ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفا مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقّده و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ نهجه، و شعاعا لا يظلم ضوئه و فرقانا لا يخمد برهانه، و بنيانا لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه و عزّا لا تهزم أنصاره، و حقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان و بحبوحته، و ينابيع العلم و بحوره، و رياض العدل و غدرانه و أثافيّ الاسلام و بنيانه، و أودية الحقّ و غيطانه، و بحر لا ينزفه المستنزفون «المنتزفون خ ل»، و عيون لا ينضبها الماتحون، و مناهل لا يغيضها الواردون و منازل لا يضلّ نهجها المسافرون، و أعلام لا يعمى عنها السّايرن، و آكام لا يجوز عنها القاصدون. جعله اللّه ريّا لعطش العلماء، و ربيعا لقلوب الفقهاء، و محاجّ لطرق الصّلحاء، و دواء ليس معه «بعده خ ل» داء، و نورا ليس معه ظلمة و حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و عزّا لمن تولّاه، و سلما لمن دخله، و هدى لمن ائتمّ به، و عذرا لمن انتحله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم به، و فلجا لمن حاجّ به، و حاملا لمن حمله، و مطيّة لمن أعمله، و آية لمن توسّم، و جنّة لمن استلام، و علما لمن وعى، و حديثا لمن روى، و حكما لمن قضى.
اللغة
(و منهاجا لا يضلّ نهجه) المنهاج و النهج وزان فلس الطريق الواضح، و نهج الطريق نهجا من باب منع سلكه، و يضلّ من باب الافعال و في بعض النسخ بصيغة المجرّد.
و (الغدران) جمع الغدير و هو النهر و (الأثافي) بفتح الهمزة و تشديد الياء كاثاف جمع الاثفية بالضمّ و بالكسر و هو الحجر يوضع عليه القدر و الأثافي الأحجار الموضع عليها القدر على شكل مثلّث و (نضب) الماء نضوبا من باب قعد غار في الأرض و ينضب بالكسر من باب ضرب لغة.
و (غاض) الماء غيضا من باب سار نضب و قلّ، و غاضه اللّه بتعدّى و لا يتعدّى فالماء مغيض قال الشارح المعتزلي و روى لا يغيضها بالضمّ على قول من قال أغضت الماء و هي لغة غير مشهورة. و (الأكمة) بالتحريك التلّ، و قيل: شرفة كالرّابية و هو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، و ربّما غلظ و الجمع اكم و اكمات مثل قصبة و قصب و قصبات و جمع الاكم اكام مثل جبل و جبال، و جمع الاكام اكم بضمّتين مثل كتاب و كتب و جمع الاكم أكام مثل عنق و أعناق هكذا قال الفيومي. و (المحجّة) بالفتح جادّة الطريق و (الفلج) بالضّم اسم من الفلج و هو الظفر و الفوز و فلج بحجّته أثبتها، و أفلج اللّه حجّته أظهرها و (وعى) الحديث وعيا من باب وعد حفظه و جمعه و تدبّره.
الاعراب
قوله: نورا بدل من الكتاب، و قوله: و منهاجا لا يضلّ نهجه إن كان من باب الافعال فنهجه منصوب على المفعول و الفاعل ضمير مستكن راجع إلى منهاجا، و إن كان بصيغة المجرّد فهو مرفوع على الفاعل و اسناد الفعل اليه من المجاز العقلي أو المصدر بمعنى الفاعل فمجاز لغويّ و الاسناد حينئذ على حقيقته.
المعنی
و لمّا ذكر بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و أشار إلى بعض فوايد بعثه أردفه بذكر أعظم معجزات النّبوة و هو الكتاب العزيز، و أشار إلى جملة من أوصافه و مزاياه تنبيها على علوّ قدره و عزّة شأنه فقال: (ثمّ أنزل عليه الكتاب) و عدّ به اثنين و أربعين منقبة.
