و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الواحدة و الثمانون من المختار في باب الخطب و شرحها في فصول:
الفصل الاول
روى عن نوف البكالي قال: خطبنا بهذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السّلام و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي و عليه مدرعة من صوف و حمايل سيفه من ليف و في رجليه نعلان من ليف و كأنّ جبينه ثفنة بعير فقال عليه السّلام:
الحمد للّه الّذي إليه مصائر الخلق، و عواقب الأمر، نحمده على عظيم إحسانه، و نيّر برهانه، و نوامي فضله و امتنانه، حمدا يكون لحقّه قضاء، و لشكره أداء، و إلى ثوابه مقرّبا، و لحسن مزيده موجبا، و نستعين به استعانة راج لفضله، مؤمّل لنفعه، واثق بدفعه، معترف له بالطّول، مذعن له بالعمل و القول، و نؤمن به إيمان من رجاه موقنا، و أناب إليه مؤمنا، و خنع له مذعنا، و أخلص له موّحدا، و عظّمه ممجّدا، و لاذ به راغبا مجتهدا
اللغة
(البكالي) بكسر الباء قال في القاموس: و بنو بكال ككتاب بطن من حمير منهم نوف بن فضالة التابعي و كأمير حىّ من همدان، و عن الجوهرى أنّه بفتح الباء، و عن قطب الراوندي في شرح النهج أنّ بكال و بكيل شي ء واحد و هو اسم حىّ من همدان و بكيل أكثر، و الصواب كما قاله الشارح المعتزلي ما في القاموس. و (ثفنة) البعير بالكسر ركبته و ما مسّ الأرض من كركرته و سعداناته و اصول أفخاذه، و ثفنت يده من باب فرح غلظت
المعنى
قال السيّد ره (روى عن نوف) بن فضالة (البكالى) الحميرى انّه (قال خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة) الظاهر أنّ المراد بجامع الكوفة (و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى) و هو ابن اخت أمير المؤمنين عليه السّلام و امّه امّ هاني بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم و أبوه كما قاله السيّد ره: هبيرة و هو ابن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم، و كان فارسا شجاعا فقيها والى خراسان من جانب أمير المؤمنين عليه السّلام، و من شعره الّذى يباهى فيه بنسبه قوله:
- أبى من بنى مخزوم إن كنت سائلاو من هاشم أمّى لخير قبيل
- فمن ذا الّذى باهي علىّ بخاله كخالى علىّ ذى الندى و عقيل
(و عليه عليه السّلام مدرعة) أى جبّة تدرّع بها (من صوف و حمائل سيفه من ليف) النخل (و في رجليه نعلان من ليف) أيضا و كفي بذلك زهدا (و كأنّ جبينه) من طول السجود (ثفنة بعير) و كفى به عناء و عبادة و قد ورثه منه عليه السّلام ابن ابنه علىّ بن الحسين زين العابدين و سيّد الساجدين صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه أجمعين حتّى اشتهر و لقّب بالسجّاد ذى الثفنات قال دعبل الخزاعى في قصيدته المعروفة:
- ديار علىّ و الحسين و جعفرو حمزة و السجّاد ذى الثفنات
(فقال الحمد للّه الذى إليه مصائر الخلق و عواقب الأمر) أى إليه مرجع الخلايق في المبدأ و الماب و عواقب امرهم يوم الحساب كما قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ، و قال: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ إنما أتى عليه السّلام بلفظ الجمع مع أنّ المصدر يصحّ إطلاقه على القليل و الكثير باعتبار كونه أى الجمع المضاف نصّا في العموم مفيدا لكون جميع رجوعات المخلوقات إليه سبحانه في جميع حالاتهم لافتقار الممكن الى الواجب و حاجته اليه في الوجود و البقاء و الفناء فهو أوّل الأوّلين و آخر الاخرين و إليه المصير و المنقلب.
