ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف، و القاصمة الزّحوف، فتزيغ قلوب بعد استقامة، و تضلّ رجال بعد سلامة، و تختلف الأهواء عند هجومها، و تلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف لها قصمته، و من سعى فيها حطمته، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة، قد اضطرب معقود الحبل، و عمى وجه الأمر، تغيض فيها الحكمة، و تنطق فيها الظّلمة، و تدقّ أهل البدو بمسحلها، و ترضّهم بكلكلها، يضيع في غبارها الوحدان، و يهلك في طريقها الرّكبان، ترد بمرّ القضاء، و تحلب عبيط الدّمآء، و تثلم منار الدّين، و تنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، و تدبّرها الأرجاس، مرعاد مبراق، كاشفة عن ساق، تقطّع فيها الأرحام، و يفارق عليها الإسلام، بريّها سقيم، و ظاعنها مقيم. منها بين قتيل مطلول، و خائف مستجير، يختلون بعقد الأيمان، و بغرور الإيمان
اللغة
(رجف) الشي ء رجفا تحرّك و اضطرب شديدا و رجف القوم تهيّا و الحرب.
و (زحف) اليه مشي و في شرح المعتزلي الزّحف السير على تؤدة كسير الجيوش بعضها إلى بعض و (نجم) الشي ء ينجم نجوما من باب قعد ظهر و طلع و (قصمت) العود كسرته و قصمه اللَّه أى أذلّه و أهانه و قيل قرب موته و (التّكادم) التّعاض بأدنى الفم و (العانة) القطيع من حمر الوحش و (المسخل) و زان منبر المبرد أى السّوهان و يقال أيضا للمنحت و (الوحدان) جمع واحد كركبان و راكب قال الشّارح المعتزلي: و يجوز أن يكون جمع أوحد مثل سودان و أسود يقال فلان أوحد الدّهر.
و (ثلمت) الاناء أى كسرت حرفه فانثلم و (الطلّ) بالمهملة هدر الدّم و هو مطلول اى مهدر لا يطلب بدمه و (يختلون) في بعض النّسخ بالبناء على المفعول و في بعضها بالبناء على الفاعل من ختله خدعه و (عقد) الايمان بصيغة المصدر أو وزان صرد جمع عقدة
المعنى
قال الشّارح المعتزلي: فان قلت: ألم يكن قلت إنّ قوله عن قليل يتبرّء التابع من المتبوع يعني يوم القيامة فكيف يقول (ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف) و هذا إنّما يكون قبل القيامة قلت: لمّا ذكر تنافس النّاس على الجيفة المنتنة و هي الدّنيا أراد أن يقول بعده بلا فصل: ثمّ يأتي بعد ذلك اه لكنّه لمّا تعجّب من تزاحم النّاس و تكالبهم على تلك الجيفة أراد أن يؤكّد ذلك التّعجب فأتى بجملة معترضة بين الكلامين فقال: إنّهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها عن قليل يتبرّء بعضهم من بعض و يلعن بعضهم بعضا، و ذلك أدعى لهم لو كانوا يعقلون إلى أن يتركوا التّكالب و التّهارش على هذه الجيفة الخسيسة، ثمّ عاد إلى نظام الكلام فقال: ثمّ يأتي بعد ذلك آه.
و قال الشّارح البحراني حكاية عن بعضهم: إنّ ذلك التّبرء عند ظهور الدّولة العبّاسية، فانّ العادة جارية بتبرّء النّاس عن الولاة المعزولين خصوصا عند الخوف ممّن تولّى عزل ذلك أو قتلهم، فيتباينون بالبغضاء إذ لم تكن الفتهم و محبّتهم إلّا لغرض دنياوىّ زال، و يتلاعنون عند اللّقاء، ثمّ قال الشّارح: و قوله: ثم يأتي طالع الفتنة، هي فتنة التتار، إذ الدائرة فيها على العرب.
و قال بعض الشارحين: بل ذلك إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزّمان كفتنة الدّجال. و كيف كان فوصف الفتنة بالرّجوف لكثرة اضطراب النّاس أو أمر الاسلام فيها و أراد بطالعها مقدّماتها و أوايلها و وصفها ثانيا بقوله (و القاصمة الزّحوف) أى الكاسرة الكثيرة الزّحف و كنّى بقصمها عن هلاك الخلق فيها و شبّهها بالرّجل الشّجاع كثير الزّحف إلى أقرانه أى يمشى إليهم قدما.
ثمّ أشار إلى ما يترتّب على تلك الفتنة من المفاسد العظام و قال (فتزيغ) أى تميل (قلوب بعد استقامة) على سبيل اللَّه (و تضلّ رجال بعد سلامة) في دين اللَّه (و تختلف الأهواء عند هجومها و تلتبس الآراء) الصّحيحة بالفاسدة (عند نجومها) و ظهورها، فيشتبه الحقّ بالباطل و يتيه فيها الجاهل و الغافل (من أشرف لها) أى قابلها و صادمها (قصمته) و هلكته (و من سعى فيها) أى أسرع في إطفائها و اسكاتها (حطمته) و كسرته (يتكادمون فيها تكادم الحمر) الوحش (في العانة) أى في قطيعها.
قال العلامة المجلسي (ره): و لعلّ المراد بتكادمهم مغالبة مثيرى تلك الفتنة بعضهم لبعض، أو مغالبتهم لغيرهم.
