الفصل الثالث منها
قد لبس للحكمة جنّتها، و أخذها بجميع أدبها، من الإقبال عليها، و المعرفة بها، و التّفرّغ لها، و هي عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها، و حاجته الّتي يسئل عنها، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، و ضرب بعسيب ذنبه و ألصق الأرض بجرانه، بقيّة من بقايا حجّته، خليفة من خلائف أنبيائه.
اللغة
(الجنّة) بالضم نوع من السلاح (عسيب الذّنب) قال الشارح المعتزلي أصله و قال الفيروزآبادي: العسيب عظم الذنب أو منبت الشعر منه و (جران) البعير صدره أو مقدم عنقه
الاعراب
قوله: بقيّة خبر لمبتدأ محذوف
المعنى
اعلم أنّ السيّد (ره) قد سلك في هذا الفصل من الخطبة مسلك الالتقاط و أسقط صدر الكلام فالتبس الأمر في قوله: (قد لبس للحكمة جنّتها) حيث اشتبه المرجع لفاعل لبس و لم يدر أنّ الموصوف بتلك الجملة و ما يتلوها من هو، فمن ذلك فسّره كلّ على زعمه و اعتقاده.
قال العلّامة المجلسيّ (ره) إنّه إشارة إلى القائم عليه السّلام و نقله الشارح المعتزلي عن الشيعة الاماميّة.
و قال الصّوفيّة إنه عليه السّلام يعني به وليّ اللّه في الأرض و عندهم لا يخلو الدّنيا من الأبدال و الأولياء.
و قالت الفلاسفة: إنّ مراده عليه السّلام به العارف.
و قالت المعتزلة: انه يريد به العالم بالعدل و التوحيد و زعموا أنّ اللّه لا يخلى الامة من جماعة من المؤمنين العلماء بالتوحيد و العدل و انّ الاجماع إنما يكون حجّة باعتبار قول أولئك، لكنه لما تعذّرت معرفتهم بأعيانهم اعتبر اجماع الجميع و انما الأصل قول أولئك.
قال الشّارح المعتزلي بعد نقل هذه الأقوال: و ليس يبعد أن يريد عليه السّلام به القائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في آخر الوقت إذا خلقه اللّه تعالى و إن لم يكن الان موجودا، فليس في الكلام ما يدلّ على وجوده الان، و قد وقع اتّفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أنّ الدّنيا و التكليف لا ينقضي إلّا عليه، انتهى.
أقول: أما ما ذكره من كون المراد به القائم عليه السّلام فهو كما ذكره غير بعيد لظهور اتّصافه عليه السّلام بهذه الأوصاف و كونه مظهرا لها، و أما ما زعمه كساير المعتزلة من أنّه عليه السّلام غير موجود الان و انما يخلقه اللّه في آخر الزمان فهو زعم فاسد و وهم باطل، لقيام البراهين العقلية و النقلية على أنّ الأرض لو تبقى بغير حجّة لانخسفت و ساخت، و على أنّه لا بد من وجوده في كلّ عصر و زمان، و أنه إما ظاهر مشهور أو غايب مستور، و أنّ القائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله مخلوق من غابر الزمان و موجود الان و هو غايب مستور لمصالح مقتضية لغيبته و الانتفاع بوجوده الشريف حال الغيبة كالانتفاع بالشمس المجلّلة للعالم المحجوبة بالسحاب.
و بعد قيام الأدلّة المحكمة على ذلك كلّه فلا يعبأ بالاستبعادات الوهمية للمنكرين، و الاستدلالات السخيفة الهيّنة للمبطلين على ما اشير اليها في كتب أصحابنا الاماميّة المؤلّفة في الغيبة مع أجوبتها المتقنة، و قد مضى طرف من الكلام على هذا المرام في شرح الفصل الأوّل من المختار المأة و الثّامن و الثّلاثين فليراجع ثمة، هذا.
و الحكمة اسم لمجامع الخير كلّه قال أبو البقاهى في عرف العلماء استعمال النفس الانسانية باقتباس العلوم النظريّة و اكتساب الملكة التامّة على الأفعال الفاضلة قدر طاقتها.
و قال بعضهم: هي معرفة الحقائق على ما هى عليه بقدر الاستطاعة و هي العلم النافع المعبّر عنها بمعرفة ما لها و معرفة ما عليها. و قال ابن دريد: كلّ ما يؤدّى إلى ما يلزمه أو يمنع من قبيح، و قيل: ما يتضمّن صلاح النّشأتين.
