و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها، و كيف و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها، و ما كان من مراحها و سائمها، و أصناف أسناخها و أجناسها، و متبلّدة أممها و أكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها، و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت، و عجزت قواها و تناهت، و رجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنّها مقهورة، مقرّة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضّعف عن إفنائها. و إنّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا، وحده لا شي ء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا مكان، و لا حين و لا زمان، عدمت عند ذلك الاجال و الأوقات، و زالت السّنون و السّاعات، فلا شي ء إلّا اللّه الواحد القهّار الّذي إليه مصير جميع الامور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناءها، و لو قدرت على الامتناع لدام بقاءها. لم يتكاّده (يتكاءده خ ل) صنع شي ء منها إذ صنعه، و لم يؤده منها خلق ما برئه و خلقه، و لم يكوّنها لتشديد سلطان، و لا لخوف من زوال و نقصان، و لا للاستعانة بها على ندّ مكاثر، و لا للاحتراز بها من ضدّ مثاور، و لا للازدياد بها في ملكه، و لا لمكاثرة شريك في شركه، و لا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها. ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها، لا لسأم دخل عليه في تصريفها و تدبيرها، و لا لراحة واصلة إليه، و لا لثقل شي ء منها عليه، لا يملّه (لم يملّه خ) طول بقائها، فيدعوه إلى سرعة إفنائها، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه، و امسكها بأمره، و أتقنها بقدرته. ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، و لا استعانة بشي ء منها عليها، و لا لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس، و لا من حال جهل و عمى إلى حال علم و التماس، و لا من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة، و لا من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة.
اللغة
(المراح) بالضمّ قال الشارح المعتزلي هي النعم ترد إلى المراح بالضمّ أيضا و هو الموضع الذي تأوى إليه النعم، و قال البحراني: مراحها ما يراح منها في مرابطها، و معاطنها و سائمها ما ارسل منها للرعى. أقول: يستفاد منهما أنّ المراح هنا اسم مفعول و ظاهر غير واحد من اللّغويّين أنه اسم للموضع فقط، قال في القاموس: أراح الابل ردّها إلى المراح بالضمّ المأوى و قال الفيومى في مصباح اللّغة: قال الازهري و أما راحت الابل فهي رائحة فلا يكون إلّا بالعشى إذا أراحها راعيها على أهلها يقال: مرحت بالغداة إلى الرعى و راحت بالعشىّ على أهلها أى رجعت من المرعى إليهم، و قال ابن فارس: الرواح رواح العشىّ و هو من الزوال إلى اللّيل، و المراح بالضّم حيث تأوى الماشية باللّيل و المناخ و المأوى مثله و فتح الميم بهذا المعنى خطأ لأنه اسم مكان و الزمان و المصدر من أفعل بالألف مفعل بضمّ الميم على صيغة اسم المفعول، و أمّا المراح بالفتح فاسم الموضع من راحت بغير ألف، و اسم المكان من الثلاثي بالفتح، انتهى.
و قال في مادة السوم: سامت الماشية سوما رعت بنفسها و يتعدّي بالهمزة فيقال أسامها راعيها، قال ابن خالويه: و لم يستعمل اسم مفعول من الرّباعي بل جعل نسيا منسيّا و يقال أسامها فهى سائمة. فقد ظهر من ذلك أن جعل المراح اسم مفعول من أراح كما زعمه الشارحان غير جايز فهو اسم مكان و لا من تقدير مضاف في الكلام و تمام الكلام في بيان المعنى و (التبلّد) ضد التجلّد من بلد بلادة كشرب و فرح فهو بليد أى غير فطن و لا كيس و (لم يتكأّده) بالتشديد و الهمز من باب التّفعل و بالمدّ أيضا من باب التفاعل مضارع تكأد يقال تكأّدني الأمر و تكائدني أى شقّ علىّ، و عقبة كؤدة صعبة.
المعنى
ثمّ إنّه عليه السّلام لما ذكر أنّه تعالى يفنى الأشياء بعد الوجود، و كان ذلك مستبعدا عند الأذهان القاصرة و موردا للتعجّب لاستبعادها طريان العدم على هذه الأشياء الكثيرة العظيمة كالسّماوات الموطدات و ما فيهنّ، و الأرضين المدحوّات و ما عليهنّ و غيرها من الممكنات الموجودات أراد دفع الاستبعاد و التعجّب فقال: (و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها) لأنّ الانشاء و الافناء إن لو حظا بالنسبة إلى قدرة الواجب تعالى فليس بينهما فرق، إذ نسبة جميع المقدورات إليه تعالى سواء، لأنها كلّها ممكنة قابلة للوجود و العدم لذواتها و هو سبحانه على كلّ شي ء قدير، و إن لو حظابا لنظر إلى أنفسهما مع قطع النظر عن القدرة فالابداع أغرب و أعجب من الاعدام سيّما إذا كان المبدع مشتملا على بدايع الخلقة و أسرار الحكمة التي لا يهتدي إلى معشارها بعد الهمم و لا يصل إليها غوص الفطن كما أشار إليه بقوله: (و كيف) أى كيف يكون الفناء أعجب (و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها و ما كان من مراحها و سائمها) أى من ذي مراحها أى الذي أراحه راعيه فيه بالعشى (و أصناف أسناخها و أجناسها و متبلّدة اممها و أكياسها) أى غبيّها و ذكيّها (على إحداث) أصغر حيوان و أحقره و أضعفه من (بعوضة) و نحوها (ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى ايجادها) كما قال عزّ من قائل: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».