أولها كونه (نورا لا تطفى مصابيحه) أمّا أنّه نور فلاهتداء النّاس به من ظلمات الجهل كما يهتدى بالنور المحسوس في ظلمة اللّيل قال تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ و أمّا مصابيحه فاستعارة لطرق الاهتداء و فنون العلوم الّتي تضمّنها القرآن. (و) الثانية كونه (سراجا لا يخبو توقده) أمّا أنّه سراجا فلما مرّ آنفا، و أمّا، أنّه لا يخبو توقّده فالمراد به عدم انقطاع اهتداء النّاس به و استضاءتهم بنوره.
(و) الثالثة كونه (بحرا لا يدرك قعره) استعارة البحر له باعتبار اشتماله على النكات البديعة و الأسرار الخفيّة و دقايق العلوم الّتي لا يدركها بعد الهمم و لا ينالها غوص الفطن كما لا يدرك الغائص قعر البحر العميق.
(و) الرابعة كونه (منهاجا لا يضلّ نهجه) أى طريقا واضحا مستقيما إلى الحقّ لا يضلّ سالكه أو لا يضلّ سلوكه.
(و) الخامسة كونه (شعاعا لا يظلم ضوءه) أى حقّا لا يدانيه شكّ و ريب أى لا يشوبه ظلمة الباطل فيغطيه و يستره كما قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ و قال لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
قال الطبرسي: قيل: إنّ الباطل الشيطان و معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّا أو يزيد فيه باطلا، و قيل: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات فلا تناقض في ألفاظه.
و لا كذب في اخباره و لا يعارض و لا يزاد فيه و لا يغيّر بل هو محفوظ حجة على المكلّفين إلى يوم القيامة، و يؤيّده قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
(و) السادسة كونه (فرقانا لا يخمد برهانه) أى فارقا بين الحقّ و الباطل و فاصلا بينهما لا ينتفي براهينه الجليّة و بيّناته الّتي بها يفرق بينهما كما قال تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ و قال هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ.
(و) السابعة كونه (بنيانا لا تهدم أركانه) شبّهه ببنيان مرصوص وثيق الأركان فاستعار له لفظه و الجامع انتظام الاجزاء و اتّصال بعضها ببعض، و قوله: لا تهدم أركانه، ترشيح للاستعارة، و فيه إشارة إلى أنّ البنيان الوثيق كما أنّه مأمون من التّهافت و الهدم و الانفراج فكذلك الكتاب العزيز محفوظ من طروّ النقص و الخلل و الاندراس.
(و) الثامنة كونه (شفاء لا تخشى أسقامه) يعني انّه شفاء للأبدان و الأرواح.
أمّا الأبدان فبالتجربة و العيان مضافا إلى الأحاديث الواردة في خواصّ أكثر الايات المفيدة للاستشفاء و التعويذ بها. مثل ما في الكافي باسناده عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: شكى رجل إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجعا في صدره فقال: استشف بالقرآن فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ.
و عن سلمة بن محرّز قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: من لم يبرءه الحمد لم يبرءه شي ء.
و عن إبراهيم مهزم عن رجل سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: من قرء آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج انشاء اللّه، و من قرءها في دبر كلّ فريضة لم يضرّه ذو حمة.
و فى مجمع البيان من كتاب العياشي باسناده انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجابر بن عبد اللّه الأنصارى: ألا اعلمك أفضل سورة أنزلها اللّه في كتابه قال: فقال له جابر: بلى بأبى أنت و أمّي يا رسول اللّه علّمنيها، قال: فعلّمه الحمد أمّ الكتاب، ثمّ قال: يا جابر ألا اخبرك عنها قال: بلى بأبى أنت و امّى فأخبرني، فقال: هى شفاء من كلّ داء إلّا السّام، و السّام الموت، إلى غير هذه ممّا لا حاجة إلى ايرادها.
و أمّا الأرواح فلأنّه بما تضمّنه من فنون العلوم شفاء لأمراض الجهل.
فقد ظهر بذلك كونه شفاء للأبدان من الأوجاع و الأسقام، و شفاء للقلوب من كلّ شك و ريب و شبهة، و يصدق ذلك قوله تعالى في سورة السجدة قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ و في سورة بني اسرائيل وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً.
قال أمين الاسلام الطبرسي وجه الشّفاء فيه من وجوه: منها ما فيه من البيان الّذى يزيل عمى الجهل و حيرة الشكّ.
