اللغه
و (الولاية) بفتح الواو المحبّة و النّصرة و (الكأس) بهمزة ساكنة و يجوز تخفيفها القدح المملوّ من الشّراب و لا تسمّى كأسا إلّا و فيها شراب و هي مؤنثة سماعيّة و (ريى) من الماء و اللّبن كرضى ريّا و ريّا و تروّى و ارتوى و الاسم الرى بالكسر، و ماء رويّ كغنّى و رواء كسماء كثير مرو
المعني
ثمّ شرع في وصف عباد اللّه الكمّلين ترغيبا للمخاطبين إلى اقتفاء آثارهم و اقتباس أنوارهم و سلوك مسالكهم فقال عليه السّلام: (و اعلموا أنّ عباد اللّه المستحفظين علمه) المستحفظين في أكثر النّسخ بصيغة المفعول أى الّذين طلب منهم الحفظ، و في بعضها بصيغة الفاعل أى الطالبين للحفظ.
و المراد بهم إمّا الأئمّة عليهم السّلام خصوصا أو هم مع خيار شيعتهم لاتّصافهم جميعا بالاستحفاظ و بغيره من الأوصاف الاتية و إن كان اتّصافهم بها آكد و أقوى لكونهم عليهم السّلام حفظة لسرّه و خزنة لعلمه كما ورد في فقرات الزّيارة الجامعة، و فيها أيضا و ائتمنكم على سرّه، و قد وصفهم عليه السّلام بذلك في الفصل الرّابع من الخطبة الثانية حيث قال: هم موضع سرّه و لجاء أمره و عيبة علمه، و قدّمنا هنا لك مطالب نفيسة، و إلى ذلك الحفظ اشير فى قوله تعالى وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ أى تحفظها أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظها بتذكّرة و اشاعته و التفكر فيه و العمل بمقتضاه.
روى في الصافى من مجمع البيان عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لعلىّ عليه السّلام: يا على إنّ اللّه تعالى أمرنى أن ادنيك و لا اقصيك و أن اعلّمك و تعي و حقّ على اللّه أن تعي فنزل: «و تعيها اذن واعية».
و فيه منه و من العيون و الجوامع عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه لمّا نزلت هذه الاية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سألت اللّه عزّ و جلّ أن يجعلها اذنك يا على.
و فى رواية لمّا نزلت قال: اللهمّ اجعلها اذن علىّ، قال عليّ عليه السّلام: فما سمعت شيئا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنسيته، و زاد في اخرى: و ما كان لى ان انسى و فى الكافى عن الصادق عليه السّلام لمّا نزلت هذه الاية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هى أذنك يا على.
و بالجملة فالأئمة سلام اللّه عليهم خزنة علم اللّه أمرهم اللّه بحفظه كما أنّ خيار شيعتهم أوعية علومهم المتلقاة من اللّه عزّ و جلّ، و هم أيضا طلبوا منهم حفظها عن الضّياع و النّسيان.
(يصونون مصونه و يفجرون عيونه) أى يحفظون ما يجب حفظه لكونه من الأسرار الّتي لا يجوز اظهارها أصلا، فانّ حديثهم صعب مستصعب لا يحتمله ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان على ما عرفت تحقيقه في شرح الفصل الرّابع من الخطبة الثانية.
أو لا يجوز اظهارها إلّا للأوحدى من شيعتهم الحافظين لها و إليه أشار علىّ ابن الحسين عليهما السّلام بقوله: لو علم أبو ذر ما فى قلب سلمان لقتله.
و يفجرون ينابيعه و يظهرون ما ليس من قبيل الأسرار بل من قبيل التكاليف و الأحكام و نحوها و يعلّمونها غيرهم.