و قال في البحار: العلوم الحقّة النافعة مع العمل بمقتضاها، قال: و قد يطلق على العلوم الفايضة من جنابه تعالى على العبد بعد العمل بما علم.
أقول: و المعاني متقاربة و اليها يرجع تفاسيره المختلفة، فقد يفسّر بأنه معرفة اللّه و طاعته، و قد يفسّر بأنه العلم الذي يرفع الانسان عن فعل القبيح، و فسّر في قوله تعالى بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بالنبوّة و في قوله: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ بالفقه و المعرفة، و في قوله: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ بالقرآن و الشريعة، و في قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ بتحقيق العلم و إتقان العمل و في الصافي من الكافي و تفسير العياشي عن الصّادق عليه السّلام في تفسير هذه الاية قال: طاعة اللّه و معرفة الامام.
و عنه عليه السّلام معرفة الامام و اجتناب الكبائر التي أوجب اللّه عليها النار.
و عن العياشي عنه عليه السّلام: الحكمة المعرفة و الفقه في الدّين و من فقه منكم فهو حكيم.
و عن مصباح الشريعة عنه عليه السّلام الحكمة ضياء المعرفة و ميراث التقوى و ثمرة الصدق و لو قلت ما أنعم اللّه على عباده بنعمة أنعم و أعظم و أرفع و أجزل و أبهى من الحكمة لقلت، قال اللّه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أى لا يعلم ما أودعت و هيأت في الحكمة إلّا من استخلصته لنفسي و خصصته بها و الحكمة هي الكتاب و صفة الحكيم الثبات عند أوائل الأمور و الوقوف عند عواقبها و هو هادى خلق اللّه إلى اللّه.
و عن الخصال عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأس الحكمة مخافة اللّه.
و عنه و عن الكافي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه كان ذات يوم في بعض أسفاره اذ لقاه ركب فقالوا: السّلام عليك يا رسول اللّه، فالتفت إليهم و قال: ما أنتم فقالوا: مؤمنون، قال: فما حقيقة ايمانكم قالوا: الرّضا بقضاء اللّه و التسليم لأمر اللّه و التفويض إلى اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، و لا تجمعوا ما لا تأكلون، و اتّقوا اللّه الّذي إليه ترجعون.
إذا عرفت ذلك فأقول: قوله: قد لبس للحكمة جنّتها الظاهر أنه أراد بجنّة الحكمة مخافة اللّه كما أنّ النبيّ جعلها رأسها في رواية الخصال المتقدّمة، فاستعار لفظ الجنّة لها باعتبار أنّ مخافته سبحانه و وجود وصف التّقوى الموجب لقمع النفس عن الشهوات و قلعها عن العلايق و الامنيات مانع عن كون الحكمة غرضا عن الهام الهوى و عن وقوع الحكيم في الهلاكة و الرّدى، كما أنّ الجنّة و هو ما يستتر به السّلاح كالدّرع و نحوه مانعة للابسها عن اصابة سهام الأعداء.
فيكون محصّل المعنى أنّ ذلك الحكيم قد اتّصف بمخافة اللّه سبحانه و خشيته التي هي بمنزلة الجنّة للحكمة لأجل حفظ حكمته و كونها وقاية لها عما يصادمها كما أنّ الجنّة تحفظ الانسان عن صدمات الأعداء.
و بما ذكرنا يظهر ما في كلام الشارح البحراني، فانّه قال: لفظ الجنّة مستعار في الاستعداد للحكمة بالزهد و العبادة الحقيقين و المواظبة على العمل بأوامر اللّه، و وجه الاستعارة أنّ بذلك الاستعداد يأمن إصابة سهام الهوى و ثوران دواعى الشهوات القائدة إلى النار كما يأمن لابس الجنّة من أذى الضرب و الجرح، انتهى فانّ مفاده كما ترى هو أنّ لفظ الجنّة مستعار للاستعداد الحاصل من الزهد و العبادة و المواظبة على التكاليف الشرعيّة.
