الفصل السابع
ألا و إنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة، و ثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة، و إنّ اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الامّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الالفة، الّتي ينتقلون «يتقلّبون خ ل» في ظلّها، و يأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنّها أرجح من كلّ ثمن، و أجلّ من كلّ خطر و اعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا، و بعد الموالاة أحزابا، ما تتعلّقون من الإسلام إلّا باسمه، و لا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه، تقولون: النّار و لا العار، كأنّكم تريدون أن تكفؤا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه، و نقضا لميثاقه، الّذي وضعه اللّه لكم حرما في أرضه، و أمنا بين خلقه، و إنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين و لا أنصار ينصرونكم إلّا المقارعة بالسّيف، حتّى يحكم اللّه بينكم، و إنّ عندكم الأمثال من بأس اللّه و قوارعه، و أيّامه و وقايعه فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه، و تهاونا ببطشه، و يأسا من بأسه، فإنّ اللّه سبحانه لم يلعن القرن الماضي «القرون الماضية خ ل» بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، فلعن اللّه السّفهاء لركوب المعاصي، و الحلماء لترك التّناهي، ألا و قد قطعتم قيد الإسلام، و عطّلتم حدوده، و أمتّم أحكامه
اللغة
(نفضت) الورقة من الشجرة أسقطته، و نفضت الثوب نفضا حرّكته ليزول عنه الغبار و نحوه فهو منتفض و (ثلمت) الاناء ثلما من باب ضرب كسرته من حافته فهو منثلم، و الثلمة في الحائط و غيره الخلل و الجمع ثلم مثل غرفة و غرف و (الخطر) محرّكة السّبق الّذى يتراهن عليه، و خطر الرّجل خطرا وزان شرف شرفا إذا ارتفع قدره و منزلته فهو خطير و (الأحزاب) جمع حزب و هو الطّائفة من النّاس و تحزّب القوم صاروا أحزابا، و يوم الأحزاب هو يوم الخندق و (كفات) الاناء قلبته و أكفأته مثله و (بطش به) من باب نصر و ضرب أخذه بالعنف و السّطوة كأبطشه، و البطش الأخذ الشديد في كلّ شي ء و (تناهوا عن المنكر) نهي بعضهم بعضا.
الاعراب
قال الشارح المعتزلي: الباء في قوله: بنعمة، متعلّقة بقوله: امتنّ، و في من قوله فيما عقد بينهم متعلّقة بمحذوف و موضعها نصب على الحال، انتهى و الظاهر من سياق كلامه أنّ ذا الحال هو قوله: بنعمة، أى امتنّ بنعمة حاصلة فيما عقداه، و لا يضرّ تقدّمها عليه لكونها ظرفا يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، و يجوز أن يكون ذو الحال قوله: على جماعة إى امتنّ على جماعة هذه الأمّة حالكونهم ثابتين مستقرّين فيما عقد بينهم.
و قوله: النّار و لا العار منصوبان بفعل مضمر، أى ادخلوا النّار و لا تلتزموا العار، و انتهاكا مفعول لأجله لقوله: تريدون، أو لقوله: تكفؤا، و الثاني أظهر و أقرب.
و قوله: لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين قال الشّارح المعتزلي: الرّواية المشهورة هكذا بالنّصب و هو جائز على التشبيه بالنّكرة كقولهم معضلة و لا أبا حسن لها، انتهى.
