و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الثانية و الستون من المختار في باب الخطب الحمد للّه خالق العباد، و ساطح المهاد، و مسيل الوهاد، و مخصّب النّجاد، ليس لأوّليّته ابتداء، و لا لأزليّته انقضاء، هو الأوّل لم يزل، و الباقي بلا أجل، خرّت له الجباه، و وحّدته الشّفاه، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدّره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح و الأدوات، لا يقال له متى، و لا يضرب له أمد بحتّى، الظاهر لا يقال ممّا، و الباطن لا يقال فيما، لا شبح فيتقضّى، و لا محجوب فيحوى، لم يقرب من الأشياء بالتصاق، و لم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، و لا كرور لفظة، و لا ازدلاف ربوة، و لا انبساط خطوة، في ليل داج، و لا غسق ساج، يتفيّؤ عليه القمر المنير، و تعقبه الشّمس ذات النّور، في الافول و الكرور، و تقليب الأزمنة و الدّهور، من إقبال ليل مقبل، و إدبار نهار مدبر، قبل كلّ غاية و مدّة، و كلّ إحصاء و عدّة، تعالى عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار، و نهايات الأقطار، و تأثّل المساكن، و تمكّن الأماكن، فالحدّ لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب
اللغة
(المهاد) بالكسر الفراش و الجمع مهد ككتاب و كتب و (سال) الماء سيلا و سيلانا إذا طغا و جرى و أسلته اسالة أجريته و (الوهاد) جمع وهدة و هي الأرض المنخفضة و (النجد) الأرض المرتفعة و الجمع أنجاد و نجاد و نجود و (شخص) الرّجل بصره إذا فتح عينيه لا يطرف و (ازدلف) و تزلف أى تقدّم و اقترب و المزدلفة موضع بين عرفات و منى سمّى بها لأنّه يتقرّب فيها إلى اللّه أو لاقتراب الناس إلى منى بعد الافاضة أو لمجي ء النّاس إليها في زلف من اللّيل. و (الرّبوة) بضمّ الرّاء و كسرها و الفتح لغة بنى تميم المكان المرتفع و (الغسق) محركة الظّلام أو ظلمة أوّل اللّيل و (تفيّاء) الظلّ تقلّب و رجع من جانب إلى جانب قال سبحانه: «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ» و (عقبت) زيدا عقبا من باب قتل و عقوبا و عقّبته بالتشديد جئت بعده، و منه سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العاقب لأنّه عقب من كان قبله من الأنبياء أي جاء بعدهم، و تعقبه الشّمس مضارع عقب بالتخفيف و يروى يعقّبه مضارع عقّب بالتضعيف و في نسخة الشارح المعتزلي تعقّبه قال الشارح أى تتعقّبه فحذف إحدى التائين كما قال سبحانه: «الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» و (تأثّل) المال اكتسبه و (أحار) جوابا يحيره ردّه.
الاعراب
من في قوله: من عباده، ابتدائية، و قوله: في ليل، متعلّق بقوله: يخفى، أو بالشخوص، و الكرور و الازدلاف و الانبساط على سبيل التنازع و الثاني أظهر و أولى كما لا يخفى، و قوله: في الافول و الكرور، ظرف لغو متعلّق بتعقب، و قال الشارح المعتزلي: ظرف مستقرّ في موضع نصب على الحال، أي و تعقبه كارّا و آفلا و من فى قوله: من اقبال، بيان التّقليب.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للثناء على اللّه سبحانه و تعظيمه و تمجيده بجملة من نعوت جماله و صفات جلاله.
قال الشارح المعتزلي: اعلم أنّ هذا الفنّ هو الّذي بان به أمير المؤمنين عليه السّلام عن العرب في زمانه قاطبة، و استحقّ به الفضل و التقدّم عليهم أجمعين، و ذلك لأنّ الخاصّة التي يتميّز بها الانسان عن البهايم هى العقل و العلم، ألا ترى أنّه يشاركه غيره من الحيوانات في اللّحميّة و الدّمويّة و القوّة و القدرة و الحركة الكاينة على سبيل الارادة و الاختيار، فليس الامتياز إلّا بالقوّة الناطقة أى العاقلة العالمة، فكلّما كان الانسان أكثر حظّا منها كانت انسانيّته أتمّ.
و معلوم أنّ هذا الرّجل انفرد بهذا الفنّ و هو أشرف العلوم، لأنّ معلومه أشرف المعلومات، و لم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفنّ حرف واحد و لا كانت أذهانهم يصل إلى هذا و لا يفهمونه، فهو بهذا الفنّ منفرد و بغيره من الفنون و هى العلوم الشرعية مشارك لهم و أرجح عليهم، فكان أكمل منهم، لأنا قد بيّنا أنّ الأعلم أدخل في صورة الانسانية، و هذا هو معنى الأفضليّة انتهى.
