و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الخامسة و الأربعون من المختار فى باب الخطب أيّها النّاس، إنّما أنتم في هذه الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا، مع كلّ جرعة شرق، و في كلّ أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة إلّا بفراق أخرى، و لا يعمر معمّر منكم يوما من عمره إلّا بهدم آخر من أجله، و لا تجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيى له أثر إلّا مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلّا بعد أن يخلق جديد، و لا تقوم له نابتة إلّا و تسقط منه محصودة، و قد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرغ بعد ذهاب أصله
اللغة
(الغرض) ما ينصب للرّمى و هو الهدف و (ناضلته) مناضلة و نضالا راميته فنضلته نضلا من باب قتل غلبته في الرمى، و تناضل القوم و انتضلوا تراموا للسّبق و (الشّرق) محرّكة مصدر من شرق فلان بريقه من باب تعب غصّ و (الغصص) محرّكة أيضا مصدر من غصصت بالطّعام كتعب أيضا، قال الشارح المعتزلي: و روى غصص جمع غصّة و هى الشجى
الاعراب
قوله: فما بقاء فرع، الفاء فصيحة و الاستفهام إمّا للتّعجب كما في قوله تعالى: «وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما» أو للتحقير.
المعنى
اعلم أنّ مقصوده بهذه الخطبة التنفير عن الدّنيا و الترغيب عنها بالتنبيه على معايبها و مثالبها المنفرة منها فقوله (أيّها النّاس انما أنتم في هذه الدّنيا غرض) من باب التشبيه البليغ و رشّح التشبيه بقوله (تنتضل فيه المنايا) و هي استعارة بالكناية حيث شبّه المنايا بالمتناضلين بالسّهام باعتبار قصدها للانسان كقصد المتناضلين للهدف، و ذكر الانتضال تخييل، و المعنى أنكم في هذه الدّنيا بمنزلة هدف تترامى فيه المنايا بسهامها، و سهامها هي الأعراض و الأمراض، و جمع المنايا إما باعتبار تعدّد الأسباب من الغرق و الحرق و التردّى في بئر و السّقوط من حائط و نحوها، و إمّا باعتبار تعدّد من تعرض عليه و كثرة أفراد الأموات، و لكلّ نفس موت مخصّص بها.
(مع كلّ جرعة شرق و في كلّ اكلة غصص) قال الشّارح البحراني: كنّى بالجرعة و الاكلة عن لذّات الدّنيا، و بالشرق و الغصص عما فى كلّ منها في ثبوت الكدورات اللّازمة لها طبعا من الأمراض و المخاوف و ساير المنقصات لها.
أقول: و محصّل مراده عليه السّلام أنّ صحتها مقرونة بالمحنة، و نعمتها مشفوعة بالنقمة و احسانها معقبة بالاسائة، و لذّتها مشوبة بالكدورة.
و لكمال الاتصال بين هذه الجملة و بين الجملة التالية لها أعني قوله (لا تنالون منها نعمة إلّا بفراق اخرى) وصل بينهما و لم يفصل بالعاطف، فانه لما أشار إلى أنّ الدّنيا رنق المشرب ردغ المشرع لذّاتها مشوبة بالكدورات عقّبه بهذه الجملة، لأنها توكيد و تحقيق و بيان لما سبق، و فيه زيادة تثبيت له.
و المراد بها أنّ الانسان لا يكون مشغولا بنوع من اللّذات الجسمانية إلّا و هو تارك لغيره، و ما استلزم مفارقة نعمة اخرى لا يعدّ في الحقيقة نعمة ملتذا بها.
توضيح ذلك ما أشار إليه الشّارح البحراني: من أنّ كلّ نوع من نعمة فانما يتجدّد شخص منها و يلتذّبه بعد مفارقة مثله، كلذّة اللّقمة مثلا، فانّها تستدعى فوت اللّذة باختها السّابقة، و كذلك لذّة ملبوس شخصى أو مركوب شخصى و سائر ما يعدّ نعما دنيويّة ملتذّا بها، فانّها إنّما تحصل بعد مفارقة ما سبق من أمثالها، بل و أعمّ من ذلك فانّ الانسان لا يتهيّأ له الجمع بين الملاذّ الجسمانيّة في وقت واحد، بل و لا اثنين منها، فانه حال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا و حال ما هو في لذّة الأكل لا يكون يلتذّ بمشروب، و لا حال ما يكون خاليا على فراشه الوثير يكون راكبا للنزهة و نحو ذلك.
(و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلّا بهدم آخر من أجله) لظهور أنّ بقائك إلى الغد مثلا لا يحصل إلّا بانقضاء اليوم الذي أنت فيه و هو من جملة أيّام عمرك و بانقضائه ينقص يوم من عمرك، و تقرب إلى الموت بمقدار يوم، و اللّذة بالبقاء المستلزم للقرب من الموت ليست لذّة في الحقيقة (و لا تجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد ما قبلها من رزقه) أي من رزقه المعلوم أنّه رزقه و هو ما وصل إلى جوفه مثلا، فانّ ما لم يصل جاز أن يكون رزقا لغيره، و من المعلوم أنّ الانسان لا يأكل لقمة إلّا بعد الفراغ من أكل اللّقمة الّتي قبلها فهو اذا لا يتجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد رزقه السّابق و ما استلزم نفاد الرّزق لا يكون لذيذا في الحقيقة.
(و لا يحيى له أثر الّا مات له أثر) قال الشّارح البحراني: أراد بالأثر الذكر أو الفعل، فانّ ما كان يعرف به الانسان في وقت ما من فعل محمود أو مذموم أو ذكر حسن أو قبيح و يحيى له بين النّاس يموت منه ما كان معروفا به قبله من الآثار و ينسى. (و) كذلك (لا يتجدّد له جديد) من زيادات بدنه و نقصانه و أوقاته (الّا بعد أن يخلق له جديد) إلّا بتحلّل بدنه و معاقبة شيخوخته بشبابه و مستقبل أوقاته لسالفها.
(و) كذلك (لا تقوم له نابتة إلّا و تسقط منه محصودة) أراد بالنابتة ما ينشأ من الأولاد و الأحفاد، و بالمحصودة من يموت من الآباء و الأجداد، و لذلك قال (و قد مضت اصول) يعنى الآباء (نحن فروعها).
و لما استعار الاصول و الفروع اللّذين هما من وصف الأشجار و نحوها للسّلف و الخلف و كان بناء الاستعارة على تناسى التشبيه حسن التّعجب بقوله (فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله) لأنّ الشجر إذا انقطع أصله أو انقلع لا يبقى لفرعه قوام، و لا يكون له ثبات و مثل هذا التّعجب له المبنى على تناسي التشبيه قول الشّاعر:
- فبتّ ألثم عينها و من عجبإنّي اقبّل أسيافا سفكن دمى.
و قد مرّ مثال آخر في التّقسيم السّادس من تقسيمات الاستعارة في أوائل هذا الشّرح.
قال السيّد ره (منها) أي بعض هذه الخطبة في النّهى عن متابعة البدعات و التّنبيه على ضلالها و الأمر بالتجنّب عنها، و قد مضى معنى البدعة و تحقيق الكلام فيها في شرح الكلام السّابع عشر، و قال الشّارح المعتزلي هنا: البدعة كلّ ما احدث لم يكن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، فمنها الحسن كصلاة التراويح، و منها القبيح كالمنكرات التّي ظهرت في أوائل الخلافة العثمانيّة و إن كانت قد تكلّفت الاعذار عنها.
|