فاعتصموا بتقوى اللّه فإنّ لها حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و بادروا الموت و غمراته، و امهدوا (و أمهدوا خ) له قبل حلوله، و أعدّوا له قبل نزوله، فإن الغاية القيمة، و كفى بذلك واعظا لمن عقل، و معتبرا لمن جهل، و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون: من ضيق الأرماس، و شدّة الإبلاس، و هول المطّلع و روعات الفزع و اختلاف الأضلاع، و استكاك الأسماع، و ظلمة اللّحد، و خيفة الوعد و غمّ الضّريح، و ردم الصّفيح. فاللّه اللّه عباد اللّه فإنّ الدّنيا ماضية بكم على سنن، و أنتم و السّاعة في قرن، و كأنّها قد جاءت بأشراطها، و أزفت بأفراطها و وقفت بكم على صراطها، و كأنّها قد أشرفت بزلازلها، و أناخت بكلاكلها، و انصرفت (و انصرمت خ ل) الدّنيا بأهلها، و أخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى، أو شهر انقضى، و صار جديدها رثّا، و سمينها غثّا، في موقف ضنك المقام، و أمور مشتبهة عظام، و نار شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها، متغيّظ زفيرها، متأجّج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف وعيدها، غمّ قرارها مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها.
اللغة
(المعقل) بفتح الميم و كسر القاف قريب من الحصن و يطلق على الملجأ و (الذّروة) بضمّ الذال و كسرها من كلّشي ء أعلاه و (مهد) الرّجل مهدا من باب منع كسب و عمل و مهده كمنعه بسطه و هيّأه و المهد للصّبي السّرير الذي هيّأ له و يقال بالفارسيّة گهواره، في نسخة الشارح المعتزلي و أمهدوا له من باب الافعال أى اتّخذوا له مهادا أى بساطا و فراشا قال سبحانه: «وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ» أى بئس ما مهّد لنفسه في معاده.
و (الرمس) التراب تسميته بالمصدر ثمّ سمّى به القبر و يجمع على أرماس و رموس مثل فلس و فلوس و رمست الميّت رمسا من باب قتل دفنته و أرمسته بالألف لغة و (ابلس) الرّجل ابلاسا حزن و سكت من غم و ابلس فلان آيس قال تعالى «فَلَمَّا نَسُوا ما» و منه سمّى ابليس لإياسه من رحمة اللّه تعالى. و (طلع) الشمس طلوعا ظهر قال الفيومي و كلّ ما بدا لك من علوّ فقد طلع عليك، و طلعت الجبل طلوعا يتعدّى بنفسه أى علوته و طلعت فيه رفعته و اطلعت زيدا على كذا مثل أعلمته وزنا و معنى فاطلع على افتعل أى اشرف عليه و علم به، و المطّلع مفتعل اسم مفعول موضع الاطلاع من المكان المرتفع إلى المكان المنخفض و هول المطّلع من ذلك شبه ما يشرف عليه من امور الاخرة بذلك، و قال الطريحى و في الدّعاء و أعوذ بك من هول المطّلع، بتشديد الطاء المهملة و الباء للمفعول أمر الاخرة و موقف القيامة الذي يحصل الاطلاع عليه بعد الموت. و (استكت) مسامعه أى صمتت و (اللّحد) الشقّ في جانب القبر و الجمع لحود مثل فلس و فلوس و اللّحد بالضمّ لغة و جمعه ألحاد مثل قفل و أقفال و لحدت اللحد لحدا من باب منع حفرته و لحدت الميّت و ألحدته جعلته في اللّحد. و (غمّه) الشي ء غمّا من باب قتل غطاه و منه قيل للحزن غمّ لأنّه يغطى السرور و (ردمت) الثلمة و نحوها ردما من باب قتل سددتها و (صفح) السّيف بفتح الصاد و ضمّها عرضه، و هو خلاف الطول، و الصفح بالفتح من كلّ شي ء جانبه، و الصّفحة مثله و يقال لكلّ شي ء عريض صفيحة و صفيح و منه الصّفيح الأعلى للسّماء. و (السّنن) محرّكة الطريقة و (القرن) محرّكة الحبل الذي يشدّ به البعير و (الأشراط) جمع شرط بالتحريك مثل أسباب و سبب و هو العلامة و (الافراط) جمع فرط بالتحريك أيضا و هو من يتقدّم القوم في طلب الماء يهيى ء الدّلاء و الارشاء يقال: فرط القوم فروطا من باب قعد إذا تقدّم لذلك يستوى فيه الواحد و الجمع يقال: رجل فرط و قوم فرط، و منه يقال للطفل الميّت: اللّهمّ اجعله فرطا، أى أجرا متقدّما، و فى بعض النسخ بافراطها مصدر أفرط يقال أفرط في الشي ء افراطا أى تجاوز عن الحدّ و بلغ الغاية.