و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثانية و الثمانون من المختار فى باب الخطب
الحمد للّه المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبة، خلق الخلائق بقدرته، و استعبد الأرباب بعزّته، و ساد العظماء بجوده، و هو الّذي أسكن الدّنيا خلقه، و بعث إلى الجنّ و الإنس رسله، ليكشفوا لهم عن غطائها، و ليحذّروهم من ضرائها، و ليضربوا لهم أمثالها، و ليبصّروهم عيوبها، و ليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها و أسقامها، و حلالها و حرامها، و ما أعدّ سبحانه للمطيعين منهم و العصاة من جنّة و نار، و كرامة و هوان، أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه، جعل لكلّ شي ء قدرا، و لكلّ قدر أجلا، و لكلّ أجل كتابا.
اللغة
(نصب) نصبا من باب تعب أعيا و عيش ناصب و ذو منصبة فيه كدّ و جهد و نصبه الهمّ أتعبه و (هجمت) عليه هجوما من باب قعد دخلت على غفلة منه، و هجمت على القوم جعلت يهجم عليهم يتعدّي و لا يتعدّى و (المصاح) جمع مصحّة مفعلة من الصحّة كمضار جمع مضرّة، و الصّوم مصحّة بفتح الصاد و كسرها أى فيه صحّة أو يصحّ به
الاعراب
الباء في قوله عليه السّلام: بمعتبر، للمصاحبة أو التعدية، و من في قوله: من تصرّف بيانية، و حلالها بالجرّ عطف على تصرّف أو على أسقامها، و قوله: و ما أعدّ اللّه، إما عطف على معتبر أو على عيوبها، و الى في قوله: أحمده إلى نفسه، لانتهاء الغاية كما في نحو الأمر إليك أى منته إليك قال ابن هشام: و يقولون أحمد إليك اللّه، أى انهى حمده إليك آه، و في قوله كما استحمد إلى خلقه، لانتهاء الغاية أيضا أو بمعنى من كما في قول الشاعر:
- تقول و قد عاليت بالكور فوقهاأيسقى فلا يروى إلىّ ابن احمرا
أى منّى
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للثناء على اللّه سبحانه و وصف الكتاب العزيز و موعظة المخاطبين و وعدهم بالجنّة و وعيدهم من النار و افتتحها بما هو أحقّ بالافتتاح.
فقال (الحمد للّه) أى الثناء و الذكر الجميل حقّ له سبحانه و مختصّ به لاختصاص أوصاف الجمال و نعوت الكمال بذاته و أشار إلى جملة من تلك الصّفات فقال (المعروف من غير رؤية) أى معروف بالايات، موصوف بالعلامات، مشهود بما أبدعه من عجايب القدرة و شواهد العظمة في الأرضين و السّماوات، و ليست معروفيّته كمعروفيّة الأجسام و الجسمانيّات، و ذوى الكيفيّات و الهيات بأن يعرف برؤية العيون بمشاهدة العيان لكونه تعالى شأنه منزّها عن المقابلة و الجهة و المكان، و غيرها من لواحق الامكان، و انما تعرفه القلوب بحقايق الايمان على ما عرفت ذلك كلّه تفصيلا و تحقيقا في شرح المختار التاسع و الأربعين و المختار المأة و الثّامن و السّبعين. و (الخالق من غير منصبة) يعني أنه خالق للمخلوقات بلا آلات و أدوات فلا يلحقه ضعف و تعب و اعياء و نصب.
و انما (خلق الخلايق ب) نفس (قدرته) الباهرة و مشيّته القاهرة المضمرة بين الكاف و النون، فأمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (و استعبد الأرباب بعزّته) أى طلب العبوديّة من السادات و الملوك بقهره و غلبته (و ساد العظماء بجوده) إذ كلّ عظيم فهو بمقتضا امكانه داخر عند وجوده مفتقر إلى إفاضته وجوده.
(و هو الّذي أسكن الدّنيا خلقه) و بثّ فيها من كلّ دابّة (و بعث إلى الجنّ و الانس رسله) بمقتضى اللّطف و الحكمة و واتر إليهم أنبيائه (ليكشفوا لهم عن غطائها) و يرفعوا عنها سترها و حجابها و يسفروا عن وجهها نقابها (و ليحذروهم) منها و (من ضرّائها) و ليرغبوهم في الاخرة و في سرّائها (و ليضربوا لهم أمثالها).
لأنّ أكثر الأفهام لما كانت قاصرة عن إدراك ماهيّات الأشياء إلّا في موادّ محسوسة جرت عادة اللّه سبحانه و عادة رسله و أنبيائه في تبليغ الأحكام و بيان التكاليف و الكشف عن ماهيّات الأشياء على ضرب الأمثال تقريبا للأفهام حسبما عرفت توضيح ذلك في شرح الفصل الثالث من المختار المأة و الاثنين و السبعين.
و لما كان عمدة الغرض من بعث الرّسل و الأنبياء هو جذب الناس إلى طرف الحقّ، و كان حصول ذلك الغرض موقوفا على التنفير عن الدّنيا و الترغيب إلى الأخرى لا جرم أكثروا لها من الأمثال المنفرة، فشبّهوها في وقاحتها و قباحتها بالعجوز الهتماء الشمطاء، و في سرعة الفناء و الانقضاء بالظلّ الزائل و الضوء الافل، و في حسن صورتها و قبيح باطنها بالحيّة اللّين مسّها و القاتل سمّها إلى غير هذه من الأمثال المضروبة لها في الكتاب العزيز و الأخبار و كلمات الأنبياء و الأولياء الأخيار، و قد مضت جملة من تلك الأمثال في شرح الفصل الثاني من المختار الثاني و الثمانين.
