و من كلام له عليه السّلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم
و هو المأة و الخامس و الخمسون من المختار فى باب الخطب و شرحها في فصلين:
الفصل الأول منه
فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على اللَّه فليفعل، فإن أطعتموني فإنّي حاملكم إنشاء اللَّه على سبيل الجنّة و إن كان ذا مشقّة شديدة، و مذاقة مريرة، و أمّا فلانة فأدركها رأى النّساء و ضغن غلا في صدرها كمرجل القين، و لو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل و لها بعد حرمتها الاولى و الحساب على اللَّه.
اللغة
(المرجل) وزان منبر القدر و (القين) الحدّاد.
الاعراب
على في قوله: على اللَّه، في الموضعين للاستعلاء المجازي و جملة لم تفعل جواب لو، و الباقي واضح.
المعنى
قال الشّارح البحراني «قدّه» إنّ قوله عليه السّلام (فمن استطاع عند ذلك) يقتضى أنّه سبق منه عليه السّلام قبل هذا الفصل ذكر فتن و حروب يقع بين المسلمين وجب على من أدركها (أن يعتقل نفسه على اللَّه) أى يحبسها على طاعته من دون أن يخالطها و يدخل فيها (فليفعل) لوجوب طاعته سبحانه عقلا و نقلا (فان أطعتموني فانّي حاملكم انشاء اللَّه على سبيل الجنّة) و سبيلها هو الدّين القويم و الصراط المستقيم و إنّما شرط عليه السّلام حملهم عليها باطاعته إذ لا رأى لمن لا يطاع (و إن كان) هذه السّبيل و سلوكها (ذا مشقّة شديدة و مذاقة مريرة) لظهور أنّ النّفوس مايلة إلى اللّهو و الباطل، و المواظبة على الطّاعات و الوقوف عند المحرّمات أمر شاقّ شديد المشقّة مرّ المذاق بعيد عن المساغ البتّة.
(و أمّا فلانة) كنّى بها عن عايشة و لعلّه من السيّد «ره» تقيّة كما كنّى في الخطبة الشّقشقيّة عن أبي بكر بفلان (فأدركها رأى النّساء) أى ضعف الرّأى فانّ رأيهنّ إلى الأفن و عزمهنّ إلى الوهن، و قد تقدّم ما ما يدلّ على نقصان حظوظهنّ و عقولهنّ و ميراثهنّ و ساير خصالهنّ المذمومة في الكلام التّاسع و السّبعين و شرحه (و ضغن) أى حقد (غلافي صدرها كمرجل القين) أى كغليان قدر الحدّاد، و هو من تشبيه المعقول بالمحسوس، و وجه الشّبه الشّدة و الدّوام و أسباب ضغنها كثيرة ستطّلع عليها بعيد ذلك.
(و لو دعيت لتنال غيري ما أتت إلىّ لم تفعل) قال الشّارح المعتزليّ: يقول لو أنّ عمر وليّ الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الّذي قتل عليه و الوجه الّذي أنا ولّيت الخلافة عليه و نسب عمر إلى أنّه كان يؤثر قتله أو يحرض عليه، و دعيت إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الاسلام تثير فتنة و تنقض البيعة لم تفعل، و هذا حقّ لأنّها لم تكن تجد على عمر ما تجده على عليّ عليه السّلام و لا الحال الحال، انتهى.
