يا أشباه الرّجال و لا رجال، حلوم الأطفال، و عقول ربّات الحجال، لوددت أنّي لم أركم و لم أعرفكم، معرفة و اللّه جرّت ندما و أعقبت سدما، قاتلكم اللّه لقد ملئتم قلبي قيحا، و شحنتم صدري غيظا، و جرّعتموني نغب التّهمام أنفاسا، و أفسدتم علىّ رأيي بالعصيان و الخذلان، حتّى قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، و لكن لا علم له بالحرب للّه أبوهم، و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا، و أقدم فيها مقاما منّي، لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، و ها أنا ذا قد ذرّفت على السّتين و لكن لا رأي لمن لا يطاع.
اللغة
(ربّات الحجال) النّساء أى صواحبها أو اللّاتي ربّين فيها، و هي جمع حجلة و هي بيت يزيّن فيها.
و (السّدم) الحزن و (قاتلكم اللّه) كناية عن اللّعن و الابعاد و (القيح) الصّديد بلادم و (النّغب) جمع نغبة كالجرعة لفظا و معنى و (التّهمام) بفتح التاءالهمّ و (انفاسا) أى جرعة بعد جرعة و (للّه أبوهم) كلمة مدح و لعلّها استعملت هنا للتّعجب و (المراس) مصدر مارسه أى زاوله و عالجه و (ذرّفت على الستين) بتشديد الرّاء أى زدت.
الاعراب
لا رجال خبره محذوف، و حلوم الاطفال و عقول ربّات الحجال إمّا بالنّصب على حذف حرف النّداء أى يا ذوى حلوم الأطفال و ذوى عقول النّساء، و في بعض النّسخ بالرّفع أى حلومكم حلوم الأطفال و عقولكم عقول النّساء، و معرفة يمكن أن يكون فعله محذوفا أى عرفتكم معرفة جرت ندما، و أنفاسا مفعول مطلق لجرعتموني على غير لفظه، و الضّماير الثّلاثة للحرب و هى مؤنّثة و قد يذكّر.
المعنی
(يا أشباه الرّجال) خلقة و صورة (و لا رجال) غيرة و حميّة حلومكم (حلوم الأطفال و) عقولكم (عقول ربّات الحجال).
أمّا وصفهم بحلوم الأطفال فلأنّ ملكة الحلم ليس بحاصل للطفل و إن كانت قوّة الحلم حاصلة له لكن قد يحصل له ما يتصوّر بصورة الحلم كعدم التّسرّع إلى الغضب عن خيال يرضيه و أغلب أحواله أن يكون ذلك في غير موضعه و ليس له ملكة تكسب نفسه طمأنينة كما في حقّ الكاملين فهو إذن نقصان، و لمّا كان تاركوا أمره عليه السّلام قد تركوا المقاولة حلما عن أدنى خيال كتركهم الحرب بصفّين عن خدعة أهل الشّام لهم بالمسالمة و طلب المحاكمة و رفع المصاحف، فقالوا إخواننا في الدّين لا يجوز لنا قتالهم، كان ذلك حلما في غير موضعه حتّى كان من أمرهم ما كان بأشبه رضى الصّبيان.
و أمّا إلحاق عقولهم بعقول النّساء فللاشتراك في القصور و النّقصان و قلّة المعرفة بوجوه المصالح المخصوصة بتدبير الحرب و المدن ثمّ إنّه عرفهم محبّته لعدم رؤيتهم و معرفتهم بقوله (لوددت أنّي لم أركم) رؤية أبدا (و لم أعرفكم معرفة) أصلا (و اللّه لقد جرّت) معرفتكم علىّ (ندما) و سئما (و أعقبت) حزنا و (سدما) ثمّ دعا عليهم بقوله (قاتلكم اللّه) أي لعنكم.
قال ابن الأنباري: المقاتلة من القتل فاذا أخبر اللّه بها كان معناها اللعنة منه، لأنّ من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك، يعني أنّ المقاتلة لمّا كان غير ممكن بحسب الحقيقة في حقّ اللّه سبحانه فاذا اسند اللّه سبحانه لا بدّ و أن يراد بها لوازمها، كاللعن و الطرد و البعد و منع اللطف و نحوها.
(لقد ملأتم قلبي) لسوء أعمالكم سديدا و (قيحا و شحنتم صدري) بقبح فعالكم غضبا و (غيظا و جرعتموني نغب التّهمام) و جرع الهموم (أنفاسا) أي جرعة بعد جرعة (و أفسدتم علىّ رأيي بالعصيان و الخذلان) و معنى إفسادهم له خروجه بسبب عدم التفاتهم إليه عن أن يكون منتفعا به لغيرهم (حتّى لقد قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع و لكن لا علم له بالحرب).