و منها ما فيه من النظم و التأليف و الفصاحة البالغة حدّ الاعجاز الّذى يدلّ على صدق النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو من هذه الجهة شفاء من الجهل و الشكّ و العمى في الدّين و يكون شفاء للقلوب.
و منها أنّه يتبرّك به و بقراءته و يستعان به على دفع العلل و الأسقام و يدفع اللّه به كثيرا من المكاره و المضارّ على ما يقتضيه الحكمة.
و منها ما فيه من أدّلة التوحيد و العدل و بيان الشرائع فهو شفاء للنّاس في دنياهم
و آخرتهم، و رحمة للمؤمنين أى نعمة لهم، و إنّما خصّهم بذلك لأنّهم المنتفعون به، انتهى.
فقد تحصّل من ذلك أنّه شفاء لا يخاف أن يعقب سقما، لأنّ الكمالات النفسانية الحاصلة من قراءته و تفكّره و تدبّر آياته تصير ملكات راسخة لا تتبدّل بأضدادها و لا تتغيّر.
(و) التاسعة كونه (عزا لا تهزم أنصاره) أى لا تغلب و لا تقهر.
(و) العاشرة كونه (حقّا لا تخذل أعوانه) و المراد بأعوانه و أنصاره هم المسلمون العارفون بحقّه العاملون بأحكامه و عدم هزمهم و خذلانهم نصّ قوله تعالى لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
قال في مجمع البيان فيه أقوال: أحدها أنّ المراد لن يجعل اللّه لليهود على المؤمنين نصرا و لا ظهورا.
و قيل: لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا بالحجّة و إن جاز أن يغلبوهم بالقوّة، لكن المؤمنين منصورون بالدّلالة و الحجّة.
و قيل: لن يجعل لهم في الاخرة عليهم سبيلا لأنّه مذكور عقيب قوله فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيّن اللّه سبحانه أنّه إن يثبت لهم سبيل على المؤمنين في الدّنيا بالقتل و القهر و النهب و الاسر و غير ذلك من وجوه الغلبة فلن يجعل لهم يوم القيامة عليهم سبيلا.
و الحادية عشر ما أشار إليه بقوله (فهو معدن الايمان و بحبوحته).
أمّا أنّه معدن الايمان، فلأنّ المعدن عبارة عن منبت الجوهر من ذهب و فضّة و نحوهما، و لمّا كان الايمان باللّه و رسوله جوهرا نفيسا لا جوهر أنفس منه و لا أغلى عند ذوى العقول، و كان يستفاد من القرآن و يستخرج منه جعله معدنا له.
و أمّا أنّه بحبوحته و وسطه فلأنّ الايمان بجميع أجزائه و شرايطه و مراسمه يدور عليه، فهو بمنزلة القطب و المركز لدائرة الايمان كما هو ظاهر.
(و) الثانية عشر أنّه (ينابيع العلم و بحوره) أمّا أنّه ينابيع العلم فلأنّ العلوم بجميع أقسامه منه تفيض كالعيون الجارية منها الماء.
و أمّا أنّه بحوره فلاحتوائه بفنون العلم كاحتواء البحر بمعظم الماء (و) الثالثة عشر أنّه (رياض العدل و غدرانه).
أمّا كونه رياض العدل فلأنّ الرّياض عبارة عن مجامع النّبات و الزّهر و الرّياحين الّتي تبتهج النفوس بخضرتها و نضرتها، و تستلذّ الطباع بحسنها و بهجتها كما قال تعالى حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ فشبّه التّكاليف الشرعيّة المجعولة عن وجه العدل و الحكمة بالزّهر و النبات الحسن لايجابها لذّة الأبد و جعل الكتاب العزيز رياضا لها لاجتماعها فيه و استنباطها منه.
و أمّا كونه غدران العدل فلأنّ الغدير عبارة عن مجمع الماء فشبّه الأحكام العدليّة بالماء لما فيها من حياة الأرواح كما أنّ بالماء حياة الأبدان و جعله غديرا لجامعيّته لها.