و قال الشّارح البحراني: و شبّه ذلك بتكادم الحمر في العانة، و وجه التّشبيه المغالبة مع الايماء أى خلعهم ربق التّكليف من أعناقهم و كثرة غفلتهم عمّا يراد بهم في الآخرة.
(قد اضطرب معقود الحبل) أى قواعد الدّين و الأحكام الشّرعيّة الّتي كلّفوا بها (و عمى وجه الأمر) في اسناد العمى الى الوجه تجوّز، و المراد عدم اهتدائهم الى وجوه الصلاح و طرق الفلاح (تغيض) و تنقص (فيها الحكمة) لسكوت الحكماء عنها و عدم تمكّنهم عن التكلّم بها (و تنطق فيها الظلمة) بما يقتضيه أهواؤهم عن الظّلم و الفساد لمساعدة الزّمان عليهم (و تدقّ) تلك الفتنة (أهل البدو) أى البادية (بمسحلها) أى يفعل بهم ما يفعل المسحل بالحديد أو الخشب (و ترضّهم) أى تدقّهم دقّا جريشا (بكلكلها) أى صدرها شبّه هذه الفتنة بالنّاقة الّتي تبرك على الشي ء فتسحقه بصدرها على سبيل الاستعارة بالكناية و إثبات الكلكل تخييل و الرّضّ ترشيح (يضيع في غبارها الوحدان و يهلك في طريقها الرّكبان) أى لا يخلص منها أحد و لا ينجو منها لشدّتها و قوّتها، فمن كان يسير وحده فانّه يهلك فيها بالكلّيّة و إذا كانوا جماعة فهم يضلّون في طريقها فيهلكون، و لفظ الغبار مستعار للقليل اليسير من حركة أهلها أى إذا أراد القليل من النّاس دفعها هلكوا في غبارها من دون أن يدخلوا في غمارها، و أمّا الرّكبان و هم الكثير من النّاس فانّهم يهلكون في طريقها و عند الخوض فيها.
و على كون الوحدان جمع أوحد فالمراد أنّه يضلّ في غبار هذه الفتنة و شبهها فضلاء عصرها، لغموض الشبّهة و استيلاء الباطل، و يكون الركبان حينئذ كناية عن الجماعة أهل القوّة، فهلاك أهل العلم بالضّلال و هلاك أهل القوّة بالقتل و الاستيصال.
(ترد بمرّ القضاء) أى بالهلاك و البوار و البلايا الصّعبة و ظاهر أنّها واردة عن القضاء الالهي متّصفة بالمرارة (و تحلب عبيط الدّماء) أى الطرىّ الخالص منها و هو كناية عن سفك الدّماء فيها (و تثلم منار الدّين) استعارة للعلماء أو القوانين الشّرع المبين و ثلمها عبارة عن هدمها و عدم العمل بها (و تنقض عقد اليقين) أى العقائد الحقّة الموصلة إلى جوار اللَّه تعالى، و نقضها كناية عن تغيّرها و تبدّلها و ترك العمل على وفقها (تهرب منها الأكياس) أى ذوو العقول السّليمة (و تدبّرها الأرجاس) الأنجاس أى ذوو النفوس الخبيثة (مرعاد مبراق) كثيرة الرّعد و البرق أى ذات تهدّد و وعيد و يجوز أن يراد بالرّعد قعقعة السّلاح و صوته و بالبرق لمعانه و ضوئه.
(كاشفة عن ساق) قال ابن الأثير: السّاق في اللّغة الأمر الشّديد، و كشف السّاق مثل في شدّة الأمر و أصله من كشف الانسان عن ساقه و تشميره إذا وقع في أمر شديد، و في القاموس يذكرون السّاق إذا أرادوا شدّة الأمر و الاخبار عن هو له قال تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ».
أى عن شدّة (تقطع فيها الأرحام و يفارق عليها الاسلام) بجريانها على خلاف قواعد الدّين و قواعد الشّرع المبين.
(بريئها سقيم) قال العلّامة المجلسيّ (ره): أى من يعد نفسه بريئا سالما من المعاصي أو الآفات أو من كان سالما بالنسبة إلى ساير النّاس فهو أيضا مبتلى بها، أو أنّ من لم يكن مائلا إلى المعاصي و أحبّ الخلاص من شرورها لا يمكنه ذلك (و ظاعنها مقيم) اى المرتحل عنها خوفا لا يمكنه الخروج منها أو من اعتقد أنّه متخلّف عنها فهو أيضا داخل فيها لكثرة الشّبه و عموم الضّلالة.
(منها) ما يشبه أن يكون وصفا لحال المتمسّكين بالدّين في زمان الفتنة السّابقة و هو قوله: (بين قتيل مطلول) أى مهدر الدّم لا يطلب به (و خائف مستجير) أى مستامن يطلب الأمان (يختلون بعقد الأيمان) إن كان يختلون بصيغة المجهول فهو إخبار عن حال المخدوعين الّذين يخدعهم غيرهم بعقد العهود و شدّها بمسح ايمانهم أو بالايمان المعقودة فيما بينهم، و على كونه بصيغة المعلوم فهو بيان لحال الخادعين (و بغرور الايمان) أى بالايمان الّذي يظهره الخادعون فيغرّونهم بالمواعيد الكاذبة أو الذي يظهره هؤلاء الموصوفون فيغرّون النّاس به على اختلاف النّسختين
|