ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات اللّه عليه إلى الاخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ و لا تنفع، و لا تسمع و لا تبصر، فجعلها بيته الحرام الّذي جعله للنّاس قياما، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، و أقلّ نتائق الدّنيا مدرا، و أضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة، و رمال دمثة، و عيون وشلة، و قرى منقطعة، لا يزكو بها خفّ، و لا حافر، و لا ظلف، ثمّ أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، و غاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، و مهاوي فجاج عميقة، و جزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا يهلّلون للّه حوله، و يرملون على أقدامهم شعثا غبرا له قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم، و شوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، و امتحانا شديدا، و اختبارا مبينا، و تمحيصا بليغا، جعله اللّه سببا لرحمته، و وصلة إلى جنّته. و لو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، و مشاعره العظام، بين جنّات و أنهار، و سهل و قرار جمّ الأشجار، داني الثّمار، ملتفّ النبي متّصل القرى، بين برّة سمراء، و روضة خضراء، و أرياف محدقة، و عراص مغدقة، و رياض ناضرة، و طرق عامرة، لكان قد صفّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، و لو كانت الأساس المحمول عليها، و الأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء، و ياقوتة حمراء، و نور و ضياء، لخفّف ذلك مسارعة الشّكّ في الصّدور، و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، و لنفى معتلج الرّيب من النّاس. و لكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع الشّدائد، و يتعبّدهم بألوان المجاهد، و يبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتّكبّر عن قلوبهم، و إسكانا للتّذلّل في نفوسهم، و ليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، و أسبابا ذللا لعفوه.
اللغة
(قياما) مصدر و زان صيام و (الوعر) من الأرض ضدّ السّهل (و البقاع) كجبال جمع بقعة بالضمّ و الفتح و هى القطعة من الأرض على غير هيئة الّتي إلى جنبها. و (النتائق) جمع نتيقه فعلية بمعنى مفعولة من النتق و هو الرفع و الجذب. قال الشارح البحراني: و سمّيت المدن و الأماكن المشهورة و المرتفعة نتائق لارتفاع بنائها و شهرتها و علوّها عن غيرها من الأرض كأنها جذبت و رفعت، و قال بعض الشارحين: النتائق البقاع المرتفعة و أراد مكة و كنى بنتقها عن شهرتها و علوها بالنسبة إلى ما استفل عنها من البلاد. و قال الشارح المعتزلي أصل هذه اللفظة من قولهم امرأة نتاق أى كثيرة الحمل و الولادة و يقال: ضيعة منتاق أى كثيرة الريع فجعل عليه السّلام الضياع ذات المدر التي يثار للحرث نتايق. و قال عليه السّلام: إنّ مكة أقلّها إصلاحا للزرع لأنّ أرضها حجرية. أقول: و الأظهر عندى أن يكون النتائق مأخوذة من قولهم أنتق فلان إذا حمل مظلّة من الشمس، و المظلّة بالفتح و الكسر الكبير من الأخبية و تسمية البلاد بها لاشتمالها على الدّور و الأبنية التي تستظلّ بها. و (المنتجع) بفتح الجيم اسم مفعول من انتجع القوم إذا ذهبوا لطلب الماء و الكلاء في موضعهما و (المفازة) الموضع المهلك من فوّز بالتشديد إذا مات، لأنّها مظنّة الموت و (القفر) من الأرض الّتي لا نبات بها و لا ماء (يهلّلون للّه) من التهليل و في بعض النسخ يهلّون من أهلّ المحرم رفع صوته بالتلبية عند الاحرام و كلّ من رفع صوته فقد أهلّ إهلالا و استهلّ استهلالا بالبناء فيهما للفاعل. و (رمل) فلان رملا من باب طلب و رملانا بالتحريك فيهما هرول و (الشعث) محرّكة انتشار الأمر و مصدر الأشعث للمغبر الرأس و شعث الشعر شعثا فهو شعث من باب تعب تغيّر و تلبّد لقلّة تعهّده بالدّهن، و الشعث أيضا الوسخ، و رجل شعث وسخ الجسد، و شعث الرأس أيضا و هو أشعث أغبر أى من غير استحداد و لا تنظف، و الشعث أيضا الانتشار و التفرّق كما يتشعّث رأس السّواك.