الّلهمّ إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار و الأكنان، و بعد عجيج البهائم و الولدان، راغبين في رحمتك، و راجين فضل نعمتك، و خائفين من عذابك و نقمتك، الّلهمّ فاسقنا غيثك، و لا تجعلنا من القانطين، و لا تهلكنا بالسّنين، و لا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا يا أرحم الرّاحمين، اللّهم إنّا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضائق الوعرة، و أجائتنا المقاحط المجدبة، و أعيتنا المطالب المتعسّرة، و تلاحمت علينا الفتن المستصعبة، الّلهمّ لا تردّنا خائبين، و لا تقلبنا و اجمين، و لا تخاطبنا بذنوبنا، و لا تقايسنا بأعمالنا، ألّلهم انشر علينا نميثك و بركتك و رزقك و رحمتك، و اسقنا سقيا نافعة مروية معشبة تنبت بها ما قد فات، و تحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان، و تسيل البطنان، و تستورق الأشجار، و ترخص الأسعار، إنّك على ما تشاء قدير.
اللغة
(الاكنان) جمع الكنّ و هو ما ستر من الحرّ و البرد من كننته أى سترته و أخفيته في كنّه بالكسر. و (السّنين) جمع السّنة و هي الجدب و أرض سنواء و سنهاء أصابتها السّنة و (المضايق) جمع المضيق و هو ما ضاق من الأمور و (الوعر) بسكون العين و كسرها ضدّ السّهل قال الشارح المعتزلي: الوعرة بالتسكين و لا يجوز التحريك و (المقاحط) أماكن القحط أو أزمانه جمع المحقط يأتي للمكان و الزّمان و (الوجم) و الواجم العبوس المطرق لشدّة الحزن و (السّقيا) بالضمّ اسم من سقاه اللَّه الغيث أنزله له و (القيعان) جمع القاع و هو المستوى من الأرض.
و (تسيل) في بعض النسخ بفتح التاء مضارع سال كباع و في بعضها بالضمّ من باب الافعال و (البطنان) بالضمّ جمع البطن كعبد و عبدان و ظهر و ظهران و هو المنخفض من الأرض كما قاله الطريحى، أو الغامض منها كما في شرح المعتزلي و قال الفيروز آبادي جمع الباطن و هو مسيل الماء في غلظ و (الرخص) بالضمّ ضدّ الغلاء و رخص الشي ء من باب قرب فهو رخيص و يتعدّي بالهمزة فيقال: أرخص اللَّه السّمر و تعديته بالتضعيف غير معروف و (الأسعار) جمع سعر بالكسر و هو تقدير أثمان الأشياء و ارتفاعه غلاء و انحطاطه رخص و قيل تقدير ما يباع به الشي ء طعاما كان أو غيره، و يكون غلاء و رخصا باعتبار الزيادة على المقدار الغالب في ذلك المكان و الأوان و النقصان عنه.
المعنى
و لمّا فرغ عليه السّلام من تمهيد مقدّمات الدّعاء شرع فيه فقال (اللّهم إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار و الأكنان) الّتي ليس من شأنها أن تفارق إلّا لضرورة شديدة (و بعد عجيح البهائم و الولدان) و أصواتها المرتفعة بالبكاء و النحيب (راغبين) في برّك و (رحمتك و راجين فضل) منّك و (نعمتك و خائفين من عذابك و نقمتك اللّهمّ فأسقنا غيثك) المغدق من السّحاب المنساق لنبات أرضك المونق (و لا تجعلنا من القانطين) الآيسين (و لا تهلكنا بالسّنين و لا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا يا أرحم الرّاحمين) و المراد بالسّفهاء الجهّال من أهل المعاصي و بفعلهم معاصيهم المبعدة عن رحمته سبحانه كما في قوله سبحانه حكاية عن موسى عليه السّلام: «أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا» ثمّ عاد عليه السّلام إلى تكرير شكوى الجدب بذكر أسبابها الحاملة عليها فقال: (اللّهمّ إنّا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك) من الضرّ و السّوء (حين ألجائتنا المضائق الوعرة) المستصعبة (و أجائتنا المقاحط المجدبة) أي السّنون المحلّة (و أعيتنا المطالب المتعسّرة، و تلاحمت علينا الفتن المستصعبة) أى تزاحمت علينا امور من الجوع و العرى و سائر مسبّبات القحط ما كانت لنا فتنة أي بلاء و محنة أى صارفة للقلوب عمّا يراد بها.