و محصّله أنّه عليه السّلام أراد بقوله من غيري عمر قال العلّامة المجلسيّ: و الأظهر الأعمّ، أى لو كان عمر أو أحد من أضرابه وليّ الخلافة بعد قتل عثمان و دعيت إلى أن تخرج إليه لم تفعل (و لها بعد حرمتها الأولى) أى كونها من امّهات المؤمنين (و الحساب على اللَّه) هذا من باب الاحتراس الّذي تقدّم في ديباجة الشّرح أنّه من جملة المحسّنات البديعيّة، فانّه عليه السّلام لما أثبت لها حرمتها الاولى عقّبه بذلك لئلا يتوهّم منه أنّها محترمة في الدّنيا و العقبى، و نبّه به على أنّ حرمتها ملحوظة في الدّنيا فقط لرعاية احترام الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أمّا في الأخرى فجزاء ضغنها و خروجها عن طاعة الامام المفترض الطّاعة و إثارتها الفتنة المؤدّية إلى إراقة دماء المسلمين على اللَّه سبحانه إذ من يعمل مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرا يره و قد قال تعالى: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً»
تذييل في ذكر عايشه و ذكر أسباب ضغنها
أورد الشّارح المعتزلي في شرح هذا الكلام له عليه السّلام فصلا طويلا كم فيه من التّصريح و التعريض و التلويح إلى مثالب عايشة و مطاعنها و إن لم يرفع الشّارح يده مع ذلك كلّه عن ذيل الاعتساف و التّعصّب أحببت ايراد ذلك الكلام على طوله لأنّه من لسان أبنائها أحلى و نعقّبه إنشاء اللَّه بما عندنا من القول الفصل الّذي ليس هو بالهزل، و من الحقّ الذي هو أحقّ أن يتّبع، فأقول: قال الشارح: كانت عايشة فقيهة راوية للشّعر ذات حظّ من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و كانت لها عليه جرأة و إدلال لم يزل ينمى و يستسرى حتّى كان منها في أمره في قصّة مارية ما كانت من الحديث الذّي أسرّه إلى الزّوجة الأخرى و أدّى إلى تظاهرهما عليه و أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب يتضمّن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذّنب و صغو القلب و أعقبتها تلك الجرأة و ذلك الانبساط أن حدث منها في أيّام الخلافة العلويّة ما حدث، و لقد عفى اللَّه تعالى عنها و هى من أهل الجنّة عندنا بسابق الوعد و ما صحّ من أمر التّوبة إلى أن قال:
فأمّا قوله عليه السّلام: أدركها رأى النّساء، أى ضعف آرائهنّ و قد جاء في الخبر لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، و جاء أنّهنّ قليلات عقل و دين، أو قال ضعيفات و لذلك جعل شهادة المرأتين بشهادة الرّجل الواحد، و المرأة في أصل الخلقة سريعة الانخداع سريعة الغضب سيّئة الظنّ فاسدة التّدبير، و الشجاعة فيهنّ مفقودة أو قليلة و كذلك السّخاء.
قال الشّارح: و أمّا الضغن فاعلم أنّ هذا الكلام يحتاج إلى شرح، و قد كنت قرأته على الشّيخ أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللّمعاني (ره) أيّام اشتغالى عليه بعلم الكلام، و سألته عمّا عنده فأجابني بجواب طويل أنا أذكر محصوله بعضه بلفظه و بعضه بلفظي فقد شذّ عنّي الآن لفظه كلّه بعينه قال: أوّل بداء الضغن كان بينها و بين فاطمة عليها السلام، و ذلك لأنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله تزوّجها عقيب موت خديجة فأقامها مقامها، و فاطمة عليها السّلام هى ابنة خديجة، و من المعلوم أنّ ابنة الرّجل إذا ماتت أمّها و تزوّج أبوها أخرى كان بين الابنة و بين المرأة كدروشنان، و هذا لا بدّ منه لأنّ الزّوجة تنفس عليها ميل الأب، و البنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة كالضّرة لامّها، بل هى ضرّة على الحقيقة و إن كانت الامّ ميتة و لأنا لو قدّرنا الامّ حيّة لكانت العداوة مضطرمة متسعّرة فاذا كانت قد ماتت ورثتها بنتها تلك العداوة.
ثمّ اتّفق أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم مال إليها و أحبّها فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله، و أكرم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فاطمة إكراما عظيما أكثر ممّا كان النّاس يظنّونه و أكثر من إكرام الرّجال لبناتهم حتّى خرج بها عن حدّ حبّ الآباء للأولاد فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بمحضر الخاصّ و العامّ مرارا لا مرّة واحدة، و في مقامات مختلفة لا في مقام واحد: إنّها سيّدة نساء العالمين، و إنّها عديلة مريم بنت عمران، و إنّها إذا مرّت في الموقف نادى مناد من جهة العرش يا أهل الموقف غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمّد صلّى اللَّه عليه و آله، و هذا من الأحاديث الصحيحة و ليس من الأخبار المستضعفة و أنّ انكاحه عليا إيّاها ما كان إلّا بعد أن أنكحه اللَّه إيّاها في السّماء بشهادة الملائكة و كم قال لا مرّة: يؤذيني ما يؤذيها و يغضبني ما يغضبها، و إنها بضعة يريبني ما رابها.