و ذلك لأنّ النّاس إذا رؤا من قوم سوء تدبير أو مقتضى رأي فاسد كان الغالب أن ينسبوه إلى رئيسهم و مقدّمهم، و لا يعلمون أنّه من تقصير القوم لا من قصور الرّئيس، و لذلك تعجّب منهم و ردّ توهّمهم بقوله: (للّه أبوهم و هل أحد أشدّ لها) للحراب (مراسا) و معالجة (و أقدم فيها مقاما) و ممارسة (منّي و لقد) صرفت فيها تمام عمري و (نهضت فيها و ما بلغت العشرين و ها أنا قد ذرّفت على السّتين).
ثمّ بيّن أنّ السّبب في فساد حال أصحابه ليس ما تخيّله قريش فيه من ضعف الرّأي في الحرب و قلة التّدبير، بل عدم طاعتهم له فيما يراه و يشير إليه و ذلك قوله (و لكن لا رأى لمن لا يطاع) فانّ الرّأى الذي لا يقبل بمنزلة الفاسد و إن كان صوابا، و المثل له.
قيل: و إنّما قال أعداؤه لا رأى له، لأنّه كان متقيّدا بالشّريعة لا يرى خلافها و لا يعمل بما يقتضى الدّين تحريمه، و قد قال هو عليه السّلام: لو لا الدّين و التقى لكنت أدهى العرب، و غيره من الخلفا كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه و يستوقفه سواء كان مطابقا للشّرع أو لم يكن هذا.
روى في البحار من كتاب إرشاد القلوب باسناده إلى أبي جعفر الباقر عليهما السّلام قال: بينما أمير المؤمنين يتجهّز إلى معاوية و يحرّض النّاس على قتاله إذا اختصم إليه رجلان في فعل فعجل أحدهما في الكلام و زاد فيه، فالتفت إليه أمير المؤمنين عليه السّلام و قال له: اخسأ، فاذا رأسه رأس الكلب، فبهت من حوله و أقبل الرّجل بإصبعه المسبحة يتضرّع إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و يسأله الاقالة فنظر إليه و حرّك شفتيه فعاد كما كان خلقا سويّا.
فوثب إليه بعض أصحابه فقال له: يا أمير المؤمنين هذه القدرة لك كما رأينا و أنت تجهز إلى معاوية فما لك لا تكفيناه ببعض ما أعطاك اللّه من هذه القدرة فأطرق قليلا و رفع رأسه إليهم و قال: و الذي فلق الحبّة و برئ النّسمة لو شئت أن أضرب برجلي هذه القصيرة في طول هذه الفيافي و الفلوات و الجبال و الأودية حتّى أضرب بها صدر معاوية على سريره فاقلبه على أمّ رأسه لفعلت، و لو أقسمت على اللّه عزّ و جلّ أن اوتى به قبل أن أقوم من مجلسي هذا و قبل أن يرتدّ إليّ أحد منكم طرفه لفعلت، و لكنّا كما وصف اللّه في كتابه: عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون.
ثمّ روى في البحار من الارشاد باسناده إلى ميثم التمّار قال: خطب بنا أمير المؤمنين عليه السّلام في جامع الكوفة فأطال في خطبته و أعجب النّاس تطويلها و حسن وعظها و ترغيبها و ترهيبها، إذ دخل نذير من ناحية الأنبار مستغيثا يقول: اللّه اللّه يا أمير المؤمنين في رعيّتك و شيعتك، هذه خيل معاوية قد شنّت علينا الغارة في سواد الفرات ما بين هميت و الأنبار.
فقطع أمير المؤمنين عليه السّلام الخطبة و قال: ويحك بعض خيل معاوية قد دخل الدّسكرة التي تلى جدران الأنبار فقتلوا فيها سبع نسوة و سبعة من الأطفال ذكرانا و سبعة إناثا و شهروا بهم و وطئوهم بحوافر الخيل و قالوا هذه مراغمة لأبي تراب.
فقام إبراهيم بن الحسن الأزدي بين يدي المنبر فقال يا أمير المؤمنين هذه القدرة التي رأيت بها و أنت على منبرك إنّ في دارك خيل معاوية ابن آكلة الأكباد و ما فعل بشيعتك و لم يعلم بها هذا فلم تغضى عن معاوية.
فقال له: ويحك يا إبراهيم ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة، فصاح النّاس من جوانب المسجد يا أمير المؤمنين فالى متى يهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة و شيعتك تهلك، فقال لهم: ليقضى اللّه أمرا كان مفعولا.
فصاح زيد بن كثير المرادي و قال: يا أمير المؤمنين تقول بالأمس و أنت تجهز إلى معاوية و تحرّضنا على قتاله و يحتكم إليك الرّجلان في الفعل فتعمل «فيعجل ظ» عليك أحدهما في الكلام فتجعل رأسه رأس الكلب فتستجير بك فتردّه بشرا سويّا.