و (الكلاكل) جمع كلكل و هو الصّدر و يقال للأمر الثقيل: قد أناخ عليهم بكلكله، أى هدّهم و رضّهم كما يهدّ البعير البارك من تحته بصدره و (انصرفت الدّنيا) و في بعض النسخ و انصرمت بمعنى انقضت و (الموقف) و زان مسجد موضع الوقوف و (ذكى) النار بالذال المعجمة و ذكّيتها بالتثقيل أى أتممت وقودها. و (الوقود) بالضم المصدر من وقدت النار و قدا و وقدا و وقدة و وقودا و وقدانا اشتعلت و بالفتح ما يوقد به قال الشارح المعتزلي: و وقودها ههنا بضمّ الواو و هو الحدث، و لا يجوز الفتح لأنّه ما يوقد به كالحطب و نحوه، و ذاك لا يوصف بأنه ذاك، و أقول إن أغمضنا عن ضبط النسخ فما ذكره من العلّة لا ينهض باثبات كونه بالضمّ إذ كما يصحّ أن يقال نار تام الاشتعال، فكذلك يصحّ أن يقال نار تام الحطب، و هو ظاهر نعم لو علله بأنه عليه السّلام جعله في مقابل الخمود و هو قرينة على كونه بالضمّ لأنّ الخمود إنما يقابل الاشتعال لكان حسنا و (غمّ قرارها) صفة مشبّهة من الغمّ بمعنى التغطية أو من غم اليوم فهو غمّ أى اشتد حرّه فيأخذ بالنفس
الاعراب
قوله: و قبل بلوغ الغاية، ظرف مستقرّ متعلّق بمقدّر في محلّ الرّفع على الخبر قدّم على مبتدئه و هو قوله: ما تعلمون أى ما تعلمونه حاصل قبل بلوغ الغاية، و جملة المبتدأ و الخبر في محلّ النصب حال من فاعل كفى و الرابط للحال هو الواو، و العجب من الشارح البحراني أنه جعل الواو للعطف و قال: قوله: و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون عطف على قوله قبل نزوله، و فيه من السماجة ما لا يخفى و من في قوله: من ضيق بيان لما.
و قوله: فاللّه اللّه، منصوبان بالتحذير أى اتّقوا اللّه، أو بالاغراء أى راقبوا اللّه أو اعبدوا له و نحو ذلك قال نجم الأئمة الرضي: و حكمة اختصاص وجوب الحذف يعني حذف العامل بالمحذر منه المكرر كون تكريره دالا على مقارنة المحذر منه للمحذر بحيث يضيق الوقت إلّا عن ذكر المحذر منه على أبلغ ما يمكن و ذلك بتكريره و لا يتسع لذكر العامل مع هذا المكرّر، و إذا لم يكرّر الاسم جاز إظهار العامل اتفاقا و قوله: في موقف، متعلّق بصار، و قوله: شديد كلبها، و ما يتلوه من المجرورات التي تنيف على عشرة كلّها صفات بحال متعلّقات موصوفاتها.
المعنى
و لما ذكر الغرض الأصلى من البعثة و الرسالة و هو الدّعوة إلى الدّين و الطاعة و نبّه على أنّ جهاد الكافرين قد كان لحماية الدّين أردف ذلك بأمر المؤمنين بحماية حماه و المواظبة عليه اجابة لدعوة الرسول و قضاء لحقّ ما لهم من الايمان فقال: (فاعتصموا بتقوى اللّه) الّتي هي الزاد و بها المعاد، زاد رابح و معاد منجح و تقواه عبارة عن طاعته و عبادته و خشيته و هيبته و هى عاصمة مانعة من عذاب النار و غضب الجبار، و لذلك أمرهم بالاعتصام بها و علّله بقوله (فانّ لها حبلا وثيقا عروته) أى محكما مقبضه لا يخشى من انفصامه، و استعار لفظ الحبل لدين الاسلام و هو استعارة تحقيقية و رشّحها بالوصف لوثاقة العروة و الجامع أنّ التّمسك بدين الاسلام سبب النجاة عن الرّدى كما أنّ التمسّك بالحبل الموثوق به سبب السّلامة عن التردى.
و قد وقع نظير هذه الاستعارة في الكتاب الكريم قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا أى بدينه الاسلام و الايمان به.
قال في الكشاف: قولهم اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به و وثوقه بحمايته بامتساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه. و أن يكون الحبل استعارة لعهده و الاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه و المعنى و اجتمعوا على استعانتكم باللّه و وثوقكم به و لا تفرّقوا عنه، أو و اجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده و هو الايمان و الطاعة.
و ربما استعير للاسلام لفظ العروة قال تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها قال الصّادق عليه السّلام: هى الايمان باللّه وحده لا شريك له.
و قال تعالى أيضا وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى .
