و عن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصّلوات، و الزّكوات، و مجاهدة الصّيام في الأيّام المفروضات، تسكينا لأطرافهم، و تخشيعا لأبصارهم، و تذليلا لنفوسهم، و تخفيضا لقلوبهم، و إذهابا للخيلاء عنهم، لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا، و التصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا، و لحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا، مع ما في الزّكاة من صرف ثمرات الأرض و غير ذلك إلى أهل المسكنة و الفقر أنظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر، و قدع طوالع الكبر
اللغة
(عتاق) الوجوه إما من العتق و هو الكرم و الشرف و الجمال و الحريّة و النجابة قال في القاموس: و العتاق من الخيل النجائب، أو من العتيق و هو الخيار من كلّ شي ء، و في بعض النسخ و عتايق الوجوه جمع عتيقة يقال أمة عتيقة أى خارجة عن الرق
الاعراب
و قوله: عن ذلك ما حرس اللّه، قال الشارح المعتزلي: لفظة ما زائدة مؤكدة أى و عن هذه المكايد التي هى الظلم و البغى و الكبر حرس اللّه عباده فعن متعلّقة بحرس. قال: و قال القطب الراوندى رحمه اللّه: يجوز أن تكون مصدرية فيكون موضعها رفعا بالابتداء و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك، و يجوز أن يكون نافية أى لم يحرس اللّه عباده عن ذلك إلجاء و قهرا، بل فعلوا اختيارا من أنفسهم. و الوجه الأوّل باطل لأنّ عن على هذا التقدير يكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه، و أيضا فان لما في ذلك لو كان هو الخبر لتعلّق لام الخبر بمحذوف أى حراسة اللّه تعالى لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه، و هذا كلام غير مفيد إلّا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسّفه. و الثاني يأباه سياق الكلام، لأنّ قوله: تسكينا و تخشّعا، و قوله: لما في ذلك، تعليل للحاصل الثابت لا للمنفي المعدوم، انتهى. أقول: أما ما ذكره القطب الراوندى فغير خال من التكلّف حسبما قاله الشارح المعتزلي، و لكن اعتراض فلا يجوز تقديمها عليه ممنوع، لمنع عدم جواز تقديم معمول المصدر عليه مطلقا و إنما هو مسلم في المفعول الصريح لضعف عمله، و أمّا الظرف و أخوه فيكفيهما رايحة الفعل. قال نجم الأئمة الرضيّ: و أنا لا أرى منعا من تقديم معموله عليه إذا كان ظرفا أو شبهه، نحو قولك: اللّهم ارزقني من عدوّك بالبراءة و إليك الفرار قال تعالى وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ و قال فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ و مثله في كلامهم كثير و تقدير الفعل في مثله تكلّف. و أما ما ذكره الشارح من المعني فلا باس به و إن كان يتوجّه عليه أنّ الأصل عدم زيادة ما و أن جعل مرجع اسم الاشارة هو الظلم و البغى و الكبر يأبى عنه الذوق السليم. و الأظهر عندي أنّ عن في قوله: عن ذلك للتعليل كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ أو بمعني من النشوية و ذلك إشارة إلى تساور هذه المكايد في القلوب و تأثيرها في النفوس تساور السّموم القاتلة، و أن يكون الظرف مستقرا في موضع الرفع خبرا مقدّما على مبتدئه و هو قوله: ما حرس اللّه، لكونه في تأويل المصدر، و المعني أنّ حراسة اللّه لعباده بالصلاة و الزكاة و الصيام لأجل مفاسد هذه المكائد أو أنّها ناشئة من ذلك الفساد، و هو تأثيرها في النفوس تأثير السّموم، و على هذا فيتمّ الكلام لفظا و معني على أحسن التئام و انتظام، فافهم و اغتنم. و تسكينا و تخشيعا و تذليلا و تخفيضا و اذهابا منصوبات على المفعول له و العامل حرس
المعنى
و لما كانت الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح و المفاسد الكامنة كما عليه بناء العدلية من الامامية و المعتزلة، و كان جعل العبادات الموظفة من الشارع لتحصيل تلك المصالح و دفع هذه المفاسد و نبه عليه السّلام على أنّ في الكبر مفسدة عظيمة و سوء العاقبة و أنّه بمنزلة السموم القاتلة أشار بقوله: (و عن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصّلوات و الزّكوات و مجاهدة الصيام في الأيام المفروضات) إلى أنّ وجود هذه المفاسد في الكبر صار علّة و منشئا لجعل تلك العبادات، فانها لاشتمالها على التواضع و التّذلّل المنافي للكبر و المضادّ له أمر اللّه سبحانه عباده المؤمنين بها حراسة لهم و حفظا عن الكبر و مفاسده العظيمة، و حثّا على التواضع و مصالحه الخطيرة كما أمر بالحجّ مع ماله من الكيفيّات المخصوصة و باتباع الرّسل مع ما لهم من الذّل و المسكنة لهذه النكتة أيضا حسبما عرفت في الفصل المتقدّم تفصيلا.