أقول: قال نجم الأئمة بعد اشتراط كون اسم لا النّافية للجنس نكرة: و اعلم أنّه قد يؤول العلم المشتهر ببعض الخلال بنكرة فينتصب و ينزع منه لام التعريف إن كان فيه، نحو لا حسن في الحسن البصرى، و لا صعق في الصعق، أو فيما اضيف إليه نحو لا امرء قيس و لا ابن زبير، و لتأويله بالمنكر وجهان: إمّا أن يقدّر مضاف هو مثل فلا يتعرّف بالاضافة لتوغّله في الابهام، و إمّا أن يجعل العلم لاشتهاره بتلك الحلّة كانّه اسم جنس موضوع خطبه 192 نهج البلاغه بخش 15 لافادة ذلك المعني، لأنّ معني قضيّة و لا أبا حسن لها لا فيصل لها إذ هو عليه السّلام كان فيصلا في الحكومات على ما قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أقضاكم عليّ، فصار اسمه كالجنس المفيد لمعني الفصل و القطع كلفظ الفيصل، انتهى.
و عليه فالتّاويل في كلامه أن يراد بقوله لا جبرئيل و لا ميكائيل أنّه لا ناصر لكم و لا معاون، هذا.
و على الرّواية الغير المشهورة فالرّفع في الجميع بالابتداء على أن لا ملغاة عن العمل، و هو أحد الوجوه الخمسة الّتي ذكرها علماء الأدب في نحو لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، و على أىّ تقدير فالخبر محذوف و جملة ينصرونكم وصف أو حال و الأوّل أظهر و أولى من جعلها خبرا أيضا كما ذهب إليه الشّارح البحراني.
و قوله: إلّا المقارعة بالسّيف، يروى بالنصب و بالرّفع أمّا النّصب فعلي أنّه استثناء من الأسماء الواقعة بعد لاء التّبرية لعمومها بعد تأويل الأوّلين منها بالنّكرة حسبما عرفت، فانّ الكلام بعد التأويل المذكور بمنزلة لا عوان و لا ناصرين ينصرونكم إلّا المقارعة، و يجوز جعل المستثنى منه ضمير الجمع في ينصرون العايد الى الأسماء المذكورة، و على أىّ تقدير فالظّاهر أنّ الاستثناء متّصل بعد ارتكاب التاويل المذكور لا منقطع كما قاله الرّاوندى.
و أمّا الرّفع فعلي أنّه بدل من الأسماء المذكورة على روايتها بالرّفع، أو من ضمير ينصرون على روايتها بالنّصب، و الرّفع هو المختار كما قاله علماء الأدب في مثل ما فعلوه إلّا قليل و إلّا قليلا، أى فيما إذا وقع المستثنى بالّا في كلام غير موجب و ذكر المستثنى منه أنّه يجوز النّصب و يختار البدل.
و مرادهم بالكلام الغير الموجب كما قاله نجم الأئمة أن يكون المستثنى مؤخّرا من المستثنى منه المشتمل عليه نفى أو نهى، فيدخل فيه الضّمير الرّاجع قبل الاستثناء بالّا على اسم صالح لأن يبدل منه معمول للابتدا أو أحد نواسخه نحو قولك ما أحد ضربته إلّا زيدا يجوز لك الابدال من هاء ضربته لأنّ المعني ما ضربت أحدا إلّا زيدا، فقد اشتمل النفى على هذا الضمير من حيث المعنى، و كذلك إذا كان الضمير فى صفة المبتدأ نحو ما أحد لقيته كريم إلّا زيدا، فانّه بمنزلة ما لقيت أحدا كريما إلّا زيدا.
فعلم بذلك انّ جعل جملة ينصرون في كلامه عليه السّلام صفة أو خبرا لا يوجب التفاوت في الابدال من الضمير الّذي فيه.
قال نجم الأئمة: و الابدال من صاحب الضمير أولى لأنّه الاصل و لا يحتاج الى تاويل آه.
فان قلت: فعلى الابدال يكون بدل غلط فكيف به فى كلام أمير المؤمنين عليه السّلام الّذي هو أفصح الكلام قلت: كلّا بل هو بدل اشتمال، لأنّ نصرة جبرئيل و ميكائيل و المهاجر و الأنصار لما كان بمقارعة السّيوف حسن ذلك للابدال، هذا ما يقتضيه النظر الجلى.
