أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركائه فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى أم أنزل اللّه دينا تآمّا فقصّر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تبليغه و أدائه و اللّه سبحانه يقول: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» و قال: «فيهِ تِبْيانُ كلِّ شَىْ ءٍ» و ذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا، و أنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» و إنّ القرآن ظاهره أنيق، و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه «و لا تنقضي عجائبه خ» و لا تكشف الظّلمات إلّا به.
اللغة
(التّبيان) بالكسر و قد يفتح من المصادر الشاذة إذ المصادر على وزن التفعال لم تجى ء إلّا بالفتح كالتكرار و التّذكار و (الأنيق) كأمير الحسن المعجب.
الاعراب
كلمة من في قوله: من شي ء، زائدة في المفعول، و قوله و انّ القرآن اه جملة استينافية
المعنی
و لمّا نبّه عليه السّلام على بطلان كون الاختلاف بأمر منه سبحانه أردفه بساير الوجوه التي يحتمل كونه بسببها ممّا هو ضروري البطلان، و هى بحسب الاستقراء منحصرة في ثلاثة اذ اختلافهم في دينه و شرعه و حاجتهم إلى ذلك إمّا أن يكون مع نقصانه أو مع تمامه و تقصير الرّسول في أدائه، و على الوجه الأوّل فذلك الاختلاف إنّما يكون على أحد وجهين، أحدهما أن يكون اتماما لذلك النّقصان أو على وجه أعمّ من ذلك و هو كونهم شركاءه في الدّين و قد أشار عليه السّلام إلى الوجه الأوّل بقوله: (أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه) و إلى الثّاني بقوله: (أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى) و إلى الثّالث بقوله: (أم أنزل اللّه دينا تامّا فقصّر الرّسول عن تبليغه و أدائه) ثمّ استدل على بطلان الوجوه الثلاثة بقوله: (و اللّه سبحانه يقول) في سورة الانعام (ما فرّطنا في الكتاب من شي ء) (و قال) (فيه تبيان كلّ شي ء) و هذا مضمون آية في سورة النّحل و هو قوله تعالى: «وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً» و مثلها قوله سبحانه في سورة الانعام: «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» فانّ دلالة هذه الآيات على بطلان الوجهين الأوّلين واضحة، ضرورة انّ الكتاب الحكيم إذا لم يترك فيه شي ء و لم يفرط فيه من شي ء بل كان فيه بيان كلّ شي ء و كل رطب و يابس فلا بدّ أن يكون الدّين بتمامه منزلا فيه و حينئذ فلا يكون فيه نقصان حتّى يستعان بهم على إتمامه أو يأخذهم شركاء له في أحكامه، فالقول بكون الدّين ناقصا باطل بنصّ القرآن و حسبان الاستعانة و الافتقار بهم على الاتمام أو كونهم مشاركين له في الاحكام كفر و زندقة بالبديهة و العيان و أمّا دلالتها على بطلان الوجه الثّالث فهي أيضا ظاهرة بعد ثبوت عصمة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عدم إمكان تصوير التّقصير منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التّبليغ و قد قال تعالى: «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» روى الصّدوق في العيون عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل يوما و قد اجتمع عنده قوم من أصحابه و قد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الشي ء الواحد فقال عليه السّلام: إنّ اللّه عزّ و جلّ حرّم حراما و أحلّ حلالا و فرض فرايض فما جاء في تحليل ما حرّم اللّه أو تحريم ما أحلّ اللّه أو رفع فريضة في كتاب اللّه رسمها قائم بلا نسخ نسخ ذلك فذلك شي ء لا يسع الأخذ به، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن ليحرّم ما أحلّ اللّه و لا ليحلّل ما حرّم اللّه و لا ليغيّر فرائض اللّه و أحكامه و كان في ذلك كلّه متّبعا مسلّما مؤيدا عن اللّه عزّ و جلّ و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: إن أتّبع إلّا ما يوحى إلىّ فكان متّبعا مؤدّيا عن اللّه ما امر به من تبليغ الرّسالة.