و بالجملة فقد أمر أمير المؤمنين عليه السّلام بالاعتصام بالتقوى معلّلا بأنّ لها حبلا وثيق العروة، ففيه تنبيه على أنّ المعتصم بالتقوى متمسك بالحبل المتين و العروة الوثقى التي ليس لها انفصام و لا انقطاع، و هو الدّين القويم و الحنيفيّة البيضاء، فيستفاد منه أنّ من لم يعتصم بها لم يتمسّك بالعروة الوثقى فقد ضلّ و غوى و تهوّر في النار و تردّى كما صرّح عليه السّلام به في المختار المأة و السادس بقوله «فمن يبتغ غير الاسلام دينا تتحقّق شقوته و تنفصم عروته و تعظم كبوته و يكن مابه الحزن الطويل و العذاب الوبيل، هذا و علل اخرى بقوله (و معقلا منيعا ذروته) أى ملجئا مانعا أعلاه لمن التجأ إليه من نيل المكروه.
و الظاهر أنه استعار لفظ المعقل لمقام القرب من الحقّ فكما أنّ المعقل يمنع الملتجي ء إليه من اصابة السّوء فكذلك التقرّب إلى اللّه سبحانه يمنع المتقرّب من نيل المكاره و المساوى، فيكون محصّل المعنى أنّ من اعتصم بالتقوى فقد التجأ إلى معقل منيع و حصن حصين و ذلك الحصن هو رضوان اللّه سبحانه و الزلفى لديه.
قال سبحانه لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ و قال «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هذا.
و قد شبّه عليه السّلام نفس التقوى بالحصن و الحرز في بعض كلماته و هو قوله في المختار المأة و الأربعة و الخمسين: اعلموا عباد اللّه أنّ التقوى دار حصن عزيز و الفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله و لا يحرز من لجأ إليه.
و لما أمر بالاعتصام بالتقوى عقّبه و أكّده بالأمر بالمسارعة إلى الموت فقال (و بادروا الموت و غمراته) أى شدائده و سكراته، و معنى المبادرة إليه المسارعة إليه بالخيرات و الصّالحات قال سبحانه فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أى سارعوا إلى أسباب المغفرة و موجباتها و هي الأعمال الصّالحة لتكون زادا للموت و لما بعده من الشدائد و الأهوال.
ففى الحقيقة أمره عليه السّلام بمبادرة الموت إلزام بالسّرعة إلى تهيئة الأسباب و المقدّمات النافعة عند قدومه، و إلّا فلموت كلّ أحد أجل معيّن لا يتقدّم عليه و لا يتأخّر، و هو كذلك فلا يتصوّر فيه المسارعة و البدار قال سبحانه وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ».
و يوضح ما قلناه قوله عليه السّلام (و امهدوا له قبل حلوله) فانّه توضيح و تفسير للفقرة السابقة، أى اعملوا له و اكتسبوا من صالح الأعمال لأجله قبل حلوله. (و أعدّوا له قبل نزوله) أى هيّؤوا له من الحسنات و الصالحات قبل نزوله، لأنّه إذا نزل و الزاد معدّ و الأسباب ممهّدة و المقدّمات مهيّأة فلا يكون في نزوله تكلّف و لا محنة، بل يكون بمنزلة ضيف عزيز في قدومه قرّة عين للمضيف لكونه واسطة للوصول إلى محبوبه و النيل إلى مطلوبه و للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء و من بيت الذّلّ و المحنة إلى بيت العزّ و المنعة، و من مجالسة الأشرار إلى مرافقة الأبرار.
فطوبى لمن كان موته سببا للنزول على حظاير القدس و مجالس الانس، و ويل لمن لم يمهد الزاد و لم يدّخر للمعاد و قدم عليه موته بلا مهاد فأخرجه إلى بيت وحدة و منزل وحشة و مفرد غربة، فصار له من الصفح أجنان و من التراب أكفان و من الرّفات جيران، فقارب و سدّد و اتّق اللّه وحده و لا تستقلّ الزاد فالموت طارق هذا.
و علّل البدار إلى الموت و أخذ الزاد و المهاد له بقوله (فانّ الغاية القيامة) إنذارا و تحذيرا بذكر الغاية، و تنبيها على أنّ البلية ليست منحصرة في الموت و الأمر بأخذ الزاد ليس لأجله فقط، بل هو أوّل منازل الاخرة و الداهية الدّهياء و المصيبة العظماء آخر منازلها و هو يوم القيامة التي إليها مصير الخلايق «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ».
(و كفى بذلك واعظا لمن عقل) أي كفى ذكر الموت و غمراته و القيامة و شدائدها، واعظا للعقلاء (و معتبرا لمن جهل) أي محلّ عبرة للجهلة و الغافلين.
(و) الحال أنّ (قبل بلوغ الغاية ما تعلمون) و هو تحذير بأهوال البرزخ و دواهيه.