و أمّا الذى يقتضيه النظر الدّقيق فهو أن جعل انتصاب المقارعة على رواية النصب بالمصدر كما قاله الشارح المعتزلي أولى، لافادته الدّوام و الثبوت.
بيان ذلك أنهم قد قالوا إنّ المصدر إذا وقع مثبتا بعد نفي داخل على اسم لا يكون خبرا عنه إلّا مجازا لكونه صاحب هذا المصدر يحذف عامله قياسا نحو ما زيد إلّا سيرا، و ما الدّهر إلّا تقلّبا، و ما كان زيد إلّا سيرا، فانّ سيرا لا يجوز جعله خيرا عن زيد، لأنّ زيدا صاحب السير لا نفس السير، و هكذا لا يصحّ جعل تقلّبا خبرا عن دهر، فلا بدّ من أن يكون العامل محذوفا أى ما زيد إلّا يسير سيرا، و ما الدّهر إلّا يتقلّب تقلّبا، و فيما نحن فيه لا أنصار ينصرونكم إلّا تقارعوا المقارعة بالسيف.
قال نجم الأئمة: و إنّما وجب حذف الفعل لأنّ المقصود من هذا الحصر وصف الشي ء بدوام حصول الفعل منه و لزومه له، و وضع الفعل على الحدوث و التجدّد فلما كان المراد التنصيص على الدّوام و اللزوم لم يستعمل العامل أصلا لكونه إما فعلا و هو موضع على التجدّد، أو اسم فاعل و هو مع العمل كالفعل لمشابهته، فصار العامل لازم الحذف، فان أرادوا زيادة المبالغة جعلوا المصدر نفسه خبرا نحو ما زيد إلّا سير كما ذكرنا فى المبتدأ في قولنا إنما هي أقبال و إدبار، فينمحى إذا عن الكلام معني الحدوث أصلا لعدم صريح الفعل و عدم المفعول المطلق الدّال عليه، انتهى.
و به يعلم أنه على رواية الرّفع يجوز أن يكون ارتفاعه على الخبر قصدا إلى المبالغة كما فى ما زيد إلّا سير، فافهم جيّدا.
المعنى
اعلم أنّه لمّا أمر المخاطبين في الفصل السابق بالاعتبار بحال بني إسماعيل و بنى إسرائيل، عاد في هذا الفصل إلى تقريعهم و توبيخهم كما فى أكثر الفصول السّابقة بقلّة الطّاعة و أخذ طريق الجاهليّة فقال: (ألا و انّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة) و التعبير بلفظ النّفض دون الترك للاشارة إلى طرحهم له و إعراضهم عنه، فانّ من يخلى الشي ء من يده ثمّ ينفض يده منه يكون أشدّ تخلية ممن لا ينفضها، بل يقنع بتخليته فقط.
و تشبيه الطاعة بالحبل من تشبيه المعقول بالمحسوس و وجه الشّبه أنّ الحبل آلة الوصلة بين الشيئين و الطاعة سبب الاتّصال بقرب الخالق، و لذلك أمر اللّه سبحانه بالاعتصام به فى قوله «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا».
(و ثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة) استعار حصن اللّه للاسلام، و رشح بذكر المضروب، و الجامع بين المستعار منه و المستعار له أنّ الحصن سبب الحفظ و الوقاية من شرّ الأعداء، و الاسلام سبب السّلامة من شرّ الأعداء في الدّنيا و من حرّ النّار في الاخرة، يعني أنّكم كسرتم حصن الاسلام الّذى كنتم متحصّنين فيه متحفّظين به بأحكام الجاهليّة و هي التفرّق و الاختلاف و العصبيّة و الاستكبار.