و (السرابيل) جمع السّربال و هو القميص و (البرّة) بالضمّ واحدة البرّ و هى الحنطة و (أرياف) جمع ريف بالكسر أرض فيها زرع و خصب و ما قارب الماء من أرض العرب أو حيث يكون به الخضرة و المياه و الزّروع. و (أحدقت) الروضة صارت حديقة، و الحديقة الرّوضة ذات الشجرة و البستان من النخل و الشجر او كلّ ما أحاط به البناء، أو القطعة من النخل هكذا في القاموس و قال الفيومى: و الحديقة البستان يكون عليه حايط فعيلة بمعنى مفعولة، لأنّ الحائط أحدق بها أى أحاط، ثمّ توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان و إن كان بغير حايط و الجمع حدائق. و (عراص) جمع عرصة ككلاب و كلبة و هى البقعة الواسعة الّتى ليس بها بناء و (مغدقة) فيما رأيناه من النسخ بالغين المعجة و الدال المهملة من الغدق بالتحريك و هو الماء الكثير، و أغدق المطر كثر قطره، و يجوز أن يكون من العذق بالذال المعجمة مثل فلس و هو النخلة بحملها و بالكسر القنو منها و العنقود من العنب إو إذا اكل ما عليه و (المعتلج) مصدر بمعنى الاعتلاج من اعتلج الأمواج اضطربت و تلاطمت، و اعتلج الأرض طال نباتها، و يجوز كونه مفعولا من الاعتلاج و في بعض النسخ بصيغة الفاعل و الكلّ صحيح و (الفتح) بضمتين الباب الواسع المفتوح و (الذلل) بضمتين أيضا جمع ذلول بالفتح من الذلّ بالضّم و الكسر ضدّ الصّعوبة.
الاعراب
قوله: بأحجار، متعلق بقوله: اختبر، و حجرا و مدرا و قطرا منصوبات على التميز، و جملة لا يزكو بها في محلّ الجرّ صفة لقرى، و ذللا، حال من فاعل يهزّوا و له، متعلّق بقوله: يرملون، و ابتلاء و امتحانا و اختبارا و تمحيصا منصوبات على المصدر و حذف العوامل من ألفاظها اى ابتلاهم اللّه بهذه المشاق ابتلاء و امتحنهم بها امتحانا و هكذا و يحتمل الانتصاب على المفعول له أى يفعلون ما ذكر من التكاليف الشاقة للابتلاء العظيم الذى ابتلوا به، و جملة لكان جواب لو أراد.
المعنى
و لما نبّه عليه السّلام على وجه الحكمة و المصلحة في بعث الأنبياء بالخصاصة و المسكنة، و أنّ الوجه في ذلك هو الامتحان و الابتلاء ليترتّب على اتّباعهم عظيم الأجر و جزيل الجزاء، أردفه بالتّنبيه على حكمة وضع البيت الحرام بأوعر البقاع و أقفر البلدان فقال: (ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم عليه السّلام إلى الاخرين من هذا العالم بأحجار) بنى بها البيت (لا تضرّ و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع) هذا باعتبار مجموع الأحجار أو بملاحظته في نظر الخلق فلا ينافي ما مرّ في شرح الفصل الثامن عشر من الخطبة الاولى من أنّ حجر الأسود أوّل ملك آمن و أقرّ بالتوحيد و النّبوة و الولاية و أنّه يجي ء يوم القيامة و له لسان ناطق و عين ناظرة يشهد لكلّ من وافاه إلى ذلك و حفظ الميثاق.
(فجعلها بيته الحرام) و وصفه به لأنّه حرام على المشركين دخوله و حرام إخراج من تحصّن به منه حسبما عرفت في شرح الخطبة الاولى.
قال الرّماني: و إنّما سمّي به لأنّ اللّه حرّم أن يصاد عنده و أن يعضد شجره، و لأنّه أعظم حرمة.
قال في مجمع البيان: و في الحديث مكتوب في أسفل المقام إنّي أنا اللّه ذو بكّة حرّمتها يوم خلقت السماوات و الأرض و يوم وضعت هذين الجبلين، و حففتها بسبعة أملاك حفا، من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقّه مذعنا بالربوبيّة حرّمت جسده على النار.