و في إتيان المسند إليه بالموصول و إبهامه من التهويل و التفخيم ما لا يخفى، مثل قوله سبحانه «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ».
ثمّ فسّر هذه الأهوال و فصّلها، لأنّ ذكر الشي ء مبهما ثمّ مفسّرا أوقع في النفوس فقال: (من ضيق الأرماس) و القبور (و شدّة الابلاس) أي الهمّ و الغمّ و الحزن بمفارقته من المال و الأولاد و الوطن و انقطاعه من الأحباب و احتباسه في سجن التراب (و هول المطّلع) أي هول موقف الاطلاع و مقام الاشراف على الامور الاخرويّة من الأهوال و الأفزاع الّتي كان غافلا عنها و كانت محجوبة منه فاطلع عليها و عاينها بعد الموت و ارتفاع الحجاب قال تعالى فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
(و روعات الفزع) أي تارات الخوف و مرّاته قال الشارح البحراني: و إنّما حسن إضافة روعات إلى الفزع و إن كان الرّوع هو الفزع باعتبار تعدّدها و هى من حيث هى آحاد مجموع أفراد مهيّة الفزع فجازت إضافتها إليها.
أقول: و مثل هذه الاضافة في كلامه عليه السّلام غير عزيز كقوله: و سكائك الهواء في الخطبة الأولى، و قوله عليه السّلام: لنسخ الرجاء منهم شفقات و جلهم، في الخطبة التسعين.
و ما ذكره الشارح من العلّة غير مطّرد إذ قد ورد في كلامه عليه السّلام لفظة رخاء الدّعة و هو من إضافة الشي ء إلى نفسه بدون تعدّد في المضاف.
قال نجم الأئمة الرّضي و أمّا الاسمان اللّذان ليس في أحدهما زيادة فائدة كشحط النوى و ليث أسد فالفراء يجوز إضافة أحدهما للتخفيف: قال: إنّ العرب يجيز إضافة الشي ء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، ثمّ قال الرضيّ: و الانصاف أنّ مثله لا يمكن دفعه و لو قلنا إنّ بين الاسمين في كلّ موضع فرقا لاحتجنا إلى تعسفات كثيرة.
(و اختلاف الأضلاع) أي اشتباكها الحاصل بضغطة القبر (و استكاك الأسماع) أي صممها الحاصل من شدّة الأصوات الهائلة (و ظلمة اللّحد و خيفة الوعد) أي خوف العذاب الموعود الّذى وعده اللّه في كتابه و ألسنة رسله (و غمّ الضريح) أي الكرب الحاصل بضيق القبر بعد فتحه المنازل الدّنيويّة (و ردم الصّفيح) أي سدّ الحجر العريض الّذى يسدّ به اللّحد.
و هذا كلّه تحذير للمخاطبين بما يحلّ عليهم بعد الموت و تذكير بأنهم سوف ينزلون من ذروة القصور في وهدة القبور، و يستبدلون بظهر الأرض بطنا، و بالسعة ضيقا، و بالأهل غربة، و بالأمن خوفا، و بالانس وحشة، و بالنور ظلمة، و صارت الأجساد شحبة بعد بضّتها و العظام نخرة بعد قوّتها، ليس لهم من عقوبات البرزخ فترة مريحة، و لا رعدة مزيحة، و لا قوّة حاجزة، و لا موتة ناجزة، بين أطوار الموتات، و عقوبات الساعات.
(فاللّه اللّه عباد اللّه فانّ الدّنيا ماضية بكم على سنن) أي على طريقة واحدة سبيل من مضى قبلكم من السّلف الماضين و العشيرة و الأقربين فكما طحنتهم المنون و توالت عليهم السّنون فأنتم مثلهم صائرون، و على أثرهم سائرون.
- فكن عالما أن سوف تدرك من مضىو لو عصمتك الراسيات الشواهق
(و أنتم و الساعة فى قرن) تهويل بالقيامة و قربها القريب كأنها و إياهم مشدودة بحبل واحد ليس بينهما فصل مزيد و لا أمد بعيد.
و أكدّ زيادة قربها بقوله (و كأنّها قد جاءت بأشراطها) و وجه التأكيد الاتيان بلفظة كأنّ المفيدة لتشبيهها فى سرعة مجيئها بالّتى جاءت، و الاتيان بلفظة قد المفيدة للتحقيق، و بماضويّة الجملة.
و قد اشير إلى قربها في غير واحدة من الايات القرآنيّة.
قال سبحانه في سورة بني اسرائيل أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا. قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ و في سورة الأحزاب يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً و فى سورة النبأ إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً. يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً و في سورة المعارج تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً و في سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أى علاماتها و اماراتها الّتي تدلّ على قربها.
روى في الصافى من العلل عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أجوبة مسائل عبد اللّه بن سلام أما أشراط السّاعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.