ثمّ إنّه بعد ما تحصّل من كلامه بطلان كون الاختلاف جائزا و مأذونا فيه و بأمر من اللّه سبحانه، أكّد ذلك بالتّصريح على دليل ذلك بقوله: (و ذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا و أنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه) في سورة النّساء أفلا يتدبّرون القرآن (و لو كان من عند غير اللّه) اى من كلام غيره سبحانه (لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) و تقريب الاستدلال بها أنّ القرآن مدرك الدّين و مشتمل على الاحكام الشّرعية و قد أخبر اللّه سبحانه بأنّه لا يوجد فيه اختلاف، لكونه من عنده فلا يوجد فيه أحكام مختلفة من حيث إنّ نفى العامّ مستلزم لنفى الخاصّ فاذن لا يكون الاختلاف في الاحكام من عنده سبحانه و مأذونا فيه و هو واضح.
قال الطبرسيّ في مجمع البيان و هذه الآية تضمّنت الدّلالة على أنّ التّناقض من الكلام لا يكون من فعل اللّه، لانّه لو كان من فعله لكان من عنده لا من عند غيره و الاختلاف في الكلام يكون على ثلاثة أضرب: اختلاف تناقض، و اختلاف تفاوت و اختلاف تلاوة، و اختلاف التفاوت يكون في الحسن و القبح و الخطاء و الصّواب ممّا تدعو إليه الحكمة و تصرف عنه، و هذا الجنس من الاختلاف لا يوجد في القرآن كما لا يوجد اختلاف التناقض، و أمّا اختلاف التلاوة فهو كاختلاف وجوه القرآن و اختلاف مقادير الآيات و السّور و اختلاف الاحكام في النّاسخ و المنسوخ فذلك موجود في القرآن و كلّه حقّ و صواب.
ثمّ إنّه عليه السّلام أردف كلامه بالتنبيه على أنّ الكتاب العزيز واف بجميع المطالب إذا تدبّروا معناه و لا حظوا أسراره فقال: (و إنّ القرآن ظاهره أنيق) أى حسن معجب بانواع البيان و أصنافه و غرابة الاسلوب و حسنه و ايتلاف النّظم و انساقه (و باطنه عميق) لاشتماله على أنواع الحكم من أمر بحسن و نهي عن قبيح و خبر عن مخبر صدق و دعاء إلى مكارم الأخلاق و حثّ على الخير و الزّهد و اشتماله على تبيان كلّ شي ء و على ما كان و ما يكون و ما هو كائن.
كما قال الصّادق عليه السّلام في رواية العيّاشي: نحن و اللّه نعلم ما في السّماوات و ما في الأرض و ما في الجنّة و ما في النّار و ما بين ذلك، ثمّ قال: إنّ ذلك في كتاب اللّه ثمّ تلا قوله تعالى: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» و في الكافي عنه عليه السّلام إنّي لأعلم ما في السّماوات و ما في الأرض و أعلم ما في الجنّة و أعلم ما في النّار و أعلم ما كان و ما يكون ثمّ سكت هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ و جلّ إنّ اللّه يقول: فيه تبيان كلّ شي ء (و لا تفنى عجائبه) أى الأمور المعجبة منه (و لا تنقضي غرائبه) أى النّكت الغريبة فيه (و لا تكشف الظلمات) أى ظلمات الشّبهات (إلّا به) أى بسواطع أنواره و لوامع أسراره
تنبيه
قد تحصّل ممّا ذكرنا كلّه أنّ مقصود الامام عليه السّلام بهذا الكلام من أوّله إلى آخره هو المنع عن العمل بالرّأى و إبطال الاختلاف في الأحكام المنشعب عن الآراء المختلفة و إفساد القول بالتّصويب فيها، و هذا كلّه موافق لاصول الاماميّة رضوان اللّه عليهم و مطابق لأخبارهم المتواترة المأثورة عن العترة الطاهرة، و لا بأس بالاشارة الى بعض تلك الاخبار تثبيتا للمرام و توضيحا لكلام الامام عليه السّلام.
