستصعبه منها، و هو معنى قوله في بعض كلماته الآتية: إذا هبت أمرا فقع فيه.
(و كلّ شي ء من الآخرة) ثوابا كان أو عقابا (عيانه أعظم من سماعه) فانّ جلّ الخلق بل كلّهم إلّا الصّدّيقين إذا سمعوا أحوال الآخرة خيرها و شرّها إنما يتصوّرونها كأحوال الدّنيا و يزعمونها مثلها و يقيسونها إليها، بل بعضهم يتوهّمونها أهون منها مع أنّه لا نسبة لها إليها و لذلك قال عزّ من قائل في طرف الثواب: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و في طرف العقاب.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ.
حيث جعل الرّؤية بالعين أعلى المراتب لأنّه يحصل بها ما لا يحصل بغيرها، و أمّا الصّدّيقون فلا تفاوت لهم بين السّماع و العيان، فقد قال سيّدهم و رئيسهم: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
و حيث كانت أهوال الآخرة و شدايدها أعظم من أن تعبّر باللّسان و تدرك بالآذان و يطّلع عليها على ما هى عليها قبل خروج الأرواح من الأبدان (فليكفكم من العيان السّماع و من الغيب الخبر) أى ليكفكم من معاينة تلك الأهوال سماعها و ممّا غاب عنكم منها انبائها، و مما حجب منها أخبار المخبرين الصّادقين باخبارها لتأخذوا لها عدّتها و تهيّئوا لها جنّتها.
(و اعلموا أنّ ما نقص من الدّنيا و زاد في الآخرة خير ممّا نقص من الآخرة و زاد في الدّنيا) لأنّ ما يزاد للآخرة فهو باق دائم و ما يزاد للدّنيا فهو فان زائل و أيضا في زيادة الدّنيا طول الحساب و العقاب، و في زيادة العقبى مزيد الفوز و الثواب (فكم من منقوص رابح) كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و قال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (و) كم من (مزيد خاسر) لقوله سبحانه: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ و قوله تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية.
ثمّ قال (إنّ الّذى امرتم به أوسع ممّا نهيتم عنه و ما احلّ لكم أكثر مما حرّم عليكم) الأظهر أنّ الجملة الثانية توكيد للأولى فيكون المراد بالمأمور به في الأولى مطلق ما رخّص في ارتكابه فيعمّ الواجب و المندوب و المكروه و المباح بالمتساوى الطّرفين و بالنّهى عنه فيها ما نهى عنه نهى تحريم، و أوسعيّة الثاني بالنسبة إلى الأوّل على ذلك واضحة لأنّ المنهىّ عنه قسم واحد و المأمور به أقسام أربعة لا يقال: الأمر حقيقة في الوجوب على ما حقّق في الأصول فكيف يعمّ الأقسام لأنّا نقول: سلّمنا إلّا أنّه إذا قامت قرينة على المجاز لا يكون بأس بحمل اللفظ عليه و القرينة في المقام موجودة و هي الأوسعيّة و العلاقة هي اشتراك ساير الأقسام مع الواجب في أنّ كلا منها مأذون فيها مرخّص في فعلها و تناولها، و يدلّ على كثرة الحلال بالنسبة إلى الحرام صريحا قوله سبحانه: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. فانّ كلمة ما مفيدة للعموم و لفظ الجميع تأكيد لها، و اللّام للانتفاع فيدلّ على جواز الانتفاع بجميع ما في الأرض.
فان قلت: إنّ الآية لا تفيد العموم لأنّ شرط حمل المطلقات على العموم أن لا يكون المقام مقام الاجمال بل يكون مقام البيان، و ههنا ليس كذلك إذا المقصود بيان أنّ في خلق الأشياء منفعة لكم للايمان «للايماء ظ» أنّ جميع الأشياء مما ينتفع بها.
قلت: فيه بعد ما عرفت أنّ الموصول مفيد للعموم لا سيّما مع التوكيد بلفظ الجميع إنّ الآية واردة في مقام الامتنان المقتضى للتعميم كما لا يخفى، فيدلّ على إباحة الانتفاع و حلّه بجميع ما في الأرض فيكون الأصل الأوّلى في الجميع هو الحلّ و الاباحة إلى أن يقوم دليل على الحظر و الحرمة، فيحتاج إلى تخصيص ما ثبتت حرمته من عموم الآية، و يدلّ عليه أيضا قوله سبحانه: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فانّ تخصيص المحرّمات بما بعد إلّا دليل على أنّ غير المستثنى ليس حراما، و عدم وجدان النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم دليل على عدم وجود الحرمة واقعا، و يدلّ عليه أيضا قوله سبحانه: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، فانّ الطيّب هو ضدّ الخبيث الذي يتنفّر عنه الطّبع فيكون، المراد بالطّيبات ما تستلذّها الطباع فيدلّ على حلّية جميع المستلذّات و يخصّص بما دلّ على حرمة بعضها بالخصوص، و هذه الآيات تدلّ على إباحة جميع ما لم يقم دليل على حرمته، و لذا استدلّ بها الاصوليّون في مسألة الحظر و الاباحة على أنّ الأصل الأوّلى في الأشياء هو الاباحة.