أقول: قد مرّ غير مرّة أنه بعد الاعتراف و الاذعان بكونه عليه السّلام أفضل و أكمل من غيره كيف يجوّز تقديم غيره عليه و بعد الاقرار باختصاص العلم الالهي به عليه السّلام و باشتراكه مع غيره و رجحانه عليهم في ساير العلوم كيف يسوّغ القول بحقية امامة غيره و الحال أنّ ترجيح المرجوح على الرّاجح قبيح عقلا على اصول العدليّة فضلا عن النقل قال تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» و قال أيضا: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى ».
فيا عجبا عجبا يقوم بالخلافة من لا يعرف معنى عنبا و أبّا، و يعتزل في جنح بيته من عنده علم الكتاب و له الفضل على غيره من كلّ باب و إلى اللّه الشكوى من دهر يربي الجهل و الضلال، و يمحق الفضل و الكمال فلنرجع إلى شرح كلامه فأقول: إنّه حمد اللّه سبحانه و أثنى عليه بأوصاف كمالية فقال (الحمد للّه خالق العباد) أى الملائكة و الانس و الجنّ و تخصيصهم من ساير المخلوقات بالذكر مع أنه خالق كلّ شي ء تشرّفهم بشرف التكليف (و ساطح المهاد) أى جعل الأرض فراشا و بساطا للناس و سطحها على الماء بقدرته الكاملة و رحمته السابغة، و في ذلك من دلائل القدرة و آثار الكبرياء و العظمة ما لا يحصى، و من الفوائد التامة و العوائد العامة الّتي للناس ما لا يستقصى حسبما مرّت الاشارة إليها في شرح الفصل السادس من الخطبة التسعين المعروفة بالأشباح.
(و مسيل الوهاد و مخصب النّجاد) أى مجرى للسّيل في الأراضي المنخفضة و جاعل المرتفعة ذوات خصب و رفاه ليكمل معاش الانسان و الدوابّ بما أنبت فيها من الحبّ و النّبات و الفواكه و الجنات.
(ليس لأوّليّته ابتداء و لا لأزليّته انقضاء) لأنّه تعالى واجب الوجود لذاته فلو كان لكونه أوّلا للأشياء حدّ تقف عنده أوّليته و تنتهى به لكان محدثا و لا شي ء من المحدث بواجب الوجود، لأنّ المحدث ما كان مسبوقا بالعدم و واجب الوجود يستحيل عليه العدم أى ذاته لا يقبل العدم، و من ذلك علم أيضا أنّه ليس لأزليّته انقضاء إذ كلّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه، و الأزليّة عبارة عن القدم، و ربّما يفسّر بأنّها المصاحبة لجميع الثّابتات المستمرّة الوجود في الزّمان.
(هو الأوّل لم يزل و الباقي بلا أجل) و غاية و هاتان الجملتان مؤكّدتان لسابقتيهما يعني أنّه سبحانه لم يزل و لا يزال إذ وجوده أصل الحقيقة و ذاته عين البقاء، و هو الأوّل و الاخر لأنّه مبدء كلّ شي ء و غايته لا أوّل لأوّليّته و لا غاية لبقائه (خرّت له الجباه و وحّدته الشّفاه) أى سقطت الجباه ساجدة له، و نطقت الشّفاه بتوحيده لكمال الوهيّته و عظمته و استحقاقه للعبوديّة و اختصاصه بالفردانيّة (حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها) و إبانة لها من شبهه و قد تقدّم توضيح ذلك و تحقيقه في شرح الخطبة المائة و الثانية و الخمسين فليراجع ثمّة.
(لا تقدرّه الأوهام بالحدود و الحركات و لا بالجوارح و الأدوات) لمّا كان شأن الوهم بالنّسبة إلى مدركاته أن يدركها بحدّ أو حركة أو جارحة أو أداة، و كان اللّه سبحانه منزّها عنها كلّها، لكونها من عوارض الأجسام، صحّ بذلك سلب إدراك الأوهام و تقديرها أي تعيينها و تشخيصها له تعالى، و قد قال الباقر عليه السّلام كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مصنوع مثلكم مردود إليكم، و قد مرّ في شرح الفصل الثّاني من الخطبة الاولى توضيح هذا المعنى.
(و لا يقال له متى و لا يضرب له أمد بحتّى) و قد تقدّم تحقيق ذلك أيضا هنالك، فليراجع إليه.
(الظّاهر لا يقال ممّا و الباطن لا يقال فيما) يعني أنّ اتّصافه بالظهور و البطون ليس بالمعنى المتبادر منهما في غيره، فانّ المتبادر من ظهور الأجسام كونها ظاهرة بارزة من مادّة و أصل، و من بطونها اختفائها في حيّز و مكان، و اللّه سبحانه منزّه عن ذلك، بل اطلاق الظّاهر و الباطن عليه و اتّصافه تعالى بهما باعتبار آخر عرفته تفصيلا في شرح الخطبة الرّابعة و الستّين.
(لا شبح فيتقضّى و لا محجوب فيخوى) أى ليس بجسم و شخص فيتطرّق إليه الفناء و الانقضاء، و لا مستور بحجاب جسمانيّ حتّى يكون الحجاب حاويا له و ساترا.