و لمّا وبّخهم على ترك الطاعة و ثلم الاسلام بالافتراق و الاختلاف رغّبهم في الاعتصام بحبل الايتلاف و الاجتماع بالتّنبيه على أنّه أعظم نعمة أنعم اللّه سبحانه بها على عباده و هو قوله: (و انّ اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة) أى منّ عليهم (فيما عقد بينهم من حبل هذه الالفة الّتي ينتقلون) و في بعض النسخ يتقلّبون (في ظلّها و يأوون إلى كنفها) أى ينزلون و يسكنون إلى جانبها و ناحيتها.
و المراد بحبل الالفة هو الاسلام الموجب للايتلاف و الارتباط بينهم استعار له الحبل لذلك.
(بنعمة) أى امتنّ عليهم بنعمة عظيمة (لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة) و المراد بتلك النعمة نفس هذه الالفة أو الاسلام الموجب لها، فانّها نعمة عظيمة يترتّب عليها من المنافع الدّنيويّة و الأخروية ما لا تحصى، و يندفع بها من المضار الدّنيوية و الاخرويّة ما لا تستقصى.
و في هذه الفقرات تلميح إلى قوله تعالى في سورة آل عمران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها«» قال الطبرسي: أي تمسّكوا بحبل اللّه و هو دين اللّه و الاسلام قاله ابن عبّاس، و لا تفرّقوا معناه و لا تتفرّقوا عن دين اللّه الّذي أمركم فيه بلزوم الجماعة و الايتلاف على الطاعة و اثبتوا عليه.
و اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم.
قيل: أراد ما كان بين الأوس و الخزرج من الحروب الّتي تطاولت مأئة و عشرين سنة إلى أن ألّف اللّه بين قلوبهم بالاسلام فزالت تلك الأحقاد.
و قيل: هو ما كان بين مشركى العرب من الطوائل، و المعنى احفظوا نعمة اللّه و منته عليكم بالاسلام و بالايتلاف، و رفع ما كان بينكم من التنازع و الاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم فى العاجل مع ما أعدّ لكم من الثواب الجزيل فى الاجل، إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم، بجمعكم على الاسلام و رفع البغضاء و الشحناء عن قلوبكم.
فأصبحتم بنعمته، أى بنعمة اللّه إخوانا متواصلين و أحبابا متحابّين، بعد أن كنتم متحاربين متعادين.
و كنتم على شفا حفرة من النار، أى و كنتم يا أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على طرف حفرة من جهنّم لم يكن بينكم و بينها إلّا الموت.
فأنقذكم اللّه منها بأن أرسل إليكم رسولا و هداكم للايمان و دعاكم إليه فنجوتم باجابته من النار.
و انما قال: فأنقذكم منها و إن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها حيث كانوا مستحقّين لها.
و بما ذكرنا كلّه علم أنّ هذه النعمة أعنى نعمة الالفة و المحابّة على الاسلام أعظم نعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة.
(لأنّها) موجبة لسعادة النشأتين و عزّ الدّارين و للانقاذ من النار و الدّخول فى جنّات تجرى من تحتها الأنهار و النزول فى منازل الأبرار و (أرجح من كلّ ثمن) كما يشير اليه قوله تعالى «وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ (و أجلّ من كلّ خطر) و شرف و مزيّة لجمعها جميع أقسام الشرف، إذ بها يتمكّن من دركها و تحصيلها و الوصول إليها.