و نقول لك ما بال هذه القدرة لا تبلغ معاوية فتكفينا شرّه فتقول لنا:
و فالق الحبّة و بارئ النّسمة لو شئت أن أضرب برجلي هذه القصيرة صدر معاوية لفعلت، فما بالك لا تفعل ما تريد إلّا أن تضعف نفوسنا فنشكّ فيك فندخل النّار.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: لأفعلنّ ذلك و لأعجلنّه على ابن هند، فمدّ رجله على منبره فخرجت عن أبواب المسجد و ردّها إلى فخذه و قال: معاشر النّاس أقيموا تاريخ الوقت و أعلموه فقد ضربت برجلى هذه السّاعة صدر معاوية فقلبته عن سريره على أمّ رأسه فظنّ أنّه قد احيط به، فصاح يا أمير المؤمنين فأين النّظرة فرددت رجلي عنه.
و توقّع النّاس ورود الخبر من الشّام و علموا أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لا يقول إلّا حقّا، فوردت الأخبار و الكتب بتاريخ تلك السّاعة بعينها من ذلك اليوم بعينه أنّ رجلا جاءت من ناحية الكوفة ممدودة متّصلة فدخلت من أيوان معاوية و النّاس ينظرون حتّى ضربت صدره، فقلبته عن سريره على أمّ رأسه فصاح يا أمير المؤمنين و أين النّظرة و ردّت تلك الرّجل عنه، و علم النّاس ما قال أمير المؤمنين إلّا حقّا.
تكملة
قد أشرنا سابقا إلى أنّ هذه الخطبة من خطبه المشهورة، و أنّها ممّا رواها جماعة من العامّة و الخاصّة، و لمّا كانت رواية الصّدوق مخالفة لرواية السّيّد في بعض فقراتها أحببنا ايرادها بسند الصّدوق أيضا ازديادا للبصيرة فأقول: روى في البحار و الوسايل من كتاب معاني الأخبار للصّدوق عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي عن هشام بن عليّ و محمّد بن زكريّا الجوهري، عن ابن عايشة باسناد ذكره أنّ عليّا انتهى إليه أنّ خيلا لمعاوية ورد الأنبار فقتلوا عاملا له يقال له: حسّان بن حسّان، فخرج مغضبا يجرّ ثوبه حتّى أتى النّخيلة و اتبعه النّاس فرقى رباوة من الأرض فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على نبيّه ثمّ قال: أمّا بعد فانّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه و هولباس التّقوى و درع اللّه الحصينة و جنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ و سيماء الخسف«» و ديث بالصغار، و قد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرّا و إعلانا و قلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم فو الذي نفسي بيده ما غزى قوم قط في عقر ديارهم إلّا ذلّوا.
فتواكلتم و تخاذلتم و ثقل عليكم قولي و اتّخذتموه ورائكم ظهريّا«» حتّى شنّت عليكم الغارات، هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار و قتلوا حسّان بن حسّان و رجالا منهم كثيرا و نساء.
و الذي نفسي بيده لقد بلغني انّه كان يدخل على المرأة المسلمة و المعاهدة فينتزع أحجالهما و رعثهما«» ثمّ انصرفوا موفورين لم يكلم أحد منهم كلما فلو أنّ امرء مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما بل كان عندي به جديرا.
يا عجبا كلّ العجب من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم، و فشلكم عن حقّكم إذا قلت لكم اغزوهم في الشّتاء قلتم هذا أوان قرّ و صرّ، و إن قلت لكم اغزوهم في الصّيف قلتم هذا حمارة القيظ انظرنا ينصرم الحرّ عنّا، فاذا كنتم من الحرّ و البرد تفرّون فأنتم و اللّه من السّيف أفرّ.
يا أشباه الرّجال و لا رجال، و يا طعام الأحلام، و يا عقول ربّات الحجال و اللّه لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و لقد ملئتم جوفى غيظا حتّى قالت قريش إنّ ابن أبي طالب شجاع و لكن لا رأى له في الحرب، للّه درّهم و من ذا يكون أعلم بها و أشدّ لها مراسا منّي، فو اللّه لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، و لقد نيفت اليوم على السّتّين، و لكن لا رأى لمن لا يطاع يقولها ثلاثا.
فقام إليه رجل و معه أخوه فقال: يا أمير المؤمنين أنا و أخي هذا كما قال اللّه عز و جلّ حكاية عن موسى: ربّ إنّي لا أملك إلّا نفسي و أخي، فمرنا بأمرك فو اللّه لننهتنّ «كذا» إليه و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا و شوك القتاد، فدعا له بخير ثمّ قال عليه السّلام و أين تقعان ممّا أريد، ثمّ نزل.
قال إبراهيم في كتاب الغارات، إنّ القائم إليه العارض عليه جندب بن عفيف الأزدي هو، و ابن أخ له يقال له عبد الرّحمان «بن ظ» عبد اللّه بن عفيف، و اللّه أعلم بحقايق الوقايع.
|