فكان هذا و أمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزّوجة حسب زيادة هذا التعظيم و التبجيل، و النفوس البشريّة تغيظ على ما هو دون هذا فكيف هذا ثمّ حصل عند بعلها عليهما السّلام ما هو حاصل عندها أعني عليّا عليه السّلام، فانّ النساء كثيرا ما يحصلن الأحقاد في قلوب الرّجال لا سيّما و هنّ محدّثات اللّيل كما قيل في المثل، و كانت تكثر الشكوى من عايشة و يغشيها نساء المدينة و جيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عايشة ثمّ يذهبن إلى بيت عايشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة، و كما كانت فاطمة تشكو إلى بعلها كانت عايشة تشكو إلي أبيها لعلمها أنّ بعلها لا يشكيها على ابنته فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما.
ثمّ تزايد تقريظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ و تقريبه و اختصاصه، فأحدث ذلك حسدا له و غيظة في نفس أبي بكر عنه و هو أبوها و في نفس طلحة و هو ابن عمّها و هي تجلس إليهما و تسمع كلامهما و هما يجلسان إليها و يحادثانها فأعدى إليها منهما كما أعدى إليهما منها.
قال: و لست ابرّى ء عليّا من مثل ذلك، فانه كان ينفس على أبي بكر سكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه و ثنائه عليه، و يحبّ أن ينفرد هو بهذه المزايا و الخصائص دونه و دون الناس أجمعين، و من انحرف عن إنسان انحرف عن أهله و أولاده فتأكّدت البغضة بين هذين الفريقين.
ثمّ كان من أمر القذف ما كان و لم يكن عليّ عليه السّلام من القاذفين و لكنه كان من المشيرين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بطلاقها تنزيّها لعرضه عن أقوال الشناة و المنافقين قال له لما استشاره: إن هى إلّا شسع نعلك و قال له: سل الخادم و خوّفها و إن أقامت على الجحود فاضربها و بلغ عايشة هذا الكلام كلّه و سمعت أضعافه ممّا جرت عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة، و نقل النساء إليها كلاما كثيرا عن عليّ و فاطمة فاشتدّت و غلظت و طوى كلّ من الفريقين قلبه على الشنآن لصاحبه ثمّ كان بينها و بين عليّ عليه السّلام في حياة رسول اللَّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحوال و أقوال كلّها تقتضى تهيّج ما في النفوس، نحو قولها له و قد استدناه رسول اللّه فجاء حتّى قعد بينه و بينها و هما متلاصقان: أما وجدت مقعدا لكذا- لا تكنى عنه- إلّا فخذى، و نحو ما روي أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سايره يوما و أطال مناجاته فجاءت و هى سايرة خلفهما حتّى دخلت بينهما و قالت: فيم أنتما فقد أطلتما، فيقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غضب ذلك اليوم و ما روى في حديث الجفنة من الثريد التي أمرت الخادم فوقفت لها فاكفأتها و نحوها ممّا يكون بين الأهل و بين المرأة و أحماتها.
ثمّ اتّفق أنّ فاطمة ولدت أولادا كثيرا بنين و بنات و لم تلد هى ولدا، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقيم بني فاطمة مقام بنيه و يسمّى الواحد منهما و يقول: دعوا لى ابني، و لا تزرموا على ابني، و ما فعل ابني، فما ظنّك بالزّوجة إذا حرمت الولد من البعل ثمّ رأت البعل يتبنّى بني ابنته من غيرها و يحنو عليهم حنو الولد المشفق هل تكون محبّة لأولئك البنين و لامّهم و لأبيهم أم مبغضة و هل تودّ دوام ذلك و استمراره أم زواله و انقضائه ثمّ اتّفق أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سدّ باب أبيها إلى المسجد و فتح باب صهره ثمّ بعث أباها ببراءة إلى مكّة ثمّ عزله عنها بصهره، فقدح ذلك أيضا في نفسها.
و ولد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إبراهيم من مارية فأظهر عليّ عليه السّلام بذلك سرورا كثيرا و كان يتعصّب لمارية و يقوم بأمرها عند رسول اللّه ميلا على غيرها، و جرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عايشة فبرّها عليّ عليه السّلام منه و كشف بطلانها و كشفه اللّه تعالى على يده و كان ذلك كشفا محسّا بالبصر لا يتهيّأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوا في القرآن المنزل ببراءة عايشة، و كلّ ذلك مما كان يوعر صدر عايشة عليه و يؤكّد ما في نفسها منه. ثمّ مات إبراهيم فأبطنت شماتة و إن أظهرت كأبة، و وجم عليّ عليه السّلام من ذلك و كذلك فاطمة و كانا يؤثران و يريدان أن تتميّز مارية عليها بالولد فلم يقدّر لهما و لا لمارية ذلك.