و من الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أشراط الساعة أن يفشو الفالج و موت الفجأة.
و من روضة الواعظين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم و يظهر الجهل و يشرب الخمر و يفشو الزّنا و يقلّ الرجال و تكثر النّساء حتّى أنّ الخمسين امرأة فيهنّ واحد من الرجال.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي عن أبيه عن سليمان بن مسلم الخشاب عن عبد اللّه بن جريح المكّي عن عطاء بن أبي رياح عن عبد اللّه بن عبّاس قال: حججنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا اخبركم بأشراط السّاعة و كان أدنى منه يومئذ سلمان ره فقال: بلى يا رسول اللّه.
فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ من أشراط القيامة إضاعة الصّلوات و اتّباع الشهوات و الميل إلى الأهواء و تعظيم أصحاب المال و بيع الدّين بالدّنيا، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده إنّ عندها يليهم أمراء جورة و وزراء فسقة و عرفاء ظلمة و امناء خونة، فقال سلمان و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يكون المنكر معروفا و المعروف منكرا و يؤتمن الخائن و يخون الأمين و يصدق الكاذب و يكذب الصادق قال سلمان و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان فعندها تكون امارة النساء و مشاورة الاماء و قعود الصبيان على المنابر، و يكون الكذب ظرفا و الزكاة مغرما و الفي ء مغنما و يجفو الرجل والديه و يبرء صديقه و يطلع الكوكب المذنب، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان و عندها تشارك المرأة زوجها في التجارة و يكون المطر قيضا و يغيض الكرام غيضا و يحتقر الرّجل المعسر فعندها تقارب الأسواق إذا قال هذا لم أبع شيئا و قال هذا لم أربح شيئا فلا ترى إلّا ذا مّاللّه، قال سلمان: إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم و إن سكتوا استباحوهم ليستأثرون بفيئهم و ليطؤن حرمتهم و ليسفكنّ دماءهم و ليملأنّ قلوبهم دغلا و رعبا فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يؤتى بشي ء من المشرق و شي ء من المغرب يلون امّتي فالويل لضعفاء امّتي منهم و الويل لهم من اللّه لا يرحمون صغيرا و لا يوقرون كبيرا و لا يتجافون «يتجاوزون خ» عن مسي ء جثّتهم جثّة الادميّين و قلوبهم قلوب الشياطين، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذى نفسى بيده يا سلمان و عندها يكتفى الرّجال بالرّجال و النساء بالنساء و يغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها و تشبه الرجال بالنساء و النساء بالرّجال و يركبن ذوات الفروج السّروج فعليهنّ من امّتي لعنة اللّه قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع و الكنايس و تحلّي المصاحف و تطول المنارات و تكثر الصفوف بقلوب متباغضة و ألسن مختلفة، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تحلّي ذكور أمّتي بالذهب و يلبسون الحرير و الدّيباج و يتّخذون جلود النمور صفافا، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يظهر الرّبا و يتعاملون بالعينة و الرشاء و يوضع الدّين و ترفع الدّنيا، قال سلمان: إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يكثر الطلاق فلا يقام للّه حدّ و لن يضرّ اللّه شيئا، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تظهر القينات «المغنيات خ» و المعازف و تليهم أشرار أمّتي، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تحجّ أغنياء أمّتي للنزهة و تحجّ أوساطها للتجارة و تحجّ فقرائهم للرياء و السّمعة فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه و يتّخذونه مزامير و يكون أقوام يتفقّهون لغير اللّه و يكثر أولاد الزّنا و يتغنّون بالقرآن و يتهافتون بالدّنيا، قال سلمان: إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان ذلك إذا انتهكت المحارم و اكتسب الماثم و تسلّط الأشرار على الأخيار و يفشوا الكذب و تظهر الحاجة «اللّجاجة خ» و تفشو الفاقة و يتباهون في اللباس و يمطرون في غير أوان المطر و يستحسنون الكوبة و المعازف و ينكرون الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزّمان أذلّ من الأمة و يظهر قرّاؤهم و عبّادهم فيما بينهم التلازم «خ التلاوم» فأولئك يدعون في ملكوت السّماوات الأرجاس الأنجاس قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان فعند ذلك لا يخشى الغنيّ إلّا الفقر حتّى أنّ السائل يسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع فى كفّه شيئا، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان عندها يتكلّم الرويبضة فقال سلمان و ما الرّويبضة يا رسول اللّه فداك أبى و أمّى قال يتكلّم في أمر العامّة من لم يكن يتكلّم، فلم يلثبوا إلّا قليلا حتى تخور الأرض خورة فلا يظنّ كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء اللّه ثمّ ينكثون في مكثهم فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها قال: ذهب و فضّة ثمّ أومى بيده إلى الأساطين فقال: مثل هذا، فيومئذ لا ينفع ذهب و لا فضّة فهذا معنى قوله: فقد جاء أشراطها.