و محصّل المراد أنّه كيف يكون الفناء أعجب من الابداع و في إبداع أضعف حيوان و أحقره و هي البعوضة ما يعجز عن تكوينه و إحداثه قدرة كلّ من تنسب إليه القدرة، و تقصر عن معرفة الطريق إلى ايجادها ألباب الألبّاء.
(و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت و عجزت قواها و تناهت) فانها على صغرها و ضعفها قد ودع فيها من بدايع الصنع و عجائب الخلقة ما لا يخفى، فانه سبحانه قد خلقها على خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر أعضاء من الفيل، فانّ للفيل أربع أرجل و خرطوما و ذنبا، و لها مع هذه الأعضاء رجلان زايدتان و أربعة أجنحة، و خرطوم الفيل مصمت و خرطومها مجوّف نافذ للجوف، فاذا طعنت به جسد الانسان استقى الدّم و قذفت به إلى جوفها فهولها كالبلعوم و الحلقوم و لذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ قال الراجز:
- مثل السّفاة دائما طنينهاركّب في خرطومها سكّينها
و مما ألهمها اللّه تعالى أنّها إذا جلست على عضو الانسان لا تزال تتوخى بخرطومها المسام التي يخرج منها العرق لأنها أرقّ بشرة من الجلد، فاذا وجدها وضعت خرطومها فيها و فيها من الشره أن تمصّ الدّم الى أن تنشقّ و تموت أو إلى أن تعجز عن الطيران فيكون ذلك سبب هلاكها.
و كان بعض الجبابرة من الملوك يعذّب بالبعوض فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجرّدا إلى بعض الاجام التي بالبطايح و يتركه فيها مكتوفا فيقتل في أسرع وقت و أقرب زمان قال الفتح البستي في هذا المعنى:
- لا تستخفنّ الفتى بعداوةأبدا و إن كان العدوّ ضئيلا
- إنّ القذى يؤذى العيون قليله و لربّما جرح البعوض الفيلا
و قال آخر:
- لا تحقرّن صغيرا في عداوتهإنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد
فقد ظهر من ذلك أنّ عقول العقلاء لو فكرت في ايجادها و فيما أبدع من عجايب الصنع لتحيّرت و تاهت و عرفت أنّ القوى عاجزة عن ايجادها.
(و رجعت خاسئة) أى صاغرة ذليلة (حسيرة عارفة بأنها مقهورة) عاجزة غير متمكّنة (مقرّة بالعجز عن انشائها مذعنة بالضعف عن إفنائها) فان قلت: كيف تذعن العقول بالضعف عن إفناء البعوضة مع إمكان ذلك و سهولته قلت: إنّ اللّه سبحانه و إن خلق للعبد قدرة على الفعل و الترك و الايذاء و الاضرار لغيره، لكنه تعالى جعل للبعوضة أيضا القدرة على الهرب و الطيران و الامتناع من ضرر الغير فضلا عن اهلاكه، فلو لا تسخير الربّ القاهر لها و تمكينه اياها لما قدر العبد على قتلها و اهلاكها و ما كان متمكنا من افنائها و إعدامها.
ثمّ إنّه لما ذكر أنّه تعالى يفنى الأشياء بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها، و عقّبها بجملات متعدّدة معترضة للاستبعاد و إفنائها عاد إلى إتمام ما كان بصدده من شرح حال الفناء فقال: (و انّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شي ء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها) يعني أنّه يبقى بعد فناء الأشياء وحده لا شي ء معه منها كما كان قبل وجودها.
قال الشارح البحراني: و قوله: يعود، إشعار بتغير من حالة سبقت إلى حالة لحقت و هما يعودان إلى ما تعتبره أذهاننا له من حالة تقدّمه على وجودها و حالة تأخّره عنها بعد عدمها، و هما اعتباران ذهنيّان يلحقانه بالقياس إلى مخلوقاته.
و قوله (بلا وقت و لا مكان و لا حين و لا زمان) يحتمل أن يكون قيدا بقوله: وحده أو قوله: يكون، فيكون إشارة إلى بقائه سبحانه بعد فناء الأشياء متوحّدا منزّها عن الزمان و المكان، بريئا عن لحوقهما كما كان قبل وجودها كذلك، لأنّ الكون في المكان و الزمان من خصايص الامكان و خواصّ الأجسام.
و يحتمل أن يكون قيدا لقوله: فنائها أتى به تأكيدا له، يعني أنّه يفنى الأشياء حتّى لا يبقى وقت و لا زمان و لا مكان.
و ذلك لأنّ المكان إمّا الجسم الذي يتمكّن عليه جسم آخر، أو الجهة، و كلاهما لا وجود له بتقدير عدم الافلاك و ما في حشوها من الأجسام، أما الأوّل فظاهر، و أمّا الثاني فلأنّ الجهة لا تتحقّق إلّا بتقدير وجود الفلك لأنها أمر إضافيّ بالنسبة إليه فبتقدير عدمه لا يبقى لها تحقق أصلا. و أما الزمان فلانه عبارة عن مقدار حركة الفلك فاذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة فلا زمان.
و فيه ردّ على الفلاسفة القائلين بعدم فناء الأفلاك حسبما اشير إليه سابقا و لدفع زعمهم الفاسد أيضا أكّده ثانيا بقوله: (عدمت عند ذلك) أى عند فناء الأشياء (الاجال و الأوقات، و زالت السّنون و الساعات) لأنّ كلّ ذلك أجزاء للزّمان و حيث انعدم الزّمان لانعدام الفلك انعدم ذلك كلّه (فلا شي ء إلّا اللّه الواحد القهّار) هذا نصّ صريح في فناء جميع الأشياء.