(الّذى جعله للنّاس قياما) أى مقيما لأحوالهم في الدّنيا و الاخرة و يستقيم به امورهم الدنيويّة و الاخرويّة يقال: فلان قيام أهله أى يستقيم به شئونهم قال سبحانه جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أى لمعايشهم و مكاسبهم يستقيم به امور دينهم و دنياهم يلوذ به الخائف و يأمن فيه الضعيف و يربح عنده التّجار باجتماعهم عنده من ساير الأطراف، و يغفر بقصده للمذنب و يفوز حاجّه بالمثوبات. روى في مجمع البيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدّنيا و الاخرة أصابه.
و قال ابن عبّاس: معناه جعل اللّه الكعبة امنا للنّاس بها يقومون أى يؤمنون، و لولاها لفنوا و هلكوا و ما قاموا، و كان أهل الجاهليّة يأمنون به فلو لقي الرّجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم ما قتله، و قيل: معني قوله: قياما للناس، انهم لو تركوا عاما واحدا لا يحجّونه ما نوظروا ان يهلكوا.
و رواه علىّ بن إبراهيم عنهم عليهم السّلام قال ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها لم يهلكوا فاذا هدمت و تركوا الحجّ هلكوا.
(ثمّ وضعه) أى البيت (بأوعر بقاع الأرض حجرا) أى أصعب قطعها و أغلظها من حيث الحجر (و أقلّ نتائق الدّنيا مدرا) أى أقلّ بلدانها و مدنها من حيث التراب و المدر، و بذلك لم يكن صلاحية الزرع و الحرث كما قال إبراهيم «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ»: (و أضيق بطون الأودية قطرا) من حيث الناحية و الجانب (بين جبال خشنة) غليظة (و رمال دمثة) لينة، و الوصف بها إشارة إلى بعدها من الانبات لأنّ الرّمل كلّما كان ألين و أسهل كان أبعد من أن ينبت و لا يزكو به الدّواب أيضا لأنّها تتعب في المشي به.
(و عيون وشلة) قليلة الماء (و قرى منقطعة) بعضها عن بعض (لا يزكو بها خفّ و لا حافر و لا ظلف) أى لا يزيد و لا ينمو بتلك الأرض ذوات الخفّ كالابل و الحافر كالخيل و البغال و الظلف كالبقر و الغنم، و عدم نمائها بها لما عرفت من قلّة مائها و نباتها و خشونة جبالها و سهولة رمالها و خلوّها من المرتع و المرعى.
(ثمّ أمر آدم عليه السّلام و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه) أى يعطفوا و يميلوا جوانبهم معرضين عن كلّ شي ء متوجّهين إليه قاصدين العكوف لديه، و قد مضى في شرح الفصل الثامن عشر من الخطبة الاولى عن أبي جعفر عليه السّلام انّ آدم عليه السّلام أتى هذا البيت ألف آتية على قدميه منها سبعمائة حجّة و ثلاثمأة عمرة، و مضى هناك حجّ ساير الأنبياء و الرّسل عليهم السّلام فلينظر ثمة (فصار) البيت (مثابة) و مرجعا (لمنتجع أسفارهم) كناية عما يرومونه في سفرهم اليه من المارب و المقاصد و المنافع و التجارات كما قال عزّ من قائل «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً» و قال «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ».
(و غاية لملقى رحالهم) أى مقصد القصد (تهوى اليه ثمار الأفئدة) ثمرة الفؤاد كما قيل سويداء القلب أى تميل و تسقط باطن القلوب إليه، و هويها كناية عن سرعة سيرها يعني أنّه سبحانه جعل القلوب مايلة إليه محبّة له إجابة لدعاء إبراهيم عليه السّلام حيث قال رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ.
قال الشارح البحراني هوى الأفئدة ميولها و محبّتها إلّا أنّه لما كان الّذى يميل الى الشي ء و يحبّه كأنّه يسقط إليه و لا يملك نفسه استعير لفظ الهوى للحركة إلى المحبوب و السعى اليه، و الحاصل أنّ القلوب تسعى و تتوجّه إليه.
(من مفاوز قفار سحيقة) أى الأفلاء«» البعيدة (و مهاوى فجاج عميقة) أى من الوهاد و الطرق العميقة الّتي بين الجبال و وصفها بالعمق على حدّ قوله تعالى وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (و جزائر بحار منقطعة) وصف الجزائر بالانقطاع إما باعتبار انقطاع الماء عنها، أو باعتبار انقطاعها عن ساير بقاع الأرض بسبب إحاطة البحر بها.
