و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و السبعون من المختار فى باب الخطب و ذلك في اليوم الرّابع من الوقعة سابع شهر صفر من سنة سبع و ثلاثين على ما يأتي في رواية نصر بن مزاحم و رويته عنه باختلاف تطلع عليه.
أللّهمّ ربّ السّقف المرفوع، و الجوّ المكفوف، الّذي جعلته مغيضا للّيل و النّهار، و مجرى للشّمس و القمر، و مختلفا للنّجوم السّيّارة، و جعلت سكانه سبطا من ملائكتك لا يسأمون من عبادتك. و ربّ هذه الأرض الّتي جعلته قرارا للأنام، و مدرجا للهوامّ و الأنعام، و ما لا يحصى ممّا يرى و ما لا يرى.
و ربّ الجبال الرّواسي الّتي جعلتها للأرض أوتادا، و للخلق اعتمادا إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا عن البغي و سدّدنا للحقّ، و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة، و اعصمنا من الفتنة.
اللغة
(غاض) الماء يغيض غيضا و مغاضا قلّ و نقص قال سبحانه وَ غِيضَ الْماءُ و قال وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أى ما تنقص من تسعة أشهر و الغيضة الأجمة و مجتمع الشجر
الاعراب
جملة لا يسأمون في محلّ النّصب صفة لقوله سبطا أو حال لأنّه نكرة غير محضة، فيجوز في الجملة التالية لها الوجهان كما صرّح به علماء الأدبيّة و لو وقعت بعد النكرة المحضة فوصف فقطّ و بعد المعرفة المحضة فحال لا غير.
المعنى
اعلم أنّ اللّازم على العبد أن يكون توجّهه في جميع حالاته من الشدّة و الرّخاء، و السرّاء، و الضرّاء، و الضيق و السعة، إلى معبوده لا سيّما حالة البؤس و الشدّة لأنّ دفع الضّرر الموجود و المتوقّع واجب عقلا و نقلا مع القدرة، و الدّعاء محصّل لذلك و هو مقدور فيجب المصير إليه.
أمّا مقدوريّته فلا غبار عليه، و أمّا أنه محصّل لذلك فلما دلّت عليه الأدلّة النقليّة من الكتاب و السنّة من أنّه يدفع به البلاء الحاصل، و يكشف به السوء النازل.
قال سبحانه: وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً و قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ.
و قال الكاظم عليه السّلام عليكم بالدّعاء فانّ الدعاء و الطّلب إلى اللّه يردّ البلاء و قد قدّر و قضى فلم يبق إلّا إمضاؤه فاذا دعى اللّه و سئل صرفه صرفه.
و روى زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ألا أدلّكم على شي ء لم يستثن فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قلت: بلى، قال: الدّعاء يردّ القضاء و قد ابرم إبراما و ضمّ أصابعه.
و عن سيّد العابدين عليه السّلام إنّ الدّعاء و البلاء ليتواقفان إلى يوم القيامة إنّ الدّعاء ليردّ البلاء و قد ابرم إبراما.
و عنه عليه السّلام الدّعاء يدفع البلاء النازل، و ما لم ينزل.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم و يدرّ أرزاقكم قالوا بلى يا رسول اللّه، قال: تدعون ربّكم باللّيل و النهار و قال: سلاح المؤمن الدّعاء.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام الدّعاء ترس المؤمن، و متى تكثر قرع الباب يفتح لك.
و قال الصّادق عليه السّلام الدّعاء أنفذ من السنان الحديد.
هذا كلّه مضافا إلى ما تقدّمت في شرح الكلام السّادس و الأربعين من الأدلّة الواردة في الحثّ و الترغيب عليه.