فيتوجّه عليه حينئذ أوّلا أنّ الاستعداد المذكور لا يكون جنّة للحكمة على ما ذكره، إنّما يكون جنّة للانسان من الوقوع في النار، و ظاهر كلام الامام يفيد تلبسه بجنّة الحكمة لأجل الحكمة لا لأجل نفسه.
و ثانيا أنّ الاستعداد و التهيّوء للشي ء قبل وجود الشي ء، فلو جعل الجنّة استعارة للاستعداد للحكمة لكان مفاد كلامه عليه السّلام عدم اتّصاف الرّجل الموصوف بالحكمة فعلا.
و بعبارة اخرى يدلّ على تلبسه و اتّصافه بالاستعداد فقط لا بالحكمة نفسها مع أنّ الغرض من الكلام الوارد في مقام المدح إفادة اتّصافه بها و كونها حاصلا له بالفعل لا بالقوّة، إذ كمال المدح إنما هو في ذلك.
و يدلّ على ذلك أيضا أى على الاتّصاف بالفعل صريح قوله (و أخذها بجميع أدبها) أى أخذ الحكمة على وجه الكمال و قام بادابها (من الاقبال عليها و المعرفة بها و التفرّغ لها) يعني أنّه لما علم أنه لا خصلة أعظم و أشرف و أرفع و أبهى من الحكمة و عرف أنه من يؤتها فقد أوتى خيرا كثيرا أقبل الكلّية عليها و قصر همّته و نهمته فيها و عرف شرفها و قدرها و نفاستها و تفرّغ لها و تخلّى عن جميع العلايق الدنيوية التي تضادّها و تنحّى عن كلّ ما سواها.
(فهى عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها و حاجته الّتي يسأل عنها) ذلك مثل قوله عليه السّلام في أواخر الكتاب: الحكمة ضالّة المؤمن.
فان قلت: قوله يطلبها و يسأل عنها صريحان في عدم حصولها له فعلا فينافي ما استظهرت آنفا من كلامه عليه السّلام السابق.
قلت: لا منافاة بينهما لأنه عليه السّلام استعار لها لفظ الضالّة و جملة يطلبها وصف للمستعار منه لا للمستعار له، إذ من شأن الضلالة أن تطلب فهى استعارة مرشّحة لا استعارة مجرّدة، و الجامع شدّة الشوق و فرط الرغبة و المحبّة لا الطلب كما زعمه الشارح البحراني حيث قال استعار لها لفظ الضالّة لمكان انشاده لها و طلبه كما تطلب الضالّة من الابل، نعم قوله عليه السّلام: يسأل عنها ظهوره فيما أفاده الشارح، لكن تأويله على وجه يوافق ما ذكرناه سهل فتأمل، هذا.
و لا يخفى عليك أنّ جعل الكلام من باب الاستعارة إنّما هو جريا على مذاق الشارح البحراني، و إلّا فقد علمت في ديباجة الشرح أنه من باب التشبيه البليغ حيث ذكر المشبّه و المشبّه به و حذف الأداة فيكون الوصف بالطلب ترشيحا للتشبيه لا للاستعارة. (فهو مغترب) يعني هذا الشخص يخفى نفسه و يختار العزلة، و هو إشارة إلى غيبة القائم عليه السّلام (إذا اغترب الاسلام) أى إذا ظهر الجور و الفساد و صار الاسلام غريبا ضعيفا بسبب اغتراب الصلاح و السداد كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بدء الاسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدء.
ثمّ شبّه الاسلام بالبعير البارك في قلّة النفع و الضعف على سبيل الاستعارة بالكناية فأثبت له لوازم المشبّه به و قال: (و ضرب بعسيب ذنبه) لأنّ البعير إذا أعيى و تأذّى ضرب بذنبه (و ألصق الأرض بجرانه) أى مقدّم عنقه فلا يكون له تصرّف و لا نهوض، و قلّ أن يكون له نفع حال بروكه، هذا.
و لما وصفه عليه السّلام بلبسه لجنّة الحكمة و ايثاره العزلة و الغيبة عرّفه بأنه (بقيّة من بقايا حجّته) على عباده و (خليفة من خلائف أنبيائه) في بلاده، و هذان الوصفان يقويان الظنّ بكون نظره عليه السّلام بما أورده في هذا الفصل إلى القائم المنتظر عليه السّلام و آبائه الطاهرين عليهم السّلام.