و هو على القول بطريان العدم عليها بجواهرها و ذواتها لا غبار عليه.
و أما على القول بأنّ الفناء هو التشذّب و تفرّق الأجزاء كما عليه بناء المحققين حسبما عرفته سابقا فلا بدّ من ارتكاب التأويل و في أمثاله ينصرف لا عن نفى الجنس إلى نفى الكمال كما في لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد أى لا شي ء يصحّ منه الانتفاع فانّ الأجزاء المتشذّبة المتفرّقة و إن صحّ إطلاق اسم الشي ء عليها إلّا أنّها خرجت بتفرّقها عن حيّز الانتفاع، فكأنّها ليست بشي ء أى لا يبقى بعد فناء الأشياء شي ء معتدّ به إلّا اللّه الواحد القهّار للأشياء بالعدم و الفناء، و الغالب عليها بالاعدام و الافناء، بحيث لا يطيق شي ء منها من الامتناع من حكمه و مما يريد الانفاذ فيها من أمره.
(الذى إليه مصير جميع الامور) و مرجعها و عاقبتها كما قال عزّ من قال: «ألا إلى اللّه تصير الامور».
قال الطبرسي: أى إليه ترجع الامور و التدبير يوم القيامة فلا يملك ذلك غيره.
و قال البحراني: معني مصيرها إليه أخذه لها بعد هبته لوجودها.
و لما ذكر قهاريّته على الأشياء و صيرورتها كلّها إليه تعالى عقّبه بقوله: (بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها و بغير امتناع منها كان فناؤها) تنبيها على أنّ لازم قاهريّته ذلك أى كون الكلّ مقهورا تحت مشيّته غير مقتدر على ايجاد نفسه و لا على الامتناع من فنائه فهو عاجز ضعيف داخر ذليل لا يملك لنفسه موتا و لا حياة و لا نشورا.
(و) لما كان عدم اقتدارها على خلقتها بديهيّا مستغينا عن التعليل بخلاف اقتدارها على الامتناع علّل الثاني بأنها (لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها) لكن التالي باطل فالمقدّم مثله، و وجه الملازمة أن الفناء مكروه بالطبع لكلّ موجود فلو تمكن من الامتناع منه لامتنع فدام، و أما بطلان التالي فلما ثبت أنّه سبحانه يفنيها فلا يدوم بقاؤها فلا يكون لها قدرة على الامتناع.
و السابع و الستون أنه تعالى (لم يتكأده صنع شي ء منها إذ صنعه) أى لم يشق عليه سبحانه صنع شي ء من المصنوعات، لأنّ صنعه تعالى ليس بقوّة جسمانيّة حتّى يطرئه الانفعال و التعب، بل فعله الافاضة و صنعه الابداع الناشى عن محض علمه و ارادته من غير استعمال آلة أو حركة.
و نحن لو كنا بحيث لو وجد من نفس علمنا و إرادتنا شي ء لم يلحقنا من وجوده تعب و انفعال لكنا نحتاج في أفعالنا إلى حركة و استعمال آلة على أنّ علمنا و إرادتنا زايدتان على ذواتنا فاللّه تعالى أولى بأن لا يحلقه تغيّر من صنعه لأنّ فعله بمجرّد علمه و مشيته الموجبتان لقوله و أمره الواسطتان لفعله و صنعه كما قال عزّ و جلّ: إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
(و) الثامن و الستون انّه (لم يؤده منها خلق ما برأه و خلقه) أى لم يثقله ايجاد ما أوجده من المخلوقات، لأنّ الثقل و الاعياء إنّما يعرض لذي القوى و الاعضاء من الحيوان، و إذ ليس سبحانه بجسم و لاذى آلة جسمانية لم يلحقه بسبب فعله اعياء و لا تثقل و لا تعب كما قال سبحانه «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ» و قال «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا».
(و) التاسع و الستون أنّ تكوينه و ايجاده للأشياء ليس لجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرّة عنها، لما قد عرفت في شرح الخطبة الرابعة و الستين مفصلا من أنه ليس بفعله داع و غرض غير ذاته، فلو كان غرضه من التكوين جلب المنفعة أو دفع المضرّة لزم نقصانه في ذاته و استكماله بغيره، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
(و) أشار إلى تفصيل وجوه المنافع المتصوّرة في التكوين و المضارّ المترتّبة على عدمه و نفيها جميعا بقوله: (لم يكوّنها لتشديد سلطان) قد مصي شرحه في شرح الخطبة الرابعة و الستّين (و لا لخوف من زوال و نقصان) أى لخوفه من الزوال و العدم فخلقها ليتحصّن بها من ذلك أو خوفه من النقصان فخلقها لأنّ يستكمل بها، و قد تقدّم تنزّهه سبحانه عن الخوف في شرح الخطبة المذكورة أيضا.
(و لا لاستعانة بها على ندّ مكاثر) متعرّض للغلبة (و لا للاحتراز بها من ضدّ مثاور) مواثب و محارب له (و لا للازدياد بها في ملكه) و مملكته بتكثير الجند و العساكر و أخذ الحصون و البلاد و القلاع (و لا لمكابرة شريك في شركه) أى لمفاخرة الشريك في الملك كما يكاثر الانسان غيره ممن يشاركه في الأموال و الأولاد قال سبحانه «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» و انما لم يكن تكوينه لأجل هذه الامور لاستلزامه العجز و الضعف و النقصان حسبما عرفته في شرح الخطبة التي أشرنا إليها.