و قوله (حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا) غاية لقوله تهوى، أى تسرع إليه قلوب الحاج من المفاوز و المهاوى إلى أن يحرّكوا المناكب مطيعين منقادين.
قال الشارح البحراني: و كنّي بهزّ مناكبهم عن حركاتهم في الطواف بالبيت إذ كان ذلك من شأن المتحرّك بسرعة.
و قال المحدّث العلامة المجلسيّ قده: هو كناية عن السفر إليه مشتاقين.
(يهلّلون للّه حوله) أى حول البيت، و على رواية يهلّون فالمراد أنّهم يرفعون أصواتهم بالتلبية، و على هذه الرواية فلا بدّ من التخصيص بغير المتمتّع و المعتمر بالعمرة المفردة فانّ وظيفتهما قطع التلبية إذا شاهدا بيوت مكة أو حين يدخلان الحرم.
روى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا دخلت مكة و أنت متمتّع فنظرت إلى بيوت مكة فاقطع التلبية، و حدّ بيوت مكّة الّتي كانت قبل اليوم عقبة المدينين، فانّ الناس قد أحدثوا بمكة ما لم يكن، فاقطع التلبية و عليك بالتكبير و التحميد و التهليل و الثناء على اللّه عزّ و جلّ بما استطعت.
و روى مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يقطع صاحب العمرة المفردة التلبية إذا وضعت الابل أخفافها في الحرم- و بمعناهما أخبار كثيرة.
و أما فضل الاهلال فقد روى في الوسائل عن الصّدوق «ره» قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام ما من مهلّ يهلّ بالتلبية إلّا أهلّ من عن يمينه من شي ء إلى مقطع التراب، و من عن يساره إلى مقطع التراب، و قال له الملكان: ابشر يا عبد اللّه و ما يبشّر اللّه عبدا إلّا بالجنّة.
(و يرملون على أقدامهم شعثا غبرا له) أى يهرولون على أقدامهم للّه سبحانه حالكونهم أشعث الرّؤوس متلبّد الشعور متغيّر الألوان مغبّر الوجوه و الأبدان وسخ الأجساد.
(قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم) يحتمل أن يكون المراد بالسرابيل الثياب المعهودة بالاحرام على وجه الاستعارة تشبيها لها بالسرابيل في إحاطتها بالبدن فيكون المقصود بنبذها وراء ظهورهم طرحها على عواتقهم و مناكبهم كما هو المعهود في لبس ثوب الاحرام، و أن يكون المراد بها مطلق المخيط من الثياب من باب المجاز المرسل فيكون النبذ وراء الظهور كناية عن خلعها عن الأبدان، و الثاني أظهر.
(و شوّهوا) أى قبّحوا (باعفاء الشعور) أى اكثارها و إطالتها (محاسن خلقهم) ابتلاهم اللّه سبحانه بهذه المشاق و البليات (ابتلاءا عظيما و امتحانا شديدا و اختبارا مبينا و تمحيصا بليغا) أى امتحانا كاملا (جعله اللّه سببا لرحمته و وصلة إلى جنّته) أى جعل حجّ البيت و البلاء بهذه الابتلاآت العظيمة و التكاليف الشديدة سببا لشمول رحمته و طريقا للوصول إلى جنّته كما يشهد به الأخبار الواردة في فضل الحجّ، و قد مضى جملة منها في شرح الفصل الثامن عشر من المختار الأوّل، هذا و لما نبّه عليه السّلام على وجه المصلحة في بناء البيت بالأحجار و وضعه بأوعر البقاع و تكليف ولد آدم عليه السّلام بالحجّ إليه على الكيفيّات الخاصّة المتضمنة للتواضع و التذلل و أشار إلى أنّ المصلحة في ذلك هو التمحيص و الامتحان و الاستعداد بذلك لافاضة رحمة اللّه و الوصول إلى جنّته و الاستحقاق لجزيل الجزاء و مز يد الثواب أراد بالتنبيه على أنّ وضعه بغير هذا المكان من الأمكنة البهيجة المستحسنة كان موجبا لتصغير الجزاء و تقليل الثواب و هو خلاف المصلحة فقال: (و لو أراد اللّه سبحانه أن يضع بيته الحرام و مشاعره العظام) أى مواضع المناسك (بين جنّات و أنهار و سهل و قرار) من الأرض (جمّ الأشجار دانى الثمار) دنوّها كناية عن كثرتها و سهولة تناولها كما قال سبحانه في وصف الجنّة قُطُوفُها دانِيَةٌ (ملتفّ البنى) أى مشتبك العمارات (متّصل القرى) بكثرتها (بين برّة سمراء) أى حنطة حسن اللّون (و روضة خضراء) ذات الخضرة و النضارة (و أرياف محدقة) مشتملة على الحدائق و البساتين (و عراص مغدقة) ذات الماء الكثير و المطر (و رياض ناضرة و طرق عامرة) بكثرة المارة.
