و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و العشرون من المختار في باب الخطب
و قد قام اليه رجل من أصحابه فقال نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فما ندرى أىّ الامرين أرشد، فصفق (ع) احدى يديه على الاخرى ثمّ قال هذا جزاء من ترك العقدة، أما و اللَّه لو أنّي حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الّذي يجعل اللَّه فيه خيرا فإن استقمتم هديتكم، و إن اعوججتم قوّمتكم، و إن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى و لكن بمن و إلى من أريد أن أداوي بكم و أنتم دائي كناقش الشّوكة بالشّوكة و هو يعلم أنّ ضلعها معها، أللّهمّ قد ملّت أطبّاء هذا الدّاء الدّويّ، و كلّت النّزعة بأشطان الرّكيّ
اللغة
(العقدة) بالضمّ الرأى و الحزم و النظر في المصالح و ما تمسكه و توثقه و (نقش الشوكة) إذا استخرجها من جسمه و به سميّ المنقاش الذى ينقش به و (الضلع) محرّكة الميل و الهوى و ضلعك مع فلان أى ميلك و هواك قال الفيروزآبادي، قيل و القياس تحريكه، لأنهم يقولون ضلع مع فلان كفرح و لكنهم خفّفوا انتهى.
و يستفاد منه جواز القرائة بفتح اللّام و سكونها معا، الأوّل على القياس لكونه مصدر ضلع من باب فرح، و الثاني على التخفيف.
و (الدّاء الدوى) الشديد كقولهم يسيل السّيل و شعر شاعر و (النزعة) جمع نازع كمردة و مارد و هو الذي يستقى الماء و (الأشطان) جمع الشّطن كالأسباب و السّبب و هو الجهل و (الرّكى) جمع الرّكية و هى البئر و في بعض النسخ: فولهوا اللّقاح، باسقاط لفظة الوله
الاعراب
أما حرف استفتاح يبتدء بها الكلام و تدخل كثيرا على القسم كما هنا، و قوله و اللَّه لو أنّى، لو حرف شرط، و أنّي حملتكم، واقع موقع الشرط لكون أنّ بالفتح فاعلا لفعل محذوف يفسّره قوله: حملتكم، و هذا أعنى تقدير الفعل بعد لو التي يليها أنّ هو مذهب المبرّد، و قال السيرافي: الذي عندي أنّه لا يحتاج إلى تقدير الفعل و لكن انّ يقع نائبة عن الفعل الذي يجب وقوعه بعدلو لأنّ خبر انّ إذا فعل ينوب لفظه عن الفعل بعدلو، فاذا قلت لو أنّ زيدا جائني، فكأنّك قلت لو جائني زيد.
و قوله: حين أمرتكم، متعلّق بحملتكم و التّقدّم للتوسّع، و جواب لو محذوف استغناء عنه بجواب القسم و هو قوله: لكانت الوثقى، و انما جعلناه جوابا للقسم دون لو بحكم علماء الأدبية، قال نجم الأئمة: إذا تقدّم القسم أوّل الكلام و بعده كلمة الشرط سواء كانت إن، أو لو، أو لو لا، أو اسم الشرط، فالأكثر و الأولى اعتبار القسم دون الشرط فيجعل الجواب للقسم، و يستغنى عن جواب الشرط لقيام جواب القسم مقامه، نحو: « وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ».
و تقول: و اللَّه أن لو جئتنى لجئتك، و اللّام جواب القسم لا جواب لو و لو كانت جواب لو لجاز حذفها و لا يجوز في مثله، و كذا تقول: و اللَّه لو جئتنى ما جئتك، و لا تقول لما جئتك، و لو كان الجواب للو لجاز ذلك، انتهى.
و قوله عليه السّلام: ممّن و إلى من، حذف متعلّقهما بقرينة المقام و ستعرفه في بيان المعنى
المعنى
اعلم أنّ صدر هذا الكلام الشّريف مسوق لدفع شبهة الخوارج، و عقّبه بالتضجّر و الاشتكاء منهم و بالتأسّف على السّلف الصالحين من رؤساء الدّين، و ختمه بالموعظة و النّصح لهم، و ينبغي أن نذكر أولا شبهة الخوارج، ثمّ نتبعها بما يدفعها.