(و أزفت بأفراطها) أي قربت بمقدماتها فتكون عطف تفسير للجملة السابقة، و على رواية افراطها بكسر الهمزة فالمعني أنها قربت بتجاوزها عن الاعتدال في الشدائد و الاهوال.
(و وقفت بكم على صراطها) نسبة الوقوف بهم إلى الساعة من باب المجاز العقلى، و قد مرّ تفصيل الكلام في الصراط فى شرح الفصل السادس من فصول المختار الحادى و الثمانين.
(و كأنّها قد أشرفت بزلازلها) أى أشرفت عليكم بزلازلها الهايلة و كفى شاهدا على هولها و شدّتها تهويله تعالى منها و تفخيمه لها بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
قال في مجمع البيان: معناه يا أيّها العقلاء المكلّفون اتّقوا عذاب ربّكم و اخشوا معصية ربكم إنّ زلزلة الأرض يوم القيامة أمر عظيم هايل لا يطاق يوم ترونها أى الزلزلة او ان الساعة تشغل كلّ مرضعة عن ولدها و تنساه و تضع كلّ ذات حمل حملها أى تضع الحبالى ما فى بطونها، و فى هذا دلالة على أنّ الزلزلة تكون فى الدّنيا فانّ الرضاع و وضع الحمل إنّما يتصوّر فيها و من قال إنّ المراد به يوم القيامة قال إنّه تهويل، لأمر القيامة و تعظيم لما يكون فيه من الشدائد أى لو كان ثمّ مرضعة لذهلت أو حامل لوضعت و إن لم يكن هناك حامل و لا مرضعة، و ترى الناس سكارى من شدّة الخوف و الفزع، و ما هم بسكارى من الشراب و لكن من شدّة العذاب يصيبهم ما يصيبهم.
و قوله (و أناخت بكلاكلها) تمثيل لهجومها عليهم بأهاويلها الهايلة و رضّها لهم بشدائدها الفادحة باناخة الجمل المناخ الّذى ترضّ من تحته بثقله و يهده بكلكله فيكون استعارة تمثيليّة، أو أنّه شبهها بالجمل الفادح بحمله على سبيل الاستعارة بالكناية فيكون إثبات الكلكل تخييلا و الاناخة ترشيحا، و الأوّل أظهر«» و إنّما أتى بجمع لفظ الكلاكل مبالغة في شدّة أهوالها و تنبيها على كونها كثيرة متعدّدة، هذا.
و لما ذكر أنّ الغاية القيامة و نبّه على قربها و حذّر بأهوالها و بأهوال البرزخ الّذى قبلها أردف ذلك بالتنبيه على زوال الدّنيا و فنائها و سرعة انقضائها فقال (و انصرفت الدّنيا بأهلها) أى ولّت و أدبرت ظاهر مساق الكلام يعطى كون هذه الجملة معطوفة على جملة أشرفت و أناخت، لكنّه يأبي عنه أنّ الجملتين السابقتين خبران لقوله كأنها و هذه الجملة لا يصحّ جعلها خبرا، لأنّ الضمير في كأنّها راجع إلى الساعة فلا يكون ارتباط بين اسم كأنّ و خبرها إلّا أن يجعل الضمير فيها ضمير القصّة و لكنه يبعّده أنّ كأنّها هذه عطف على قوله و كأنّها قد جاءت، و الضمير في المعطوف عليها راجع إلى الساعة قطعا فليكن في المعطوفة كذلك.
و بعد هذا كلّه فلا مناص إلّا أن يجعل الجملة مستأنفه غير مرتبطة على سابقتها و لا بأس بذلك، لأنّ الجملات السابقة في بيان أهوال الساعة، و هذه الجملة و ما يتلوها في بيان أحوال الدّنيا.
و ممّا حقّقنا ظهر فساد ما قاله الشارح البحراني حيث قال: لما كانت الأفعال من قوله: و أناخت إلى قوله: و صار سمينها غثا، معطوفا بعضها على بعض دخلت في حكم الشبه أى و كان الدّنيا قد انصرفت بأهلها و كأنّكم قد اخرجتم من حضنها إلى آخر الأفعال، و المشبّه الأوّل هو الدّنيا باعتبار حالها الحاضرة، و المشبّه به هو انصرافها بأهلها و زوالهم، و وجه الشبه سرعة المضىّ أى كأنّها من سرعة أحوالها الحاضرة كالتي وقع انصرافها، و كذلك الوجه في باقي التشبيهات انتهى.
و ملخّص وجه الفساد إنّ القواعد الأدبيّة آبية من عطف الجملات بعضها على بعض.