(لم يقرب من الأشياء بالتصاق و لم يبعد عنها بافتراق) إشارة إلى أنّ قربه و بعده بالنسبة إلى الأشياء ليس على نحو الالتصاق و الافتراق كما هو المتصوّر في الأجسام، بل على وجه آخر تقدّم تحقيقه في شرح الفصل الخامس و السادس من الخطبة الاولى، و في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين.
(لا يخفى عليه) سبحانه شي ء من مخلوقاته، بل هو عالم بها كليّاتها و جزئيّاتها، ذواتها و ماهيّاتها، عوارضها و كيفيّاتها، و صفاتها و حالاتها، فلا يعزب عنه (من عباده شخوص لحظة) أى مدّ البصر من دون حركة جفن (و لا كرور لفظة) أى رجوعها و اعادتها (و لا ازدلاف ربوة) الظّاهر أنّ المراد مجي ء انسان إليها في زلف من اللّيل أو تقدّمهم أى صعودهم إليها.
قال الشّارح البحراني: ازدلاف الرّبوة تقدّمها و أراد الرّبوة المتقدّمة أى في النّظر و البادية عند مدّ العين، فانّ الرّبى أوّل ما يقع في العين من الارض انتهى و هو تفسير بارد سخيف، و المتبادر ما قلناه مضافا إلى أنّ سوق كلام المفيد لكون الشّخوص و الكرور و الانبساط في قوله (و لا انبساط خطوة) صفة للعباد كون الازدلاف أيضا من صفاتهم لا من صفات نفس الرّبوة كما هو مقتضى تفسير الشّارح على أنّ غرض أمير المؤمنين عليه السّلام من تعداد هذه الصّفات الاشارة إلى خفايا أوصاف العباد و حالاتهم، و تقدّم الرّبوة في النظر ليس شيئا مخفيّا فافهم«» و بالجملة فالمقصود بذلك كلّه تمجيد اللّه باعتبار إحاطة علمه و عدم خفاء شي ء من هذه الامور عليه سبحانه (في ليل داج) ظلماني (و لا غسق ساج) ساكن كما يخفى فيهما على غيره تعالى، و ذلك لأنّ معرفة غيره تعالى بهذه الأشياء من العباد و إدراكه لها إنّما هو بواسطة آلات جسمانيّة كالباصرة«» و السامعة و نحوها، و أقويها الباصرة، و الظلمة مانعة عن ادراكها البتّة، و أمّا اللّه الحيّ القيّوم فلا يتفاوت علمه بالنسبة إلى نهار و ليل، و شهادة و غيب بل يعلم السرّ و أخفى «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
(يتفيّاء عليه القمر المنير) أى يتقلّب على الغسق القمر المنير ذاهبا و جائيا في حالتي أخذه في الضّوء إلى التّبدّر و أخذه في النّقص إلى المحاق (و تعقبه) أى القمر (الشمس ذات النّور) أى تعاقبه (في الافول و الكرور) يعنى أنّها تطلع عند أفوله و يطلع عند افولها (و تقليب الأزمنة و الدّهور من إقبال ليل مقبل و إدبار نهار مدبر) أى أنّهما يتعاقبان و يجي ء أحدهما بعد الاخر و يقلّبان الأزمان و يجعلان اللّيل نهارا و النّهار ليلا.
ثمّ عاد إلى وصفه سبحانه أيضا بقوله (قبل كلّ غاية و مدّة و كلّ إحصاء و عدّة) لأنّه سبحانه خالق الكلّ و موجده و مبدئه فوجب تقدّمه و قبليّته عليه جميعا (تعالى) و تقدّس (عمّا ينحله) و يعطيه (المحدّدون) الجاعلون له حدودا من المشبّهة و المجسّمة (من صفات الأقدار) أى المقادير (و نهايات الأقطار) طولا و عرضا و صغرا للحجم و كبرا (و تأثّل المساكن و تمكّن الأماكن) أى اكتساب المساكن و استقرار الأحياز و نحوها ممّا هو من صفات المخلوقات المنزّه المتعالى عنها خالق الأرض و السماوات تنزّها ذاتيا و علوّا كبيرا.
(فالحدّ لخلقه مضروب و إلى غيره منسوب) يعني أنه سبحانه جاعل الحدود و النهايات و مبدئها و موجدها فأبدئها و ضربها لمخلوقاته و أضافها إلى مبدعاته و جعل لكلّ منها حدا معيّنا و قدرا معلوما، فهى أوصاف للممكنات و حضرة القدس مبرّاة عنها.
روى في الكافي عن سهل بن زياد عن بشر بن بشّار النّيشابوري قال: كتبت إلى الرّجل أنّ من قبلنا قد اختلفوا في التّوحيد فمنهم من يقول إنّه جسم و منهم من يقول إنّه صورة، فكتب عليه السّلام سبحان من لا يحدّ و لا يوصف و لا يشبهه شي ء و ليس كمثله شي ء و هو السّميع البصير.
|