الفصل الثالث
ألا و قد أمعنتم في البغي، و أفسدتم في الأرض، مصارحة للّه بالمناصبة، و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة، فاللّه اللّه في كبر الحميّة، و فخر الجاهليّة، فإنّه ملاقح الشّنان، و منافخ الشّيطان الّلاتي خدع بها الامم الماضية، و القرون الخالية، حتّى أعنقوا في حنادس جهالته، و مهاوي ضلالته، ذللا عن سياقه، سلسا في قياده، أمرا تشابهت القلوب فيه، و تتابعت القرون عليه، و كبرا تضايقت الصّدور به.
اللغة
(امعن) في الأرض ذهب فيها بعيدا، و أمعن في الطلب أى جدّ و أبعد و (صارح) بما في نفسه أى أبداه و (الحميّة) الحرب و العداوة أى عاديته و أظهرت له العداوة و (لقحت) المرأة و النخلة لقحا إذا حملت و القحت، و النخلة وضعت طلع الذكور فى طلع الأناث و القح الفحل الناقة أحبلها و الملاقح بفتح الميم الفحول جمع ملقح و زان محسن يقال ألقحت الرياح الشجر إذا حملتها فهى لواقح و ملاقح كذا قال الفيروز آبادى. (و الشنان) بفتح الأوّل و الثاني و سكونه البغض و الشنان و زان رماد لغة فيه و (المنافخ) جمع منفخ بالفتح مصدر نفخ و نفخ الشيطان نفثه و وسوسته و يقال للمتطاول إلى ما ليس له: نفخ الشيطان في أنفه و يقال: رجل ذو نفخ أى فخر و كبر و (القرون الخالية) جمع قرن و هو من القوم سيّدهم و رئيسهم و كلّ امّة هلكت فلم يبق منها احد و الوقت من الزمان و (أعنق) اعناقا أسرع و العنق ضرب من السير فسيح سريع. و ليلة ظلماء (حندس) أى شديدة الظلمة و (المهاوى) جمع مهواة و هى الوهدة المنخفضة من الأرض يتردّى الصيد فيها، و قيل: الوهدة العميقة و تهاوى الصيد في المهواة سقط بعضه أثر بعض و (الذّلل) جمع ذلول و هو المنقاد من الابل و غيره قال تعالى: فاسلكى سبل ربّك ذللا
الاعراب
مصارحة و مبارزة منصوبان على المفعول له أو على التميز، و قوله: فاللّه اللّه بنصبهما على التحذير، و ذللا حال من فاعل اعنقوا، و عن فى قوله: عن سياقه بمعنى اللّام، و فى بعض النسخ على سياقه فعلى للاستعلاء المجازى. و قوله: أمرا تشابهت القلوب فيه قال القطب الراوندى: أمرا منصوب لأنّه مفعول و ناصبه المصدر الّذى هو سياقه و قياده تقول سقت سياقا وقدت قيادا، و اعترض عليه الشارح المعتزلي بأنّه غير صحيح، لأنّ مفعول هذين المصدرين، محذوف تقديره عن سياقه إيّاهم و قياده إيّاهم، و قال الشارح: إنه منصوب بتقدير فعل اى اعتمدوا أمرا، و كبرا معطوف عليه أو ينصب كبرا على المصدر بأن يكون اسما واقعا موقعه كالعطاء موضع الاعطاء.
أقول: و الأظهر عندى أن يجعل أمرا منصوبا بنزع خافض متعلّق بقوله اعنقوا، أى اسرعوا إلى أمر و كبر، و على هذا التأم معنى الكلام بدون حاجة إلى التكلّف و حذف الفعل.
المعنى
اعلم أنه لما حذّر في الفصل السابق من التكبّر و رغّب في التواضع عقّبه بهذا الفصل تأكيدا لما سبق، و صدّره بتوبيخ المخاطبين على البغى و الفساد فقال: (ألا و قد أمعنتم فى البغى) أى بالغتم فى السعى بالفساد و العدول عن القصد و الخروج عن الاعتدال (و أفسدتم في الأرض) أى صرتم مفسدين فيها، و علّل امعانهم فى البغى بقوله: (مصارحة للّه بالمناصبة) أى لأجل مواجهتكم له سبحانه بالمعاداة و كشفكم عن عداوته تعالى صراحة بالترفّع و التكبّر.