فأقول: قد تقدّم في شرح الخطبة الخامسة و الثلاثين عند ذكر كيفية التحكيم بدء أمر الخوارج، و عرفت هناك أنّ أول خروجهم كان بصفّين بعد عقد الصّلح، و ذلك أنّ أهل الشّام لما رأوا عقيب ليلة الهرير أنّ أمارات الفتح و الظفر و علامات القهر و الغلبة قد ظهرت و لاحت لأهل العراق، فعدلوا عند ذلك عن القراع إلى الخداع، و بدّلوا القتال بالاحتيال، و رفعوا المصاحف على الرّماح بخديعة ابن النابغة، و نادوا اللَّه اللَّه يا معشر العرب في البنات و الأبناء، و الذّراري و النساء، هذا كتاب اللَّه بينكم و بيننا، فلما رأى ذلك أهل العراق و سمعوه، رفعوا أيديهم عن السيوف، و تركوا الجهاد، و أصرّوا على التحكيم، و كلّما منعهم أمير المؤمنين عليه السّلام و نهاهم عن ذلك و حثّهم على الجهاد، لم يزددهم منعه إلّا تقاعدا و تخاذلا، و لما رأى تخاذلهم و قعودهم عن الحرب و اصرارهم على الصلح و المحاكمة و قولهم له: يا على أجب القوم إلى كتاب اللَّه و إلّا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، أجابهم إليه كرها لا رغبة، و جبرا لا اختيارا.
ثمّ لما كتب صحيفة الصلح على ما تقدّم تفصيلها، و قرءها أشعث بن قيس على صفوف أهل العراق، فنادى القوم لا حكم إلّا اللَّه لا لك يا علي و لا لمعاوية، و قد كنا زللنا و أخطأنا حين رضينا بالحكمين، قد بان لنا خطائنا فرجعنا إلى اللَّه و تبنا فارجع أنت و تب إلى اللَّه كما تبنا، فقال عليّ عليه السّلام و يحكم أبعد الرّضا و الميثاق و العهد نرجع أ ليس اللَّه قد قال: أوفوا بالعقود، فأبى عليّ عليه السّلام أن يرجع، و أبت الخوارج إلّا تضليل الحكم و الطعن فيه.
فمن ذلك نشأت الشبهة لهم، و اعترضوا عليه عليه السّلام و قال له عليه السّلام بعضهم: (نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فما ندرى أىّ الأمرين أرشد) محصّله أنه إن كانت في الحكومة مصلحة فما معنى النهى عنها أوّلا، و إن لم تكن فيها مصلحة فما معنى الأمر بها ثانيا، فلا بدّ من أن يكون أحد الأمرين خطاء.
و لما كان هذا الاعتراض غير وارد عليه عليه السّلام، و كان الخطاء منهم لا منه، تغيّر عليه السّلام (فصفق احدى يديه على الاخرى) فعل المتغيّر المغضب، (ثمّ قال هذا جزاء من ترك العقدة) يجوز أن يكون المشار إليه بهذا الجهل و الحيرة التي يدلّ عليها قولهم فما ندرى أىّ الأمرين أرشد، فيكون ترك العقدة منهم لا منه عليه السّلام، و المعنى أنّ هذا التحيّر جزائكم حيث تركتم العقده و الرأى الأصوب المقتضي للثبات على الحرب و البقاء على القتال، و أصررتم علي اجابة أصحاب معاوية إلى المحاكمة، فوقعتم في التّيه و الضلال، و يجوز ابقائه على ظاهره و هو الألصق بقوله بعد ذلك: لو حملتكم على المكروه لكانت الوثقى، فالمراد أنّ هذا جزائي حين تركت العقدة، أى هذا الاعتراض مما يترتب على ترك العقدة.
فان قلت: فعلى هذا يتّجه اعتراضهم عليه حيث ترك العقدة.
قلت: لا، لأنّ تركه لها كان اضطرارا لا اختيارا، و لا عن فساد رأى كما يدلّ عليه صريح قوله في الخطبة الخامسة و الثلاثين: و قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمرى و نخلت لكم مخزون رأيى لو كان يطاع لقصير أمر، فأبيتم علىّ إباء المخالفين الجفاة و المنابذين العصاة اه، و قوله عليه السّلام هنا: و لكن بمن و إلى من، و من المعلوم أنّ ترك الأصلح إذا لم يمكن العمل بالأصلح مما لا فساد فيه، و لا ريب في عدم امكان حربه عليه السّلام بعد رفعهم المصاحف و افتراق أصحابه و نفاق جيشه على ما سمعت و الحاصل أنّ الاعتراض إنما كان يرد عليه لو كان تركه العقدة طوعا و اختيارا لا جبرا و اضطرارا، فظهر من ذلك كلّه أنّ المصلحة الكامنة كانت في النهى عن الحكومة و لما نهاهم عنها فلم ينتهوا و أصرّوا على المخالفة أجابهم اليها، خوفا من شقّ عصا الجماعة، و حقنا لدمه، فكانت المصلحة بعد المخالفة و الاصرار و ظهور النفاق و الافتراق في الاجابة إليها.