(اللّهمّ) إنّا نسألك أن (لا تردّنا خائبين) من رحمتك (و لا تقلبنا و اجمين) محزونين باليأس عن عطيّتك (و لا تخاطبنا بذنوبنا) قال الشّارح المعتزلي: أي لا تجعل جواب دعائنا لك ما يقتضيه ذنوبنا كأنّه يجعله كالمخاطب لهم و المجيب عمّا سألوه إيّاه كما يفاوض الواحد منّا صاحبه و يستعطفه فقد يجيبه و يخاطبه بما يقتضيه ذنبه إذا اشتدّت موجدته عليه و نحوه قوله (و لا تقايسنا بأعمالنا) أي لا تجعل ما تجيبنا به مقايسا و مماثلا لأعمالنا السيّئة، و بعبارة اخرى لا تجعل فعلك بنا مقايسا لأعمالنا السيّئة و مشابها لها و سيئة مثلها.
(اللّهمّ انشر علينا غيثك و بركتك و رزقك و رحمتك، و اسقنا سقيا نافعة) سالمة من الافساد بالافراط (مروية) مسكتة للعطش (معشبة) أى ذات العشب و الكلاء (تنبت بها ما قد فات) أي مضى و ذهب (و تحيى بها ما قد مات).
قال بعض الأفاضل: أي تخرج و تعيد بها ما قد ذهب و يبس من أصناف النبّات و ضروب الأعشاب و ألوان الأزهار و أنواع الأشجار و الثمار، و ما انقطع من جواري الجداول و الأنهار فاستعار الاحياء الذي حقيقته هو إفاضة الرّوح على الجسد للإخراج و الاعادة المذكورين كما استعار الموت الذي هو حقيقة انقطاع تعلّق الرّوح بالجسد لليبس و الذّهاب، و الجامع في الاولى إحداث القوى النّامية في المواد و المنافع المترتّبة على ذلك، و في الثانية استيلاء اليبوسة و عدم النّفع، و هما استعارتان تبعيّتان لأنّ المستعار في كلّ منهما فعل و القرينة في الاولى المجرور أعني الضمير في بها العايد إلى السّقيا لظهور عدم حصول الاحياء الحقيقي بالسّقيا، و في الثّانية الاسناد إلى الفاعل لأنّ الموت الذي يحيي المتّصف به بالسقى لا يكون حقيقيا البتة.
(نافعة الحياء) و المطر (كثيرة المجتنى) و الثّمر (تروى بها القيعان) و الأراضي المستوية (و تسيل بها البطنان) و الأراضي المنخفضة، و نسبة السّيلان أو الاسالة إلى البطنان من المجاز العقلي إذ حقّه أن يسند أو يوقع على الماء، لأنّه الماء حقيقة و لكنّه أوقع على مكانه لملابسته له كما اسند الفعل إليه في سال النهر، و الغرض طلب كثرة المطر، (و تستورق الأشجار، و ترخص الأسعار، إنّك على ما تشاء قدير) و بالاجابة حقيق جدير.
تنبيه
قال بعض شرّاح الصحيفة الكاملة: اختلف في التّسعير فقيل هو من فعل اللَّه سبحانه و هو ما ذهبت إليه الأشاعرة بناء على أصلهم من أنّه لا فاعل إلّا اللَّه تعالى، و لما ورد في الحديث حين وقع غلاء بالمدينة فاجتمع أهلها إليه و قالوا: سعّر لنا يا رسول اللَّه، فقال: المسعّر هو اللَّه.
و اختلف المعتزلة في هذه المسألة فقال بعضهم هو فعل المباشر من العبد إذ ليس ذلك إلّا مواضعة منهم على البيع و الشّرى بثمن مخصوص، و قال آخرون هو متولّد من فعل اللَّه تعالى و هو تقليل الأجناس و تكثير الرّغبات بأسباب هي من اللَّه تعالى.
و الذي تذهب إليه معشر الامامية أن خروج السّعر عن مجري عادته ترقيّا أو نزولا إن استند إلى أسباب غير مستندة إلى العبد و اختياره نسب إلى اللَّه تعالى.
و إلّا نسب إلى العبد كجبر السلطان الرّعية على سعر مخصوص، و ما ورد في الحديث النبّوي المذكور محمول على أنّه لا ينبغي التّسعير، بل يفوّض إلى اللَّه، ليقرّره بمقتضى حكمته البالغة و رحمته الشاملة.
و ما ورد من الأخبار عن أهل البيت عليهم السّلام في هذا المعنى كما روى عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام أنّه قال: إنّ اللَّه و كلّ ملكا بالسّعر يدبّره بأمره، و عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام إنّ اللَّه و كلّ بالأسعار ملكا يدبّرها بأمره، فالمراد بالسّعر ما لم يكن للعبد و أسبابه مدخل، و اللَّه أعلم.
|