(و اعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا) قال الشارح المعتزلي: الأعراب على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من آمن به من أهل البادية و لم يهاجر إليه، و هم ناقصوا المرتبة عن المهاجرين لجفائهم و قسوتهم و توحّشهم و تشتّتهم في بعد من مخالطة العلماء و سماع كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فيهم انزل: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» و ليست هذه الاية عامّة في كلّ الأعراب بل خاصّة ببعضهم، و هم الّذين كانوا حول المدينة و هم: جهنية، و أسلم، و أشجع، و غفار، و اليهم أشار سبحانه بقوله «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ» و كيف يكون كلّ الأعراب مذموما و قد قال تعالى «وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» و صارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل، انتهى و قال الشهيد الثاني: المراد بالأعراب من أهل البادية و قد أظهر الشهادتين على وجه حكم باسلامه ظاهرا و لا يعرف من معني الاسلام و مقاصده و أحكامه سوى الشهادتين آه. إذا عرفت ذلك فأقول: قد ظهر لك في شرح الخطبة المأة و الثامنة و الثمانين أنّ حقيقة المهاجرة هو الهجرة إلى حضور الحجّة لمعرفته و العلم بوجوب اطاعته و امتثال أحكامه، و على هذا فمقصوده عليه السّلام بقوله: صرتم بعد الهجرة أعرابا، توبيخهم على أنّهم بعد ما كانوا عارفين به و بمقامه عليه السّلام و وجوب طاعته و عالمين بأحكام الشرع و آدابه و وظايف الاسلام كما هو شأن المهاجر، قد تركوا ذلك كلّه و صاروا مثل الأعراب الّذين لا يعرفون إلّا ظاهر الاسلام كما قال عزّ و جلّ «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ» أى أحرى بأن لا يعلموا حدود اللّه في الفرائض و السنن و الحلال و الحرام.
يعني أنكم قد صرتم بالعصبيّة و الاستكبار و العناد و إثارة الفتن بمنزلة الأعراب الجاهلين بما لهم و ما عليهم بعد ما كنتم عارفين بذلك كلّه.
(و بعد الموالات أحزابا) أى بعد الالفة و الاجتماع أحزابا متعادية متشتّتة مختلفة الاراء، أى صرتم حزبا حزبا و طائفة طائفة كلّ منكم يخالف آخرين، و كلّ حزب بما لديهم فرحون.
(ما تتعلّقون من الاسلام إلّا باسمه و لا تعرفون من الايمان إلّا رسمه) لما جعلهم أعرابا أحزابا اتبعه بهذه الجملة و لكمال الاتّصال بينهما وصلها بسابقته و ترك العاطف.
و المراد أنّهم لم يأخذوا من الاسلام و أحكامه شيئا إلّا اسمه فيسمّون باسم المسلم، و لا يعرفون من الايمان إلّا صورته دون ماهيّته و حقيقته، و في بعض النسخ لا تعقلون بدل لا تعرفون، و المقصود واحد.
(تقولون النّار و لا العار) كلمة جارية مجرى المثل يقولها أهل الحميّة و الانفة من تحمل الضيم و الذّل على نفسه أو من ينسب إليه من قومه و خاصّته استنهاضا و الهابا بها إلى النضال و الجدال فاذا قيلت في حقّ كان ثوابا و إذا قيلت في باطل كان خطاء.
و لمّا كان غرض المخاطبين منها هو الشرّ و الفساد و إثارة الفتنة المخالفة لوظايف الاسلام شبّه حالهم في أعمالهم و أقوالهم بقوله: (كأنّكم تريدون أن تكفؤا الاسلام على وجهه) بأنّهم يريدون أن يكبّوا و يقلبوا الاسلام على وجهه، تشبيها له بالاناء المقلوب على وجهه فكما أنّه بعد قلبه لا يبقي فيه شي ء أصلا و يخرج ما كان فيه من حيّز الانتفاع، فكذلك الاسلام الّذى لم يراع حدوده و احكامه كأنّه لم يبق منه شي ء ينتفع به، و هو من الاستعارة المكنيّة و ذكر الكفاء تخييل.
و قوله (انتهاكا لحريمه) أراد به أنّ فعلكم ذلك كاشف عن كون غرضكم منه الانتهاك كالكفّار و المنافقين و أعادى الدّين الذين لا غرض لهم إلّا إبطال الاسلام و هتك حريمه (و نقضا لميثاقه) و هى حدوده و شرايطه المقرّرة و وظايفه المأخوذة فيه (الذى وضعه اللّه لكم حرما في أرضه) لمنعه الاخذين به و المواظبين له من الرّفث و الفسوق و الجدال.