و إلى هذا يشير بقوله (أما و اللَّه لو أنّى حين) ما (أمرتكم بما أمرتكم به) من المصالحة و التحكيم اجابة لكم و قبولا لمسألتكم مع إصراركم فيها اغترارا منكم بمكيدة ابن النّابغة، و افتتانا بخديعته، تركت الالتفات إليكم و لم اجب إلى مأمولكم (حملتكم) أى ألزمتكم (على المكروه الذي) هو الثبات على الحرب و الجدّ في الجهاد حيث كرهته طباعهم و تنفروا عنها بطول المدّة بهم و أكل الحرب أهلها و هو الذي (يجعل اللَّه فيه خيرا كثيرا) و هو الظفر و سلامة العاقبة كما نطق به الكتاب العزيز حيث قال: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ».
ثمّ لما كان الوجوه المتصوّرة من أحوالهم حين حملهم على المكروه و فرض أمرهم بالجهاد ثلاثة أشار إليها و أردف كلّ وجه بما يترتّب عليه و هو قوله، (فان استقمتم) و أطعتم أمرى (هديتكم) إلى وجوه مصالح الحرب و طرق الظفر و الغلبة (و إن اعوججتم) أى رفع منكم بعض الاستواء، و يسير من العصيان بقلّة الجدّ و فتور العزم و الهمة (قوّمتكم) بالتأديب و الارشاد و التحريص و التشجيع و النّصح و الموعظة (و إن أبيتم) و عصيتم (تداركتكم) إمّا بالاستنجاد بغيركم من أهل خراسان و الحجاز و غيرهم من القبايل ممّن كان من شيعته، أو ببعضكم على بعض، و إمّا بما يراه في ذلك الوقت من المصلحة التي تحكم بها الحال الحاضرة (لكانت) العقدة (الوثقى) و الخصلة المحكمة (و لكن بمن) كنت استعين و أنتصر (و إلى من) كنت أركن و أعتمد.
و بذلك يعلم أنه لو حملهم على المكروه كان منهم الاباء و الامتناع، و التمرّد و العصيان، و هو ثالث الوجوه المتصوّرة من حالهم و إنه حينئذ لا يمكن له تداركهم لأنّ الاستنجاد من أهل البلاد النائية من الشّيعة لم يكن فيه ثمرة، لأنهم إلى أن يصلوا إليه كانت الحرب قد وضعت أوزارها، و كان العدوّ قد بلغ غرضه.
و الاستنجاد ببعضهم على بعض كان من قبيل ناقش الشوكة بالشوكة كما يشير إليه قوله (اريد أن اداوى بكم و أنتم دائى) استعار لفظ الداء و الدواء لفساد الامور و صلاحها، أى اريد أن اصلح بكم الامور و اعالجها، و أنتم المفسدون لها (كناقش الشوكة بالشوكة و هو يعلم أنّ ضلعها) و هواها (معها) و هو مثل يضرب لمن يستعان به على خصم و كان ميله و هواه مع الخصم و أصله أنّ الشوكة: إذا نشبت في عضو من أعضائك من يدك أو رجلك أو غيرهما، فانها لا يمكن استخراجها بشوكة اخرى مثلها، فانّ الاولى كما انكسرت في عضوك و بقيت في لحمك فكذلك الثانية تنكسر، لأنّ ميلها معها، و المقصود أنّ طباع بعضكم يشبه طباع بعض و يميل إليها كما يميل الشوكة إلى مثلها.
ثمّ اشتكى إلى اللَّه سبحانه و قال (اللّهم قد ملت أطباء هذا الدّاء الدّوى) الشديد أراد به داء الجهالة التي كانت في أصحابه و ما هم عليه من مخالفته و عصيانه، و مرض الحيرة و الغفلة عن ادراك وجوه المصلحة، و استعار لفظ الأطباء لنفسه و أعوانه، أوله و لساير من دعا الى اللَّه سبحانه من الأنبياء و الرسل و الأوصياء و الخلفاء، فانّهم الأطباء الالهيّون معالجون لأسقام القلوب و أمراض الجهالات و الذنوب، و قد مضى توضيح ذلك في شرح الفصل الأول من الخطبة المأة و الثامنة.
(وكلّت النزعة بأشطان الرّكيّ) أى أعيت المستقين من الآبار بالأشطان و الحبال، و هو من قبيل الاستعارة المرشحة حيث شبّه نفسه بالنازع من البئر فاستعار له لفظه، ثمّ قرن الاستعارة بما يلايم المستعار منه أعني الأشطان و الرّكيّ، و الجامع أنّ من يستقى من البئر العميقة لاحياء الموات الوسيعة كما يكلّ و يعجز عن الاستقاء و يقلّ تأثير استقائه فيها، فكذلك هو عليه السّلام استخرج من علومه الغزيرة لاحياء القلوب الميتة و قلّ تأثير موعظته فيها و عجز عن احيائها، و قد مرّ في شرح الفصل الأوّل من فصول الخطبة الثالثة تشبيه علومهم عليهم السّلام بالماء و تأويل البئر المعطلة و القصر المشيد بهم، فالقصر مجدهم الذي لا يرتقى و البئر علمهم الذى لا ينزف.
|