فمنها ما رواه ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ قدّس اللّه روحه في الكافي عن محمّد بن أبي عبد اللّه رفعه عن يونس بن عبد الرّحمن قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام«» فقال: يا يونس لا تكوننّ مبتدعا من نظر برأيه هلك، و من ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، و من ترك كتاب اللّه و قول نبيّه كفر.«» و عن عليّ بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال: حدّثني جعفر عليه السّلام عن أبيه أنّ عليّا عليه السّلام قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس و من دان اللّه بالرّأى لم يزل دهره في ارتماس، قال: و قال أبو جعفر عليه السّلام: من أفتى النّاس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم و من دان اللّه بما لا يعلم فقد ضادّ اللّه، حيث أحلّ و حرّم فيما لا يعلم و الظاهر أنّ المراد بالالتباس هو التخليط بين الحقّ و الباطل، و بالارتماس الانغماس في ظلمات الشّبهة و الضّلالة، فالالتباس باعتبار استخراج الاحكام بالرّأى و القياس، لأنّه يلتبس عليه الامور و يشتبه عليه الحقّ و الباطل، و الارتماس باعتبار العمل بتلك الاحكام، قال المجلسيّ (قده) في قوله فقد ضادّ اللّه: أى جعل نفسه شريكا للّه.
و عن عليّ بن محمّد بن عيسى عن يونس عن قتيبة قال سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مسألة فأجابه فيها فقال الرّجل أرأيت إن كان كذا و كذا ما يكون القول فيها فقال له: مه ما أجبتك فيه من شي ء فهو عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسنا من رأيت في شي ء قال المجلسيّ: لمّا كان مراده أخبرني عن رأيك الذي تختاره بالظنّ و الاجتهاد نهاه عليه السّلام عن هذا الشي ء من الظنّ و بيّن انّهم لا يقولون شيئا إلّا بالجزم و اليقين و بما وصل إليهم من سيد المرسلين صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين.
و منها ما في الوسائل عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي في المحاسن عن أبيه عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رسالته إلى أصحاب الرّأى و القياس: أمّا بعد فإنّ من دعا غيره إلى دينه بالارتيآء و المقائيس لم ينصف و لم يصب حظّه، لأنّ المدعوّ إلى ذلك أيضا لا يخلو من الارتياء و المقائيس، و متى لم يكن بالدّاعي قوّة في دعائه على المدعوّ لم يؤمن على الدّاعي أن يحتاج إلى المدعوّ بعد قليل، لأنّا قد رأينا المتعلّم الطالب ربّما كان فائقا لمعلّمه و لو بعد حين، و رأينا المعلّم الدّاعي ربّما احتاج في رأيه إلى رأى من يدعو، و في ذلك تحير الجاهلون و شكّ المرتابون و ظنّ الظانون و لو كان ذلك عند اللّه جائزا لم يبعث اللّه الرّسل بما فيه الفصل و لم ينه عن الهزل و لم يعب الجهل و لكن النّاس لمّا سفهوا الحقّ و غمطوا النّعمة و استغنوا بجهلهم و تدابيرهم عن علم اللّه و اكتفوا بذلك عن رسله و القوّام بأمره و قالوا لا شي ء إلّا ما أدركته عقولنا و عرفته ألبابنا فولّاهم اللّه ما تولّوا و أهملهم و خذلهم حتّى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون و لو كان اللّه رضي منهم اجتهادهم و ارتيائهم فيما ادّعوا من ذلك لم يبعث إليهم فاصلا لما بينهم و لا زاجرا عن وصفهم.
و إنّما استدللنا أنّ رضاء اللّه غير ذلك ببعثة الرّسل بالامور القيمة الصّحيحة و التّحذير من الامور المشكلة المفسدة ثمّ جعلهم أبوابه و صراطه و الأدلّاء عليهم بامور محجوبة عن الرّأى و القياس فمن طلب ما عند اللّه بقياس و رأى لم يزدد من اللّه الّا بعدا، و لم يبعث رسولا قط و إن طال عمره قائلا من النّاس خلاف ما جاء به حتّى يكون متبوعا مرّة و تابعا اخرى و لم ير أيضا فيما جاء به استعمل رأيا و لا مقياسا حتّى يكون ذلك واضحا عند اللّه كالوحى من اللّه و في ذلك دليل لكلّ ذي لبّ و حجى أنّ أصحاب الرأى و القياس مخطئون مدحضون.
و الأخبار في هذا المعنى فوق حدّ الاحصاء و قد عقد في الوسائل كالكافي بابا لعدم جواز القضاء و الحكم بالرأى و الاجتهاد و المقائيس و نحوها من الاستنباطات الظنّيّة في الأحكام الشّرعيّة من أراد الاطلاع فليراجع إلى الكتابين، و اللّه الهادي
|