و من خطبة له عليه السّلام و هى الماة و السابعة و الاربعون من المختار في باب الخطب
فبعث محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، و من طاعة الشّيطان إلى طاعته، بقرآن قد بيّنه و أحكمه ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، و ليقرّوا به بعد إذ جحدوه، و ليثبّتوه بعد إذ أنكروه، فتجلّى سبحانه لهم في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أريهم من قدرته، و خوّفهم من سطوته، و كيف محق من محق بالمثلات، و احتصد من احتصد بالنّقمات.
اللغة
(تجلّى) الشي ء انكشف و ظهر و (محق) الشي ء محقا من باب منع أبطله و محاه و محق اللَّه الشي ء أذهب منه البركة و قيل هو ذهاب الشّي ء كلّه حتّى لا يرى له أثر و (المثلات) جمع المثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء المثلّثة فيهما و هي العقوبة كذا في الاقيانوس و في القاموس، مثل بفلان نكل كمثل تمثيلا و هى المثلة بضمّ الثاء و سكونها و الجمع مثولات و مثلات و قال الفيومى: و مثلت بالقتيل مثلا من باب قتل و ضرب اذا جدعته و ظهرت آثار فعلك عليه تنكيلا و التشديد مبالغة و الاسم المثلة وزان غرفة و المثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء العقوبة.
و (حصد) الزرع و النبات و احتصده قطعه بالمنجل و حصدهم بالسّيف و احتصدهم استأصلهم و (النّقمة) بالكسر و بالفتح و كفرحة المكافاة بالعقوبة جمعه نقم ككلم و عنب و نقمات ككلمات
الاعراب
قوله: ليعلم العباد، متعلّق بقوله: بيّنه أو أحكمه أو كليهما على سبيل التنازع و قوله: و كيف، عطف على قوله: من سطوته، و من الموصولة في قوله: من محق و من احتصد في محلّ النّصب مفعول به، و فاعل الأفعال الأربعة راجع إلى اللَّه سبحانه
المعنى
اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على فصول أربعة:
الفصل الاول في الاشارة إلى بعثة الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و الغرض من بعثته
و هو قوله (فبعث اللَّه محمّدا بالحقّ) و انّما بعثه (ليخرج عباده من عبادة الأوثان) و الأصنام (إلى عبادته و من طاعة الشيطان إلى طاعته) و لتخليص الخلق من عشق الدّنيا ورّق الطّبيعة و عبوديّة الهوى، و تشويقهم إلى حظائر القدس و مجالس الانس، و إيقاظهم عن مراقد الأبدان و نوم الغافلين، و ايصالهم إلى منازل الأبرار و المقرّبين و لم يقتصر سبحانه على مجرّد بعثه و إرساله، بل بعثه صلّى اللَّه عليه و آله (ب) ما يدلّ على صدق دعواه و مقاله من البراهين و الدلائل الباهرات و المعجزات الخارقة للعادات و أعظمها (قرآن قد بيّنه و أحكمه) أى كشفه و أوضحه و جعله متقنا مضبوطا مستقيما نظمه خاليا عن الخلل و الاختلاف كما قال عزّ من قائل: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» و قال «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ» و في موضع آخر «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً».
و تخصيص القرآن بالذّكر من بين سائر المعجزات لما أشرنا إليه من أنّه أعظم معجزاته و أقويها و آكدها في باب التّحدى، و ذلك لأنّ الغالب على العرب حين بعثه صلوات اللَّه عليه و آله إنشاء الخطب و الرّسائل و المبالغة في فصاحة الكلام و بلاغته و حسن البيان و سلاسته، و مراعات المطابقة لمقتضى الحال و المحافظة على محاسن اللّفظ و بدائع النكت الغريبة، و لطائف المناسبات العجيبة و وجوه الاستعارات و التخيلات، و أنحاء المجاز و الكنايات، و سائر ما يزيد في الكلام رونقا و تاثيرا في القلوب.
فبعث اللَّه النّبيّ متحدّيا بالقرآن كتابا ساطعا تبيانه قاطعا برهانه بحجج و بيّنات و رسوم و آيات عجز عن الاتيان بما يماثلها أو يدانيها مصاقع الخطباء مشتملا على رموز و أسرار و علوم و أنوار تحيّرت في إدراكها عقول الأدباء، و مواعظ و حكم تبلّدت عن فهمها أذهان الحكماء، و لم يتصدّ لمعارضة أقصر سورة من سوره واحد من الفصحاء، و لم ينهض للقدح في كلمة من كلماته ناهض من أزكياء البلغاء، مع طول المدّة و كثرة العدّة، و شدّة الحرص و قوة الكدّ و غاية العصبيّة و نهاية الانانية و الافراط في المضادّة و المضارّة، و الرّسوخ في المنافرة و المفاخرة فاختاروا المقاتلة بالسّيف و السّنان على المعارضة بالكلام و البيان و الحجّة و البرهان، بعد ما خيّروا بين الأمرين.