و بقيت الأمور على ما هى عليه و في النّفوس ما فيها، حتّى مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المرض الّذي توفّى فيه، فكانت فاطمة و عليّ يريدان أن يمرّضاه في بيتهما و كذلك كانت أزواجه فمال إلى بيت عايشة بمقتضى المحبّة القلبيّة الّتي كانت لها دون نسائه، و كره أن يزاحم فاطمة و بعلها في بيتهما فلا يكون عنده من الانبساط بوجودهما ما يكون إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه و علم أنّ المريض يحتاج إلى فضل مداراة و نوم و يقظة و انكشاف و خروج حدث فكانت نفسه إلى بيته أسكن منها إلى بيت صهره و بنته فانّه إذا تصوّر حيائهما منه استحيى هو أيضا منهما و كلّ أحد يحبّ أن يخلو بنفسه و يحتشم الصّهر و البنت و لم يكن له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى غيرها من الزّوجات مثل ذلك الميل اليها فتمرّض في بيتها فغبطت على ذلك، و لم يمرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منذ قدم المدينة مثل ذلك المرض و إنّما كان مرضه الشقيقة يوما أو بعض يوم ثمّ تبرء فتطاول هذا المرض.
و كان عليّ عليه السّلام لا يشكّ أنّ الأمر له و أنّه لا ينازعه فيه أحد من النّاس و لهذا قال له عمّه و قد مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: امدد يدك أبايعك، فيقول النّاس عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بايع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يختلف عليك اثنان، قال: يا عمّ و هل يطمع فيها طامع غيري قال: ستعلم، قال: فانّى لا أحبّ هذا الأمر من وراء رتاج و أحبّ أن اصهر «اصحر» به فسكت عنه.
فلما ثقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مرضه أنفذ جيش اسامة و جعل فيه أبا بكر و غيره من أعلام المهاجرين و الأنصار، فكان عليّ عليه السّلام حينئذ بوصوله إلى الأمر إن حدث برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوثق، و تغلب على ظنّه أنّ المدينة لو مات صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكليّة، فيأخذه صفوا عفوا، و يتمّ له البيعة فلا يتهيّأ فسخها لو رام ضدّ منازعة عليها. فكان من عود أبي بكر من جيش اسامة بارسالها إليه و إعلامه بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يموت ما كان، و من حديث الصّلاة ما عرفت، فنسب عليّ عليه السّلام عايشة إلى أنّها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصلّ بالنّاس، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما روى قال: ليصلّ بهم أحدهم و لم يعيّن و كانت صلاة الصّبح.
فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو في آخر رمق يتهادى بين عليّ عليه السّلام و الفضل ابن العبّاس حتّى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثمّ دخل فمات ارتفاع الضّحى فجعل يوم صلاته حجّة في صرف الأمر إليه، و قال: أيّكم أطيب نفسا أن يتقدّم قدمين قدّمهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصّلاة و لم يحملوا خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الصلاة لصرفه عنها بل لمحافظته على الصّلاة مهما أمكن.
فبويع على هذه النّكتة الّتي اتّهمها عليّ عليه السّلام أنّها ابتدأت منها و كان عليّ عليه السّلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا و يقول: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقل إنّكنّ لصويحبات يوسف إلّا إنكارا لهذه الحال و غضبا منها لأنّها و حفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما و أنّه استدركها بخروجه و صرفه عن المحراب فلم يجد ذلك و لا أثر مع قوّة الدّاعي الّذي يدعو الى أبي بكر و يمهد له قاعدة الأمر و تقرّر حاله في نفوس النّاس و من اتّبعه على ذلك من أعيان المهاجرين و الأنصار و لما ساعد على ذلك من الحظ الفلكى الأمر السّمائي الّذي جمع عليه القلوب و الأهواء فكانت هذه الحال عند عليّ عليه السّلام أعظم من كلّ عظيم و هى الطّامة الكبرى و المصيبة العظمى و لم ينسبها إلّا إلى عايشة وحدها، و لا علّق الأمر الواقع إلّا بها، فدعا عليها في خلواته و بين خواصّه و تظلّم إلى اللّه منها، و جرى له في تخلّفه عن البيعة ما هو مشهور حتّى بايع.