(و لا لوحشه كانت منه فأراد أن يستأنس إليها) لتنزّهه تعالى عن الاستيحاش و الاستيناس حسبما تقدّم تفصيلا في شرح الفصل السادس من الخطبة الاولى.
و السبعون أنّ إفنائه للأشياء ليس أيضا من أجل جلب النفع أو دفع الضّرر و إليه أشار بقوله (ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم) و ملال (دخل عليه في تصريفها و تدبيرها) لأنّ الضجر و الملال إنما يلحقان للمزاج الحيواني فيمتنع أن يكون فناؤه لها لأجل دفعهما عنه لتنزّهه من المزاج.
(و لا ل) تحصيل (راحة واصلة إليه) بسبب إعدامها (و لا ل) دفع مضرّة (ثقل شي ء منها عليه) حال وجودها، لأنّ هذا كلّه من لواحق الامكان و لوازم الضعف و النقصان (لا يملّه طول بقائها) كما يملّ غيره (فيدعوه إلى سرعة إفنائها) لما ذكرنا من تنزّهه من السأم و الملال و (لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه) أى ببرّه و إنعامه و تكرمته.
و معنى تدبيره لها تصريفه إيّاها لتصريفها كلّيا و جزئيّا على وفق حكمته و عنايته من غير مماسّة بها و مباشرة لها لأنّ المباشرة و الملامسة من صفات الأجسام.
(و أمسكها بأمره) أى بحكمه النافذ و سلطانه القاهر (و أتقنها بقدرته) أى جعلها متقنة محكمة مصونة من التزلزل و الاضطراب بنفس قدرته الكاملة، فاذا كان تدبيرها باللطف و إمساكها بالحكم و إتقانها بمحض القدرة من غير حاجة فيها إلى المزاولة و المباشرة امتنع عروض الثقل و الملال عليه سبحانه بسبب بقائها و وصول الراحة إليه بسبب فنائها كما هو واضح لا يخفى.
و الحادى و السبعون أنّ إعادته للأشياء بعد الفناء ليس أيضا لأجل الأغراض البشريّة من جلب منفعة أو دفع المضرّة و إليه أشار بقوله: (ثمّ يعيدها بعد الفناء) أى يعيد الأشياء لا جميعها بل بعضها و هو جميع أفراد النوع الانساني قطعا و جملة من غيره مما ورد في الأخبار الإخبار بإعادته، فالضمير عايد إلى الدّنيا أو إلى الامور في قوله مصير جميع الامور و أريد به البعض على طريق الاستخدام.
و كيف كان فانه سبحانه يعيد من الأشياء ما اقتضت الحكمة إعادتها (من غير حاجة منه إليها) لأنّ الحاجة من صفات الممكن (و لا استعانة بشي ء منها عليها) أى استعانة ببعضها على بعض (و لا لانصراف من حال وحشة) كانت له عند فقدانها (إلى حال استيناس) حصلت له عند وجودها (و لا) لانتقال (من حال جهل و عمى) حاصلة له باعدامها (إلى حال علم و التماس) أى إلى استجداد علم و لمس (و لا من فقر و حاجة إلى غني و كثرة و لا من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة) لأنّ هذه الأعراض كلّها إنما تليق بالممكنات الناقصة، و أمّا الواجب تعالى فله الكمال المطلق في ذاته و صفاته، فيمتنع أن يكون أفعاله لمثل هذه الأغراض المنبئة عن النقص و الفاقة.
تنبيه
لا تحسبنّ من نفي الأغراض المذكورة عنه سبحانه في ايجاد الأشياء و إفنائها و إعادتها كون أفعاله عزّ و جل خالية عن الغرض مطلقا كما زعمته الأشاعرة فيلزم كونه لاعبا عابثا في فعله، تعالى شأنه عن ذلك علوّا كبيرا و قد قال عزّ من قائل «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».
بل المنفيّ عنه سبحانه هو الأغراض المستلزمة لنقصانه في ذاته و استكماله بمخلوقاته من قبيل جلب المنافع و دفع المضارّ.
و تحقيق المقام يتوقف على بسط في الكلام.
فأقول: ذهبت الطايفة المحقّة الامامية و المعتزلة من العامة إلى أنّ أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض و المصالح و الحكم و المنافع، و خالفهم الأشاعرة.
قال العلامة الحلّى قدّس اللّه روحه في كتاب نهج الحقّ: قالت الامامية: إنّ اللّه إنما يفعل لغرض و حكمة و فائدة و مصلحة يرجع إلى المكلّفين و نفع يصل إليهم، و قالت الأشاعرة: إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض و لا لمصلحة ترجع إلى العباد و لا لغاية من الغايات، و لزمهم من ذلك كون اللّه تعالى لاعبا عابثا في فعله فانّ العابث ليس إلّا الّذي يفعل لا لغرض و حكمة بل محابا و اللّه تعالى يقول «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» و الفعل الّذى لا غرض للفاعل فيه باطل و لعب، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
و قال في موضع آخر من الكتاب المذكور: قالت الاماميّة: إنّ اللّه لم يفعل شيئا عبثا بل إنما يفعل لغرض و مصلحة و إنما يمرض لمصالح العباد و يعرض المولم بحيث ينتفي العبث و الظلم، و قالت الأشاعرة: لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض من الأغراض و لا لمصلحة و يولم العبد بغير مصلحة و لا غرض بل يجوز أن يخلق خلقا في النّار مخلّدين فيها أبدا من غير أن يكون قد عصوا أوّلا، انتهى كلامه رفع مقامه.