و قوله (و أخرجتهم من حضنها) استعارة بالكناية شبّهها بالأمّ المربّية لولدها في حضنها ثمّ اعرضت عنه و اخرجته من حضن تربيته و أسلمته إلى نفسه (فكانت) نسبتها إلى أهلها في قصر الزّمان و قلّة المدّة (كيوم مضى أو شهر انقضى).
و أشار إلى تغيّر ما فيها و فساده بقوله: (و صار جديد هارثا) أى خلقا باليا (و سمينها غثا) أى رثيثا مهزولا قال الشارح البحراني و السمين و الغثّ يحتمل أن يريد بهما الحقيقة، و يحتمل أن يكنّى به، عمّا كثر من لذّاتها و خيراتها و تغيّر ذلك بالموت و الزوال.
أقول: لا وجه لجعل الاحتمال الثاني فى مقابل الاحتمال الأوّل قسيما له، بل هما كنايتان و لا ينافيها إرادة الحقيقة لما قد مرّ في ديباجة الشرح من أنّ الكناية استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع جواز إرادة ما وضع له.
ثمّ الظاهر إنّهما كنايتان عمّا عليه أهل المحشر من كون أجسادهم شحبة بعد بضّتها و عظامهم و هنة بعد قوّتها لشدّة ما عاينوه من الأهوال و الشدائد.
و قوله (في موقف ضنك المقام) أى صار جديدها و سمينها رثا و غثا في موقف القيامة، و وصفه بالضنّك و الضيق لكثرة الخلايق و مزيد ازدحامهم فيه «قل إنّ الأوّلين و الاخرين لمجموعون الى ميقات يوم معلوم».
أو لصعوبة الوقوف به و طوله مع تراكم الدّواهى و الأهاويل العظيمة و عدم إمكان المخلص منها فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ.
(و امور مشتبهة عظام) أراد بها أهاويلها العظيمة الملتبسة التي أوجبت التحيّر في وجه الخلاص منها و النجاة عنها، فهم فيها تائهون هائمون حائرون.
و إن شئت أن تعرف تفصيل ما تضمّنه هاتان الفقرتان من هول موقف القيامة و ضيق مقامها و مزيد زحامها و زيادة شدّتها و طول مدّتها و التباس امورها فعليك بما يتلي عليك من أنبائها.
فنقول: إنّ يوم القيامة يوم عظيم شأنه، مديد زمانه، قاهر سلطانه، يوم ترى السماء فيه قد انفطرت، و الكواكب من هوله قد انتثرت، و النجوم الزواهر قد انكدرت، و الشمس قد كوّرت، و الجبال قد سيّرت، و العشار قد عطّلت، و الوحوش قد حشرت، و البحار قد سجّرت، و النفوس مع الأبدان قد زوّجت، و الجحيم قد سعّرت، و الجنّة قد ازلفت، و الأرض قد مدّت.
يوم ترى الأرض قد زلزلت فيه زلزالها، و أخرجت أثقالها.
فيومئذ وقعت الواقعة، و انشقّت السّماء فهي يومئذ واهية، و الملك على أرجائها و يحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
يوم تذهل فيه كلّ مرضعة عما أرضعت و تضع كلّ ذات حمل حملها و ترى النّاس سكارى و ما هم بسكارى و لكنّ عذاب اللّه شديد.
يوم يمنع فيه المجرم من الكلام، و لا يسأل فيه عن الاجرام بل يؤخذ بالنواصي و الأقدام.
يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها و بينه أمد بعيد.
يوم تعلم فيه كلّ نفس ما احضرت، و تشهد ما قدّمت و أخّرت.
يوم يفرّ المرء من أخيه و امّه و أبيه، يوم لا يقدرون أن ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون، و على النار يفتنون، و لا ينفع مال و لا بنون.
يوم تبلى فيه السرائر و تبدى الضمائر، و تردّ فيه المعاذير.
يوم تكشف الأستار و تخشع الأبصار و تنشر الدواوين و تنصب الموازين.
يوم تسكن فيه الأصوات و يقلّ الالتفات، و تبرز الخفيّات، و تظهر الخطيئات.
يوم يساق العباد، و معهم الاشهاد، و يشيب الصغير، و يهرم الكبير.
يوم تغيّرت الألوان و خرس اللّسان و نطق جوارح الانسان و برّزت الجحيم و اغلى الحميم، و سعرّت النّار، و يئس الكفّار.
و تفكر في طول هذا اليوم الّذي تقف فيه الخلايق شاخصة أبصارهم، منفطرة قلوبهم، لا يكلّمون و لا ينظر في امورهم، يقفون ثلاثمأة عام لا يأكلون فيه اكلة، و لا يشربون فيه شربة، و لا يجدون فيه روح النسيم، و لقد أفصح عن طوله الكتاب الكريم و أبان عنه ذو العرش العظيم في سورة المعارج بقوله «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا».