(و أمنا بين خلقه) أى سبب أمن أى أمانا لهم من شرّ الأعداء و من تعدّى كلّ منهم إلى الاخر.
و المراد بنقضهم ميثاقه تركهم لوظايفه المقرّرة، و قطعهم لما أمر اللّه به أن يوصل، و سعيهم في إثارة الفتنة و الفساد و القتل و القتال، قال سبحانه «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ».
قال الطبرسيّ: الذين ينقضون عهد اللّه، أى يهدمونه أى لا يفون به، و عهد اللّه وصيّته إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته و نهيهم عنه من معصيته و نقضهم لذلك تركهم العمل به من بعد ميثاقه قال في الصّافي: أى تغليظه و أحكامه و يقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل قال الطبرسيّ: معناه امروا بصلة النبيّ و المؤمنين فقطعوهم، و قيل: امروا بصلة الرّحم و القرابة فقطعوها و قيل: امروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرّقوا بينهما بأن قالوا و لم يعملوا و قيل: معناه الأمر بوصل كلّ من أمر اللّه بصلته من أوليائه و القطع و البراءة من أعدائه، و هذا أقوى لأنّه أعمّ.
و في الصّافي أقول: و يدخل في الاية التفريق بين الأنبياء و الكتب في التصديق و ترك موالاة المؤمنين و الجمعة و الجماعات المفروضة و ساير ما فيه رفض خير أو تعاطى شرّ لأنّه يقطع الوصلة بين اللّه و بين العبد الّتى هى المقصودة بالذات من كلّ وصل و فصل.
و يفسدون في الأرض قيل: نقضهم العهد، و قيل أراد كلّ معصية تعدّى ضررها إلى غير فاعلها.
و في الصّافي يفسدون بسبب قطع ما في وصله نظام العالم و صلاحه اولئك هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم بما صاروا إلى النيران و حرموا الجنان، فيا لها خسارتا لزمتهم عذاب الأبد و حرّمتهم نعيم الأبد.
ثمّ حذّرهم و خوّفهم بقوله (و إنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر) يعني أنّكم إن قطعتم حبل الاسلام العاقد بينكم و الجامع لجمعيّتكم و تمسّكتم بغيره من حمية أو جماعة أو كثرة عشيرة مع الخروج عن طاعة سلطان الاسلام و التفرّق فيه فانّ ذلك يوجب أن يطمع فيكم الكفّار و يحاربونكم.
(ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين و لا أنصار ينصرونكم) كما كانوا ينصرون في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (إلّا المقارعة) أى المضاربة و قرع بعضكم بعضا (بالسّيف حتّى يحكم اللّه بينكم) و بينهم بغلبة أحد الفريقين على الاخر.
ثمّ ذكّرهم بالعقوبات النّازلة على الامم الماضية في القرون الخالية بخروجهم عن طاعة اللّه سبحانه فقال: (و انّ عندكم الأمثال) الّتي ضربها اللّه لكم بأهل القرون الماضية كما قال «وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» و قال أيضا «وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً» (من بأس اللّه) و عذابه لهم (و قوارعه) أى دواهيه و افزاعه الّتي كانت تقرع القلوب بشدّتها (و أيّامه) الّتي انتقم اللّه فيها من القرون الاولى.
قال الطبرسيّ في قوله: و ذكّرهم بأيّام اللّه: معناه و أمرناه«» بأن يذكّر قومه وقايع اللّه في الامم الخالية و اهلاك من أهلك منهم ليحذروا ذلك.
أقول: و من تلك الأيام ما اشير إليه في قوله «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» و في قوله «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» و في قوله «وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ».
(و وقايعه) أى نوازله الشّديدة و عقوباته الواقعة بالعاصين المتمرّدين كما اشير اليها في قوله عزّ و جلّ «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».