إذا عرفت ذلك فأقول: لما كان مقام الحرب و الجدال، و لقاء الشجعان و الأبطال أحقّ المواقع الّتي يتوسل فيها إلى اللّه بالتخلّص إليه، و التوجّه له، و كان الدّعاء إليه بمقتضى الأدلّة السّابقة أفضل ما يتوقّى به من الدّواهي و المكاره، و ترس من الأعداء و جنّة لا شي ء أوقى منه، و أنفذ عليهم من السّنان الحديد، و أشدّ تأثيرا من الضرب بالمشرفيّ و المهنّد و الطعن بالخطى و القنى المسدّد لا جرم توجّه أمير المؤمنين عليه السّلام إليه سبحانه بالدّعاء لما عزم لقاء القوم بصفّين«» فقال: (أللّهمّ ربّ السقف المرفوع) أى السّماء الّتي رفعها بغير عمد ترونها، و إطلاق السقف عليها إمّا حقيقة أو من باب الاستعارة تشبيها لها بسقف البيت في الارتفاع و الاحاطة (و الجوّ المكفوف) أى الفضاء الذي كفّها بقدرته و جعله محلّا لسماواته و أرضه.
قال الشّارح البحراني بعد تفسير السقف المرفوع بالسّماء و كذلك الجوّ المكفوف قال الشارح المعتزلي الجوّ المكفوف السّماء أيضا كفّه أى جمعه و ضمّ بعضه إلى بعض، و يمرّ في كلامه عليه السّلام نحو هذا و أنّ السّماء هواء جامد أو ماء جامد انتهى.
و فيه نظر لما قد دلّت عليه الفصل الثامن من الخطبة الاولى صريحا أنّ الجوّ غير السّماء و أنّه محلّ لها حيث قال عليه السّلام هناك: ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء و شقّ الأرجاء و سكائك الهواء- إلى أن قال:- فرفعه في هواء منفتق، و جوّ منفهق فسوّى منه سبع سماوات. فانظر ما ذا ترى، هذا.
مضافا إلى أنّ كون الجوّ بمعنى السماء لم يذكره أحد من اللّغويّين و غيرهم فيما رأيتهم بل هم بين مفسّر له بالهواء و بين مفسّر بالفضاء و بعضهم بما بين السّماء و الأرض اللّهمّ إلّا أن يوجّه ما ذكره الشارحان بأنّه اريد منه في خصوص هذا المقام السّماء مجازا بعلاقة الحال و المحل أو المجاورة بقرينة قوله (الذي جعلته مغيضا للّيل و النهار) مع المعطوفات عليه التالية له فانّ هذه كلّها من أوصاف السّماء فلا بدّ من ارتكاب المجاز حتّى يصحّ الوصف بها إذ على إرادة الحقيقة امتنع جعلها صفاتا له و احتمال كونها صفاتا للسقف المرفوع مدفوع باستلزامه الفصل بين التابع و المتبوع بالأجنبيّ و هو خلاف القواعد الأدبيّة فافهم.
و كيف كان فمعنى كونه مغيضا للّيل و النهار أنّه محلّ لنقصان كلّ منهما مع زيادة الاخر و ذلك لأنّ حصول اللّيل إنّما هو بحركة الشّمس عن فوق الأرض إلى ما تحتها، و حصول النّهار بحركتها عن تحتها إلى ما فوقها، و بكيفيّة حركتها في الفلك يختلفان زيادة و نقصانا.
فكلّما قرب الشمس إلى المعدّل يطول النهار و يقصر اللّيل و كلّما بعدت يكون بالعكس قال سبحانه في سورة لقمان: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ و في الزّمر يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ و لذلك ترى كلّ بلد يكون عرضه الشمالي أكثر يكون أيّامه الصّيفيّة أطول و لياليه الصّيفية أقصر و أيّامه و لياليه الشتوية بالضدّ من ذلك.
فلما كان ظلام اللّيل و ضوء النّهار و اختلافهما في الطول و القصر و الزيادة و النقصان باختلاف حركة الشّمس، و كان محلّ الحركة هو السّماء صحّ بذلك الاعتبار جعله مغيضا لهما. و يقرب ممّا ذكرته ما قاله الشارح البحراني فانّه بعد تفسيره المغيض بالمغيب قال: لأنّ الفلك بحركته المستلزمة لحركة الشمس إلى وجه الأرض يكون سببا لغيبوبة الليل و استلزام حركته لحركتها عن وجه الأرض يكون سببا لغيبوبة النهار فكان كالمغيض لهما فاستعار له لفظ المغيض.