و مثلها في الدّلالة عليها قوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهى، إلّا أنّ ذلك يدلّ على الاباحة الظاهريّة فيما شكّ في إباحته و حرمته، و هذه على الاباحة الواقعية، فمعناه أنّ كلّ شي ء مرخّص فيه من قبل الشارع حتّى يرد فيه نهى، فالناس في سعة مما لم يعلم بورود نهى فيه.
ثمّ انّ اصالة الاباحة كما تجرى في الأعيان مثل التفاح و نحوه بقوله: خلق لكم ما في الأرض جميعا، فيباح الأفعال المتعلّقة بها كذلك تجرى في الأفعال كالغنا مثلا ان فرض عدم قيام دليل على حرمته لقوله: احلّ لكم الطيبات، فالأصل المذكور يجرى في القسمين المذكورين من دون تأمّل.
و ربّما يقال: باختصاص اصالة الاباحة بالأعيان و أنّ الأصل الدّال على حلّية الأفعال يسمّى باصالة الحلّ فهما أصلان ناظران إلى موردين و نحن نقول إنّ ذلك لا بأس به إذ لا مشاحة في الاصطلاح لكن لا يختصّ أحدهما بالحجّية دون الآخر ضرورة أنّ الأدلة وافية بحجّيتهما معا و ان كانا مختلفي المورد.
و على ذلك فيمكن أن لا يجعل العطف في كلامه عليه السّلام تفسيريّا بأن يكون المراد بما امرتم به و ما نهيتم عنه الأعيان المباحة و المنهيّة، و بما حلّ و ما حرّم الأفعال المحلّلة و المحرّمة.
و كيف كان فلمّا أفصح عن كون المباح أوسع من المنهىّ و الحلال أكثر من الحرام أمر بترك المحرّمات و المنهيّات فقال (فذروا) أى اتركوا (ما قلّ لما كثر و ما ضاق لما اتّسع) يعني أنّه بعد ما كان الحرام قليلا و الحلال كثيرا فلا حرج عليكم في ترك الأوّل و أخذ الثاني، و لا عسر في ذلك و كذلك المباح و المحظور نعم لو كان الأمر بالعكس لكان التكليف أصعب، و لكنّه سبحانه منّ على عباده بما بين السّماء و الأرض، و جعل الملّة سمحة سهلة، و ما جعل في الدّين من حرج علما منه بضعف النفوس عن القيام بمراسم عبوديّته بمقتضى الجبلّة البشريّة، فسبحان اللَّه ما أعظم مننه و أسبغ نعمه و أوسع كرمه.
ثمّ نهى عن تقديم طلب الرّزق على الاشتغال بالعبادة و ترجيحه عليه فقال (قد تكفّل لكم بالرّزق و أمرتم بالعمل) أما الأمر بالعمل فواضح، و أمّا التكفّل بالرّزق فقد تقدّم الكلام فيه و في معنى الرّزق بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الأوّل من فصول الخطبة التسعين (فلا يكون المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله) و هذا يدلّ صريحا على المنع من ترجيح الطّلب على العمل حسب ما اشرنا إليه، و لا دلالة فيه على ترك الطّلب بالكليّة، بل المستفاد من الرّوايات الكثيرة كراهة ذلك مثل الأول.
منها ما رواه في الكافي باسناده عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام رجل قال لأقعدنّ في بيتى و لاصلّينّ و لأصومنّ و لأعبدنّ ربّي فأما رزقي فسيأتيني فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: هذا أحد الثلاثة الّذين لا يستجاب لهم.
و فيه عن معلّى بن خنيس قال سأل أبو عبد اللَّه عليه السّلام عن رجل و أنا عنده فقيل أصابته الحاجة، فقال: ما يصنع اليوم قيل في البيت يعبد ربّه، قال: فمن أين قوته قال: من عند بعض اخوانه، فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: و اللَّه للّذي يقوته أشدّ عبادة منه.
