جلس بين النّاس قاضيا، ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّألها حشوا رثّا من رأيه، ثمّ قطع به، فهو من لبس الشّبهات مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خبّاط جهالات، عاش ركّاب عشوات، لم يعضّ على العلم بضرس قاطع، يذري الرّوايات إذ راء الرّيح الهشيم، لا ملي و اللّه بإصدار ما ورد عليه، و لا هو أهل لما فوّض إليه، لايحسب العلم في شي ء ممّا أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ منه مذهبا لغيره، و إن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدّماء، و تعجّ منه المواريث، إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا، و يموتون ضلّالا، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته، و لا سلعة أنفق بيعا، و لا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه، و لا عندهم أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر.
اللغة
و (التخليص) التّبيين و هو قريب من التّلخيص أو هما واحد و (الحشو) فضل الكلام و (الرّث) بفتح الرّاء و التّشديد الخلق ضدّ الجديد و (عاش) خابط في ظلام و (العشوة) بتثليث الأوّل الأمر الملتبس الذي لا يعرف وجهه مأخوذة من عشوة الليل أى ظلمته (و ذرت) الريح الشي ء ذروا و أذرته إذ راء أطارته و قلبته و (الهشيم) النّبت اليابس المنكسر و في بعض الرّوايات يذر و الرّوايات ذرو الريح و في بعضها يذري الرّوايات ذرو الرّيح الهشيم، و توجيهه مع كون الذّرو مصدر يذر و لا يذري هو كونهما بمعنى واحد حسبما عرفت فصحّ إقامة مصدر المجرّد مقام مصدر المزيد (و الملي ء) بالهمزة الثقة الغني قال الجزري: قد أولع النّاس بحذف الهمزة و تشديد الياء و (يحسب) إمّا بكسر السّين من الحسبان، و إمّا بالضمّ من الحساب و (العجّ) رفع الصّوت و (السّلعة) بالكسر المتاع و (أبور) أفعل من البور و هو الفاسد و بار الشّي ء فسد و بارت السّلعة كسدت و لم ينفق، و هو المراد ههنا و أصله الفساد أيضا و (نفق) البيع إذا راج.
الاعراب
على ما في بعض النّسخ من قوله: فاكثر من غير طائل لا يحتاج إلى تكلّف، و ضامنا إمّا صفة لقاضيا أو حال بعد حال.
المعنی
(جلس بين النّاس قاضيا) استعار الآجن للشّبهات الفاسدة و الأفكار الباطلة و العلوم الحاصلة له من الاستحسانات و الاقيسة، كما يستعار عن العلوم الحقيقية و المعارف اليقينية بالماء الصّافي الزّلال، ثمّ و شح تلك الاستعارة بذكر الارتواء و جعل غايته المشار إليها من ذلك الاستكثار جلوسه بين النّاس قاضيا.
الثّامن كونه (ضامنا لتخليص ما التبس على غيره) لوثوقه من نفسه بفصل ما بين النّاس من الخصومات و المرافعات و ظنّه القابليّة لقطع المنازعات، و منشأ ذلك الوثوق و الاطمينان هو زعمه أن العلوم الحاصلة له من آرائه الفاسدة و أقيسته الباطلة علوم كاملة كافية في تخليص الملتبسات و تخليص المشكلات مع أنّها ليست بذلك.
التّاسع ما أشار إليه بقوله: (فان نزلت به إحدى المبهمات هيّألها حشوارثّا من رأيه ثمّ جزم به) يعني أنّه إذا نزلت به إحدى المسائل المبهمة المشكلة الملتبس عليه وجه فصلها و طريق حلّها هيّأ لها كلاما لا طائل تحته و لا غناء فيه و أعدّ لحلّها وجها ضعيفا من رأيه ثمّ قطع به كما هو شأن أصحاب الجهل المركب.
العاشر ما نبّه عليه بقوله: (فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت) نسج العنكبوت مثل للامور الواهية كما قال سبحانه: «وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» قال الشّارح البحراني: و وجه هذا التّمثيل أنّ الشّبهات التي تقع على ذهن مثل هذا الموصوف إذا قصد حلّ قضيّة تكثر فيلتبس على ذهنه وجه الحقّ منها فلا يهتدي له لضعف ذهنه، فتلك الشبهات في الوها تشبه نسج العنكبوت، و ذهنه فيها يشبه ذهن الذّباب الواقع فيه، فكما لا يتمكّن الذّباب من خلاص نفسه من شباك العنكبوت لضعفه، فكذا ذهن هذا الرّجل لا يقدر على التخلّص من تلك الشّبهات، و قال المحدّث المجلسيّ بعد نقله كلام البحراني هذا: أقول: و يحتمل أيضا أن يكون المراد تشبيه ما يلبّس على النّاس من الشّبهات بنسج العنكبوت لضعفها و ظهور بطلانها لكن تقع فيها ضعفاء العقول فلا يقدرون على التّخلّص منها لجهلهم و ضعف يقينهم، و الأوّل أنسب بما بعده.