و كان تبلغه و فاطمة عنها كلّ ما يكرهانه منذ مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أن توفّيت فاطمة عليها السلام و هما صابران على مضض و رمض، و استظهرت بولاية أبيها و استطالت و عظم شأنها و انخذل عليّ عليه السّلام و فاطمة و قهرا، و أخذت فدك و خرجت فاطمة تجادل في ذلك مرارا فلم تظفر بشي ء. و في كلّ ذلك تبلّغها النّساء الداخلات و الخارجات عن عايشة كلّ كلام يسوؤها و يبلغن عايشة عنها و عن بعلها مثل ذلك، إلّا أنّه شتّان ما بين الحالين و بعد ما بين الفريقين، هذه غالبة و هذه مغلوبة، هذه آمرة و هذه مأمورة و ظهر التّشفى و الشّماتة و لا شي ء أعظم مرارة و مشقّة من شماتة العدوّ.
قال الشارح: فقلت له: أ فتقول أنت إنّ عايشة عيّنت أباها للصّلاة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يعيّنه فقال: أما أنا فلا أقول ذلك، و لكن عليّا عليه السّلام كان يقوله، و تكليفي غير تكليفه كان حاضرا و لم أكن حاضرا، فأنا محجوج بالأخبار الّتي اتّصلت بي و هى تتضمّن تعيين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأبي بكر في الصلاة و هو محجوج بما كان قد علمه أو يغلب على ظنّه من الحال الّتي كان حضرها.
قال: ثمّ ماتت فاطمة عليها السلام فجاء نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّهنّ إلى بني هاشم في العزاء إلّا عايشة، فانها لم تأت أظهرت مرضا، و نقل إلى عليّ عليه السّلام عنها كلام يدلّ على السرور.
ثمّ بايع عليّ عليه السّلام أباها فسّرت بذلك و أظهرت من الاستبشار بتمام البيعة و استقرار الخلافة و بطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأكثروا.
و استمرّت الامور على هذه مدّة خلافة أبيها و خلافة عمر و عثمان، و القلوب تغلى و الأحقاد تذيب الحجارة، و كلّما طال الزّمان على عليّ عليه السّلام تضاعفت همومه و غمومه، و باح بما في نفسه إلى أن قتل عثمان و قد كانت عايشة أشدّ الناس عليه تأليبا و تحريضا، فقالت: أبعده اللّه لما سمعت قتله و أمّلت أن يكون الخلافة في طلحة فيعود الأمر تيميّة كما كانت أوّلا، فعدل الناس عنه إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فلما سمعت ذلك صرخت وا عثماناه قتل عثمان مظلوما و ثارما في الأنفس حتى تولد من ذلك يوم الجمل و ما بعده.
قال الشّارح: هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب و لم يكن يتشيّع، و كان شديدا في الاعتزال إلّا أنّه كان في التفضيل بغداديّا.
ثم قال الشارح في شرح قوله عليه السّلام و الحساب على اللّه: فان قلت: هذا الكلام يدلّ على توقّفه في أمرها و أنتم تقولون إنّها من أهل الجنّة فكيف تجمعون بين مذاهبكم و هذا الكلام قلت: يجوز أن يكون عليه السّلام قال هذا الكلام قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها فانّ أصحابنا يقولون: إنّها تابت بعد قتل أمير المؤمنين عليه السّلام و ندمت و قالت: لوددت أنّ لي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة بنين كلّهم ماتوا و لم يكن يوم الجمل، و أنّها كانت بعد قتله تثنى عليه و تنشر مناقبه.
مع أنّهم رووا أيضا أنّها عقيب الجمل كانت تبكى حتّى تبلّ خمارها، و أنّها استغفرت اللّه و ندمت و لكن لم تبلغ أمير المؤمنين عليه السّلام حديث توبتها عقيب الجمل بلاغا يقطع العذر و يثبت الحجّة و الّذي شاع عنها من أمر النّدم و التّوبة شياعا مستفيضا إنّما كان بعد قتله عليه السّلام إلى أن ماتت و هى على ذلك، و التّائب مغفور له و يجب قبول التوبة عندنا في العدل و قد أكّد وقوع التّوبة منها ما روى في الأخبار المشهورة أنّها زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الآخرة كما كانت زوجته في الدّنيا، و مثل هذا الخبر إذا شاع أوجب علينا أن نتكلّف إثبات توبتها لو لم ينقل فكيف و النّقل لها يكاد أن يبلغ حدّ التّواتر، انتهى كلام الشّارح المعتزلي.
