الفصل الثالث و الرابع فى بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نبذ من فضايل القران
ثمّ إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حين دنا من الدّنيا الانقطاع، و أقبل من الاخرة الاطّلاع، و أظلمت بهجتها بعد إشراق، و قامت بأهلها على ساق، و خشن منها مهاد، و أزف منها قياد، في انقطاع من مدّتها، و اقتراب من أشراطها، و تصرّم من أهلها، و انفصام من حلقتها، و انتشار من سببها، و عفاء من أعلامها، و تكشّف من عوراتها، و قصر من طولها جعله اللّه سبحانه بلاغا لرسالته، و كرامة لامّته، و ربيعا لاهل زمانه، و رفعة لاعوانه، و شرفا لأنصاره.
اللغة
(الاطلاع) الاشراف من موضع عال و (السّاق) الشّدّة قال تعالى وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أى اتّصلت آخر شدّة الدّنيا بأوّل شدّة الاخرة و (المهاد) بالكسر كالمهد موضع يهيّا للصّبي و الفراش و (قاد) الرّجل الفرس قودا من باب قال و قيادا بالكسر و هو نقيض السّوق قال الخليل: القود أن يكون الرّجل أمام الدّابة آخذا بقيادها، و السّوق أن يكون خلفها، فان قادها لنفسه قيل: اقتادها، و المقود بالكسر الحبل يقاد به، و القياد مثله مثل لحاف و ملحف. و (العورة) السوءة و كلّ أمر يستحى منه و (الطول) الامتداد يقول طال الشي ء طولا بالضمّ امتدّ و خلاف العرض، و في بعض النسخ من طولها وزان عنب و هو حبل تشدّ به قائمة الدّابة أو تشدّ و تمسك طرفه و ترسلها ترعى، و طال طولك و طيلك و طيالك أى عمرك أو مكثك أو غيبتك.
الاعراب
قوله: في انقطاع من مدّتها ظرف لغو متعلّق بقوله أزف و في بمعنى مع و يحتمل أن يكون ظرفا مستقرّا متعلّقا بمقدّر حالا من قياد
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام لمّا ذكر في الفصل السّابق فضل الاسلام و شرفه أردفه بهذا الفصل و أشار فيه إلى بعثة من جاء بالاسلام، و شرح حال زمان البعثة تنبيها بذلك على عظم ما ترتّب على بعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الفوائد العظيمة، ثمّ عقّب بذكر أعظم نعمة أنعم اللّه به على عباده ببعثه و هو تنزيل الكتاب العزيز و ذلك قوله: (ثمّ إن اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بالهدى و دين الحقّ (حين دنا من الدّنيا الانقطاع و أقبل من الاخرة الاطلاع) الظاهر أنّ المراد به قرب انقطاع دنيا كلّ امّة و إقبال آخرتهم بحضور موتهم حسبما عرفت تفصيله فى شرح قوله: أمّا بعد فانّ الدّنيا قد أدبرت و آذنت بوداع و أنّ الاخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع، من الخطبة الثامنة و العشرين.
و يحتمل أن يراد به قرب زوالها بالكلّية و إشراف الاخرة و القيامة الكبرى بناء على أنّ ما مرّ من عمر الدّنيا أكثر ممّا بقى، و يعضده بعض الأخبار.
مثل ما رواه في البحار من البرسي في مشارق الأنوار عن الثمالي عن عليّ ابن الحسين عليهما السّلام قال: إنّ اللّه خلق محمّدا و عليّا و الطيّبين من ذريّتهما من نور عظمته و أقامهم أشباحا قبل المخلوقات، ثمّ قال الظنّ إنّ اللّه لم يخلق خلقا سواكم بلى و اللّه لقد خلق اللّه ألف ألف آدم و ألف ألف عالم و أنت و اللّه في آخر تلك العوالم.