و قال الشارح المعتزلي: أوجد اللّه تعالى الأشياء أولا للاحسان إلى البشر و ليعرّفوه، فأنّه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف، ثمّ كلّف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة التي لا يمكن وصولهم إليها إلّا بالتكليف و هي الثواب، ثمّ يفنيهم لأنّه لا بدّ من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من مشاق التكاليف، ثمّ إنه يبعثهم و يعيدهم ليوصل إلى كلّ إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب، و لا يمكن ايصال هذا المستحق إلّا بالاعادة انتهى.
و قال الأوّل أيضا في محكى كلامه من كتاب نهاية الفصول: إنّ النصوص دالّة على أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد ثمّ إنّ الاماميّة و المعتزلة صرّحوا بذلك و كشفوا الغطاء حتّى قالوا إنّه تعالى يقبح منه فعل القبيح و العبث بل يجب أن يكون فعله مشتملا على مصلحة و غرض، و أما الفقهاء«» قد صرّحوا بأنّه تعالى إنما شرع الحكم لهذا المعني و لأجل هذا الحكمة ثمّ يكفرون من قال بالغرض مع أنّ معني الكلام الغرض لا غير، انتهى.
فقد ظهر من كلامهما جميعا اتّفاق العدلية على كون أفعاله تعالى و أحكامه و جميع ما صدر عنه تكوينيّا كان أو تكليفيّا معلّلا بأغراض، و أنّ الغرض منها جميعا أيصال النفع إلى المكلّفين و الاحسان إليهم و اللطف في حقّهم.
و يشهد لهم صريحا الايات الكثيرة من الكتاب و الأخبار التي لا تعدّ و لا تحصى مثل قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ و قوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و قوله مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ الاية و قوله وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ.
و في الحديث القدسي: لولاك لما خلقت الأفلاك، و يا إنسان خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلى، و كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لاعرف. إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى ايراده.
و كفاك شاهدا في هذا الغرض كتاب علل الشرائع الّذى ألّفه الصدوق «قده» في علل تشريع الأحكام الشرعيّة.
و استدل الأشاعرة على مذهبهم بأنه لو كان فعله تعالى لغرض من جلب منفعة أو دفع مفسدة لكان هو ناقصا بذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يكون غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه، و ذلك لأنّ ما استوى وجوده و عدمه بالنظر إلى الفاعل و كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثاله على الفعل و سببا لاقدامه عليه بالضرورة، فكلّ ما كان غرضا يجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل و أليق به من عدمه و هو معني الكمال، فاذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بعدمه.
قالوا: و أما قول القائلين بكون أفعاله للغرض إنّه لولاه لكان اللّه لاعبا عابثا، فالجواب التحقيقى عنه إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد، و أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم و مصالح لا يحصى راجعة إلى مخلوقاته تعالى لكنها ليست أسبابا باعثة على إقدامه و عللا مقتضية لفاعليّته فلا يكون أغراضا له و لا عللا غائية لأفعاله حتّى يلزم استكماله بها، بل يكون غايات و منافع لأفعاله و آثارا مترتبة عليها، فلا يكون شي ء من أفعاله عبثا خاليا عن الفوائد، و ما ورد من الظواهر الدالة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الفايدة و المنفعة دون الغرض و العلّة.
أقول: هكذا قرّر الشارح الناصب روزبهان خفضه اللّه دليل الأشاعرة في شرح نهج الحق و المستفاد منه اتّفاق الاشاعرة و العدلية على كون أفعاله سبحانه مشتملة على الحكم و المصالح العايدة إلى الخلق لا إليه تعالى، و على أنّ ظواهر الأدلّة هي العلّية و الغاية.
و إنما النزاع في كون تلك المصالح و الحكم غرضا و علّة للفعل، فذهب العدلية إلى الغرض و العلّية مستدلّين بظواهر الأدلّة، و أنكرها الأشاعرة و صرفوا الأدلّة عن ظواهرها بزعمهم استلزام القول بالغرض النّقصان بالذات و الاستكمال بالغير و هو محال على الحق الأوّل سبحانه.
و اعترض عليه الشارح الفاضل القاضي نور اللّه نوّر اللّه مرقده.
أولا بأنّه انما يلزم الاستكمال لو كان الغرض عايدا إليه تعالى و نحن لا نقول بذلك، بل الغرض إما عايد إلى مصلحة العبد أو إلى اقتضائه نظام الوجود بمعني نظام الوجود لا يتمّ إلّا بذلك الغرض فيكون الغرض عايدا إلى النظام لا إليه و على كلّ من الأمرين لا يلزم الاستكمال.
فان قيل: أولويّة عود الغرض إلى الغير يفيد استكماله بالغير و مساواته بالنسبة إليه تعالى ينافي الغرضيّة. و لو سلم فنقول: الغرض كالاحسان مثلا أولى و أرجح من عدمه عنده تعالى يعني أنّه عالم بأرجحيّة الاحسان في نفس الأمر و لا يلزم أولويّة الاحسان بالمعني المذكور عنده استكماله تعالى به، لأنّ الأنفع أرجح في نفس الأمر، فلو لم يكن عالما بالأرجحيّة يلزم عدم علمه بكونه أنفع، فليزم النقص فيه و هو منزّه عن النقص.