و غرضه عليه السّلام من التذكير بهذه الأمثال توعيد المخاطبين و تهديدهم من أن يقارفوا ما قارف أهل القرون المتقدّمة من الذّنوب و الاثام، فتنزل عليهم ما نزل بهم من البأس و العذاب، و لذلك فرّع عليه قوله: (فلا تستبطئوا وعيده) أى لا تعدّوا ما أوعدكم به من العذاب بطيئا بعيدا فانّه قريب كما قال «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً».
و لا تبطئوا إبطاءه للعذاب طمعا منكم في أنّ إبطاءه يوجب ذهابه، و إمهاله يوجب إهماله كما هو الغالب في وعيد غيره سبحانه، فانّ تأخيره غالبا يوجب عدم وقوعه إمّا لحصول الغفلة و النسيان من الموعد، أو لأنه ربّما يفوته من طلب أو يعجزه من هرب، و أمّا اللّه الحىّ القيّوم القهّار ذو القوّة المتين و البأس الشّديد فانّه لبالمرصاد و لا يخلف الميعاد، و المخاطبون لما قاسوه عزّ شأنه بغيره و وعيده بوعيد غيره استبطئوه لذلك و انما وقعوا في هذا الزّعم الفاسد.
(جهلا بأخذه و تهاونا ببطشه و يأسا من بأسه) يعنى أنّ جهلكم بمؤاخذته الشديدة، و تهاونكم ببطشه الناشى من تأخير وقوعه، و يأسكم من بأسه الناشي من طول مدّة البأس صار علّة للاستبطاء فأوجب ذلك جسارتكم على اقتراف الجرائم و اقتحامكم في ورطات الاثام.
كما أنّ أهل القرون الاولى قد وقعوا في الهلاك الدّائم و استحقوا العذاب الأليم أيضا من الجهالة بأخذه كما اشير إليه في الكتاب الكريم في قوله «وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».
و من التهاون ببطشه كما حكاه سبحانه عنهم بقوله عقيب هذه الاية «وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و بقوله «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
و من اليأس من بأسه كما اخبر عنهم بقوله «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ».
و أما أهل العرفان و الايقان فيعرفون بنور الايمان و اليقين بما أخبر به الأنبياء و المرسلين و شهد به الكتاب المكنون أنّ وعده عزّ و جلّ و وعيده واقعان لا محالة و أنّ أخذه و بطشه و بأسه و إن تأخر حقّ محقّق لا ريب فيه كما قال «وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» و قال «وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ».
و يعلمون أنّ التأخير و الامهال في العقاب لاقتضاء الحكمة الالهيّة و لو يعجّل«» اللّه للنّاس الشرّ استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم. و لكنه يمهل المؤمنين من باب اللّطف حتّى يتوبوا و يتداركوا الذّنوب بالانابة و الاستغفار.
و يمهل الظالمين و يذر الذين لا يرجون لقائه في طغيانهم يعمهون من باب الاستدراج كما قال تعالى «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» هذا.
و لما ذكّرهم بأمثال الذين خلوا من قبل و نهاهم عن استبطاء وعيد اللّه سبحانه أردفه بالتنبيه على عمدة سبب الاستحقاق القرون الخالية للطعن و العتاب و اللّعن و العقاب و هو ارتفاع الرّكن الأعظم من الاسلام أى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر من بينهم، و غرضه بذلك تحذير المخاطبين و تنبيههم على أنهم مثلهم في استحقاق اللّعن لارتفاع هذه الخصلة العظيمة من بينهم أيضا و لذلك أتى بالفاء التفريعيّة فقال: (فانّ اللّه سبحانه لم يلعن القرون الماضية) و لم يحرمهم من رحمته الواسعة (إلّا لتركهم الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر) كما اشير إليه في قوله سبحانه «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ».
قال الطبرسيّ: أخبر تعالى عما جرى على أسلافهم فقال: لعن الذين كفروا الاية، معناه لعنوا على لسان داود فصاروا قردة و على لسان عيسى فصاروا خنازير.