الحادي عشر أنّه (لا يدري أصاب) فيما حكم به (أم أخطأ فان أصاب خاف أن يكون قد أخطأ و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب) و خوف الخطاء مع الاصابة و رجاء الاصابة مع الخطاء من لوازم عدم الدّراية في الحكم و الافتاء.
الثّانيعشر أنّه (جاهل خبّاط جهالات) أراد به أنّه جاهل بالأحكام كثيرا لخبط في جهلاته، كنّى به عن كثرة أغلاطه التي يقع فيها في القضايا و الأحكام فيمشي فيها على غير طريق الحقّ من القوانين، و ذلك معنى خبطه مأخوذ من خبط العشواء و هي النّاقة التي في بصرها ضعف تخبط بيدها كلّ شي ء إذا مشت.
الثّالث عشر أنّه (عاش ركّاب عشوات) يعني أنّ به عشاوة و سوء بصر بالليل و النّهار و أنّه كثير الرّكوب على الامور الملتبسة المظلمة، قال الشّارح البحرانيّ ره و هي إشارة إلى أنّه لا يستنتج نور الحقّ في ظلمات الشّبهات الّا على ضعف و نقصان في نور بصيرته، فهو يمشي فيها على ما يتخيّله دون ما يتحقّقه من الصّفة هذه، أى و كثيرا ما يكون حاله كذلك و لمّا كان من شأن العاشي إلى الضّوء في الطرق المظلمة تارة يلوح له فيمشي عليه و تارة يخفى عنه فيضلّ عن القصد و يمشي على الوهم و الخيال كذلك حال السّالك في طرق الدّين من غير أن يستكمل نور بصيرته بقواعد الدّين و يعلم كيفيّة سلوك طرقه، فانّه تارة يكون نور الحقّ في المسألة ظاهرا فيدركه و تارة يغلب عليه ظلمات الشّبهات فتعمى عليه الموارد و المصادر فيبقى في الظلمة خابطا و عن القصد جائرا.
الرّابع عشر أنّه (لم يعضّ على العلم بضرس قاطع) و هو كناية عن عدم نفاذ بصيرته في العلوم و عدم اتقانه للقوانين الشّرعية لينتفع بها انتفاعا تامّا، يقال فلان لم يعضّ على العلم بضرس قاطع إذا لم يحكمها و لم يتقنها، و أصله أن الانسان يمضغ الطعام الذي هو غذاؤه ثمّ لا يجيّد مضغه لينتفع به البدن انتفاعا تامّا فمثل به من لم يحكم و لم يتقن ما يدخل فيه من المعقولات التي هو غذاء الرّوح لينتفع به الرّوح انتفاعا كاملا.
الخامس عشر أنّه (يذرى الرّوايات إذ راء الرّيح الهشيم) اليابس من النّبات المنكسر و فيه تشبيه تمثيلي و وجه الشّبه صدور فعل بلا رويّة من غير أن يعود إلى الفاعل نفع و فائدة، فانّ هذا الرّجل المتصفّح للرّوايات ليس له بصيرة بها و لا شعور بوجه العمل عليها بل هو يمرّ على رواية بعد اخرى و يمشى عليها من غير فائدة، كما أنّ الرّيح التي تذري الهشيم لا شعور لها بفعلها و لا يعود إليها من ذلك نفع.
السّادس عشر أنّه (لاملي ء و اللّه باصدار ما ورد عليه) أى ليس له من العلم و الثّقة قدر ما يمكنه أن يصدر عنه انحلال ما ورد عليه من الشّبهات و الاشكالات.