(نحمده على عظيم احسانه) الذى أحسن إلينا به و هو معرفته و توحيده إذ لا إحسان أعظم من ذلك، و قول الشارح المعتزلي: إنه اصول نعمه كالحياة و القدرة و الشهوة و نحوها، و كذا قول الشارح البحراني إنه الخلق و الايجاد على وفق الحكمة و المنفعة فليسا بشي ء و يؤيّد ما قلناه تعقيبه بقوله (و نيّر برهانه) فانّ المراد به الأدلّة الواضحة الّتى أقامها في الافاق و الأنفس و من طريق العقل و النقل للدّلالة على ذاته و صفات جماله و جلاله (و نوامى فضله و امتنانه) أراد بها نعمه النامية الزاكية الّتي أفضل بها على عباده و امتنّ بها عليهم باقتضاء ربوبيّته و حفظا لبقاء النوع.
و قوله (حمدا يكون لحقه قضاء و لشكره أداء) من باب المبالغة في كمال ثنائه سبحانه كما في قولهم حمدا ملاء السماوات و الأرض، و إلّا فالحمد الّذي يقضي حقّه و يؤدّى شكره على ما هو أهل له و مستحقّه فهو خارج عن وسع البشر كما عرفت تحقيق ذلك في شرح الفصل الأوّل من المختار الأوّل و شرح المختار السابع و السبعين أيضا (و إلى ثوابه مقرّبا) لأنّه سبحانه وعد الثواب للشاكر و قال: فاشكروني أشكركم، من باب المشاكلة أى اثيبكم على شكركم«» و معلوم أنه سبحانه منجز لوعده و من أوفي بعهده من اللّه (و لحسن مزيده موجبا) لأنه أخبر عن ايجاب الشكر لزيادة النعمة و وعد به و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، و معلوم أنه صادق في وعده لا يخلف الميعاد.
(و نستعين به استعانة) صادرة عن صميم القلب و كمال الرجا و الوثوق باعانته و لذلك وصفها بكونها مثل استعانة (راج لفضله مؤمّل لنفعه واثق بدفعه) فان المستعين المتّصف بهذه الأوصاف لا تكون استعانته إلّا على وجه الكمال إذ رجاه للفضل و أمله لايصال المنافع و وثوقه بدفع المضارّ إنما هو فرع المعرفة بفضله و إحسانه و بقدرته و قهره على كلّ شي ء، و بأنه لا رادّ لحكمه و لا دافع لقضائه و أنّ بيده خزائن الملك و الملكوت، و معلوم أنّ من عرف اللّه تعالى بذلك يكون طلبه للاعانة آكد و أشد، و هذه الأوصاف الثلاثة في الحقيقة مظنّة للاعانة باعتبار صفات العظمة و الكمال في المستعان.
ثمّ وصفها بوصفين آخرين هما مظنّة للاعانة باعتبار وصف الذّل و الاستكانة في المستعين و هو قوله (معترف له بالطوّل مذعن له بالعمل و القول) فانّ من اعترف لطوله و إفضاله و أذعن أى خضع و ذلّ و انقاد على ربوبيّته و أسرع إلى طاعته قولا و عملا فحقيق على الاعانة و جدير بالافضال.
ثمّ أردف ذلك بالاعتراف بالايمان الكامل فقال (و نؤمن به) ايمانا كاملا مستجمعا لصفات الكمال و انما يكون كذلك إذا كان مثل (ايمان من رجاه) للمطالب العالية (موقنا) بأنه أهله لقدرته على إنجاح المأمول و قضاء المسئول (و أناب إليه مؤمنا) علما منه بأنّ مرجع العبد إلى سيّده و معوّله إلى مولاه (و خنع) أى خضع (له مذعنا) بأنّ نفسه ذليل أسير في ربق الافتقار و الامكان و أنّ ربّه جليل متّصف بالعزّة و العظمة و السلطان (و أخلص له موحدا) اى أخلص له العبوديّة حال كونه معتقدا بوحدانيّته علما منه بأنّ من كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا (و عظّمه ممجّدا) أى عظّمه بصفات العزّ و الكبرياء و الجلال حال التمجيد له بأوصاف القدرة و العظمة و الكمال (و لاذ به) أى لجأ إليه (راغبا مجتهدا) أى راغبا في الالجاء مجدّا في الرغبة و الالتجاء علما منه بأنّه الملاذ و الملجاء، هذا و لما حمد اللّه سبحانه و استعان منه و امن به أخذ في تنزيهه و تقديسه باعتبارات سلبيّة و إضافية ...
|