و ينبغي لنا أن نعقبه بما عندنا في هذا المقام فأقول و باللّه التكلان: اماما اشار اليه الشّارح من أنّه كان من عايشة في أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قصّة مارية ما كان من الحديث الّذي أسرّه إلى الزوجة الاخرى و أدّى إلى تظاهرهما عليه و أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب آه فشرحه ما ذكره المفسّرون من العامّة و الخاصّة في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» قال في الكشّاف: روى أنّه عليه الصّلاة و السّلام خلا بمارية في يوم عايشة و علمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمى عليّ و قد حرمت مارية على نفسى و ابشرك أنّ أبا بكر و عمر يملكان بعدى أمر امّتي فأخبرت به و كانتا متصادقتين، و في التّفسير الكبير في تفسير قوله تعالى: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ» قال الفخر الرّازي يعني ما أسرّ إلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه و استكتمها ذلك، و قيل: لمّا رأى النّبي الغيرة في وجه حفصة أراد أن يرضاها فأسرّ إليها بشيئين: تحريم الأمة على نفسه، و البشارة بأنّ الخلافة بعده في أبي بكر و أبيها عمر، قاله ابن عباس و قوله: فلمّا نبأت به أى أخبرت به عايشة و أظهره اللّه عليه اطلع نبيّه على قول حفصة لعايشة فأخبر النّبيّ حفصة عند ذلك ببعض ما قالت و هو قوله تعالى: عرّف بعضه حفصة و أعرض عن بعض لم يخبرها انّك أخبرت عايشة على وجه التّكريم و الإغضاء، و الذي أعرض عنه ذكر خلافة أبي بكر و عمر و قال القمّي: سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في بعض بيوت نسائه، و كانت مارية القبطيّة تكون معه تخدمه، و كان ذات يوم في بيت حفصة، فذهبت حفصة في حاجة لها فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مارية فعلمت حفصة بذلك فغضبت و أقبلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه في يومي و في دارى و على فراشي، فاستحى رسول اللّه منها فقال: كفى فقد حرّمت مارية على نفسي و لا أطاها بعد هذا أبدا، و أنا أقضى اليك سرّا إن أنت أخبرت به فعليك لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين فقالت: نعم ما هو فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي، ثمّ بعده أبوك فقالت من أنباك فقال نبّأني العليم الخبير، فأخبرت حفصة به عايشة من يومها ذلك و أخبرت عايشة أبا بكر فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له: إنّ عايشة أخبرتني عن حفصة بشي ء و لا أثق بقولها، فاسأل أنت حفصة، فجاء عمر إلى حفصة فقال لها: ما هذا الّذي أخبرت عنك عايشة فأنكرت ذلك و قالت: ما قلت لها من ذلك شيئا، فقال عمر: إنّ هذا حقّ فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه، فقالت: نعم قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاجتمعوا أربعة على أن يسمّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذه السّورة قال: و أظهره اللّه عليه يعني و أظهره اللّه على ما أخبرت به و ما همّوا به من قتله عرف بعضه أى خبرها و قال: لم أخبرت بما خبرتك به و أعرض عن بعض قال: لم يخبرهم بما يعلم بما همّوا به من قتله، و قال تعالى في هذه السّورة: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» قال في تفسير الصّافي: مثل اللّه حال الكفّار و المنافقين في أنّهم يعاقبون بكفرهم و نفاقهم و لا يحابون بما بينهم و بين النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين من النّسبة و الوصلة بحال امرأة نوح و امرأة لوط، و فيه تعريض بعايشة و حفصة في خيانتهما رسول اللّه بافشاء سرّه و نفاقهما إيّاه و تظاهرهما عليه كما فعلت امرئتا الرّسولين فلم يغن الرّسولان عنهما بحقّ الزّواج إغناء ما و قيل لهما بعد موتهما أو يوم القيامة: ادخلا النّار مع الدّاخلين الّذين لا وصلة بينهم و بين الأنبياء.