فعلم أنّ المأتىّ به خارج عن مقدرة البشر، و إنّما هو أمر من عند خالق القوى و القدر، و به يهتدى إلى الرّشاد، و يحصل المعرفة بالمبدإ و المعاد كما قال عليه السّلام (ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه) يعني ببيان القرآن و أحكامه يحصل العلم بالربّ تعالى و ذلك لما اشتمل عليه من الآيات الدّالة على نعوت الجلال و صفات الجمال، و أدلّة التوحيد و براهين التّفريد مضافا إلى أنّه بنفسه مع قطع النّظر عن تلك الآيات كاف في الهداية إلى الحقّ الأوّل سبحانه بما فيه من وصف الاعجاز حسب ما اشرنا إليه، هذا.
و العجب من الشارح البحراني أنّه قال في شرح هذا المقام: و مدار هذا الفصل على بيان بعثة الرّسول، و بيان غاية البعثة، و السّبب المعدّ للوصول إلى تلك الغاية ثمّ بيان غاية تلك الغاية، و الاشارة إلى البعثة بقوله: فبعث إلى قوله: بالحقّ، و أشار إلى غايتها بقوله: ليخرج إلى طاعته، و أشار إلى سبب تلك الغاية بقوله: بقرآن قد بيّنه، و أشار إلى غاية تلك الغاية أعني غاية طاعة اللَّه بقوله: ليعلم العباد إلى قوله: أنكروه، انتهى.
و أنت خبير بأنّ طاعة اللَّه سبحانه و عبادته إنّما تحصل بعد حصول العلم بالرّب، لأنّها فرع الدّين و هذا أصله و الأصل مقدّم على الفرع فكيف يمكن جعله غاية لها و ما هو إلّا من مفاسد قلّة التدبّر.
(و ليقرّوا به بعد إذ جحدوه و ليثبتوه بعد إذ أنكروه) إن كان المراد بالاقرار الاقرار باللّسان وحده و بالاثبات الاثبات بالجنان يكون عطف الجملة الثّانية على الاولى من باب التأسيس، و إن اريد بكلّ منهما الأعمّ فالمعنى بالجملتين واحد و الاختلاف في العبارة، و الاتيان بهما للتفنّن و على أيّ تقدير فالاثبات و الاقرار من جنود العقل، و الجحود و الانكار من جنود الجهل كما يفيده الحديث المرويّ في الكافي في باب العقل و الجهل عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام هذا.
و لما ذكر أنّ بالقرآن يحصل العلم بالرّب سبحانه و الاقرار به و إثباته أشار إلى كيفيّة حصول هذا العلم بقوله: (فتجلّى لهم سبحانه) أى ظهر ظهورا بيّنا (في كتابه) ربما يفسّر الكتاب هنا بعالم الايجاد و لما كان لفظ التجلّى موهما للظّهور برؤية البصر اتبعه بقوله (من غير أن يكونوا رأوه) من باب الاحتراس الذي عرفته في المحاسن البديعيّة من ديباجة الشّرح يعني أنّه سبحانه تجلّى لعباده و ظهر لهم لا برؤية البصر بل برؤية البصيرة (بما أراهم من قدرته) و ذكّرهم من بدائع مصنوعاته و حكمته و عجائب مبدعاته و صنعته كما قال عزّ من قائل: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» و قال «وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ» و قال «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» إلى غير ذلك ممّا لا نطيل بذكرها و قد مضى في شرح الخطبة التّسعين لا سيّما شرح الفصل السّادس منها ما فيه غنية للطالب و كفاية للمهتدى فليراجع ثمّة.
(و خوّفهم من سطوته) و حذرهم من نقمته كما قال عز و جلّ: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» و قال «إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» و غير ذلك من الآيات المشتملة على التّحذير بقصص الأوّلين، و التخويف بما جرى على السّلف الماضين.
(و) أنّه (كيف محق من محق بالمثلات) أي أهلك من أهلكه منهم و أذهب آثارهم عن وجه الأرض بالعقوبات النّازلة عليهم (و احتصد من احتصد بالنّقمات) أى استأصل من استأصله بما عذّبهم به مكافاة لسوء أعمالهم
الفصل الثاني في الاخبار عن زمان يأتي بعده بالأوصاف المذكورة
|