و إن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، و أسرج لها حدقتين قمراوين، و جعل لها السّمع الخفيّ، و فتح لها الفم السّويّ، و جعل لها الحسّ القويّ، و نابين بهما تقرض، و منجلين بهما تقبض، يرهبها الزّرّاع في زرعهم، و لا يستطيعون ذبّها و لو أجلبوا بجمعهم، حتّى ترد الحرث في نزواتها، و تقضي منه شهواتها، و خلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة.
اللغة
(الناب) من الأسنان خلف الرباعية و (المنجل) و زان منبر حديدة يقضب بها الزرع و (نزا) كدعا نزوا وثب
الاعراب
الواو في قوله: و خلقها، للحال، و الفاء في قوله: فتبارك، فصيحة
و لما نبّه على لطايف الحكمة و دقايق القدرة الشاهدة بوجود الصّانع المدبّر الحكيم في خلقة النملة أردف ذلك تأكيدا و تثبيتا بذكر دقايق الصنع و براهين التدبير في خلق الجرادة فقال عليه السّلام: (و إن شئت قلت في الجرادة) نظير ما قلته في النملة من القول البيّن الكاشف عن تدبّر الصّانع الحكيم المدبّر (إذ خلق لها عينين حمراوين و أسرج لها حدقتين قمراوين) أى جعلهما مضيئتين كالسراج منيرتين كالليلة المنيرة بالقمر (و جعل لها السمع الخفىّ) أى عن أعين الناظرين و قيل: أراد بالخفىّ اللطيف السامع لخفىّ الأصوات. قال الشارح البحراني: فوصفه بالخفاء مجاز اطلاقا لاسم المقبول على قابله (و فتح لها الفم السّوىّ) أى المستوى قال الشارح البحراني: و التسوية التعديل بحسب المنفعة الخاصة بها.
أقول: و يحتمل أن يكون المراد به أنّ فمها مشقوق عرضا مثل فم السرطان و ليس كأفواه الزنابير و ساير ذوات الأجنحة من الحيوان.
(و جعل لها الحسّ القوىّ) قال البحراني: أراد بحسّها قوّتها الوهميّة و بقوّته حذقها فيما الهمت إياه من وجوه المعاش و التصرّف يقال: لفلان حسّ حاذق إذا كان ذكيا فطنا درّاكا.
أقول: و الظاهر أنّ المراد به قوّة سامعتها و باصرتها، فإنا قد شاهدنا غير مرّة أنها تقع على الزرع في أوانه بزحفها فيصحن و يأكلن الزرع و يفسدنه فاذا ظهر في الجوّ واحد من الطير المعروف بطير الجراد يمرّ عليهنّ و لو على غاية بعد منهنّ يشاهدنه أو يسمعن صوته فيسكتن و يمسكن عن أصواتهن مخافة أن يقع عليهنّ فيقتلهنّ، و هو دليل على قوّة سمعها و بصرها (و) جعل لها (نابين) أى سنّين (بهما تقرض) و تقطع الزرع و الحبّ (و منجلين) أى يدين أو رجلين شبيهتين بالمنجل الذى يقضب أى يقطع به الزرع و وجه الشبه الاعوجاج و الخشونة (بهما تقبض).
و من لطيف الحكمة في رجليها أن جعل نصفهما الّذي يقع عليه اعتمادها و جلوسها كالمنشار ليكون لها معينا على الفحص و وقاية لذتها عند جلوسها و عمدة لها عند الطيران.
(يرهبها الزّراع في زرعهم و لا يستطيعون ذبّها و لو أجلبوا بجمعهم) أى يخافها الزارعون و لا يقدرون على دفعها و لو تجمّعوا و تألّبوا بجمعهم، ألا ترى أنها إذا توجّهت بزحفها إلى بقعة و هجمت على زروعها و أشجارها أمحلته و لا يستطيع أحد دفعها حتّى لو أنّ ملكا من ملوك الدّنيا أجلب عليها بخيلة و رجله و أراد ذبّها عن بلاده لم يتمكّن من ذلك.
و في ذلك تنبيه على عظمة الخالق حيث يسلّط أضعف خلقه على أقوى خلقه. قيل لأعرابيّ: ألك زرع فقال: نعم و لكن أتانا زجل من جراد بمثل مناجلي الحصاد فسبحان من يهلك القوىّ الأكول بالضعيف المأكول.
و في حيوة الحيوان للدميري عن ابن عمر أنّ جرادة وقعت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاذا مكتوب على جناحها بالعبرانية: نحن جند اللّه الأكبر و لنا تسع و تسعون بيضة و لو تمّت لنا المأة لأكلنا الدّنيا بما فيها.
و كيف كان فلا يستطيع أحد لدفعها (حتّى ترد الحرث في نزواتها) و وثباتها (و تقضى منه شهواتها) فترد الحرث باختيارها و ترحل عنها باختيارها.
قال الاصمعي: أتيت البادية فاذا أعرابيّ زرع برّا له، فلما قام على سوقه و جاد سنبله أتاه زجل جراد فجعل الرّجل ينظر إليه و لا يدري كيف الحيلة فيه فأنشأ يقول:
- مرّ الجراد على زرعي فقلت لهالا تأكلن و لا تشغل بافساد
- فقام منهم خطيب فوق سنبلةإنا على سفر لا بدّ من زاد
و قوله (و خلقها كلّه لا يكون اصبعا مستدقة) تنبيه على تمام التعجّب بما أودع فيها من بديع الصنعة، يعني أنّها يرهبها الزراع و يخافها الحراث و يهابها الملاك و الحال أنها مخلوق ضعيف صغير حقير حتّى أنها لو شرح أوصافها المذكورة لمن لم يرها أصلا اعتقد أنّ الموصوف بها لا بدّ أن يكون خلقا عظيم الجثّة قوىّ الهيكل حتّى يصلح استناد هذه الأوصاف إليه و لم يكن له مزيد تعجّب، فاذا تبيّن له صغر حجمه زاد تعجّبا.
|