(لكان) جواب لو أى لو أراد اللّه سبحانه أن يضع بيته بين هذه الأمكنة الحسنة ذات البهجة و النضارة لكان قادرا عليه لكنه خلاف الوجه الأصلح لأنّه يلزم حينئذ أن يكون سبحانه (قد صغّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء) لما قد مرّ من أنّ الاختبار و البلوى كلّما كانت أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل.
و لما نبّه عليه السّلام في الشرطية المتقدّمة على أنّ وضع البيت الحرام في غير هذا المكان الذى هو فيه الان خلاف الحكمة و المصلحة اتبعها شرطيّة اخرى و نبّه عليه السّلام فيها على أنّ بناءه بغير هذه الأحجار المتعارفة التي بنى بها أيضا خلاف مقتضى الحكمة و هو قوله: (و لو كان الأساس المحمول عليها) البيت (و الأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء و ياقوتة حمراء و نور و ضياء) أى لو كان بنائه بالأحجار المعدنية كالزمرّد و الياقوت و الجواهر النفيسة المتلألاة النيّرة و المضيئة (لخفّف ذلك مسارعة الشكّ في الصدور) أى سرعته، و في بعض النسخ بالضاد المعجمة بمعنى المقاربة و في بعضها بالصاد المهملة بمعنى المغالبة.
قال الشارح البحراني: و تلخيصه أنّه تعالى لو جعل الأساس المحمول عليها بيته الحرام من هذه الأحجار المنيرة المضيئة لخفّف ذلك مسارعة الشّك في الصدور إذ يراد شكّ الخلق في صدق الأنبياء و عدم صدقهم و شكّهم في أنّ البيت بيت اللّه أو ليس، فانه على تقدير كون الأنبياء بالحال المشهور من الفقر و الذلّ و كون البيت الحرام من هذه الأحجار المعتادة يقوّى الشك في كونهم رسلا من عند اللّه و في كون البيت بيتا له، و على تقدير كونهم في الملك و العزّ و كون البيت من الأحجار النفيسة المذكورة ينتفي ذلك الشكّ، إذ يكون ملكهم و نفاسة تلك الأحجار من الامور الجاذبة إليهم و الداعية إلى محبّتهم و المسارعة إلى تصديقهم و الحكم بكون البيت بيت اللّه لمناسبة في كماله ما ينسبه الأنبياء إلى اللّه سبحانه من الوصف بأكمل طرفى النقيض و لكون الخلق أميل إلى المحسوس و استعار لفظ المسارعة للمغالبة بين الشك في صدق الأنبياء و الشك في كذبهم فانّ كلّا منهما يترجّح على الاخر.
و بذلك أيضا ظهر معنى قوله عليه السّلام (و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب) فانّ حجّ البيت المبنى بالطوب و المدر و القيام بوظايفه و إقامة مناسكه مع ما فيه من المشاق العظيمة و الرّياضات التي لا يكاد أن تتحمل عادة لا يتأتى إلّا مع جهاد النفس و مجاهدة إبليس، بخلاف ما لو كان مبنيّا بالجواهر النفيسة الشريفة من الياقوت و الزمرّد و الزبرجد و نحوها بين جنات و أنهار و أشجار في أرض سهل و قرار فانّ النفوس حينئذ كانت تميل إليه و ترغب إلى رؤيته فلا تبقى إذا حاجة إلى مجاهدة نفسانية أو شيطانية.