قال الشارح المعتزلي: فان قلت: أليس لفظ الحجّة و الخليفة مشعرا بما يقوله الاماميّة أى كون المراد بها الامام القائم عليه السّلام.
قلت: لا لأنّ أهل التصوّف يسمّون صاحبهم حجّة و خليفة و كذلك الفلاسفة و أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق هذه الألفاظ على العلماء المؤمنين في كلّ عصر لأنّهم حجج اللّه أى إجماعهم حجّة و قد استخلفهم اللّه في أرضه ليحكموا بحكمه.
أقول: فيه أوّلا منع صحّة اطلاق حجّة اللّه و خليفته على غير الأنبياء و الأوصياء إذ العصمة منحصرة فيهم فيختصّ الحجيّة و الخلافة بهم لمكان العصمة الّتي فيهم، و أما غيرهم فليس بمعصوم بالاتّفاق فلا يكون قوله و فعله حجّة، و حجّية إجماع العلماء أيضا باعتبار دخول قول المعصوم في جملة أقوالهم لا من حيث إنّ كلّا من العلماء من حيث إنّه عالم قوله حجّة. و ثانيا على فرض التنزّل و التسليم لصحّة اطلاقه على غيرهم انّ أمير المؤمنين عليه السّلام ليس بمعتزلي المذهب و لا صوفي المذاق و لا فلسفى المسلك، فلا يحمل لفظ الحجّة و الخليفة في كلامه عليه السّلام على اصطلاحاتهم و إنما يحمل على المعنى الغالب إرادته من هذه اللفظة في كلماتهم عليهم السّلام، و غير خفىّ على المتتبّع بأحاديثهم و كثير الانس بأخبارهم أنّهم كثيرا ما يطلقون لفظ الحجج و يريدون به الأئمة الاثنى عشر، و قد يطلقونه و يريدن به ساير المعصومين من الأنبياء و الأوصياء و يطلقون لفظ الحجّة أيضا احيانا بالقراين على العقل و القرآن، و لم نر إلى الان أن يطلق هذا اللفظ في كلامهم على العارف أو العالم غير المعصوم أو أحد الأبدال المصطلح في لسان الفلاسفة و المعتزلة و المتصوّفة.
و على ذلك فحيث ما اطلق لفظ حجّة اللّه في كلامهم خاليا عن القراين فلا بدّ من حمله على المعنى الكثير الدوران في ألسنتهم و هو الامام، لأنّ الظنّ يلحق الشي ء بالأعمّ الأغلب.
و من هذا كلّه ظهر ما في كلام الشارح البحراني أيضا فانّه بعد ما جعل قوله عليه السّلام قد لبس للحكمة جنّتها إشارة إلى العارف مطلقا و نفى ظهور كونه إشارة إلى الامام المنتظر عليه السّلام قال في شرح هذا المقام: قوله: بقيّة من بقايا حججه، أى على خلقه إذ العلماء و العارفون حجج اللّه في الأرض على عباده، و ظاهر كونه خليفة من خلفاء أنبيائه لقوله صلّى اللّه عليه و آله العلماء ورثة الأنبياء، انتهى.
و يرد عليه مضافا إلى ما مرّ أنّ استدلاله على خلافة العلماء و العرفاء بقوله: العلماء ورثة الأنبياء و استظهاره من ذلك كون المراد بالخليفة في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام هؤلاء لا وجه له.
أمّا أوّلا فلأنّ الدّليل أخصّ من الدّعوى لافادته وراثة العلماء فقط دون العرفاء مع أنّ المدّعى أعمّ.
و ثانيا إنّ قوله عليه السّلام العلماء ورثة الأنبياء لم يرد به الوراثة الحقيقية قطعا و إنما هو من باب التشبيه و المجاز يعني أنّ علومهم انتقل إليهم كما أنّ أموال المورث ينتقل إلى الوارث فكانوا بمنزلة الورثة.
و على ذلك فأقول: إنّ وراثة العلماء للأنبياء و خلافتهم عنهم على سبيل المجاز و الاستعارة، و وراثة الامام المنتظر عليه السّلام و خلافته على سبيل الحقيقة، فلا بدّ من حمل لفظ الخليفة في كلامه عليه السّلام عليه لا على العالم، لأنّ اللّفظ إذا دار بين أن يراد منه معناه الحقيقي و معناه المجازي فالأصل الحقيقة كما برهن في علم الاصول.
|