و ثانيا بأنّ تعليل أفعاله راجع إلى الصّفات و الكمالات الفعلية كخالقيّة العالم و رازقيّة العباد، و الخلوّ عنها ليس بنقص قطعا و إنّما النّقص خلوّه عن الصّفات الحقيقية.
و ثالثا بأنّ ما ذكره من الجواب الّذي سمّاه تحقيقا فبطلانه ظاهر لأنّه مع منافاته لما ذكروه في بحث الحسن و القبح العقليّين من أنه ليس في الأفعال قبل ورود الأمر و النهي جهة محسنة و مقبحة تصير منشئا للأمر و النهي مردود بأنّ الفاعل إذا فعل فعلا من غير ملاحظة فايدة و مدخليتها فيه يعدّ ذلك الفعل عبثا أو في حكم العبث في القبح و إن اشتمل على فوايد و مصالح في نفس الأمر، لأنّ مجرّد الاشتمال عليها لا يخرجه عن ذلك، ضرورة أنّ ما لا يكون ملحوظا للفاعل عند ايقاع الفعل و لا مؤثّرا في إقدامه عليه في حكم العدم كما لا يخفى على من اتّصف بالانصاف، هذا.
و ذكر اعتراضات اخر غير خالية عن التأمّل و النظر طوينا عن ذكرها كشحا و إن كان بعض هذه الاعتراضات التي ذكرناها غير خال عن المناقشة أيضا كما لا يخفي، هذا.
و لصدر المتألّهين مسلك آخر في تقرير كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض و تحقيق عميق في بيان معني الغرض و الغاية أشار إليه في مواضع عديدة بعضها إجمالا و بعضها تفصيلا من شرح الكافي.
قال في شرح الحديث الخامس من الباب السادس و هو باب الكون و المكان من كتاب التوحيد ما لفظه: إنّ الأسباب لوجود ماله سبب ينحصر في أربعة: الفاعل، و الغاية، و المادّة، و الصورة، و الأخيرتان داخلتان في وجود المسبّب عنهما إحداهما ما به وجود الشي ء بالقوة كالخشب للسرير، و الثانية ما به وجود الشي ء بالفعل كهيئة السرير لأنها متي وجدت وجد السرير بالفعل، و أمّا الأوّلان فهما خارجان عن وجود المسبّب، و الفاعل ما يفيد وجود الشي ء، و الغاية ما لأجله.
و من المعاليل ما لا يحتاج الى السبّبين الداخلين لكونه بسيطا، و أمّا الفاعل و الغاية فليس يمكن لشي ء من الممكنات الاستغناء عنهما ثمّ الغاية لها اعتباران: أحدهما اعتبار كونها بحسب الوجود العلمي باعثة على فاعلية الفاعل، فهي متقدّمة على الفعل و كون الفاعل فاعلا لأنها علّة فاعليّة لفاعلية الفاعل فهي فاعل الفاعل بما هو فاعل، و هذا في الفواعل الّتي في هذا العالم من المختارين الّذين يفعلون أفاعيلهم بقصد زايد و داعية إرادة زايدة مكشوف معلوم، فانهم ما لم يتصوّروا غاية و فايدة لم يصيروا فاعلا بالفعل، فالعلّة الغائية فيهم مغايرة للعلّة الفاعلة، و أما الأوّل تعالى فلما كان علمه بنظام الخير في العالم الّذى هو عين ذاته داعيا لايجاده للعالم فالفاعل و الغاية هناك شي ء واحد بلا تغاير في الذات و لا تخالف في الجهات.
و ثانيهما اعتبار كونها غاية و ثمرة مترتبة على الفعل، فربما يتأخر وجودها الخارجي عن وجود المعلول فيكون وجودها معلول معلول الفاعل كما في الغايات الواقعة تحت الكون ثمّ اعلم انّه قد وجد في كلام الحكماء أنّ أفعال اللّه تعالى غير معلّلة بالأغراض و الدّواعي، و وجد أيضا كثيرا في ألسنتهم على طبق ما ورد في هذه الأحاديث أنّه تعالى غاية الغايات و أنه المبدأ و الغاية، و في الكلام الالهي «صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما» «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى » إلى غير ذلك مما لا يعدّو لا يحصى.
فان كان المراد من نفس التعليل و سلب اللميّة عن فعله تعالى نفي ذلك عنه بما هو غير ذاته فهو كذلك، لأنه تعالى تامّ في فاعليّته كما هو تامّ في ذاته، لكن لا يلزم من ذلك نفي الغاية و الداعي عن فعله مطلقا حتّى يلزم العبث و الجزاف، تعالى عما يظنّه الجاهلون، بل علمه بنظام الخير الّذى هو نفس ذاته علّة غائية و غرض بالذات لفعله و وجوده، و هذا مما ساق اليه الفحص و البرهان و شهدت به عقول الفحول و أذهان الأعيان.
و قال في شرح الحديث الأوّل من الباب الرابع عشر و هو باب الارادة من كتاب التوحيد: التحقيق أنّ الارادة تطلق بالاشتراك الصناعي على معنيين: أحدهما ما يفهمه الجمهور و هو الّذي ضدّه الكراهة و هي التي قد تحصل فينا عقيب تصوّر الشي ء الملايم و عقيب التردّد حتّى يترجّح عندنا الأمر الدّاعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدهما منا و هذا المعنى فينا من الصفات النفسانية و هي و الكراهة فينا كالشهوة و الغضب فينا و في الحيوان، و لا يجوز على اللّه بل إرادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الحسن و كراهته عدم صدور الفعل القبيح عنه لعلمه بقبحه.