أما اشتمال الصلاة على التواضع و تنافيها للتكبّر فلكون مدارها بأفعالها و أركانها و أجزائها و شرايطها على ذلك كما يأتي ذكره في كلامه عليه السّلام.
و أمّا كون ذلك علّة لجعلها و تشريعها فيدلّ عليه صريحا ما رواه في الفقيه قال: كتب الرضا علي بن موسى عليهما السّلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: انّ علّة الصلاة أنها إقرار بالرّبوبيّة للّه تعالى، و خلع الانداد و قيام بين يدي الجبّار جل جلاله بالذّل و المسكنة و الخضوع و الاعتراف و الطلب للاقالة من سالف الذّنوب، و وضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظاما للّه عزّ و جلّ، و أن يكون ذاكرا غير ناس و لا بطر، و يكون خاشعا متذلّلا راغبا طالبا للزّيادة في الدّين و الدنيا، مع ما فيه من الايجاب و المداومة على ذكر اللّه بالليل و النهار لئلا ينسي العبد سيّده و مدبّره و خالقه، فيبطر و يطغى، و يكون في ذكره لربّه و قيامه بين يديه زجرا عن المعاصي و مانعا له من الفساد.
و هذه الرواية«» كما دلّت على كون الصلاة مانعة من الكبر، فكذا دلّت على كونها مانعة من البغي و الظلم المتقدّم ذكرهما في كلامه عليه السّلام و غيرهما من المعاصي جميعا، و هو نصّ قوله تعالى «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ».
و أمّا اشتمال الزكاة على التواضع فلأنّها شكر للنعمة المالية كما أنّ العبادات البدنية شكر للنعمة البدنيّة و ظاهر أنّ شكر النعمة ملازم للتذلّل و مناف للتكبّر على المنعم، و من حيث إنها مستلزمة للتعاطف و الترحّم على الفقراء و الضعفاء و المساكين تلازم الايتلاف بهم و تنافي التكبّر عليهم أيضا كما يدلّ على ذلك: ما رواه فى الوسائل عن الصدوق «ره» باسناده عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السّلام أنه كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: إنّ علة الزكاة من أجل قوت الفقراء و تحصين أموال الأغنياء، لأنّ اللّه عزّ و جلّ كلّف أهل الصّحة القيام بشان أهل الزمانة و البلوى، كما قال اللّه تبارك و تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في أموالكم إخراج الزكاة و في أنفسكم توطين الأنفس على الصبر، مع ما في ذلك من أداء شكر نعم اللّه عزّ و جلّ، و الطمع في الزيادة مع ما فيه من الزيادة و الرأفة و الرّحمة لأهل الضعف و العطف على أهل المسكنة و الحثّ لهم على المواساة، و تقوية الفقراء و المعونة لهم على أمر الدّين، و هو «مو» عظة لأهل الغنى و عبرة لهم ليستدلّوا على فقراء الاخرة بهم، و ما لهم من الحثّ في ذلك على الشكر للّه تبارك و تعالى لما خوّلهم و أعطاهم، و الدّعاء و التضرّع و الخوف من أن يصيروا مثلهم في امور كثيرة في أداء الزكاة و الصّدقات و صلة الأرحام و اصطناع المعروف.
و أمّا تضمّن الصيام للتّذلّل و تنافيه للتكبّر فلكونه موجبا لكسر سورة النفس الأمارة و ذلّتها، و سببا لتباعد الشيطان عنه، و اندفاع وسوسته المنبعثة عنها الكبر و يرشد الى ذلك: ما رواه في الفقيه قال: و كتب أبو الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: علّة الصّوم عرفان مسّ الجوع و العطش ليكون ذليلا مستكينا مأجورا محتسبا صابرا، و يكون ذلك دليلا له على شدائد الاخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات، واعظا له في العاجل دليلا على الاجل ليعلم شدّة مبلغ ذلك من أهل الفقر و المسكنة في الدّنيا و الاخرة.
و في الفقيه أيضا قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه: ألا اخبركم بشي ء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كتباعد المشرق من المغرب قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: الصّوم يسوّد وجهه، و الصّدقة تكسر ظهره، و الحب في اللّه و الموازرة على العمل الصالح يقطع و تينه، و لكلّ شي ء زكاة و زكاة الأبدان الصّيام، هذا.