و تشبيه العلم بالعين استعارة بالكناية و ذكر العيون تخييل و التفجير ترشيح الجامع أنّ في العلم حياة الأرواح كما أنّ في الماء حياة الأبدان، و إنّما شبّه
بماء العين بخصوصه لكونه زلالا صافيا و فيه من العذوبة و الصّفاء ما ليس في ساير المياه، فكان أبلغ في التشبيه و قد وقع نظير ذلك التشبيه في قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» يعنى إن غاب إمامكم فمن يأتيكم بعلم الامام كما فسّربه في عدّة روايات و لما أشار عليه السّلام إلى كمال المستحفظين في الحكمة النظرية عقّبه بالتنبيه على كمالهم في الحكمة العمليّة فقال: (يتواصلون بالولاية) أى بالمحبّة و النصرة أو القرب و الصداقة يعنى أنّ مواصلتهم عن وجه الصدق و الصفا و الودّ و الوفا، لا عن وجه النفاق كما هو الغالب في وصل أبناء الزّمان، و يحتمل أن يكون المراد بالولاية القرابة فيكون المراد بالجملة التواصل بالأرحام و صلة الرّحم و الأوّل أظهر.
(و يتلاقون بالمحبّة) هذه الجملة كالتفسير للجملة السابقة أى يكون ملاقاتهم عن حبّ كلّ منهم لصاحبه.
فقد قال أبو عبد اللّه في رواية الكافي عن صفوان الجمال عنه عليه السّلام: ما التقى مؤمنان قط إلّا كان أفضلهما أشدّ حبّا لأخيه.
و فيه أيضا عن شعيب العقرقوفي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لأصحابه: اتّقوا اللّه و كونوا اخوة بررة متحابّين في اللّه متواصلين متراحمين تزاوروا و تلاقوا و تذاكروا أمرنا و أحيوه.
(و يتساقون بكأس روية) أى يسقى كلّ منهم للاخر بكأس العلم و المعرفة الّتي بها رواء كلّ غليل.
أمّا الأئمّة فلأنّ كلّا منهم أخذ علمه عن الاخر حتّى انتهى إلى أمير المؤمنين و أخذه عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن اللّه بوحى أو إلهام.
و يشهد بذلك ما رواه في الكافي عن الحكم بن عتيبة قال لقى رجل الحسين بن علىّ عليهما السّلام بالثعلبيّة و هو يريد كربلا فدخل عليه فسلّم فقال له الحسين عليه السّلام:
من أىّ البلاد أنت قال: من أهل الكوفة، قال عليه السّلام: أما و اللّه يا أخا أهل الكوفة لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا و نزله بالوحى على جدّى، يا أخا أهل الكوفة أ فمستقى الناس العلم من عندنا فعلموا و جهلنا هذا ما لا يكون.
و فيه عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: نزل جبرئيل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم برّمانتين من الجنّة فلقيه عليّ عليه السّلام فقال: ما هاتان الرّمانتان اللّتان فى يدك فقال: أمّا هذه فالنّبوّة ليس لك فيها نصيب، و أمّا هذه فالعلم، ثمّ فلقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنصفين فأعطاه نصفها و أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نصفها ثمّ قال: أنت شريكى فيه و أنا شريكك فيه قال: فلم يعلم و اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرفا ممّا علّمه اللّه عزّ و جلّ إلّا و قد علّمه عليّا، ثمّ انتهى العلم إلينا، ثمّ وضع يده على صدره.
و فيه عن هشام بن سالم و حمّاد بن عثمان و غيره قالوا سمعنا أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: حديثى حديث أبي، و حديث أبي حديث جدّى، و حديث جدّى حديث الحسين عليه السّلام، و حديث الحسين عليه السّلام حديث الحسن عليه السّلام، و حديث الحسن عليه السّلام حديث أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه، و حديث أمير المؤمنين عليه السّلام حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قول اللّه عزّ و جلّ.
و أمّا أصحاب الأئمة عليهم السّلام فلأنّهم قد استقوا من منهل علومهم عليهم السّلام و تعلّموها منهم و علّموها غيرهم بأمرهم عليهم السّلام.