و أمّا ما قاله الشارح المعتزلي من أنّ معناه أنّه جعله غيضة لهما و هي في الأصل الأجمة يجتمع إليها الماء و ينبت فيها الشجر كأنّه جعل الفلك كالغيضة و اللّيل و النّهار كالشجر النابت فيها، و وجه المشاركة تولّد الشجر من الغيضة و تولّد اللّيل و النهار من جريان الفلك فليس بشي ء كما لا يخفى هذا.
و قوله: (و مجرى للشمس و القمر) أى محلّا لجريانهما قد ظهر تفصيل الكلام فيه في شرح الفصل الثامن من الخطبة الاولى كما تقدّم تفصيلا و الكلام في قوله (و مختلفا للنجوم السيّارة) أى محلّا لاختلافها في السّير بالسرعة و البطؤ و الحركة المخصوصة لكلّ منها في شرح الفصل المذكور أيضا و كذا في شرح الفصل الرابع من الخطبة التسعين فليراجع المقامين (و جعلت سكّانه سبطا) أى قبيلا (من ملائكتك لا يسأمون من «عن خ» عبادتك) و قد عرفت أيضا شرح حال الملائكة و اختلاف فرقها و عدم ملالهم من عبادة الربّ سبحانه في شرح الفصل التاسع من الخطبة الأولى و الفصل الخامس من الخطبة التسعين.
(و ربّ هذه الأرض الّتي جعلتها قرارا للأنام و مدرجا للهوامّ) و الحشرات (و الأنعام) و البهايم (و ما لا يحصى) من المصنوعات العجيبة و المخلوقات الغريبة (ممّا يرى و ممّا لا يرى) و تقدّم الكلام في عجائب خلقة الأرض و دحوها على الماء و المنافع التي للنّاس فيها في شرح الفصل السادس من الخطبة التسعين.
قال الشّارح البحراني قال بعض العلماء من أراد أن يعرف حقيقة قوله ما يرى و ما لا يرى فليوقد نارا صغيرة في فلاة في ليلة صيفيّة و ينظر ما يجتمع عليها من غرائب أنواع الحيوان العجيبة الخلق لم يشاهدها هو و لا غيره قال الشارح و أقول: و يحتمل أن يريد بقوله و ما لا يرى ما ليس من شأنه أن يرى إمّا لصغره أو لشفّافيّته (و ربّ الجبال الرّواسي) أى الثابتات (الّتي جعلتها للأرض أوتادا) كما عرفت في شرح الفصل الثّالث من الخطبة الاولى (و للخلق اعتمادا) لأنّ فيها ينابيع المعادن و معادن الينابيع و فيها المرابض و المراتع، يرعون فيها الأنعام و يسرحون فيها الأغنام، و قد جعل فيها أكنانا و كهوفا و غيرانا يأوون فيها في الصّيف و الشتاء و يتوقّون بها في شدّة الحرّ و صبارة القرّ.
و يزرعون فيها الزراعات الدّيميّة، و ينالون منها بركات كثيرة فصحّ بذلك كونها اعتمادا للخلايق و كون اتّكالهم عليها بما لهم فيها من المعايش و المرافق هذا و لما نادى الربّ المتعال بما تدلّ على اتّصافه بالقدرة و العظمة و الجلال تخلّص الى ما دعاه لأجله«» فقال: (إن أظهرتنا) و نصرتنا (على عدوّنا فجنّبنا عن) الظلم و (البغى و سدّدنا ل) لصواب و ا (لحقّ) و لا تجعلنا كساير المحاربين من الملوك و السلاطين يحاربون الأعداء للدّنيا لا للدّين فاذا غلبوا أعداءهم يظلمون و عن البغي و الطغيان لا يمسكون (و إن أظهرتهم) و جعلتهم غالبين (علينا فارزقنا) عظيم الزلفى و (الشهادة و اعصمنا من) الضلال و (الفتنة).
|