(سلم) المسافر يسلم من باب تعب نجا و خلص من الافات و (تارات)
جمع تارة و هى مرّة واحدة و (الأغراض) جمع الغرض و هى الهدف الّذى يرمى إليه السّهام و (المستهدفة) بصيغة الفاعل أى منتصبة للرمى إليها، و في بعض النّسخ بصيغة المفعول أى جعلت هدفا و (همد) النّار همودا من باب قعد ذهب حرّها و لم يبق منها شي ء و همدت الرّيح سكنت.
الاعراب
قوله عليه السّلام: دار، خبر لمبتدأ محذوف أى الدّنيا دار، و قوله: أحوال مختلفة أيضا خبر محذوف المبتدأ أى أحوالها أحوال مختلفة، و قوله: الأمان منها معدوم، في نسخة الشّارح المعتزلي و كذا البحراني بدل منها فيها، و قوله: ترميهم بسهامها الباء للتّعدية إلى المفعول الثّاني أى ترمى إليهم سهامها، و قوله: تفنيهم بحمامها الباء للالة
المعنى
اعلم أنّ الغرض من هذه الخطبة الشريفة الثّنفير عن الدّنيا و التّحذير منها و التّنبيه على مساويها و مخازيها الموجبة للنّفرة و الحذر، قال عليه السّلام (دار بالبلاء محفوفة) أى حفّت بالمكاره و البليّات و أحاطت بها من كلّ جانب الالام و الافات و في نسبة محفوفة إلى الدّار توسّع و المراد كون أهلها محفوفة بها.
(و بالغدر معروفة) قال الشّارح البحراني: استعار لفظ الغدر عمّا يتوهّم الانسان دوامها عليها من أحوالها المعجبة له كالمال و الصحّة و الشّباب فكأنّه في مدّة بقاء تلك الأحوال قد أخذ منها عهدا فكأن التغيّر العارض لها المستلزم لزوال تلك الأحوال أشبه شي ء بالغدر، انتهى.
أقول: مراده عليه السّلام أنّها مشهورة بالغدر و الخداع، معروفة بالمكر و الغرور غير مختفية حيلتها و مكيدتها على أهل البصيرة، لأنّها بكونها حلوة خضرة محفوفة بالشهوات و مهيّاة للامال و الامنيّات، أعجبت النّاس بشهواتها العاجلة و تحبّبت إليهم بلذّاتها الحاضرة، و تزيّنت بالغرور، فاغترّ بها كلّ من كان غافلا عن مكيدتها و افتتن بحبّها كلّ من كان جاهلا بحقيقتها، حتّى إذا أوقعتهم في حبائل محبّتها أبدت ما كان مضمرا في باطنها من مكرها و حيلتها، فلم يكن امرء منها في حبرة إلّا أعقبته بعدها عبرة و لم يلق من سرّائها بطنا إلّا منحته من ضرّائها ظهرا، و لم ينل أحد من غضارتها رغبا إلّا أرهقته من نوائبها تعبا، فكم من واثق بها قد فجعته، و ذى طمأنينة قد صرعته، و ذى ابهة قد جعلته حقيرا، و ذى نخوة قد ردّته ذليلا.
و كفى في ايضاح غدرها ما قاله بعض قدماء أهل الحقيقة و البصيرة من أنها الاخذة ما تعطى و المورثة بعد ذلك التبعة، السالبة لمن تكسو و المورثة بعد ذلك العرى، الواضعة لمن ترفع و المورثة بعد ذلك الجزع، التاركة لمن يعشقها و المورثة بعد ذلك الشقوة، المغوية لمن أطاعها الغدّارة بمن أئتمنها، هي المحبوبة التي لا تحبّ أحدا، الملزومة التي لا تلزم أحدا يوف لها و تغدر، و يصدق لها و تكذب و ينجز لها فتخلف، هى المعوّجة لمن استقام بها، و المتلاعبة بمن استمكنت منه بيناهى تطعمه إذ حولته مأكولا، و بيناهى تخدمه إذ جعلته خادما، و بيناهى تضحكه إذ ضحكت منه، و بيناهى تشتمه إذ شتمت منه، و بيناهى تبكيه إذ بكت عليه، و بيناهى قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة، و بينا هو فيها عزيز إذ أذلّته، و بينا هو فيها مكرّم إذ أهانته، و بينا هو فيها معظم إذ حقرته، و بينا هو فيها رفيع إذ وضعته، و بينا هى له مطيعة إذ عصته، و بينا هو فيها مسرور إذ أحزنته، و بينا هو فيها شبعان إذ أجاعته، و بينا هو فيها حىّ إذ أماتته.