السّابع عشر ما في بعض نسخ الكتاب من قوله: (و لا هو أهل لما فوّض إليه) أى ليس هو بأهل لما فوّضه إليه النّاس من امور دينهم، و أكثر النسخ خال من ذكر هذا الوصف و في رواية الكافي الآتية و لا هو أهل لما منه فرط بالتخفيف بمعنى سبق و تقدّم أى ليس هو أهل لما ادّعاه من علم الحقّ الذي من أجله سبق النّاس و تقدّم عليهم بالرّياسة و الحكومة، و ربّما يقرأ بالتشديد أى ليس هو من أهل العلم كما يدّعيه لما فرّط فيه و قصّر عنه، و عن الارشاد و لا يندم على ما منه فرط، و قال الشّارح المعتزلي: و في كتاب ابن قتيبة و لا أهل لما فرّط به قال: أى ليس بمستحقّ للمدح الذي مدح به.
الثّامن عشر أنّه (لا يحسب العلم في شي ء ممّا أنكره) و لم يعرفه يعني أنّ ذلك الرّجل يعتقد أنّ ماله من العلم المغشوش المدلس بالشّبهات الذي يكون الجهل خيرا منه بمراتب هو العلم و لا يظنّ لغاية جهله وجود العلم لأحد في شي ء ممّا جهله لاعتقاده أنّه أعلم العلماء و أنّ كلّ ما هو مجهول له مجهول لغيره بالطريق الأولى، و على احتمال كون يحسب من الحساب على ما مرّت إليه الاشارة فالمعنى أنّه لا يعدّ ما ينكره علما و لا يدخله تحت الحساب و الاعتبار بل ينكره كساير ما أنكره.
التّاسع عشر ما أشار إليه بقوله: (و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ منه مذهبا لغيره) يعني أنّه لوفور جهله يظنّ أنّه بلغ غاية العلم فليس بعد ما بلغ إليه فكره لأحد موضع تفكر و مذهب صحيح.
العشرون ما نبّه عليه بقوله: (و إن أظلم عليه أمرا كتتم به) أى إن صار عليه أمر من امور الدّين مظلما مشتبها لا يدري وجه الحقّ فيه و لا وجه الشّبهة أيضا اكتتم به و ستره من غيره من أهل العلم و غيرهم و ذلك (لما يعلم من جهل نفسه) بذلك الأمر و عدم معرفته به حتّى من وجه الشّبهة و الرّأى فيستره و يخفيه و لا يسأله من غيره و لا يصغى إلى غيره حتّى يستفيده، و ذلك لئلّا يقال: إنّه لا يعلمه فيحفظ بذلك علوّ منزلته بين النّاس كما هو المشاهد من قضاة السّوء، فانّهم كثيرا ما يشكل عليهم الأمر في القضايا و الأحكام فيكتتمون ما أشكل عليهم و لا يسألون أهل العلم عنه لئلا يظهر جهلهم بين أهل الفضل مراعاة لحفظ المنزلة و المناصب.
الحادي و العشرون أنّه (تصرخ من جور قضائه الدّماء و تعجّ منه المواريث)و يستحلّ بقضائه الفرج الحرام و يحرم بقضائه الفرج الحلال، كما في رواية الكافي الآتية و نسبة الصّراخ إلى الدّماء و العجيج إلى المواريث إمّا من قبيل الحذف و الايصال، أى تصرخ أولياء الدّماء و تعجّ مستحقّوا المواريث، أو من قبيل المجاز في الاسناد على نحو صام نهاره مبالغة على سبيل التّمثيل و التّخييل بتشبيه الدّماء و المواريث بالانسان الباكي من جهة الظلم و الجور و إثبات الصّراخ و العجيج لهما، أو من قبيل الاستعارة التحقيقيّة التبعيّة باستعارة لفظ الصّراخ و العجيج لنطق الدّماء و المواريث بلسان حالها المفصح عن مقالها، و وجه المشابهة أنّ الصّراخ و العجّ لما كانا يصدران من ظلم و جور و كانت الدّماء المهراقة و المواريث المستباحة بالأحكام الباطلة ناطقة بلسان حالها مفصحة بالتظلم و الشّكاية، لا جرم حسن تشبيه نطقها بالصّراخ و العجّ و استعارتهما له، فالمعنى أنّه تنطق الدّماء و المواريث بالشّكاية و التظلّم من جور قضاياه و أحكامه.
و أمّا استحلال الفرج الحرام بقضائه و تحريم الفرج الحلال فامّا من أجل جهله بالحكم أو لخطائه و سهوه في موضع الحكم لعدم مراعاة الاحتياط أو لوقوع ذلك منه عمدا لغرض دنيوي كالتقرّب بالجاير أو أخذ الرّشوة أو نحو ذلك.