قال و قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام و أما داود فانه لعن أهل ايلة لما اعتدوا في سبتهم و كان اعتداؤهم في زمانه فقال: اللّهم البسهم اللعنة مثل الرّدا و مثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم اللّه قردة، فأمّا عيسى عليه السّلام فانه لعن الذين انزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك قال الطبرسيّ: و انما ذكر اللعن على لسانهما إزالة للابهام بأنّ لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من العقوبة، ثمّ بيّن اللّه تعالى حالهم فقال: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، أى لم يكن ينهى بعضهم بعضا و لا ينتهون أى لا يكفّون عما نهوا عنه قال ابن عباس: كان بنو اسرائيل ثلاث فرق: فرقة اعتدوا في السّبت، و فرقة نهوهم و لكن لم يدعوا مجالستهم و لا مؤاكلتهم، و فرقة لما رأوهم يعتدون ارتحل عنهم و بقى الفرقتان المعتدية و الناهية المخالطة فلعنوا جميعا.
و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر و لتأخذن على يد السفيه و لتاطرنه«» على الحقّ اطراء أو ليضربنّ اللّه قلوب بعضكم على بعض و يلعنكم كما لعنهم.
و فى الوسائل عن الحسن بن عليّ بن شعبة في تحف العقول عن الحسين عليه السّلام قال: و يروى عن عليّ عليه السّلام: اعتبروا أيها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: «لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ» و قال «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ- إلى قوله- لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» و إنما عاب اللّه عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالونه منهم، و رهبة مما يحذرون، و اللّه يقول: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ» و قال: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فبدء اللّه بالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا ادّيت و اقيمت استقامت الفرائض كلّها و هيّنها و صعبها، و ذلك إنّ الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع ردّ المظالم، و مخالفة الظالم، و قسمة الفى ء و الغنايم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقّها.
و قد تقدّم هذا الحديث مع حديث آخر مناسب للمقام و بعض الكلام في الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر في شرح الفصل الثاني من المختار المأة و الخامس و الخمسين (فلعن اللّه السفهاء) أى الجهّال (لركوب المعاصي و الحلماء) أى ذوى العقول و الاناة و في بعض النسخ الحكماء بدله (لترك التناهى) و هذه الجملة إمّا اخباريّة أتى بها إيضاحا للجملة المتقدّمة أعنى قوله: إنّ اللّه لم يلعن القرون الماضية إلّا لتركهم اه، و يؤيّده إضمار فاعل لعن و إسقاط لفظ الجلالة في بعض النّسخ و إمّا انشائيّة دعائية منه عليه السّلام أتى بها قياما منه بوظيفته اللّازمة، فانّ لعنه عليهم نهى لهم عن المنكر و هو مقتضى وظيفة الامامة.
فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالسّفهاء و الحلماء سفهاء القرون الماضية و حلماءهم.
و على الاحتمال الثاني سفهاء المخاطبين و حلماءهم، و أوضح استحقاقهم للّعن و دخولهم في زمرة الملعونين بقوله: (ألا و قد قطعتم قيد الاسلام) أى حبل الالفة عليه بالاعتزاء و العصبيّة (و عطلتم حدوده) أى تركتم وظايفه المقرّرة الّتي لم يجز التّعدّى و التّخطي منها (و أمتّم أحكامه) أى أبطلتم أحكامه التي كان يلزم عليكم إحياؤها و العمل بها.
و قد كان من جملة تلك الحدود و الأحكام المتروكة المعطلة أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر، فانّ القيام بهما غالبا شأن الرّؤساء و الكبراء، و قد كانوا قائمين بخلافه و كانوا يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف و لذلك حذّر عن طاعتهم و متابعتهم في الفصل الثالث من هذه الخطبة و قال: إنّهم قواعد أساس العصبيّة و دعائم أركان الفتنة و سيوف اعتزاء الجاهليّة.
|