و من خطبة له عليه السّلام في معنى طلحة بن عبيد اللّه
و هى المأة و الثالثة و السبعون من المختار في باب الخطب قد كنت و ما أهدّد بالحرب، و لا أرهّب بالضّرب، و أنا على ما وعدني ربّي من النّصر، و اللّه ما استعجل متجرّدا للطّلب بدم عثمان إلّا خوفا من أن يطالب بدمه، لأنّه مظنّته، و لم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلبّس الأمر، و يقع الشّكّ، و و اللّه ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفان ظالما كما كان يزعم لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه و أن ينابذ ناصريه، و لئن كان مظلوما كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه، و المعذرين فيه، و لئن كان في شكّ من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله و يركد جانبا و يدع النّاس معه فما فعل واحدة من الثّلاث، و جاء بأمر لم يعرف بابه و لم تسلم معاذيره.
اللغة
(تجرّد) زيد لأمره جدّ فيه و (مظنّة) الشي ء بكسر الظّاء الموضع الّذي يظنّ فيه وجوده (و أجلب) فيه قال ابن الأثير في محكىّ النّهاية في حديث عليّ عليه السّلام أراد أن يغالط بما أجلب فيه يقال أجلبوا عليه إذا تجمّعوا و تألّبوا و أجلبه أى أعانه و أجلب عليه إذا صاحه و استحثّه (و لبس) عليه الأمر يلبسه من باب حسب خلطه و ألبسه غطاه و أمر ملبس و ملتبس بالأمر مشتبه و (نهنهه) عن الأمر كفّه و زجره و (عذرته) فيما صنع أى رفعت عنه اللّوم فهو معذور أى غير ملوم و أعذرته لغة.
و قال الشّارح البحراني المعذرين بالتّخفيف المعتذرين عنه و بالتّشديد المظهرين للعذر مع أنّه لا عذر.
الاعراب
قوله عليه السّلام: قد كنت قال الشارح المعتزلي كان هنا تامّة أى خلقت و وجدت و أنا بهذه الصفة و يجوز أن تكون الواو زايدة و يكون كان ناقصة و خبرها ما اهدّد كما في المثل «لقد كنت و ما أخشى الذئب» و جملة و أنا على ما وعدنى يحتمل الحال و الاستيناف.
المعنى
قال الشارح البحراني و هذا الفصل من كلام قاله عليه السّلام حين بلغه خروج طلحة و الزبير إلى البصرة و تهديدهم له عليه السّلام بالحرب.
أقول: و قد مضى في شرح الخطبة الثانية و العشرين ما ينفعك ذكره في هذا المقام إذ الخطبتان مسوقتان لغرض واحد، و متطابقتان في بعض الفقرات، فليراجع ثمّة.
إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ قوله عليه السّلام (قد كنت و ما اهدّد بالحرب و لا أرهّب بالضرب) جواب عن تهديدهم له و ترهيبهم إيّاه، فقد بعثوا إليه عليه السّلام أن أبرز للطعان و اصبر للجلاد فأجاب عليه السّلام بأنّ التهديد و الترهيب إنّما هو في حقّ الجبان الضعيف الجاش لا في حقّ الشجعان ذوى النّجدة و المراس و حاله عليه السّلام في الشجاعة كان أمرا قد اشتهر، و بان و ظهر، و تضمّنته الأخبار و السّير فاستوى في العلم به البعيد و القريب، و اتّفق على الاقرار به البغيض و الحبيب. و من كان هذا شأنه فلا يليق له التخويف و الترغيب.
و أكّد الجواب بقوله (و أنا على ما وعدنى ربّي من النّصر) يعني أنّي على يقين بما وعدني ربّي من النصرة و الغلبة، و من كان قاطعا بذلك فلا يحذر و لا يخاف البتة.
ثمّ أشار إلى نكتة خروج طلحة إلى البصرة بقوله (و اللّه ما استعجل متجرّدا للطلب بدم عثمان) أى مجدّا فيه (إلّا خوفا من أن يطالب بدمه) يعني أنّ علّة خروجه و استعجاله في طلب الدّم و تجرّده له ليست ما شهره بين الناس من أنّ عثمان قتل مظلوما و يجب الانتصار للمظلوم من الظالم حسبة، و إنّما علّته هو الخوف على نفسه من أن يطالب من دمه (لأنّه) كان (مظنّته و لم يكن في القوم أحرص عليه) أى على دم عثمان (منه) لما قد عرفت في شرح الخطبة الثانية و العشرين و شرح الكلام الثلاثين أنّه كان أوّل من ألّب الناس على عثمان و أغرى بدمه و أشدّهم إجلابا عليه.