و اما اسباب الضّغن التي بين عايشة و فاطمة عليها السّلام على ما فصّلها و حكاها عن الشّيخ أبى يعقوب اللّمعاني فهى كما ذكره إلّا أنّ اللّائمة فيها كلّها راجعة إلى عايشة و أبيها، و تشريكه بينهما و بين فاطمة و بعلها سلام اللّه عليهما في ذلك أى في الاتّصاف بالضغن و الحقد و الحسد غلط فاحش بعد شهادة آية التطهير و غيرها بعصمتهما و برائة ساحتهما عن دنس المعاصي و الذّنوب و طهارة ذيلهما عن وسخ الآثام و العيوب.
و من ذلك يعلم ما في قوله: و لست أبرّء عليّا من مثل ذلك فانّه كان ينفس على أبي بكر سكون النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه و ثنائه عليه و يحبّ أن ينفرد هو بهذه المزايا و الخصائص دونه و دون النّاس أجمعين مضافا إلى ما فيه من أنّا لم نسمع إلى الآن لأبى بكر مزيّة و خاصّة و مكرمة اختصّ بها، و لم نظفر بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما أثنا عليه و سكن اليه، و الأخبار المفصحة عن شقاقه و نفاقه و إزراء الرّسول عليه في غير موطن فوق حدّ الاحصاء، و لو لم يكن شاهد على عدم سكونه إليه غير بعثه بسورة برائة إلى مكّة ثمّ عزله عنها لكفى.
و أمّا الحديث الذي رواه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعني قوله: و كم قال لا مرّة يؤذيني ما يؤذيها و يغضبني ما يغضبها، فهو حديث صحيح رواه العامّة و الخاصّة، و ما أدرى ما يجيب متعصّبى أبي بكر و عمر عن ذلك، فانّ غصبهما فدك منها و أمرهما باحراق باب بيتها و إخراج بعلها ملبّبا إلى المسجد للبيعة كان بالضّرورة موجبا لغضبها و اذيها، فاذا انضمّ إلى ذلك الحديث الّذي رووه و أضيف إليهما قوله سبحانه وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ينتج أنّهما في العذاب الأليم و السّخط العظيم كما مرّ تفصيله في التّنبيه الثّاني في شرح الكلام السّادس و السّتين، و قد تقدّم هناك قول الشّارح أنّ الصحيح عندى أنها ماتت و هي واجدة على أبي بكر و عمر، و أنها أوصت أن لا يصلّيا عليها، فانظر ما ذا ترى.
و أما ما تكلّفه الشارح في آخر كلامه في اثبات توبة الخاطئة فدعوى لا تفى باثباتها بيّنة و هو يريد اصلاح أمرها- و لن يصلح العطّار ما أفسد الدّهر- و كيف تتوب عن خطائها و تندم على تفريطها بعد رسوخ الضغن في هذه السنين المتطاولة في قلبها و تزايد أسباب الحقد و الحسد و تراكمها يوما فيوما على ما فصّلها الشارح عن اللّمعاني، و قد تقدّم ما يرشدك إلى بطلان هذه الدعوى في شرح الكلام التاسع و السبعين و اورد هنا مضافا إلى ما سبق ما حققه شيخ الطايفة قدّس اللّه روحه في تلخيص الشافي في إبطال تلك الدّعوى.
قال في محكىّ كلامه في البحار: و أمّا الكلام في توبة عايشة فما بيناه من الطرق الثلاث في توبة طلحة و الزّبير هى معتمدة فيما يدّعونه من توبة عايشة.
أوّلها أنّ جميع ما يروونه من الأخبار لا يمكن ادّعاء العلم فيها و لا القطع على صحّتها، و أحسن الأحوال فيها أن يوجب الظنّ و قد بيّنا أنّ المعلوم لا يرجع عنه بالمظنون.
و الثاني أنها معارضة بأخبار تزيد ما رووه في القوّة أو تساويه، فمن ذلك ما رواه الواقدى باسناده عن مسعبة عن ابن عباس قال: أرسلنى علىّ إلى عايشة بعد الهزيمة و هى فى دار الخزاعييّن يأمرها أن ترجع إلى بلادها و ساق الحديث إلى قوله فبكت مرّة أخرى أشدّ من بكائها الأوّل ثمّ قالت: و اللّه لئن لم يغفر اللّه لنا لنهلكنّ ثمّ ساق الحديث إلى آخره ثمّ قال: فان قيل: ففى هذا الخبر دليل على التوبة و هى قولها عقيب بكائها لئن لم يغفر اللّه لنا لنهلكنّ.