(و ليبصّروهم عيوبها) حتّى يشاهدوا معايبها و يروا معاطبها و يعلموا أنّها و إن كانت يونق منظرها إلّا أنها يوبق مخبرها مع تضمّنها لقرب الزيال و ازف الانتقال و علز القلق و ألم المضض و غصص الجرض. (و ليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها و اسقامها) أى ليدخلوا عليهم على حين غفلة منهم بما يوجب عبرتهم من تقلّباتها و تصرّفاتها على أهلها بالصحّة و السقم و اللّذة و الألم، فعن قليل ترى المرحوم مغبوطا، و المغبوط مرحوما و ترى أهلها يمسون و يصبحون على أحوال شتّى، فصحيح مشعوف بها مشغول بزخارفها، و مريض مبتلا، و ميّت يبكى، و آخر يعزّى، و عائد يعود، و آخر بنفسه يجود، فانّ في ذلك تذكرة و ذكرى و عبرة لاولى النهى إذ على أثر الماضي يمضى الباقي، و سبيل السلف يسلك الخلف.
و قوله (و حلالها و حرامها) قال الشارح المعتزلي يقول عليه السّلام ليدخلوا«» عليهم بما في تصاريف الدّنيا من الصحّة و السقم و ما أحلّ و ما حرّم على طريق الابتلاء به.
و قال الشارح البحراني بعد ما وافق الشارح المعتزلي في هذا المعنى: و يحتمل أن يكون عطفا على أسقامها باعتبار أنّ الحلال و الحرام من تصاريف الدّنيا، و بيانه أنّ كثيرا من المحرّمات لنبيّ كانت حلالا من نبيّ قبله و بالعكس، و ذلك تابع لمصالح الخلق بمقتضى تصاريف أوقاتهم و أحوالهم الّتي هى تصاريف الدّنيا. انتهى أقول: و أنت خبير بأنّ هذين المعنيين و إن كانا يصحّحان كون الحلال«» و الحرام مما هجم به الأنبياء و كونهما«» من تصاريف الدّنيا إلّا أنهما على هذين لا يكونان مما يوجب العبرة كما لا يخفى و قد جعلهما بيانا لقوله معتبر فلا بدّ أن يكون المعنى دخولهم على الأمم و تذكيرهم بتصاريف الحلال و الحرام على وجه يوجب الاعتبار مثل أن يذكروهم: بأنّ الاكتساب من الحلال يوجب في الدّنيا زيادة المال و بركة له، و في الاخرة يصون من غضب الرّب، و الاقتحام في الحرام يورث في الدّنيا تلف المال و ذهابه، و في الاخرة يعقّب الحسرة و الندامة و العطب. و بأنّ الحلال ربما يتبدّل بالحرام بالظلم و الاثام كما قال عزّ من قائل: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» و بأنّ الحرام قد يتبدّل بالحلال اذا اقتضت الضّرورة كحالة الاضطرار و المخمصة و نحو ذلك مما يوجب الاعتبار بهما و يبعث على القناعة بالحلال و الكفّ عن الحرام.
و أبلغ التذكر و العبرة بتصاريف الحلال و الحرام ما نطق به القرآن قال سبحانه وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (و ما أعدّ) اللّه (سبحانه للمطيعين منهم.) أى من الجنّ و الانس (و العصاة من جنّة و نار) نشر على ترتيب اللّف أى جنّة للمطيعين و نار للعاصين (و كرامة) و رضوان للأوّلين و ذلّة (و هوان) للاخرين.
(أحمده إلى نفسه) أى أحمده سبحانه متقرّبا أو متوجّها به إليه تعالى أو منهيا حمدى إلى نفسه أى يكون حمدي منتهيا إليه و مخصوصا به عزّ و جلّ (كما استحمد إلى خلقه) أى يكون حمدى إيّاه في الكيفيّة و الكميّة على الوجه الّذي طلب الحمد موجّها طلبه إلى خلقه أو على الوجه الّذي طلبه منهم و المال واحد، و المراد بيان فضل الحمد و كونه على وجه الكمال و خلوصه عن شوب الشرك و الريا و قوله (جعل لكلّ شي ء قدرا) كقوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً أى مقدارا معيّنا من الكيفيّة و الكميّة ينتهى إليه، و حدّا محدودا يقف عنده ذلّه (و لكلّ قدر أجلا) أى لكلّ شي ء مقدّر وقتا مخصوصا يكون فيه انقضاؤه و فناؤه اذا بلغه (و لكلّ أجل كتابا) أى رقوما تعرفها الملائكة و تعلم بها انقضاء أجل من ينقضي أجله.
و قال الشارح البحراني: المراد بالكتاب العلم الالهي المعبّر عنه بالكتاب المبين و اللّوح المحفوظ المحيط بكلّ شي ء، و فيه رقم كلّ شي ء، انتهى، و الأظهر ما قلناه.
|