و فيه أيضا من جامع الأخبار قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ موسى سأل ربّه عزّ و جلّ أن يعرّفه بدء الدّنيا منذكم خلقت فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى موسى تسألني عن غوامض علمي فقال: يا ربّ أحبّ أن أعلم ذلك، فقال: يا موسى خلقت الدّنيا منذ مأئة ألف ألف عام عشر مرات و كانت خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فعمرتها خمسين ألف عام، ثمّ خلقت فيها خلقا على مثال البقر يأكلون رزقى و يعبدون غيرى خمسين ألف عام، ثمّ امتّهم كلّهم في ساعة واحدة، ثمّ خربت الدّنيا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت فيها بحرا فمكث البحر خمسين ألف عام لا شي ء مجاجا من الدّنيا يشرب، ثمّ خلقت دابّة و سلّطتها على ذلك البحر فشربه بنفس واحد، ثمّ خلقت خلقا أصغر من الزّنبور و أكبر من البقّ فسلّطت ذلك الخلق على هذه الدّابّة فلدغها و قتلها، فمكثت الدّنيا خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت خمسين ألف سنة، ثمّ جعلت الدّنيا كلّها آجام القصب و خلقت السّلاحف و سلّطتها عليها فأكلتها حتّى لم يبق منها شي ء، ثمّ أهلكتها في ساعة واحدة فمكثت الدّنيا خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت ثلاثين آدم ثلاثين ألف سنة من آدم إلى آدم ألف سنة، فأفنيتهم كلّهم بقضائي و قدرى، ثمّ خلقت فيها ألف ألف مدينة من الفضّة البيضاء، و خلقت في كلّ مدينة مأئة ألف ألف قصر من الذّهب الأحمر، فملئت المدن خردلا عند الهواء يومئذ ألذّ من الشهد و أحلى من العسل و أبيض من الثلج، ثمّ خلقت طيرا أعمى و جعلت طعامه في كلّ ألف سنة حبّة من الخردل أكلها كلّها حتّى فنيت، ثمّ خرّبتها فمكثت خرابا خمسين ألف عام ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت أباك آدم بيدى يوم الجمعة وقت الظهر و لم أخلق من الطين غيره، و أخرجت من صلبه النبيّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و هذان الخبران كما ترى يعضدان ما ذكرناه من كون الغابر من الدّنيا أكثر من الباقي.
لكن العلامة المجلسي «قد» قال في المجلّد التاسع من البحار بعد ايراد رواية البرسي: لا أعتمد على ما تفرّد بنقله، و قال في المجلّد الرّابع عشر بعد رواية الخبر الثاني من جامع الأخبار: هذه من روايات المخالفين أوردها صاحب الجامع فأوردتها و لم أعتمد عليها.
فعلى ذلك لا يمكن التعويل عليهما مع منافاتهما لما رواه المحدّث الجزائرى فى الأنوار عن ابن طاوس «ره» أنّ عمر الدّنيا مأئة ألف سنة يكون منها عشرون ألف سنة ملك جميع أهل الدّنيا، و يكون ثمانون ألف سنة منها مدّة ملك آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأولى ردّ علم ذلك إلى اللّه و الرّاسخون فى العلم عليهم السّلام هذا.
و قوله (و أظلمت بهجتها بعد اشراق) أراد به أنّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حين فترة من الرّسل بعد ما كانت الدّنيا مبتهجة بوجودهم مشرقة مضيئة بأنوار هدايتهم، فأظلمت بهجتها أى ذهب حسنها و نضارتها بطول زمان الفترة و تمادى مدّة الغفلة و الضلالة.
(و قامت بأهلها على ساق) قد مضى تحقيق معنى هذه الجملة في شرح الخطبة المأة و الثامنة و الثلاثين فليراجع ثمّة و محصّل المراد بلوغها حين بعثته إلى غاية الشدّة بأهلها لما كانت عليه العرب حينئذ من ضيق العيش و الضّر و الحروب و القتل و الغارة و إثارة الفتن و تهييج الشرور و المفاسد كما قال عليه السّلام في الخطبة السّادسة و العشرين: إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين و أمينا على التنزيل، و أنتم معشر العرب على شرّ دين و فى شرّ دار منيخون بين حجارة خشن و حيات صمّ، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب، و تسفكون دمائكم و تقطعون أرحامكم آه.
(و خشن منها مهاد) كناية عن عدم الاستقرار بها و فقدان طيب العيش و الرّاحة، لأنّ ذلك إنّما يتمّ بانتظام الشرائع و ثبات قوانين العدل و يرتفع بارتفاعها.
(و أزف منها قياد) أى قرب منها اقتياد أهلها و تعريضهم بالهلاك و الفناء، أو انقيادها بنفسها للعدم و الزّوال، و الثاني أظهر بملاحظة الظروف الّتي بعدها أعني قوله.
(في انقطاع من مدّتها) و انخراطها في سلك العدم.