(و) الرابعة عشر أنّه (أثافيّ الاسلام و بنيانه) لما قد عرفت من أنّ الأثافي عبارة عن الأحجار الّتي عليها القدر، فجعله أثافى للاسلام لاستقراره و ثباته عليه مثل استقرار القدر على الأثافي.
و بهذا الاعتبار أيضا جعل الصلاة و الزّكاة و الولاية أثافية في حديث البحار من الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال: أثافي الاسلام ثلاثة: الصلاة، و الزكاة، و الولاية لا تصحّ واحدة منهنّ إلّا بصاحبتها.
قال العلّامة المجلسيّ: و إنّما اقتصر عليها لأنها أهمّ الأجزاء و يدلّ على اشتراط قبول كلّ منها بالاخرين، و لا ريب في كون الولاية شرطا لصحّة الاخريين.
(و) الخامسة عشر أنّه (أودية الحقّ و غيطانه) يعني أنّ طالب الحقّ إنّما يجده في هذه الأودية و الأراضى المطمئنة قال الشارح البحراني: و اللّفظان مستعاران باعتبار كونه معدنا للحقّ و مظنّة له، كما أنّ الأودية و الغيطان مظانّ الكلاء و الماء.
(و) السادسة عشر أنّه (بحر لا ينزفه المستنزفون) أى لا ينزحه كلّه و لا يفنيه المستقون، و هو إشارة إلى عدم انتهاء العلوم المستفادة منه، فانّ فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة حسبما عرفت في شرح الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى.
(و) السابعة عشر أنّه (عيون لا ينضبها الماتحون) أى لا يغيّرها المستسقون.
(و) الثامنة عشر أنّه (مناهل لا يغيضها الواردون) أى مشارب لا ينقص مائها الواردون على كثرة ورودهم عليها.
(و) التاسعة عشر أنّه (منازل لا يضلّ نهجها المسافرون) يعني أنّه منازل السّالكين إلى اللّه لا يضلّ مسافروه منهاج تلك المنازل لكونه واضحا جليّا و جادّة مستقيمة (و) العشرون أنّه (أعلام لا يعمى عنها السّائرون) لاستنارتها و اضاءتها.
(و) الحادية و العشرون أنّه (آكام لا يجوز عنها القاصدون) قال الشّارح البحراني: استعار لفظ الاعلام و الاكام للأدلّة و الامارات فيه على طريق إلى معرفته و احكامه باعتبار كونها هادية إليها كما تهدى الأعلام و الجبال على الطّرق.
و الثانية و العشرون أنّه (جعله اللّه تعالى ريّا لعطش العلماء) شبّه شدّة اشتياق نفوس العلماء و حرصهم على المعارف الحقّة الالهيّة بعطش العطاش، و حيث إنّ الكتاب العزيز كان رافعا لغللهم جعله مرويّا لهم كما يروى الماء الغليل.
(و) الثالثة و العشرون أنّه جعله سبحانه (ربيعا لقلوب الفقهاء) لابتهاج قلوبهم به و استلذاذهم منه كما يبتهج النّاس بالرّبيع.
(و) الرابعة و العشرون أنّه جعله (محاجّ لطرق الصلحاء) أى جواد واضحة مستقيمة لا عوج فيها و لا خفاء، لأنّه يهدى للّتي هي أقوم.
(و) الخامسة و العشرون أنّه جعله (دواء ليس معه داء) حسبما عرفته في شرح قوله: و شفاء لا تخشى أسقامه.
(و) السادسة و العشرون أنّه جعله (نورا ليس معه ظلمة) أى حقّا لا يشوبه باطل حسبما عرفته في شرح قوله، و شعاعا لا يظلم نوره. و فى الكافى باسناده عن أبى جميلة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام أصحابه: إنّ هذا القرآن هدى النهار و نور اللّيل المظلم على ما كان من جهد و فاقة.
و فيه عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى و مصابيح الدّجى فليجل جال بصره و يفتح للضياء نظره فانّ التّفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنور.
(و) السابعة و العشرون أنّه جعله (حبلا وثيقا عروته) لا يخشى من انفصامه من تمسّك به و اتّبع بأحكامه نجا و من تركه هلك.
(و) الثامنة و العشرون أنّه جعله (معقلا منيعا ذروته) أى ملجأ و حصنا حصينا يمنع الملتجى إليه من أن يناله المكروه و سوء العذاب.