فافّ لها من دار هذه صفتها تضع التاج على رأسه غدوة، و تعفّر خدّه بالتراب عشية، و تحلى الأيدى بالأسورة عشيّة، و تجعلها في الأغلال غدوة، و تقعد الرّجل على السرير غدوة، و ترمى به في السجن عشيّة، تفرش له الدّيباج عشيّة، و تفرش له التراب غدوة، و تجمع له الملاهى و المعازف غدوة، و تجمع عليه النوائح و النوادب عشيّة، تحبّب إلى أهله قربه عشيّة، و تحبّب إليهم بعده غدوة، تطيب ريحه غدوة، و تنتن ريحه عشيّة.
فهو في كلّ ساعة متوقّع لسطوتها غير آمن غدرها و خديعتها، غير ناج من بلائها و فتنها، تمتّع نفسه من أحاديثها، و عينه من أعاجيبها، و يده من جمعها، ثمّ يصبح باكى العينين، صفر اليدين، في أودية الندامة و الحسرة و الخذلان حيران.
و من ذلك كلّه علم أنها (لا تدوم أحوالها) بل يصير حياتها موتا و غناؤها فقرا و فرحها ترحا، و صحتها سقما، و قوّتها ضعفا، و عزّها ذلا، إلى غير هذه من حالاتها المتبدّلة المتغيّرة.
(و لا تسلم نزالها) أى لا تسلم النازل في تلك الدّار من آلامها و آفاتها و صدماتها بل هو في كلّ آن مترقّب لإصابة مكروه، و جل من كلّ بلاء.
فانّ كلّ ذى جسد فيها لا ينفكّ جسده من أنّ الحرّ يذيبه، و البرد يجمده و السّموم يتخلّله، و الماء يغرقه، و الشّمس تحرقه، و الهواء يسقمه، و السّباع يفترسه، و الطّير تنقره، و الحديد يقطعه، و الصّدم يحطمه.
ثمّ هو معجون بطينة من ألوان الأسقام و الأوجاع و الأمراض، فهو مرتهن بها مترصّد لها دائما، لكونه مخلوقا من الأخلاط الأربعة الّتي لو غلب أحدها على الاخر أحدث أنواعا من المرض ألا ترى إنّ أصحّ الأخلاط و أقربها إلى الحياة هو الدّم، فاذا خرج عن حدّ الاعتدال يموت صاحبه بموت الفجأة و الطّاعون و الاكلة و السّرسام.
هذا كلّه مع ماله من مقارنة الافات السّبع الّتى لا يتخلّص منها ذو جسد، و هى الجوع، و الظّماء، و الحرّ، و البرد، و الخوف، و الجوع «و المرض ظ» و الموت.
أحوالها (أحوال مختلفة) إن جانب منها اعذوذب و احلولى أمرّ منها جانب فأوبى، لم تطل على أحد فيها ديمة رخاء إلّا هتنت عليه مزنة بلاء، و لم يمس امرء منها في جناح أمن إلّا أصبح على قوادم خوف.
(و تارات متصرّفة) يعني أنّ حالاتها تتغيّر بأهلها تارة بعد اخرى، و مرّة بعد مرّة، فانّها تنقل أقواما من الجدب إلى الخصب و من الرّجلة إلى الرّكب، و من البؤس إلى النّعمة، و من الشدّة إلى الرّخاء، و من الشّقاء إلى الرّاحة، ثمّ تنقلب بهم فتسلبهم الخصب و تنزع منهم النّعمة و الرّاحة.
و محصّله أنّها دار تصرّف و انتقال و تقلّب من حال إلى حال صحّتها تتبدّل بالسّقم، و شبابها بالهرم، و غناها بالفقر، و فرحها بالتّرح، و سرورها بالحزن، و عزّها بالذّل، و أمنها بالخوف.