قلنا: قد كشف الأمر ما عقبت هذا الكلام به من اعترافها ببغض أمير المؤمنين و بغض أصحابه المؤمنين، و قد أوجب اللّه عليها محبّتهم و تعظيمهم، و هذا دليل على الاصرار و أنّ بكائها إنّما كان للخيبة لا للتّوبة، و ما كان في قولها لئن لم يغفر اللّه لنا لنهلكنّ من دليل على التّوبة و قد يقول المصرّ مثل ذلك إذا كان عارفا بخطائه فيما ارتكبه، و ليس كلّ من ارتكب ذنبا يعتقد أنّه حسن حتّى لا يكون خائفا من العقاب عليه، و أكثر مرتكبى الذّنوب يخافون العقاب مع الاصرار، و يظهر منهم مثل ما حكى من عايشة و لا يكون توبة و روى الواقدي باسناده أنّ عمّارا رحمة اللّه عليه استأذن على عايشة بالبصرة بعد الفتح فأذنت له فدخل فقال: يا امه كيف رأيت اللّه صنع حين جمع بين الحقّ و الباطل ألم يظهر اللّه الحقّ على الباطل و يزهق الباطل فقالت: إنّ الحرب دول و سجال و قد اديل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لكن انظر يا عمّار كيف تكون في عاقبة أمرك.
و روى الطبرىّ في تاريخه أنّه لمّا انتهى إلى عايشة قتل أمير المؤمنين قالت:
- فألقت عصاها و استقرّ بها النّوىكما قرّ عينا بالأياب المسافر
من قتله فقيل: رجل من مراد، فقالت:
- فان يك تائبا فلقد نعاهبنعى ليس في فيه التراب
فقالت زينب بنت سلمة بن أبي سلمة: أ لعلىّ تقولين هذا فقالت: إنّى أنسى فاذا نسيت فذكّروني، و هذه سخريّة منها بزينب و تمويه خوفا من شناعتها، و معلوم أنّ النّاسي و السّاهى لا يتمثّل بالشّعر في الأغراض المطابقة، و لم يكن ذلك منها إلّا عن قصد و معرفة.
و روى عن ابن عبّاس أنّه قال لأمير المؤمنين لمّا أبت عايشة الرّجوع إلى المدينة: أرى أن تدعها يا أمير المؤمنين بالبصرة و لا ترحلها، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّها لا تالو شرّا و لكنّي أردّها إلى بيتها الّذي تركها فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ اللّه بالغ أمره.
و روى محمّد بن إسحاق عن جنادة أنّ عايشة لمّا وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة لم تزل تحرّض النّاس على أمير المؤمنين، و كتبت إلى معاوية و إلى أهل الشّام مع الأسود بن أبي البختري تحرّضهم عليه صلوات اللّه عليه.
و روى عن مسروق أنّه قال: دخلت على عايشة فجلست إليها فحدّثتني و استدعت غلاما أسود يقال له: عبد الرّحمن، فجاء حتّى وقف فقالت: يا مسروق أ تدرى لم سمّيته عبد الرّحمن فقلت: لا، فقالت: حبّا منّى لعبد الرّحمن بن ملجم فأمّا قصّتها في دفن الحسن فمشهورة حتّى قال لها عبد اللّه بن عباس: يوما على بغل و يوما على جمل، فقالت: أو ما نسيتم يوم الجمل يا ابن عبّاس إنّكم لذوو أحقاد.
و لو ذهبنا إلى تقصّى ما روى عنها من الكلام الغليظ الشّديد الدّالّ على بقاء العداوة و استمرار الحقد و الضغينة لأطلنا و أكثرنا، و ما روى عنها من التّلهف و التّحسّر على ما صدر عنها فلا يدلّ على التّوبة إذ يجوز أن يكون ذلك من حيث خابت عن طلبتها و لم تظفر ببغيتها مع الذّلّ الّذي لحقها و ألحقها العار في الدّنيا و الاثم في الآخرة، انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: و يدلّ على استمرار حقدها و بقاء عداوتها أيضا ما في الارشاد للمفيد (ره) قال: روى عكرمة عن عايشة في حديثها له بمرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وفاته فقالت في جملة ذلك: فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متوكّئا على رجلين أحدهما الفضل بن العبّاس، فلما حكى عنها ذلك لعبد اللّه بن العبّاس قال له: أ تعرف الرّجل الآخر قال: لا لم تسمّه لي، قال: ذاك عليّ بن أبي طالب و ما كانت امّنا تذكره بخير و هى تستطيع.
|