و ثانيهما كون ذاته بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته، لا كاتباع الضوء للمضي ء و السخونة للمسخّن و لا كفعل الطبايع لا عن علم و شعور و لا كفعل المجبورين و المسخّرين و لا كفعل المختارين بقصد زايد و إرادة زايدة ظنّية يحتمل الطرف المقابل.
فاذا هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بارادة ترجع إلى علمه بذاته المستتبع لعلمه بغيره المقتضي لوجود غيره في الخارج لا لغرض زايد و جلب منفعة أو طلب محمدة أو ثناء أو التخلّص من مذّمة، بل غاية فعله محبّة ذاته.
فهذه الأشياء الصادرة عنه كلّها مرادة لأجل ذاته لأنها من توابع ذاته و علمه بذاته، فلو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشي ء، و إليه الاشارة بما ورد في الحديث الالهى عن نفسه تعالى: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لأعرف.
و قال في شرح الحديث السادس من الباب الخامس و العشرين من كتاب التوحيد و هو باب المشيّة و الارادة: ليس لفعله تعالى غاية و غرض زائدتين على ذاته، و إنما الغاية و الغرض لأفاعيل ما سواه من الفاعلين و الغاية و الغرض اسمان لشي ء واحد بالذات متغاير بالاعتبار، فالذى لأجله يفعل الفاعل فعله و يسأل عنه بلم و هو يقع في الجواب يقال له الغاية بالنسبة إلى الفعل و الغرض بالنسبة إلى الفاعل، فاذا قلت لباني الفعل لم تبني البيت فيقول في جوابك لأسكن فيه فالسّكنى غاية للبناء و غرض للبناء.
إذا علمت هذا فاعلم أنّ وجود الأشياء عنه تعالى من لوازم خيريّته تعالى ليس يريد بايجادها شيئا آخر غير ذاته، بل كونه على كماله الأقصى يقتضى ذلك، إذ كلّ فاعل يقصد فى فعله شيئا فذلك الشي ء أفضل منه و هو أدون منزلة من مقصوده.
فلو كان للأوّل تعالى قصد إلى ما سواه أيّ شي ء كان من ايصال خيريّة أو نفع أو مثوبة إلى أحد أو طلب ثناء أو شكر أو محمدة أو غير ذلك لكان في ذاته ناقصا مستكملا بقصده، و ذلك محال لأنّ وجوده على أقصى درجات الفضل و الكمال إذ كلّ كمال و شرف و فضل فهو رشح من رشحات وجوده، فكيف يعود إليه من مجعولاته شي ء من الفضيلة لم تكن في ذاته.
و أيضا لو كان له قصد زايد أو لفعله غرض يلحق إليه بواسطة الفعل يلزم فيه الكثرة و الانفعال، و قد ثبت أنّه واحد أحد من كلّ وجه هذا خلف.
فاذا قد ظهر أنّه لالمية لفعله و لا يسأل عمّا يفعل و كلّ فاعل سواه فله في فعله غرض و لفعله غاية يطلبها هي لا محالة فوقه.
و تلك الغايات متفاضلة متفاوتة في الشرف على حسب تفاوت الفواعل.
و الذي عنده من الملائكة المقرّبين و من في درجتهم من عباده المكرمين فلا غاية لفعله و عبادته و تسبيحه إلّا لقاء ذاته تعالى لا غير. و لمن دونهم من الملائكة السّماوية و النفوس المدبرة غايات اخرى يشتاقون إليها و يتشبّهون بها و يصلّون إليها هي بعد ذاته تعالى.
و هكذا يتنازل الغايات حسب تنازل النفوس و الطبايع حتّى أنّ الجمادات و العناصر لها في استحالاتها و حركاتها غايات طبيعيّة جعلها اللّه مركوزة في ذاتها مجبولة على قصدها و طلبها «و لكلّ وجهة هو مولّيها».
فاتّضح و تبيّن أنّ لكلّ أحد في فعله غاية يسأل عنها و هو معنى قوله: «و هم يسئلون».
و ليس معنى قوله «لا يسئل عمّا يفعل» كما زعمه علماء العامة من الأشاعرة و غيرهم أنّ ذاته تعالى لا يقتضي الخير و النظام و لا يجب منه أن يكون العالم على أفضل ما يمكن من الخير و التمام و الشرف و النظام بحيث لا يتصوّر ما هو أكمل و أتمّ مما هو عليه، مستدلّين على صحّة ما ادّعوه من المجازفة بأن لا اعتراض لأحد على المالك فيما يفعله من ملكه، و العالم ملكه تعالى فله أن يفعل فيه كلّ ما يريده سواء كان خيرا أو شرا أو عبثا أو جزافا، و هم لا يقولون بالمخصّص و المرجّح في اختياره تعالى لشي ء قائلين إنّ الارادة تخصّص أحد الطرفين من دون حاجة إلى مرجّح لأنّه لا يسأل عن اللّمية فيما يفعله.
و هو كلام لا طائل تحته فانّ الارادة إذا كان الجانبان بالنسبة إليها سواء لا يتخصّص أحد الجانبين إلّا بمرجّح، و لا يقع الممكن إلّا بمرجّح، و بذلك يثبت الحاجة إلى وجود الصّانع و أمّا الخاصية الّتي يقولونها فهو هوس أليس لو اختار الجانب الاخر الذي فرض مساويا لهذا الجانب كانت تحصل هذه الخاصيّة.