بينا ترى المرء فيها مغتبطا محبورا و ملكا مسرورا في خفض و دعة و نعمة و لذّة و أمن وسعة، في بهجة من شبابه و حداثة من سنّه، و بهاء من سلطانه، و صحّة من بدنه إذا انقلبت به الدّنيا أسرّ ما كان فيها قلبا، و أطيب ما كان فيها نفسا، و أقرّ ما كان فيها عينا، و ألذّ ما كان فيها عيشا، فأخرجته من ملكها و غبطتها و خفضها و دعتها و بهجتها، فأبدلته بالعزّ ذلّا، و بالسّرور حزنا، و بالنّعمة نقمة، و بالغنى فقرا، و بالسّعة ضيقا، و بالشّباب هرما، و بالشّرف ضعة و بالحياة موتا.
ففارق الأحبّة و فارقوه، و خذله إخوانه و تركوه، و صار ما جمع فيها مفرّقا و ما عمل فيها متبّرا، و ما شيّد فيها خرابا و صار اسمه مجهولا، و ذكره منسيّا، و حسبه خاملا، و جسده باليا، و شرفه وضيعا، و نعمته وبالا، و كسبه خسارا، و ورث أعداؤه سلطانه، و استذلّوا عقبه، و استباحوا حريمه، و تملّكوا أمواله، و نقضوا عهده و ملكوا جنوده، فافّ و تفّ لدار حالها هذا، و شأن ساكنها ذلك، وفّقنا اللّه تعالى للزّهد فيها و الاعراض عنها.
و بما ذكرنا ظهر أنّ (العيش فيها مذموم) و أراد بالعيش التّرفّه فيها و التنعّم بلذّاتها و الالتذاذ بشهواتها و إنّما كان مذموما لكونه شاغلا عن التّوجّه
إلى الحقّ و عن الالتفات إلى الاخرة، و معقّبا للنّدم و الحسرة الطّويلة و العذاب الشّديد يوم القيامة.
قد وقع ذمّه في كتاب اللّه تعالى و على ألسنة الأنبياء و الرّسل متجاوزا عن حدّ الاحصاء قال تعالى اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ و قال أيضا مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و قد وقع تشبيه المتنعّم باللّذات الدّنيويّة و المتلذّذ بشهواتها الملهية له عن التّوجّه إلى عاقبة أمره و الالتفات إلى مال حاله في كلام الحكماء برجل حمل عليه فيل مغتلم، فانطلق مولّيا هاربا، فاتّبعه الفيل فغشيه حتّى اضطرّه إلى بئر فتدلّى فيها و تعلّق بغصنين نابتين على شفير البئر، فاذا في أصلهما جرذان يقرضان الغصنين أحدهما أبيض و الاخر أسود، فلمّا نظر إلى تحت قدميه فاذا رءوس أربع أفاع قد طلعن من جحرهن، فلمّا نظر إلى قعر البئر إذا تنين فاغر فاه نحوه يريد التقامه، فلما رفع رأسه إلى أعلى الغصنين إذا عليهما شي ء من عسل النّحل فألهاه ما طعم منه و ما نال من لذّة العسل و حلاوته عن الفكر في أمر الأفاعي اللواتى لا يدرى متى يبادرونه، و ألهاه عن التّنين الّذي لا يدرى كيف مصيره بعد وقوعه في لهواته أما الفيل فهو الأجل، و أمّا البئر فالدّنيا المملوّة من الافات و البلايا و الشرور و أمّا الغصنان فالعمر، و أمّا الجرذان فالليل و النّهار يسرعان في قطع العمر، و أمّا الأفاعي الأربعة فالأخلاط الأربعة الّتي هي السّموم القاتلة من المرّة و البلغم و الرّيح و الدّم الّتي لا يدرى صاحبها متى تهيج به، و أمّا التّنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الرّاصد الطالب، و أمّا العسل الّذى اغترّ بأكله فما ينال النّاس من عيش الدّنيا و لذّتها و شهوتها و نعيمها و دعتها من لذّة الطّعام و الشّراب و اللباس و الشم و اللّمس و البصر، هذا هو العيش المذموم.