كما يشير إليه ما رواه في الكافي عن يزيد بن عبد الملك عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: تزاوروا فان في زيارتكم إحياء لقلوبكم و ذكرا لأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض فان أخذتم بها رشدتم و نجوتم، و إن تركتموها ظللتم و هلكتم فخذوا بها و أنا بنجاتكم زعيم.
و فى الوسائل عن الكافي عن محمّد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن موسى عليه السّلام: فقّهنا فى الدّين و أغنانا اللّه بكم من الناس حتّى أنّ الجماعة منّا ليكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه إلّا يحضره المسألة و يحضره جوابها فيما من اللّه علينا بكم.
فقد ظهر بذلك أنّ المستحفظين علم اللّه عزّ و جلّ من الأئمة عليهم السّلام و أصحابهم يأخذون العلوم الحقّة و المعارف اليقينية من عين صافية و يستقون بكأس مروية (و يصدرون) عنها (بريّة) لا ظمأ بعدها.
و أما غيرهم فقد استقوا من سراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتّى إذا جاءه
لم يجده شيئا و وجد اللّه عنده فوفّاه حسابه و اللّه سريع الحساب.
(لا تشوبهم الرّيبة) يحتمل أن يكون المراد نفى الشكّ عنهم لشدّة يقينهم و مزيد تقواهم و رسوخهم في الايمان.
قال الرّضا عليه السّلام فيما رواه في الكافي عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عنه عليه السّلام: الايمان فوق الاسلام بدرجة، و التّقوى فوق الايمان بدرجة، و اليقين فوق التّقوى بدرجة، و لم يقسم بين العباد شي ء أقلّ من اليقين.
و يحتمل أن يكون المراد نفى التّهمة و سوء الظنّ أى لا يتّهم بعضهم بعضا لأنّه اذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الايمان من قلبه كما ينماث الملح فى الماء، رواه في الكافي عن إبراهيم بن عمر اليمانى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.
(و لا تسرع فيهم الغيبة) أى إذا أراد أحد غيبتهم فلا يتسرّع غيبته إليهم كما يتسرّع إلى غيرهم بطهارة نفوسهم من القبايح و المساوى الموجبة لسرعتها بما لهم من ملكة العصمة و العدالة (على ذلك) أى على ما ذكر من الأوصاف الكماليّة (عقد) اللّه (خلقهم و أخلاقهم) يعنى أنّ اتّصافهم بتلك الكمالات ليس بتكلّف، بل هي مقتضى سجيتهم و هم مجبولون عليها لأنّ طينتهم عليهم السّلام من أعلا عليّين و شيعتهم مخلوقة من فاضل طينتهم عجينة بنور ولايتهم.
كما قال الصادق عليه السّلام: شيعتنا منّا خلقوا من فاضل طينتنا و عجنوا بنور ولايتنا.
و فى الكافى باسناده عن أبي حمزة الثمالى قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول إنّ اللّه عزّ و جلّ خلقنا من أعلا عليّين و خلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه و خلق أبدانهم من دون ذلك و قلوبهم تهوى إلينا لأنّها خلقت ممّا خلقنا منه، ثمّ تلى هذه الاية كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ.
(فعليه) أى على ذلك العقد (يتحابّون و به يتواصلون) لأنّ الأرواح جنود مجندّة ما تعارف منها ائتلف و ما تخالف منها اختلف كما في النّبوى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقد قيل: إنّ المراد به انّ الأرواح خلقت مجتمعة على قسمين مؤتلفة و مختلفة كالجنود الّتي يقابل بعضها بعضا ثمّ فرّقت في الأجساد، فإذا كان الايتلاف و المواخات أوّلا كان التعارف و التوالف بعد الاستقرار في البدن و إذا كان التناكر و التخالف هناك كان التنافر و التناكر هناك.