ثمّ تعلّق الارادة بشي ء مع أنّ النّسبة إلى الجانبين سواء هذيان، فانّ الارادة ما حصلت أوّلا إرادة بشي ء ما ثمّ تعلّقت بشي ء مخصّص، فانّ المريد لا يريد أىّ شي ء اتّفق و لا يكون للمريد إرادة غير مضافة إلى شي ء أصلا ثمّ يعرض لها ان تعلقت ببعض جهات الامكان.
نعم إذا وقع التصوّر و حصل إدراك يرجّح أحد الجانبين يحصل إرادة مخصّصة بأحدهما، فالترجيح مقدّم على الارادة.
فاذا علمت أنّ كلّ مختار لا بدّ في اختياره أحد طرفي وجود شي ء من مرجّح فيجب أن يكون المرجّح في فعل الغني المطلق غير زايد على ذاته و علمه بذاته، فذاته هي الغاية المقتضية لفعله لا شي ء آخر إذ لا يتصوّر أن يكون امر أولى بالغنى المطلق أن يقصده، و إلّا لكان الغني المطلق فقيرا في حصول ما هو الأولى له إلى ذلك الشي ء و هو محال.
فاذا هو الغاية للكلّ كما هو الفاعل للكلّ فهكذا يجب عليك أن تعلم تحقيق المقام لتكون موحّدا مخلصا مؤمنا حقّا.
و قال في شرح الهداية: إنّ من المعطّلة قوما جعلوا فعل اللّه خاليا عن الحكمة و المصلحة متمسّكين بحجج أوهن من بيت العنكبوت.
منها قولهم كون الارادة مرجّحة صفة نفسيّة لها و صفات النفسية و لوازم الذّات لا تعلّل كما لا يعلّل كون العلم علما و القدرة قدرة، و هو كلام لا حاصل له، فانّ مع تساوى طرفى الفعل كيف يتخصّص أحد الجانبين و الخاصيّة الّتى يقولونها هذيان، فانّ تلك الخاصية كانت حاصلة أيضا لو فرض اختيار الجانب الاخر الذي فرض مساويا لهذا الجانب.
و منها قولهم بأنّ الارادة متحقّقة قبل الفعل بلا اختصاص بأحد الامور ثمّ تعلّقت بأمر دون أمر و هذا كاف في افتضاحهم، فانّ المريد لا يريد أىّ شي ء إذ الارادة من الصفات الاضافية فلا يتحقّق إرادة غير متعلّقة بشي ء ثمّ يعرضها التعلّق ببعض الأشياء نعم إذا حصل تصوّر شي ء قبل وجوده و يرجّح أحد جانبى إمكانه يحصل إرادة متخصّصة حينئذ فالترجيح مقدّم على الارادة.
فالحاصل أنّ المختار متى كانت نسبة المعلول اليه امكانية من دون داع و مقتض لصدوره عنه يكون صدوره عنه ممتنعا، لامتناع كون المساوى راجحا، فانّ تجويز ذلك من الفاعل ليس إلّا قولا باللّسان دون تصديق بالقلب، فذلك الداعى هو غاية الايجاد. و هو قد يكون نفس الفاعل كما في الواجب تعالى لأنه تامّ الفاعلية فلو احتاج في فعله إلى معنى خارج عن ذاته لكان ناقصا في الفاعلية و سيعلم أنه سبب الأسباب و كلّ ما يكون سببا أوّلا لا يكون لفعله غاية غير ذاته.
فان لم يستند وجودها إليه لكان خلاف الفرض و ان استند إليه فالكلام عايد فيما هو داعية لصدور تلك الغاية حتّى ينتهى إلى غاية أى عين ذاته دفعا للدور و التسلسل، و قد فرض كونها غير ذاته هذا خلف، فذاته تعالى غاية للجميع كما أنّه فاعل لها، انتهى كلامه.
و محصله أنّ العلّة الغائية عنده من صفات الذات و هو علمه بنظام الخير و هو الداعى إلى ايجاد الموجودات و الغرض من ايجادها هو ذاته تعالى فهو سبحانه الفاعل لها و هو الغرض منها، فالفاعل و الغاية في أفعاله تعالى سواء لا مغايرة بينهما.
و المستفاد من صاحب احقاق الحقّ و نهج الحقّ و غيرهما حسبما عرفت أنّها من صفات الفعل راجعة إلى خالقيّته تعالى و رازقيّته، و أنها مغايرة للعلّة الفاعلة كما أنها في غيره سبحانه كذلك، فالفاعل للأشياء هو الذات و الغرض منها ايصال النفع و الافضال على العباد.
و على أىّ من القولين فقد تبيّن و استبان و اتّضح كلّ الوضوح أنّ ايجاد الموجودات ليس خاليا عن الحكم و المصالح و الغايات حسبما زعمته أبو الحسن الأشعري و أتباعه، غفلة عما يلزم عليه من المحالات التي مرّت الاشارة إلى بعضها هنا، و ذكر جملة منها العلّامة الحلّي قدّس اللّه سرّه في كتاب نهج الحقّ من أراد الاطلاع عليها فليراجع.
و الحمد للّه على توفيقه و عنايته، و الصّلاة على رسول اللّه و خلفائه و عترته، و نسأل اللّه بهم و بالمقرّبين من حضرته أن يثبت ما أتينا به في شرح هذه الخطبة الشريفة من اصول العلم الالهى في صحايف أعمالنا، و يثبتنا عليه عند الممات كما ثبتنا عليه حال الحياة، و يجعله نورا يسعى بين أيدينا في الظلمات، ظلمات يوم الجمع و عند الجواز على الصّراط إنّه على ذلك قدير، و بالاجابة حقيق جدير.
|