و بقباله العيش الممدوح و هو العيش الهني ء الّذي اشير إليه في الحديث القدسي المرويّ في البحار من إرشاد القلوب للّديلمي عن أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ اللّه تعالى شأنه قال للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المعراج في جملة مخاطباته: يا أحمد هل تدرى أىّ عيش أهني و أىّ حياة أبقى قال: اللهمّ لا، قال: أمّا العيش الهني ء فهو الّذى لا يفتر صاحبه عن ذكرى و لا ينسى نعمتي و لا يجهل حقّى، يطلب رضائي في ليله و نهاره، و أمّا الحياة الباقية فهى الّتي تعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدّنيا و تصغر في عينه و تعظم الاخرة عنده و يؤثر هواى على هواه، و يبتغى مرضاتي، و يعظّم حقّ عظمتي، و يذكر عملي به، و يراقبني بالليل و النّهار عند كلّ سيّئة أو معصية، و ينقى قلبه عن كلّ ما أكره، و يبغض الشيطان و وساوسه، و لا يجعل لابليس على قلبه سلطانا و لا سبيلا، فاذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّا حتّى اجعل قلبه لي و فراغه و اشتغاله و همّه و حديثه من النّعمة الّتي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقى و أفتح عين قلبه و سمعه حتّى يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلى جلالي و عظمتي، و أضيّق عليه الدّنيا و أبغّض إليه ما فيها من اللذات، و أحذّره من الدّنيا و ما فيها كما يحذّر الرّاعى على غنمه مراتع الهلكة فاذا كان هكذا يفرّ من النّاس فرارا، و ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، و من دار الشيطان إلى دار الرّحمن، يا أحمد لأزيننّه بالهيبة و العظمة، فهذا هو العيش الهنى ء و الحياة الباقية، و هذا مقام الرّاضين، الحديث (و الأمان فيها معدوم) لأنها إذا كانت بالبلاء محفوفة و بالخديعة موصوفة مختلفة الحالات متصرّفة التارات حسبما عرفت تفصيلا و توضيحا فكيف يؤمن من بوائقها و يطمئنّ من طوارقها، و كيف يسلم من فجعتها و يستراح من خدعتها، و يتخلّص من غيلتها.
فهى غرارة ضرارة حائلة زائلة نافذة بائدة أكالة غوّالة حيّها بعرض موت و صحيحها بعرض سقم، ملكها مسلوب، و مالها منهوب، و عزيزها مغلوب، و موفورها منكوب، كيف لا و قد رايتها تنكرها لمن أمن بها و دان لها و اطمئنّ إليها حتّى ظعنوا عنها لفراق الأبد هل زوّدتهم إلّا السغب، أو أحلّتهم إلّا الضنك،أو نوّرت لهم إلّا الظلمة، أو أعقبتهم الّا الحسرة و الندامة، فبئست الدّار لمن لم يتّهمها و لم يكن فيها على وجل.
(و انما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها) قال الشارح البحراني استعار لفظ الأغراض و رشح بذكر الاستهداف و كذلك استعار لفظ الرّمى لايقاع المصائب بهم و رشح بذكر السهام.
أقول: بل هو استعارة مكنية تخييلية ترشيحية فانّه عليه الصلاة و السلام شبه الدّنيا بنبال ينصب غرضا و يتّخذ هدفا يرمى إليه بسهامه، فطوى عن ذكر المشبّه به و ذكر المشبّه كما هو شأن الاستعارة المكنية، و أثبت له ما هو من لوازم المشبّه به تخييلا و هو الأغراض و السهام، و رشح بذكر ما هو من ملايمات المشبّه به و هو الرّمى و الاستهداف.
و محصّل المراد أنّ الناس في الدّنيا بمنزلة أغراض منصوبة للهدفية ترمى الدّنيا إليهم بسهامها أى مصائبها و محنها و آلامها قال الشاعر:
- رماني الدّهر بالارزاء حتّىفؤادى في غشاء من نبال
- فصرت إذا أصابتنى سهامتكسّرت النصال على النصال
و قوله عليه السّلام (و تفنيهم بحمامها) ترشح آخر أى تهلكهم بموتها.
ثمّ ذكرهم بالاعتبار بأحوال السلف الماضين و ما جرت عليهم من تقلّبات الدّنيا و تصاريفها و تنكّر حالاتها و اغتيالها لهم و ما صار إليه عاقبة أمورهم ايضاحا بذلك لما قدّمه سابقا من غدر الدّنيا و عدم دوام أحوالها و سلامة نزالها و انتفاء الأمان فيها و إفنائها بحمامها و تنبيها به على أنّ الباقين فيها سيحلقون بالماضين و يحذون حذوهم و ينقلون من القصور إلى القبور، و يبدّلون السّرور بالويل و الثّبور.
|