ثمّ انّه عليه السّلام بعد أن خصّ الرجلين المذكورين بما ذكر فيهما من الاوصاف المنفرة على سبيل التفصيل، أردف ذلك بالتنفير عنهما على الاجمال بما يعمّهما و غيرهما من ساير الجهال و الضلال فقال: (إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا و يموتون ضلّالا) و الثّاني مسبّب عن الأوّل إذ العيش على الجهالة يؤدّي إلى الموت على الضّلالة (ليس فيهم سلعة) و متاع (أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته) يعني إذا فسّر الكتاب و حمل على الوجه الذي انزل عليه و على المعنى الذي اريد منه اعتقدوه فاسدا و طرحوه لمنافاة ذلك الوجه و المعنى لأغراضهم (و لا سلعة أنفق بيعا) اى أكثر رواجا (و لا أغلى ثمنا إذا حرّف عن مواضعه) و مقاصده الأصليّة و نزل على حسب أغراضهم و مقاصدهم و منشأ كلّ ذلك و أصله هو الجهل (و لا عندهم أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر) و ذلك لأنّ المعروف لما خالف أغراضهم و مقاصدهم طرحوه حتّى صار منكرا بينهم يستقبحون فعله و المنكر لما وافق دواعيهم و لائم طباعهم لزموه حتّى صار معروفا بينهم يستحسنون إتيانه هذا.
و ينبغي الاشارة إلى الفرق بين الرّجلين الموصوفين فأقول: قال الشّارح المعتزلي: فان قيل: بيّنوا الفرق بين الرّجلين اللّذين أحدهما وكله اللّه إلى نفسه و الآخر رجل قمش جهلا قيل: أمّا الرّجل الأوّل فهو الضّال في اصول العقائد كالمشبّه و المجبّر و نحوهما، ألا تراه كيف قال: مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة، و هذا يشعر بما قلناه من أنّ مراده به المتكلّم في أصول الدّين و هو ضالّ عن الحقّ، و لهذا قال: إنّه فتنة لمن افتتن به ضالّ عن هدى من قبله مضلّ لمن يجي ء بعده، و أمّا الرّجل الثّاني فهو المتفقّه في فروع الشّرعيّات و ليس بأهل لذلك كفقهاء السّوء ألا تراه كيف يقول: جالس بين النّاس قاضيا، و قال أيضا: تصرخ من جور قضائه الدّماء و تعجّ منه المواريث.
و قال المحدّث المجلسيّ قده في كتاب مرآة العقول بعد حكاية كلام الشّارح على ما حكيناه: أقول: و يمكن الفرق بأن يكون المراد بالأوّل من نصب نفسه لمناصب الافادة و الارشاد، و بالثّاني من تعرّض للقضاء و الحكم بين النّاس و لعلّه أظهر.
و يحتمل أيضا أن يكون المراد بالأوّل العبّاد المبتدعين في العمل و العبادة كالمتصوّفة و المرتاضين بالرّياضات الغير المشروعة، و بالثّاني علماء المخالفين و من يحذو حذوهم حيث يفتون النّاس بالقياسات الفاسدة و الآراء الواهية و في الارشاد و أنّ أبغض الخلق عند اللّه عزّ و جلّ رجل و كله اللّه إلى نفسه إلى قوله: رهن بخطيئته و قد قمش جهلا، فالكلّ صفة لصنف واحد.
تكملة استبصارية
اعلم انّك قد عرفت الاشارة إلى أنّ هذا الكلام له عليه السّلام ممّا رواه ثقة الاسلام الكلينيّ في الكافي و صاحب الاحتجاج عطر اللّه مضجعهما فأحببت أن أذكر ما في الكتابين اعتضادا لما أورده الرّضيّ (ره) في الكتاب و معرفة لك بمواقع الاختلاف بين الرّوايات فأقول:
روى في الكافي عن محمّد بن يحيى عن بعض أصحابه و عليّ بن إبراهيم عن هارون ابن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب رفعه عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: من أبغض الخلق إلى اللّه تعالى لرجلين: رجل و كله اللّه تعالى إلى نفسه فهو جائر عن قصد السّبيل مشعوف بكلام بدعة قد لهج«» بالصّوم و الصّلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضالّ عن هدى من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به في حياته و بعد موته حمّال خطايا غيره رهن بخطيئته.