و أقول: هنا مضافا إلى ما سبق أنّه قال الشارح المعتزلي قد كان طلحة أجهد نفسه في أمر عثمان و الاجلاب عليه و الحصر له و الاغراء به، و منّته نفسه الخلافة، بل تلبّس بها و تسلّم بيوت الأموال و أخذ مفاتيحها و قابل الناس و أحدقوا به و لم يبق إلّا أن يصفق بالخلافة على يده.
قال الشارح و روى المدايني في كتاب مقتل عثمان أنّ طلحة منع من دفنه ثلاثة أيّام و أنّ عليا عليه السّلام لم يبايع الناس إلّا بعد قتل عثمان بخمسة أيّام و أنّ حكيم ابن حزام و جبير بن مطعم استنجدا بعليّ عليه السّلام على دفنه فأقعد طلحة لهم في الطريق ناسا بالحجارة فخرج به نفر يسير من اهله و هم يريدون به حايطا بالمدينة تعرف بحشّ كوكب، كانت اليهود يدفن فيه موتاهم فلما صار هنا رجم سريره و همّوا بطرحه فأرسل عليّ عليه السّلام إلى الناس يعزم عليهم لتكفّوا عنه فكفّوا، فانطلقوا به حتّى دفنوه في حش كوكب.
قال و روى الواقدي قال لما قتل عثمان تكلّموا في دفنه فقال طلحة: يدفن بدير سلع يعني مقابر اليهود.
و بالجملة فهو كما قال عليه السّلام لم يكن في القوم أحرص على قتل عثمان منه لكنه أراد أن يشبه علي الناس (فأراد أن يغالط) أى يوقع في الغلط (بما أجلب فيه) أى بسبب اعانته في دمه و حثّه على قتله (ليلبس الأمر) و يخلطه و في نسخة البحراني ليلتبس الأمر أى يشتبه (و يقع الشكّ) في دخوله في قتله ثمّ احتجّ عليه السّلام و أبطل عذره في الخروج و الطلب بدمه بقضيّة شرطيّة منفصلة محصّلها أنّ عثمان عنده و على زعمه إمّا أن يكون ظالما أو مظلوما و إمّا أن يكون مجهول الحال، و على كلّ من التقادير الثلاثة كان اللّازم عليه القيام بما يقتضيه مع أنه لم يقم به كما يفصح عنه قوله عليه السّلام مؤكّدا بالقسم البارّ (و و اللّه ما صنع في أمر عثمان) خصلة (واحدة من) خصال (ثلاث) هى مقتضيات التقادير الثلاثة الّتي اشرنا إليها إجمالا و أشار إلى تفصيلها بقوله (لئن كان ابن عفّان ظالما) ظلما يوجب حلّ دمه (كما كان يزعم) ذلك حين قتله (لقد كان ينبغي له) و يجب عليه (أن يوازر قاتليه) أى يساعدهم و يحامي عنهم بعد قتل عثمان (و أن ينابذ ناصريه) و يعاندهم و يتركهم بوجوب الانكار على فاعل المنكر مع أنّه قد عكس الأمر لأنّه نابذ قاتليه و وازر ناصريه، و ثار معهم في طلب دمه (و لئن كان مظلوما) محرّم القتل كما يقوله الان و يشهّره بين النّاس لقد (كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه و المعذرين فيه و لئن كان في شكّ من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله و يركد) أى ليكن (جانبا) أى يتباعد عنه و لا يأمر بقتله و لا ينهى عنه (و يدع الناس معه) يفعلون ما يشاءون مع أنّه لم يفعل ذلك أيضا بل أضرم نار الفتنة و صلى بها و أصلاها غيره (فما فعل واحدة من الثلاث و جاء بأمر لم يعرف بابه و لم تسلم معاذيره) أى أتى بأمر لم يعرف وجهه و اعتذر في نكثه و خروجه بمعاذير لم تكن سالمة إذ قد عرفت في تضاعيف الشرح أنّ عمدة معذرته في البغى و الخروج هو المطالبة بدم عثمان و أنّه قتل مظلوما و قد أبطل عليه السّلام اعتذاره بذلك هنا بما عرفت.
|