ثمّ المراد بمجاهدة الصّيام بذل الجهد له و احتمال مشاقّه و نسبة المفروضات إلى الأيام من باب المجاز العقلي و الاسناد إلى الزمان كما في مثل نهاره صائم أى الأيام المفروض فيها الصيام.
هذا تفصيل حصول الحراسة بهذه العبادات عن الكبر و أشباهه، و إجماله ما أشار اليه عليه السّلام بقوله (تسكينا لأطرافهم) أى للأعضاء و الجوارح.
روى في الوسائل عن عليّ عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال: ليخشع الرجل في صلاته فانّ من خشع قلبه للّه عزّ و جلّ خشعت جوارحه، فلا يعبث بشي ء اجلسوا في الركعتين حتّى تسكن جوارحكم ثمّ قوموا فانّ ذلك من فعلنا، إذا قام أحدكم من الصلاة فليرجع يده حذاء صدره، فاذا كان أحدكم بين يدي اللّه جلّ جلاله فيتحرى بصدره و ليقم صلبه و لا ينحنى.
و روى في مجمع البيان عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما أنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
(و تخشيعا لأبصارهم).
روى في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كنت في صلاتك فعليك بالخشوع و الاقبال على صلاتك فانّ اللّه تعالى يقول الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ.
روى في الصافي عن القمي في تفسير هذه الاية قال غضّك بصرك في صلاتك و إقبالك عليها.
و في الصافى روى أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته، فلما نزلت الاية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.
(و تذليلا لنفوسهم و تخفيضا لقلوبهم) باستحضار عظمة اللّه عزّ و جلّ و استشعار هيبته.
فقد قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.
و قال الصادق عليه السّلام: لا تجتمع الرغبة و الرهبة في قلب أحد إلّا وجبت له الجنّة فاذا صلّيت فاقبل بقلبك على اللّه عزّ و جلّ الحديث.
و فى الوسائل عن الخصال باسناده عن عليّ عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال عليه السّلام لا يقومنّ أحدكم في الصلاة متكاسلا و لا ناعسا، و لا يفكرّن في نفسه فانه بين يدي ربّه عزّ و جلّ و إنما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه.
(و اذهابا للخيلاء) و التكبّر (عنهم) و علّل ذلّة النفوس و خفض القلوب و إذهاب الخيلاء بقوله (لما في ذلك) فهو علّة للعلّة أى في ذلك المحروس به المتقدّم ذكره (من تعفير عتاق الوجوه) أى كرايمها و شرايفها و احرارها (بالتراب تواضعا) و تذلّلا (و إلصاق كرايم الجوارح) و هى المساجد السّبعة (بالأرض تصاغرا).
روى في الفقيه عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: كان موسى ابن عمران عليه السّلام إذا صلّى لم ينفتل حتّى يلصق خدّه الأيمن بالأرض و خدّه الأيسر بالأرض.
قال: و قال أبو جعفر عليه السّلام أوحى اللّه إلى موسى بن عمران عليه السّلام أ تدرى لما اصطفيتك بكلامي دون خلقي قال موسى عليه السّلام: لا يا ربّ، قال: يا موسى إني قلبت عبادى ظهرا و بطنا فلم أجد فيهم أحدا أذلّ لى نفسا منك، يا موسى إنك إذا صلّيت وضعت خديك على التراب.
(و لحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا) فانّ الجوع يلحق البطن بالمتن و يوجب ذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات و زوال الأشر و البطر و الخيلاء عنها (مع ما في الزكاة من) علّة اخرى لتشريعها و هو (صرف ثمرات الأرض) من الغلّات الأربع (و غير ذلك) من الأنعام الثلاثة و النقدين (إلى أهل المسكنة و الفقر) المنصوص بهم في الكتاب الكريم بقوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ و المسكين أسوء حالا من الفقير.
روى في الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ قال عليه السّلام: الفقير الّذى لا يسأل الناس و المسكين أجهد منه و البائس أجهدهم، فكلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره، و كلّ ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه، و لو أنّ رجلا يحمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسنا جميلا.
(انظروا إلى ما فى هذه الأفعال) و هى الصلاة و الزكاة و الصّيام (من قمع نواجم الفخر) أى اذلال ما تبدو و تظهر من خصال الفخر و الخيلاء (و قدع طوالع الكبر) أى كفّ ما تطلع من آثار الكبر و الاعتلاء.
و ان شئت مزيد المعرفة بأسرار هذه العبادات أعنى الصّيام و الصلاة و الزكاة و بشرايطها و آدابها و علل وجوبها و غير ذلك مما يتعلّق بها، فعليك بمراجعة شرح المختار المأة و التسع، هذا.
|