و رجل قمش جهلا في جهّال النّاس عان بأغباش الفتنة قد سمّاه أشباه الناس عالما و لم يغن«» فيه يوما سالما، بكّر فاستكثر ما قلّمنه خير ممّا كثر حتّى إذا ارتوى من آجن و اكتنز من غير طائل جلس بين النّاس قاضيا ضامنا لتلخيص (لتخليص خ) ما التبس على غيره، و إن خالف قاضيا سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله، و إن نزلت به احدى المبهمات المعضلات هيّألها حشوا من رأيه ثمّ قطع.«» فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ لا يحسب العلم في شي ء ممّا أنكر و لا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهبا، إن قاس شيئا بشي ء لم يكذب نظره، و إن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم، ثمّ جسر فقضى فهو مفاتيح«» (مفتاح خ ل) عشوات ركّاب شبهات خبّاط جهالات لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم، و لا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغنم يذري الرّوايات ذرو الرّيح الهشيم تبكى منه المواريث و تصرخ منه الدّماء و يستحلّ بقضائه الفرج الحرام، و يحرم بقضائه الفرج الحلال لا ملي ء باصدار ما عليه ورد، و لا هو أهل لما منه فرط، من ادعائه علم الحقّ.
و في الاحتجاج و روى أنّه عليه السّلام قال: إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان: رجل وكله اللّه إلى نفسه فهو جاير عن قصد السّبيل ساير بغير علم و لا دليل، مشعوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به ضالّ عن هدى من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته.
و رجل قمش جهلا فوضع في جهلة الامة، عان باغباش فتنة، قد لهج منها بالصّوم و الصّلاة، عم بما في عقد الهدنة قد سمّاه اللّه عاريا منسلخا و قد سمّاه أشباه الناس (الرجال خ ل) عالما، و لما يغن في العلم يوما سالما، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر حتّى إذا ارتوى من آجن، و أكثر من غير طائل جلس بين النّاس مفتيا قاضيا ضامنا لتخليص (تلخيص خ ل) ما التبس على غيره.
إن خالف من سبقه لم يأمن من نقض حكمه من يأتي من بعده كفعله بمن كان قبله، فان نزلت به إحدى المبهمات (المعضلات خ ل) هيألها حشوا من رأيه ثمّ قطع به، فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت خبّاط جهالات، و ركّاب عشوات، و مفتاح شبهات، فهو و إن أصاب أخطاء لا يدري أصاب الحقّ أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب.
فهو من رأيه مثل نسج (غزل خ ل) العنكبوت الذي إذا مرّت به النّار لم يعلم بها، لم يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الرّوايات إذ راء الرّيح الهشيم لا ملي ء و اللّه باصدار ما ورد عليه، لا يحسب العلم في شي ء ممّا أنكره، و لا يرى أن من وراء ما ذهب فيه مذهب ناطق، و إن قاس شيئا بشي ء لم يكذّب رأيه كيلا يقال له لا يعلم شيئا و إن خالف قاضيا سبقه لم يأمن في صحّته حين خالفه و إن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم.
من معشر«» يعيشون جهّالا و يموتون ضلّالا لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم، تصرخ منه الدّماء، و تولول منه الفتياء و تبكي منه المواريث، و يحلّل بقضائه الفرج الحرام، و يحرّم بقضائه الفرج الحلال و يأخذ المال من أهله فيدفعه إلى غير أهله.
و روى الطبرسيّ و المفيد في الارشاد بعد رواية هذا الكلام نحوا ممّا تقدّم أنّه عليه السّلام قال بعد ذلك: أيّها النّاس عليكم بالطاعة و المعرفة بمن لا تعذرون بجهالة، فإنّ العلم الذي هبط به آدم عليه السّلام و جميع ما فضّلت به النبيّون إلى خاتم النّبيّين في عترة نبيّكم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فانّي يتاه بكم بل أين تذهبون يا من نسخ من أصلاب أصحاب السّفينة، هذه مثلها فيكم فاركبوها، فكما نجا في هاتيك من نجا فكذلك ينجو في هذه من دخلها أنا رهين بذلك قسما حقا و ما أنا من المتكلّفين، و الويل لمن تخلّف ثمّ الويل لمن تخلّف.
أما بغلكم ما قال فيكم نبيّكم حيث يقول في حجّة الوادع: إنّي تاركم فيكم الثّقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و انّهما لم يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، ألا هذا عذب فرات فاشربوا، و هذا ملح اجاج فاجتنبوا.
|