و تأمل في ازدحام الخلايق و اجتماعهم في موقف يجمع فيه أهل السّماوات السبع و الارضين السبع: من ملك، و جنّ، و إنسان، و وحش، و طير، و سبع، و شيطان، فأشرقت عليهم الشمس و قد تضاعف حرّها، و تبدّلت عما كان عليه من خفّة أمرها، ثمّ ادنيت من رءوس أهل العالمين مثل قاب قوسين، فأصهرتهم بحرّها، و اشتدّ كربهم و غمّهم من وهجها، ثمّ تدافعت الخلايق و دفع بعضهم بعضا لشدّة الزحام، و اختلاف الأقدام، و ضيق المقام، و انصاف إلى ذلك شدّة الخجل و الحياء، عند العرض على مليك الأرض و السماء، فاجتمع وهج الشمس و حرّ الأنفاس، و احتراق القلوب بنار الخوف، ففاض العرق من أصل كلّ شعرة حتّى سال على صعيد القيامة، ثمّ ارتفع على الأبدان فبعضهم بلغ العرق ركبتيه، و بعضهم إلى حقويه، و بعضهم إلى شحمة اذنيه.
قال عقبة بن عامر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرض الناس، فمن الناس من يبلغ عرقه عقبه، و منهم من يبلغ نصف ساقه، و منهم من يبلغ ركبته، و منهم من يبلغ فخذه، و منهم من يبلغ خاصرته. و منهم من يبلغ فاه فألجمها، و منهم من يغطيه العرق و ضرب بيده على رأسه هكذا.
فتدبّر أيّها العاصي و الجاهل القاسي في هول ذلك اليوم و طول تعبه، و شدّة كربه و فيما عليه أهله من ضيق المقام، و طول القيام، و مساءة الحال، و عظم الشفق من سوء المال، فمنهم من يقول ربّ أرحنى من هذا الكرب و الانتظار، و لو إلى النّار.
و كلّ ذلك و لم يلقوا بعد حسابا و لا كتابا و لم يصيبوا عذابا و لا عقابا.
فكيف إذا فرغوا من الحساب و عاينوا الكتاب و حقّت عليهم كلمة العذاب.
فبيناهم وقوفا ينتظرون و يخافون العطب، و يشفقون سوء المنقلب إذ نادى مناد من عند ذى العرش المجيد «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ».
فيبادر إليهم الزبانية بمقامع من حديد، و يستقبلونهم بعظائم التهديد، و يسوقونهم إلى العذاب الشديد (و) يدخلونهم في (نار شديد كلبها) أى شرّها و اذيها و حارتها (عال لجبها) أى صوتها و صياحها أو اضطراب أمواجها كالبحر الزخار (ساطع لهبها) أى شعلتها (متغيّظ زفيرها) أى صوتها الناشى من توقّدها متّصف بالهيجان و الغليان.
قال الشارح البحرانيّ: و لفظ التغيّظ مستعار للنّار باعتبار حركتها بشدّة و عنف كالغضبان انتهى.
و هذا التغيظ قد نطق به القرآن في سورة الفرقان قال «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ. كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها» قال: بعض المفسّرين التغيظ الصوت الّذي يهمهم به المغتاظ، و الزفير صوت يخرج من الصدر، و عن ابن عرفة أى من شدّة الحريق تغيظت الهاجرة إذا اشتدّ حميمها فكأنّ المراد الغليان.
(متأجّج سعيرها) أى متوقّد و متلهّب نارها المتحرقة (بعيد خمودها) أى سكونها (ذاك وقودها) أى وقودها متّصف بشدّة الوهج و الاشتغال (مخوف وعيدها) قال بعض الشارحين أى توعدها لأهلها بانطاقه سبحانه إيّاها أو كناية عن اشتدادها تدريجا (غمّ قرارها) أى متغطّى قعرها و قرارها بحيث لا يكاد أن يدرك بالبصر لظلمته أو غاية عمقه أو تراكم لهبه.
و في نسخة الشارح البحراني: عم قرارها، بالعين المهملة قال: اسند العمى إلى قرارها مجازا باعتبار أنّه لا يهتدى فيه لظلمته أو لأنّ عمقها لا يوقف عليه لبعده (مظلمة أقطارها) أى أطرافها و جوانبها (حامية قدورها فظيعة امورها) أى شديدة شنيعة بلغت الغاية في الشدّة و الشناعة، هذا.
و قد مضى فصل واف في أوصاف الجحيم و أهله في شرح الفصل الثالث من المختار المأة و الثمانية و إنما فصّل عليه السّلام هنا بعضها تخويفا منها و تحذيرا عنها و تنفيرا عن المعصية و متابعة الهوى الموقعة فيها و ترغيبا إلى الزّهد و التقوى العاصمة منها، لأنّ حقيقة التقوى هو أخذ الوقاية من النار و من غضب الجبّار.
|