(و اقتراب من أشراطها) أي آياتها و علاماتها الدّالّة على زوالها، و المراد بها أشراط السّاعة الّتي اشير اليها في قوله تعالى فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها و قوله وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ و قوله فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ. مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ. و انّما جعلها من أشراط الدّنيا مع كونها من أشراط السّاعة لوقوعها في الدّنيا مع أنّها كما تدلّ على قرب القيامة تدلّ على انقطاع الدّنيا و تمامها، فتكون أشراطا لهما معا، و مضى تفصيل هذه الأشراط في شرح الخطبة المأة و التاسعة و الثمانين.
و روى في الصافي في حديث أشراط السّاعة: أوّل الايات الدّخان و نزول عيسى و نار تخرج من قعر عدن ابين تسوق النّاس إلى المحشر.
و فى البحار من مجمع البيان و روى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: بادروا بالأعمال ستّا: طلوع الشمس من مغربها، و الدّابّة، و الدّجّال، و الدّخان، و خويصة أحدكم أى موته، و أمر العامّة يعني القيامة.
(و تصرّم من أهلها) أى انقطاع منهم (و انفصام من حلقتها) أى انكسار و اندراس من نظام أهلها و اجتماعهم على الشريعة و الدّين (و انتشار من سببها) أى تفرّق من حبلها و ربقتها المشدودة بها رقاب أهلها و هو حبل الاسلام.
(و عفاء من اعلامها) أى دروس منها و هو كناية عن فقدان الأنبياء و العلماء الصّالحين الذين يهتدى بهم في ظلمات الجهالة و يستضاء بأنوارهم في بوادى الضّلالة.
(و تكشّف من عوراتها) أى ظهور من معايبها و مساويها الّتي كانت مستورة بحجاب الشرائع و استار الاسلام.
(و قصر من طولها) أى من تماديها و امتدادها أو المراد قصر عمرها على رواية طول بكسر الطّاء و فتح الواو.
و تعديد هذه الحالات الّتي كان عليها النّاس حين بعثه صلّى اللّه عليه و آله و شرحها و بسطها تذكيرا للمخاطبين بأنّ بعثه في مثل تلك الحالات أعظم من منّ اللّه تعالى به على عباده، ليؤدّ السامعون بتذكّره و ذكراه وظايف شكر تلك النعمة العظمى، و يقوموا بمراسم حمده حيث أنقذهم ببعثه سلام اللّه عليه و آله من ورطات الكفر و الضّلال، و أنجاهم من العقاب و الوبال.
(جعله اللّه سبحانه بلاغا لرسالته) أى تبليغا لها كما في قوله تعالى قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ أى إلّا أداء الرّسالة و بيان الشريعة أو كفاية لها كما في قوله تعالى في وصف القرآن هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ أى موعظة بالغة كافية، و على المعنيين فلا بد من جعل المصدر بمعنى الفاعل أى جعله عزّ و جلّ مبلّغا للرسالة أو كافيا لها أى غير محتاج معه إلى رسول آخر، و لذلك كان صلّى اللّه عليه و آله خاتم النّبوة.
(و كرامة لامّته) أى أكرمهم عزّ و جلّ بجعله رسولا لهم و جعلهم امّة له صلّى اللّه عليه و آله و فضّلهم بذلك على ساير الامم.
(و ربيعا لأهل زمانه) تشبيهه بالرّبيع إمّا من أجل ابتهاجهم ببهجة جماله و بديع مثاله كما يبتهج النّاس بالرّبيع و نضراته و طراوته، أو من أجل أنّ أهل زمانه قد خرجوا بوجوده الشريف من ضنك المعيشة إلى الرّخا و السعة، كما أنّ الناس يخرجون في الرّبيع من جدب الشتاء و ضيق عيشها إلى الدّعة و الرفاهة.
(و رفعة لأعوانه و شرفا لأنصاره) يحتمل رجوع الضميرين الى اللّه كما في الفقرة الاولى و إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما في الفقرتين الأخيرتين، و على أىّ تقدير فالمراد بالأعوان و الأنصار المسلمون أمّا كونهم أنصارا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فواضح، و أمّا جعلهم أنصارا و عونا للّه عزّ و جلّ على الاحتمال الأول فلكونهم أنصار دين اللّه و أعوان رسوله، أضافهما إليه تعالى تشريفا و تكريما.
و كيف كان فقد شرف اللّه تعالى المسلمين و رفع شأنهم فى الدّنيا و الاخرة بمتابعتهم لرسوله و معاونتهم له و سلّطهم على محادّيه و جاحديه لعنهم اللّه تعالى و عذّبهم عذابا أليما، هذا.
|