(و) التاسعة و العشرون أنّه جعله (عزّا لمن تولّاه) يعني من اتّخذه وليّا و ألقى إليه أزمّة اموره و عمل بأوامره و نواهيه فهو عزّة له في الدّارين.
(و) الثلاثون أنّه جعله عزّ و جلّ (سلما لمن دخله) قال الشارح البحراني أى أمنا، و دخوله الخوض في تدبّر مقاصده و اقتباسها و بذلك الاعتبار يكون مأمنا من عذاب اللّه و من الوقوع في الشّبهات الّتي هي مهاوى الهلاك، و قيل: استعار لفظ السّلم باعتبار عدم اذاه لمن دخله فهو كالمسالم له.
(و) الحادية و الثلاثون أنّه جعله (هدى لمن ائتمّ به) و هو واضح كما قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.
(و) الثانية و الثلاثون أنه جعله (عذرا لمن انتحله) و لعلّ المراد كونه عذرا منجيا من العذاب يوم القيامة لمن دان به و جعله نحلته و قيل: إنّ المراد أنّ من انتسب اليه بأن جعل نفسه من أهل القرآن و افتخر بذلك كان القرآن نفسه عذرا له، لعلوّ شأنه، و ما ذكرناه أقرب.
(و) الثالثة و الثلاثون أنّه جعله (برهانا لمن تكلّم به) أى حجّة واضحة و بيانا جليا لمن احتجّ به.
(و) الرابعة و الثلاثون أنه جعله (شاهدا لمن خاصم به) أى دليلا محكما للمستدلّ.
(و) الخامسة و الثلاثون أنّه جعله (فلجأ لمن حاجّ به) أى ظفرا و فوزا للمخاصم يعني أنّ من خاصم و احتجّ به فاز بمقصده و غلب خصمه.
روى في البحار من كنز الفوايد باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: يا معشر الشّيعة خاصموا بسورة إنّا أنزلناه في ليلة القدر تفلجوا، فو اللّه إنّها لحجّة اللّه تبارك و تعالى على الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّها لسيّدة دينكم و إنّها لغاية علمنا، يا معشر الشّيعة خاصموا بحم و الكتاب المبين فانّها لولاة الأمر خاصة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
(و) السادسة و الثلاثون أنه جعله (حاملا لمن حمله) يعني أنّ من حمل القرآن و حفظه و عمل به و اتّبع أحكامه حمله القرآن إلى دار القدس و غرفات الجنان.
روى في الكافي باسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا معاشر قرّاء القرآن اتّقوا اللّه عزّ و جلّ فيما حملكم من كتابه فاني مسئول و انكم مسئولون، إنّي مسئول عن تبليغ الرّسالة، و أما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب اللّه و سنّتي.
و فيه عن السكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حملة القرآن عرفاء أهل الجنّة و المجتهدون قوّاد أهل الجنّة و الرّسل سادات أهل الجنّة.
و عن عمرو بن جميع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أحقّ النّاس بالتخشّع في السّرّ و العلانية لحامل القرآن، و إنّ أحقّ النّاس في السرّ و العلانية بالصلاة و الصّوم لحامل القرآن، ثمّ نادى بأعلى صوته يا حامل القرآن تواضع به يرفعك اللّه و لا تعزّ زبه فيذلّك اللّه، يا حامل القرآن تزيّن به للّه يزيّنك اللّه به و لا تزيّن به للنّاس فيشينك اللّه به، من ختم القرآن فكأنّما ادرجت النّبوة بين جنبيه و لكنّه لا يوحى إليه، و من جمع القرآن فنوله لا يجهل مع من يجهل عليه و لا يغضب فيمن يغضب عليه و لا يحدّ فيمن يحدّ عليه و لكنّه يعفو و يصفح و يغفر و يحلم لتعظيم القرآن، و من اوتى القرآن فظنّ أنّ أحدا من النّاس اوتى أفضل ممّا اوتى فقد عظّم ما حقّر اللّه، و حقّر ما عظّم اللّه.