و لعله إلى ذلك ينظر ما رواه في الكافي عن حمزة بن محمّد الطيار عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لم تتواخوا على هذا الأمر إنّما تعارفتم عليه.
و مثله عن ابن مسكان و سماعة جميعا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لم تتواخوا على هذا الأمر و إنما تعارفتم عليه.
يعنى أنّ المواخاة على الولاية و الاخوّة في الايمان كانت ثابتة بينكم في عالم الأرواح و لم تقع هذا اليوم و في هذه النشأة و إنّما الواقع في هذه النّشأة هو التعارف الكاشف عن مواخاة عالم الأرواح الناشي منه.
(فكانوا) في تفاضلهم على ساير الناس (كتفاضل البذر) و هو أوّل ما يعزل من البذر للزراعة من الحبوب (ينتقى) و يزكى (فيؤخذ منه) الرّدى (و يلقى) فلا يبقى منه إلّا الجيّد الخالص (قد ميّزه) الانتقاء و (التّخليص و هذّبه التّمحيص) و التّميز.
و محصّله أنّ تفاضلهم كتفاضل البذر المنتقى جيّده و الملقى ردّيه، و هو من تشبيه المعقول بالمعقول، و تعقيبه بالانتقاء و الالقاء ترشيح لأنّهما من خواصّ المسند به و بالتّخليص و التّمحيص تجريد لكونهما من ملايمات المشبّه، فهو من قبيل التّشبيه المرشّح المجرّد، و قد مرّ توضيحه في ديباجة الشرح عند ذكر أقسام الاستعارات.
و قد وقع نظير هذا التّشبيه في حديث أبي عبد اللّه عليه السّلام المروىّ في البحارعن العياشى عن الوشا باسناد له يرسله إليه عليه السّلام قال: و اللّه لتمحّصنّ و اللّه لتميّزنّ و اللّه لتغربلنّ حتى لا يبقى منكم إلّا الأندر، قلت: و ما الأندر قال: البيدر، و هو أن يدخل الرّجل قبّة الطعام يطين عليه ثمّ يخرجه و قد تأكل بعضه و لا يزال ينقيه ثمّ يكن عليه ثمّ يخرجه حتّى يفعل ذلك ثلاث مرّات حتّى يبقى ما لا يضرّه شي ء.
ثمّ أصل التمحيص التخليص و كثيرا ما يستعمل في التّخليص الحاصل بالاختبار و الامتحان، قال تعالى ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أى ليمتحن اللّه ما في صدوركم و يظهر سرايرها من الاخلاص و النّفاق فيجازى المخلص باخلاصه و المنافق بنفاقه لأنّ المجازات إنّما هي بعد ظهور السّراير و إلّا فهو سبحانه عالم بالسّرائر و الضّماير قبل ظهورها كما هو عالم بها بعد ظهورها، و ليمحّص أى و ليكشف و يميّز ما في قلوبكم من الطيب و الخبيث.
و قال أيضا وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ أى و ليبتلى اللّه الّذين آمنوا و ليخلصهم من الذّنوب أو ينجيهم من الذّنوب بالابتلاء و يهلك الكافرين بالذّنوب عند الابتلاء.
و فى الكافي عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: ويل لطغاة العرب من أمر قد اقترب، قلت: جعلت فداك كم مع القائم عليه السّلام من العرب قال: نفر يسير، قلت: و اللّه إنّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير، قال عليه السّلام لا بدّ للنّاس من أن يمحّصوا و يميّزوا و يغربلوا و يستخرج في الغربال خلق كثير.
و حاصل المرام أنّ المستحفظين علم اللّه قد امتازوا عن ساير الناس و تفاضلوا عليهم و خرجوا تامّ العيار من قالب الامتحان لكونهم المخلصين في توحيد اللّه
و التّامين في محبة اللّه، و إخلاصهم العمل للّه، هذا.
|