روى في الكافى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: الكبر رداء اللّه و المتكبّر ينازع اللّه فى ردائه.
و فيه عن حكيم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أدنى الالحاد، فقال: إنّ الكبر أدناه.
و علّل الافساد في الأرض بقوله: (و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة) لأنّ الكبر و العظمة و الرفعة على الخلق مثير للفساد، مؤدّ إلى الحرب و الجدال، لأنّ المتكبّر لا يقدر أن يحبّ للمؤمن ما يحبّ لنفسه و لا يتمكّن من ترك الرذائل كالحقد و الحسد و التقدّم فى الطرق و المجالس و طرد الفقراء عن المجالسة و الموانسة و الغلظة في القول و عدم الرفق بذوى الحاجات و التطاول على الناس و الانف عن سماع الحقّ و قبوله، كلّ ذلك خوفا من أن يفوته عزّه، و معلوم أنّ هذه الخصال القبيحة لا محالة تكون سببا للمحاربة للمؤمنين، بل لمحاربة اللّه سبحانه كما قال في الحديث القدسى: من أهان لى وليّا فقد بارزنى بالمحاربة.
(فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهليّة) أى اتّقوه عزّ و جلّ فيهما، لأنّهما من صفة الكافر لا المسلم و المؤمن قال تعالى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ.
و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في رواية الكافي: إذا خلق اللّه العبد في أصل الخلقة كافرا لم يمت حتى يحبّب اللّه إليه الشّر فيقرب منه، فابتلاه بالكبر و الجبريّة، فقسا قلبه، و ساء خلقه، و غلظ وجهه، و ظهر وخشه«»، و قلّ حياؤه، و كشف اللّه ستره و ركب المحارم فلم ينزع عنها، ثمّ ركب معاصى اللّه، و أبغض طاعته، و وثب على النّاس لا يشبع من الخصومات، فاسألوا اللّه العافية و اطلبوها منه.
و من ذلك ظهر حسن ما علّل التوقّى من الكبر و الفخر به و هو قوله (فانّه) أى كلّ من الكبر و الفخر (ملاقح الشنان) أى سبب توليد البغض و العداوة كما أنّ الفحول سبب توليد النتاج، و التعبير بصيغة الجمع بملاحظة تكثّر أقسام الكبر و تعدّد أنواعه باعتبار ما به التكبّر من العلم و الثروة و المال و كثرة العشيرة و حسن الصوت و الجمال و غيرها مما هو منشا الكبر و التفاخر (و منافخ الشيطان) أى نفخاته و نفثاته كما قال في الفصل السّابق: و انما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان و نفثاته، و قال أيضا: و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر. و وصف المنافخ بأنّها (اللّاتي خدع بها الامم الماضية) كقوم نوح و هود و عاد و ثمود و فرعون و نمرود و غيرهم ممّن تكبّر و كذّب الرّسل لما زيّن لهم الشيطان نخوتهم فخدعهم و أضلّهم عن السّبيل (و القرون الخالية) عطف تفسير أي الامم الهالكة و الرؤساء الخالية منهم الدّنيا، و على جعل القرن بمعنى الوقت فيحتاج إلى تقدير مضاف أى خدع بها أهل الأزمنة التي خلت منهم، و على الأوّل فالصّفة بحال متعلّق الموصوف، و على الثاني فهى بحال الموصوف نفسه.
و قوله (حتّى اعنقوا في حنادس جهالته و مهاوى ضلالته) غاية لخداع الشيطان أى انتهى خداعه للامم السابقة إلى أن أسرعوا في ظلمات جهالته التي لا يهتدون فيها، و مهاوى ضلالته الّتى يردوا فيها و لم يقدروا على الخروج منها (ذللا عن سياقه سلسا فى قياده) أى حالكونهم ذليلين لسوقه سهل الانقياد لقوده (أمرا) أى إلى أمر«» أى جبريّة و تكبّر (تشابهت القلوب فيه) أى صار قلوبهم كلّ منها شبيها بالاخر فى قبوله (و تتابعت القرون عليه) أى تتابعت على التسليم و الانقياد له (و كبرا) أى إلى كبر (تضايقت الصّدور به) و لم تسع لا خفائه و كتمانه من جهة كثرته و شدّته.
|