(و) السابعة و الثلاثون أنّه جعله (مطيّة لمن أعمله) أى مركبا سريع السّير يبلغ بمن أعمله إلى منزله و مقصده، و هو حظاير القدس و مجالس الانس، و المراد باعماله هو حفظه و المواظبة عليه و عدم الغفلة عنه.
روى في الكافي باسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ الرّجل إذا كان يعلم السّورة ثمّ نسيها و تركها و دخل الجنّة أشرفت عليه من فوق فى أحسن صورة فتقول: تعرفني فيقول: لا، فتقول: أنا سورة كذا و كذا لم تعمل بي و تركتني أما و اللّه لو عملت بي لبلغت بك هذه الدّرجة، و أشارت بيدها إلى فوقها.
و عن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عليّ دينا كثيرا و قد دخلني شي ء ما كاد القرآن يتفلّت مني، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: القرآن القرآن إنّ الاية من القرآن و السّورة لتجي ء يوم القيامة حتّى تصعد ألف درجة يعني في الجنّة، فتقول: لو حفظتني لبلغت بك ههنا.
و عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من نسي سورة من القرآن مثّلت له في صورة حسنة و درجة رفيعة في الجنّة، فاذا رآها قال: ما أنت ما أحسنك ليتك لي، فيقول: أما تعرفني أنا سورة كذا و كذا و لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا.
(و) الثامنة و الثلاثون أنّه جعله (آية لمن توسّم) أى دلالة للمتفكّر المعتبر و علامة يستدلّ بها المتفرّس، و أصل التوسّم هو النظر في السمة أى العلامة الدّالة قال تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أى دلالات للمتفكّرين المعتبرين.
قال في مجمع البيان: و قد صحّ عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: اتّقوا فراسة المؤمن و انّه ينظر بنور اللّه، و قال: إن للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسّم ثمّ قرء هذه الاية.
(و) التاسعة و الثلاثون أنه جعله (جنّة لمن استلام) أى وقاية و سلاحا لطالب الدّرع و السلاح، و المراد كونه وقاية لقارئه من مكاره الدّنيا و الاخرة أما الاخرة فواضحة، لأنه يوجب النجاة من النار و الخلاص من غضب الجبار جلّ جلاله.
و أما الدّنيا فيدلّ على كونه وقاية من مكارهها صريح قوله تعالى وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً.
قال الطبرسيّ: قال الكلبيّ: و هم أبو سفيان و النّضر بن الحرث و أبو جهل و امّ جميل امرأة أبي لهب، حجب اللّه رسوله عن أبصارهم و كانوا يأتونه و يمرّون به و لا يرونه.
و فى الصافى من قرب الاسناد عن الكاظم عليه السّلام انّ امّ جميل امرأة أبي لهب أتته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين نزلت سورة تبّت و مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبو بكر بن أبي قحافة، فقال: يا رسول اللّه هذه امّ جميل منخفضة أو مغضبة تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّها لا تراني، فقالت لأبي بكر: أين صاحبك قال: حيث شاء اللّه، قالت: لقد جئته و لو أراه لرميته فانّه هجاني و اللّات و العزّى إنّي لشاعرة، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه لم ترك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا، ضرب اللّه بيني و بينها حجابا مستورا.
و أما ساير النّاس فيشهد بكونه جنّة لهم من المكاره.
ما رواه في الكافي باسناده عن الاصبغ بن نباته عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: و الّذى بعث محمّدا بالحقّ و أكرم أهل بيته ما من شي ء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابة من صاحبها أو آبق إلّا و هو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني عنه.
قال: فقام اليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عمّا يؤمن من الحرق و الغرق فقال عليه السّلام: اقرء هذه الايات إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ... وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ- الى قوله سُبْحانَهُ- وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فمن قرأها فقد أمن من الحرق و الغرق، قال: فقرأها رجل و اضطرمت النار في بيوت جيرانه و بيته وسطها فلم يصبه شي ء. ثمّ قام اليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ دابتي استصعبت عليّ و أنا منها على وجل فقال: اقرء في اذنها اليمني أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً فقرأها فذلّت له دابّته.
و قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أرضي أرض مسبعة إنّ السباع تغشى منزلي و لا تجوز حتى تأخذ فريستها فقال: اقرء لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فقرأهما الرّجل فاجتنبته السباع.
ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ في بطني ماء أصفر فهل من شفاء فقال: نعم بلا درهم و لا دينار و لكن اكتب على بطنك آية الكرسي و تغسلها و تشربها و تجعلها ذخيرة في بطنك فتبرء باذن اللّه عزّ و جلّ، ففعل الرّجل فبرء باذن اللّه.
ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الضّالّة فقال عليه السّلام اقرء يس في ركعتين و قل: يا هادى الضالّة ردّ عليّ ضالّتي ففعل فردّ اللّه عليه ضالّته.
ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الابق فقال عليه السّلام: اقرء «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ- إلى قوله- وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» فقالها الرّجل فرجع إليه الابق.
ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن السّرق فانّه لا يزال قد يسرق لي الشي ء بعد الشي ء ليلا، فقال له: اقرء إذا آويت إلى فراشك «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ- إلى قوله- وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً» ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من بات بأرض قفر فقرأ هذه الاية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ- إلى قوله- تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ حرسته الملائكة و تباعدت عنه الشّياطين.
قال: فمضى الرّجل فاذا هو بقرية خراب فبات فيها و لم يقرأ هذه الاية فغشاه الشّياطين و إذا هو آخذ بخطمه فقال له صاحبه: انظره، و استيقظ الرّجل فقرأ الاية فقال الشيطان لصاحبه: ارغم اللّه أنفك احرسه الان حتّى يصبح. فلمّا أصبح رجع الى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره فقال له رأيت في كلامك الشفاء و الصّدق و مضى بعد طلوع الشمس فاذا هو بأثر شعر الشّياطين مجتمعا في الأرض.
(و) الاربعون أنّه جعله (علما لمن وعى) أى علما كاملا بالمبدإ و المعاد لمن حفظه و عقله و جعله في وعاء قلبه قال الطريحي: و في الحديث لا يعذّب اللّه قلبا وعي القرآن، أى عقل القرآن ايمانا منه و عملا، فأمّا من حفظ ألفاظه و ضيّع حدوده فهو غير واع له، و فيه: خير القلوب أوعاها، أى أحفظها للعلم و أجمعها له.
(و) الحادية و الاربعون أنّه جعله (حديثا لمن روى) قال أمين الاسلام الطبرسي في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ يعنى القرآن، و إنّما سمّاه اللّه حديثا لأنّه كلام اللّه و الكلام سمّى حديثا كما يسمّى كلام النبىّ حديثا، لأنه حديث التنزيل بعد ما تقدّمه من الكتب المنزلة على الأنبياء، و هو أحسن الحديث لفرط فصاحته و لاعجازه و لاشتماله على جميع ما يحتاج المكلّف إليه من التنبيه على أدلّة التوحيد و العدل و بيان أحكام الشرائع و غير ذلك من المواعظ و قصص الأنبياء و الترغيب و الترهيب، كتابا متشابها يشبه بعضه بعضا و يصدق بعضه بعضا ليس فيه اختلاف و تناقض، و قيل: إنه يشبه كتب اللّه المتقدّمة و ان كان أعم و أجمع و أنفع.
(و) الثانية و الاربعون أنه جعله (حكما لمن قضى) يعنى من يقضى بين الناس، فالقرآن حكم له لا حكم له غيره لأنه الحكم الحقّ و غيره باطل كما قال تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ و فى آية اخرى فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ و فى ثالثة فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
قيل فى توجيهه: إنّ الحاكم بغير ما أنزل اللّه إن كان لا مع الاعتقاد فهو إمّا ظالم أو فاسق، و ان حكم بذلك مع اعتقاد أنّه غير ما أنزل اللّه فهو كافر، هذا.
و قد تقدّم في شرح الفصل السابع عشر من الخطبة الاولى و غيره فصل واف في فضل الكتاب العزيز و ما يتعلّق به فليراجع هناك، و نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا من العارفين بفضله، و العاملين بأحكامه، و الواعين لعلمه، و الرّاوين لحديثه، و القاضين بحكمه بجاه محمّد و آله سلام اللّه عليه و عليهم.
|