و يوضح ذلك الحديث الّذي قدّمنا روايته عن الفقيه في شرح الفصل الثامن عشر من المختار الأول، و نعيد روايته هنا من الكافي باقتضاء المقام، و مزيد ايضاحه للغرض المسوق له هذا الفصل من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام فأقول: روى ثقة الاسلام الكلينىّ عطر اللّه مضجعه عن محمّد بن أبي عبد اللّه عن محمّد بن أبي يسر «نصر خ» عن داود بن عبد اللّه عن عمرو بن محمّد عن عيسى بن يونس قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصرى فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب أصحابك و دخلت فيما لا أصل له و لا حقيقة، فقال: إنّ أصحابي كان مخلطا كان يقول طورا بالقدر و طورا بالجبر، و ما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه و قدم مكّة متمرّدا و انكارا على من يحجّ و كان يكره العلماء مجالسته و مسائلته لخبث لسانه و فساد ضميره، فأتى أبا عبد اللّه عليه السّلام: فجلس إليه في جماعة من نظرائه فقال: يا أبا عبد اللّه إنّ المجالس أمانات و لا بدّ لكلّ من به سعال أن يسعل أ فتأذن لي في الكلام فقال عليه السّلام: تكلّم، فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، و تلوذون بهذا الحجر، و تعبدون هذا البيت المعمور بالطوب و المدر، و تهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، إنّ من فكر هذا و قدر علم أنّ هذا فعل أسّسه غير حكيم و لا ذى نظر، فقل فانك رأس هذا الأمر و سنامه، و أبوك اسّه و تمامه.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ من أضلّه اللّه و أعمى قلبه استوخم الحقّ و لم يستعذ به فصار الشيطان وليّه و قرينه، و ربّه يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره، و هذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في اتيانه، فحثّهم على تعظيمه و زيارته، و جعله محلّ أنبيائه و قبلة للمصلّين إليه فهو شعبة من رضوانه. و طريق يؤدّى إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، و مجمع العظمة و الجلال خلقه اللّه قبل دحو الأرض بألفي عام فأحقّ من اطيع فيما امر و انتهى عما نهى عنه و ذكر اللّه منشى الأرواح و الصور، هذا.
و أما قوله (و لنفي معتلج الريب من الناس) فانه ربما يعترى الشك على ذوى العقائد الضعيفة أنّه لو كان هذا البيت بيته سبحانه لبناه بما يليق عزّه و جلاله من الحسن و البهاء و العزّ و الشرف و مع بنائه على هذا الوصف كان ينتفي اعتلاج الريب منهم قطعا. (و لكن اللّه) عزّ و جلّ لم يبنه بهذا الوصف، و إنما بناه بالأحجار الغير النفيسة اختبارا و امتحانا و تمحيصا و ابتلاء فانّه (يختبر عباده بأنواع الشدائد) و المشاق كتروك الاحرام و المناسك العظام (و يتعبّدهم بألوان المجاهد) من مجاهدة النفس و مجاهدة إبليس التي عرفت (و يبتليهم بضروب المكاره) التي تكرهها الطباع و ترغب عنها النفوس (اخراجا للتكبّر) المبعد من اللّه سبحانه (عن قلوبهم و اسكانا للتذلّل) و التواضع المقرّب إليه تعالى (في نفوسهم و ليجعل ذلك) الاستعداد الحاصل لهم من الاختبار و الابتلاء (أبوابا فتحا) مفتوحة (الى فضله) و احسانه (و أسبابا ذللا) سهلة (لعفوه) و غفرانه.
تكملة
هذا الفصل من الخطبة رواه ثقة الاسلام الكليني «قده» باختلاف لما أورده السيّد «ره» هنا فأحببت ايراده بروايته مع بيان غريب موارد الاختلاف فأقول: قال في الكافي و روى انّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال في خطبة له: و لو أراد اللّه جلّ ثناؤه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان و معادن البلدان و مغارس الجنان و أن يحشر طير السّماء و وحش الأرض معهم لفعل، و لو فعل لسقط البلاء و بطل الجزاء و اضمحلّ الابتلاء، و لما وجب للقائلين أجور المبتلين و لا لحق المؤمنين ثواب المحسنين، و لا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين و لذلك لو أنزل اللّه من السماء آية فظلّت «لظلّت خ ل» أعناقهم لها خاضعين، و لو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين.
و لكن اللّه جلّ ثناؤه جعل رسله أولي قوّة في عزائم نيّاتهم، و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم من قناعة تملا القلوب و العيون غناه، و خصاصة يملا الأسماع و الأبصار اذاه.