ثمّ وبّخهم بقوله (مع أنّه و اللَّه لقد اعترض الشّك و دخل اليقين) أى اعترض الشّك في المضمون و المفروض و تزلزل اليقين بضمان المضمون و بفرض المفروض (حتّى كأنّ الّذي ضمن لكم قد فرض عليكم) فبالغتم في تحصيله و طلبه و الجدّ له (و كأنّ الّذى فرض عليكم قد وضع عنكم) فتوانيتم فيه و لم تبالوا به (فبادروا العمل) المأمور به قبل حلول الموت (و خافوا بغتة الأجل) و فجأة الفوت (فانه لا يرجى من رجعة العمر) و عوده (ما يرجى من رجعة الرّزق) هذا في مقام التعليل للمبادرة إلى العمل و ترجيحه على طلب الرزق بيانه: أنّ العمر ظرف للعمل و ما فات و مضى منه فلا يعود و لا يرجى عوده و يفوت العمل كساير الزّمانيّات المتعلّقة به بفواته لا محالة و لا يمكن استدراكه بعينه فاذا وجب المبادرة إليه و الاتيان به و إليه اشير في قوله عليه السّلام:
- ما فات مضى و ما سيأتيك فأينقم فاغتنم الفرصة بين العدمين
و قال آخر:
- إنّما هذه الحياة متاعو السّفيه الغوىّ من يصطفيها
- ما مضى فات و المؤمّل غيبذلك السّاعة الّتي أنت فيها
و أمّا الرزق فهو مقسوم و ما نقص منه في الماضى أمكن جبرانه في الغابر، و إليه أشار بقوله (ما فات اليوم من الرزق رجى غدا زيادته و ما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته) لأنّ العمر عبارة عن زمان الحياة و مدّته و الزّمان كمّ متّصل غير قارّ الذات، و الجزء الثّاني منه عادم للجزء الأوّل، و الجزء الثّالث عادم للجزء الثاني و هكذا فلا يمكن رجوع الجزء الأوّل بعد مضيّه أبدا، و هذا بخلاف الرّزق كالمآكل و المشارب و الأموال، فانّ الانسان إذا فاته شي ء منها قدر على ارتجاعه بعينه إن كان عينه باقية، و ما لا يبقى عينه يقدر على اكتساب مثله، نعم يشكل ذلك لو عممنا الرزق بالنّسبة إلى التّنفس في الهواء، فانه كالعمل أيضا من الزّمانيات لا يمكن استدراكه، اللّهم إلّا أن يقال إنّه فرد نادر، و نظر الامام عليه السّلام في كلامه إلى الأفراد الشائعة و الأعمّ الأغلب، فانّ ساير أفراد الرّزق عموما قابل للاستدراك.
و قوله عليه السّلام (الرّجاء مع الجائي و اليأس مع الماضي) مؤكّد لما سبق و أراد بالجائي الرّزق و بالماضى العمر.
و لما أمرهم بالمبادرة إلى العمل مخافة بغتة الأجل أكّد ذلك بالأمر بملازمة التقوى فقال (فاتّقوا اللَّه حقّ تقاته) أى حقّ تقواه و ما يجب منها و هو استفراغ الوسع في القيام بالواجبات و الاجتناب عن المحرّمات (و لا تموتنّ إلّا و أنتم مسلمون) و هو اقتباس من الآية في سورة آل عمران قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ الآية.
قال في مجمع البيان معناه و اتّقوا عذاب اللَّه أى احترسوا و امتنعوا بالطاعة من عذاب اللَّه كما يحقّ، فكما يجب أن يتّقى ينبغي أن يحترس منه، و ذكر في قوله حقّ تقاته وجوه أحدها أن يطاع فلا يعصى و يشكر فلا يكفر و يذكر فلا ينسى، و هو المرويّ عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام و ثانيها أنه اتّقاء جميع معاصيه و ثالثها أنّه المجاهدة في اللَّه و أن لا تأخذه فيه لومة لائم و أن يقام له بالقسط في الخوف و الأمن و قوله:
وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
معناه لا تتركوا الاسلام و كونوا عليه حتّى إذا ورد عليكم الموت صادفكم عليه، و انما قال بلفظة النّهى عن الموت من حيث إنّ الموت لا بدّ منه و إنما النّهي في الحقيقة عن ترك الاسلام لأن لا يهلكوا بالانقطاع عن التّمكّن منه بالموت إلّا أنه وضع كلام موضع كلام على جهة التّصرّف و الابدال بحسن الاستعارة و زوال اللّبس و روى عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام: و أنتم مسلّمون، بالتشديد و معناه مستسلمون لما أتى به النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم منقادون له، و اللَّه الموفّق.
|