و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام، و عزّة لا تضام، و ملك يمدّ نحوه أعناق الرّجال و يشدّ إليه عقد الرّحال لكان أهون على الخلق في الاختبار، و أبعد لهم في «من خ» الاستكبار، و لامنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّات مشتركة و الحسنة مقتسمة.
و لكن اللّه أراد أن يكون الاتّباع لرسله، و التصديق بكتبه و الخشوع لوجهه و الاستكانة لأمره و الاستسلام اليه امور له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة، و كلّ ما كانت البلوى و الاختبار أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل.
ألا ترون أنّ اللّه جلّ ثناؤه اختبر الأوّلين من لدن آدم عليه السّلام الى آخرين من هذا العالم بأحجار ما تضرّ و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذى جعله للنّاس قياما، ثمّ جعله بأوعر بقاع الأرض حجرا، و أقلّ نتايق الدّنيا مدرا، و أضيق بطون الأودية معاشا، و أغلظ محالّ المسلمين مياها بين جبال خشنة، و رمال دمثة، و عيون وشلة، و قرى منقطعة، واتر من مواضع قطر السماء، واتر [داثر كذا في كا] ليس يزكو به خف و لا ظلف و لا حافر.
ثم أمر آدم عليه السّلام و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، و غاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار متّصلة و جزائر بحار منقطعة، و مهاوى فجاج عميقة، حتى يهزّوا مناكبهم ذللا للّه حوله، و يرملوا على اقدامهم شعثا غبرا، قد نبذوا القنع و السرابيل وراء ظهورهم، و حسروا بالشعور حلقا عن رؤوسهم، ابتلاءاً عظيما، و اختبارا كبيرا، و امتحانا شديدا، و تمحيصا بليغا، و فتونا مبينا، جعله اللّه سببا لرحمته، و وصلة و وسيلة إلى جنّته. و علّة لمغفرته، و ابتلاءاً للخلق برحمته.
و لو كان اللّه تبارك و تعالى وضع بيته الحرام، و مشاعره العظام، بين جنّات و أنهار، و سهل قرار، جم الأشجار، دانى الثمار، ملتفّ النبات، متّصل القرى، من برّة سمراء، و روضة خضراء، و أرياف محدقة، و عراص معذقة، و زروع ناضرة، و طرق عامرة، و حدائق كثيرة، لكان قد صغر الجزاء على حسب ضعف البلاء.
ثمّ لو كانت الأساس المحمول عليها، أو الأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء و ياقوتة حمراء، و نور و ضياء لخفّف ذلك مصارعة الشك في الصّدور، و لوضع مجاهدة ابليس عن القلوب، و لنفي معتلج الريب من الناس.
و لكن اللّه عزّ و جلّ يختبر عبيده بأنواع الشدائد، و يتعبّدهم بألوان المجاهدة، و يبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبّر من قلوبهم، و إسكانا للتذلل في أنفسهم، و ليجعل ذلك أبوابا إلى فضله، و أسبابا ذللا لعفوه، و فتنة كما قال الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.
بيان
قوله عليه السّلام «و اتر من مواضع قطر السماء» و اتر أى منفرد منقطع من الوتر و هو الفرد، و واتر الثاني يحتمل أن يكون تأكيدا لفظيّا للأوّل، و أن يراد به أنّه ناقص من حيث النبات من وتره ماله نقصه، أو أنه مأخوذ من الوتيرة و هي قطعة تستدقّ و تغلظ من الأرض.
و قوله «و حسروا بالشعور» من حسره حسرا كشفه، أى كشفوا شعورهم لأجل حلقها عن رؤوسهم، و فتنه فتنا «و فتونا» اختبره «و عراص معذقة» ضبطه في النسخة الّتي عندنا بفتح الميم و العين المهملة و الذال المعجمة، أى محال العذق «و الاس» مثلثة أصل البناء كالأساس و الاسس محرّكة و أصل كلّ شي ء جمعه أسياس و زان أسباب و قوله «كما قال الم احسب اه» شاهد لقوله: فتنة يعنى أنّ اللّه يختبر العبيد و يتعبّدهم بالشدايد و المجاهد لأجل الامتحان و تميّز الجيّد من الرّدى و المؤمن من المنافق كما نصّ به سبحانه في كتابه المجيد، ليثيب المؤمنين بحسن ايمانهم و يعاقب المنافقين.
|